الكتاب مقطوع الرأس

حيلة المخطوط تصبح مطلوبة أكثر كلما انكشفت حياة الكاتب

أورهان باموك
أورهان باموك
TT

الكتاب مقطوع الرأس

أورهان باموك
أورهان باموك

بوسع أورهان باموك أن يتذكر الكتب التي تلقاها هدايا من أمه في طفولته، وبوسع ألبترو مانغويل أن يتحدث عن مكتبة أبيه الضخمة، ويستطيع زوران جيفكوفيتش أن يتخيل مكتبة رفوفها مصنوعة من خشب حي، يواصل النمو، أما أنا فلم يكن في بيتنا كتاب واحد، وكل قراءاتي الأولى وصلت إلى يدي مصادفة. لم أفض بنفسي شريط الهدايا عن قصة أطفال تلقيتها في عيد ميلادي، ولست حتى القارئ الثاني لكتاب بعد أمي أو أبي.
كانت الكتب تأتيني بطرق ملتوية، وأثناء تنقلاتها الشاقة تصلني بعد أن يفقد بعضها صفحاته الأولى، من دون عنوان، ومن دون اسم المؤلف، وبلا مقدمة أحياناً، وفي حالات الرواية، قرأت الكثير من الروايات البتراء، بعضها بعد مشاهد البداية، وبعضها الآخر من دون نهاية.
وأدين في تكويني لبعض القصص التي لم أعرف اسم مؤلفها حتى اليوم. الأبرز في ذاكرتي قصة للفتيان عن يوسف وزليخة، لا أفتأ أذكرها، وأبحث بين معارفي عمن يستطيع أن يدلني على مؤلفها. لدي شغف حقيقي، وستظل هذه القصة مجهولة المؤلف مثل رسالة في زجاجة، وقد تحوّل فضول العثور على اسم مؤلفها إلى متعة مربكة.
لا أعرف حقاً ما يمكن أن يحدث إذا تمكنت من معرفة المؤلف. من المؤكد أنني لن أحصل على حب كالذي حصلت عليه الصحافية تيريزا بطلة رواية «رسالة في زجاجة» لنيكولاس سباركل، فحتى لو كان مؤلف قصة يوسف وزليخة امرأة، فهي حتماً من عمر أمي. أحياناً يُخيل إلي أن هذه القصة لم توجد قط، وأنني أنا الذي كتبتها في مخيلتي أو حلمت بها، استلهاماً من الأصل القرآني للقصة. ما يعزز هذا الاحتمال أنني كنت في صباي من النحَّالين.
عندما بدأ ولعي بالكتابة، كنت أبحث عن اعتراف بين أقراني؛ فصرت أُقلِّد أسلوب الكاتب الصحافي مصطفى أمين، وأخبرهم بأن هذا ما كتبه في عموده «فكرة» بجريدة الأخبار بالأمس؛ وما أن أحصل على إعجابهم أصارحهم بأن الفكرة لي، فيبادرون إلى سحب اعترافهم بعناد وقح.
عندما أصبحت صحافياً بالجريدة التي أسسها الشقيقان علي ومصطفى أمين، كان الأول قد رحل منذ سنوات، ورأيت مصطفى، ولم أشعر بتلك الهالة التي كانت تجلل الرجل المجهول بالنسبة لي في السابق. كانت قراءاتي قد اتسعت، ووضعت الأساليب الصحافية في حدودها، كذلك صرت في معسكر فكري آخر، وعندما مات مصطفى أمين كان هناك قلق لدى العاملين في الدار الصحافية من غياب عموده «فكرة» ومن كثرة ما زيَّفت أسلوبه العذب في السابق لحسابي الشخصي كان بمقدوري مواصلة الكتابة بتوقيعه حفاظاً على صالح الجريدة، لو أمكن إخفاء نبأ الرحيل!
فجّر طه حسين في كتاب «الشعر الجاهلي» قضية تزييف الشعر، على أيدي شعراء وضاعين، ينظمون القصائد بعد البعثة المحمدية وينسبونها لشعراء من الماضي، بهدف إعادة تنسيب قبائلهم وتأسيس مكاناتها الثقافية (لأن أكرمكم في الجاهلية أكرمكم في الإسلام) هؤلاء الشعراء الكذبة ارتضوا أن ينكروا أنفسهم ويقطعوا رؤوس مواهبهم لصالح مجد القبيلة.
المذاهب الشكلانية في النقد قالت بموت المؤلف، لكي تؤسس لانفصال الأدب عن الواقع، حيث لا يشير النص إلى شيء خارجه، وتنبع جمالياته وأهدافه من داخله، لكن التنحي الطوعي للمؤلف عن نصه يهدف بالضبط إلى عكس ما أراده الشكلانيون، وهو تأكيد لارتباط الأدب بالواقع.
من ينحلون الشعر لأسلافهم كانوا يدركون هذا الارتباط، فيبرهنون على عظمة حاضرهم بتقوية نسبهم القديم مع الإبداع. والمؤلف الحديث يريد أن يزيل هذا الجدار الفاصل بين الأدب والواقع بالطريقة ذاتها، لكنه لا يتنازل عن نصه إلا لصالح شخص مجهول، ليعود النص له بالنتيجة.
ادعاء أن النص مخطوط عثر عليه المؤلف، حيلة مستخدمة في مئات الروايات، منذ استخدمها ميجيل دي سرفانتس في أم الروايات. ومن الطريف أن أقدم ما أذكره يستخدم حيلة المخطوط هو «دون كيخوته» والرواية الأحدث، في قراءاتي على الأقل، هي «حصن التراب» لأحمد عبد اللطيف تستخدم التكنيك ذاته، وكلتاهما تستند إلى هذا التماس العربي الإسباني المثير للفضول المؤلم. لم يتوقف أحد أمام ادعاء سرفانتس بأنه استقى روايته من مخطوط عربي، كما لن يصدق أحد اليوم وجود مخطوط تتوارثه عائلة موريسكية في رواية أحمد عبد اللطيف، ومن المؤكد أنه لا الكاتب القديم ولا الكاتب الجديد يريد لنا أن نصدق زعمه. هي لعبة مراوغة وشرط نجاحها مرهون بقبول القارئ، وهو ليس أقل ولعاً باللعب.
الكاتب لديه مصلحة في أن يُصدَق، والقارئ لديه مصلحة في أن يُصدِق، فهذه المصداقية هي التي ستؤسس لرفقتهما خلال زمن القراءة، ووجود الوسيط الغريب يسهل المهمة عليهما.
يتظاهر القارئ بقبول زعم المؤلف بأن ما يضمه الكتاب ليس سوى مخطوط قديم من أجل استكمال اللعبة؛ فهذا الذي أقرؤه الآن مقطوع الصلة بالمؤلف الذي أعرف الكثير أو القليل عن حياته.
إذا كان تأليف القصص هزلاً، أو على الأقل «صنعة» فإن نسبة الوقائع إلى شخص ما «حقيقي» بمثابة زرع للحكاية في أرض الواقع، لكن إذا أراد القارئ أن يصل إلى ذلك الشخص الـ«حقيقي» فلن يستطيع بأي حال، ولن يفعل ذلك، معترفاً بالملكية الخالصة للمؤلف. ويظل التنويه بالمخطوط وصاحبه رأساً مقطوعاً معلقاً على باب الكتاب ينبض ببقية من حياة، ويشهد على عملية التواطؤ بين الطرفين.
لم يطالب أحد سرفانتس بأن يوثق نسب سيدي حامد بن الجيلي صاحب مخطوط دون كيخوته الذي يزعم أنه اشتراه من وراق عربي في سوق طليطلة، ولن يطالب أحد أحمد عبد اللطيف بصور ضوئية من مخطوط إبراهيم دي مولينا المحفوظ حتى الآن كإرث عائلي لأسرة موريسكية يؤول من الأب إلى الابن الأول الذكر. وإذا افترضنا وجود قارئ نكد يخرج على عقد التواطؤ، ويريد أن يتأكد بنفسه من وجود صاحب المخطوط فإنه لن يتحمل مشقة هذا البحث، فالرحلة طويلة والعزم قليل. المؤلف المزعوم بعيد دائماً. البعد هو أهم ركائز المصداقية. يصح أن يكون الابتعاد زمانياً أو مكانياً أو الاثنين معاً.
ويبدو أن حيلة المخطوط، أو حيلة الرأس المقطوع المعلق في بداية الكتاب ستصبح مطلوبة أكثر كلما أصبحت حياة الكاتب أكثر انكشافاً على الآخرين، وقد أتاحت الصفحات الشخصية للكُتَّاب معرفة شخصية بالكاتب على نطاق واسع، وأصبحت صوره الشخصية ومناسباته الاجتماعية وآراؤه في الأحداث الجارية معروفة بشكل كبير، وأصبح عليه أن يقوم بهذه الرحلة إلى البعيد، لكي يصدقه القراء.



ملتقى الأقصر الدولي للتصوير يتفاعل مع روح المدينة القديمة

ملتقى الأقصر الدولي للتصوير (إدارة الملتقى)
ملتقى الأقصر الدولي للتصوير (إدارة الملتقى)
TT

ملتقى الأقصر الدولي للتصوير يتفاعل مع روح المدينة القديمة

ملتقى الأقصر الدولي للتصوير (إدارة الملتقى)
ملتقى الأقصر الدولي للتصوير (إدارة الملتقى)

مع انطلاق فعاليات الدورة الـ17 من «ملتقى الأقصر الدولي للتصوير» في مصر، الاثنين، بدأ الفنانون المشاركون في التفاعل مع فضاء مدينة الأقصر (جنوب مصر) بحضارتها العريقة وطبيعتها المُشمسة، استعداداً للبدء في تنفيذ أعمالهم من وحي روح المدينة القديمة.

الملتقى الذي يقام تحت رعاية وزارة الثقافة المصرية وينظمه صندوق التنمية الثقافية، يواصل أعماله حتى السابع من ديسمبر (كانون الأول) المقبل.

ويقول الفنان المصري ياسر جعيصة، القوميسير العام للملتقى، إن «دورة هذا العام يشارك فيها 25 فناناً من مصر ومختلف دول العالم، منهم فنانون من سوريا، والأردن، والسودان، وقطر، واليمن، والولايات المتحدة، والهند، وبلغاريا، وروسيا، وألبانيا، وبولندا، والسنغال».

ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «لم يتم تحديد ثيمة معينة ليعمل عليها الفنانون المشاركون في الملتقى؛ إذ نهدف إلى أن يلتقط كل فنان روح مدينة الأقصر بأسلوبه الفني الخاص وأسلوبه في التفاعل معها بشكل حُر، دون تقيّد بثيمة أو زاوية مُحددة، سواء كان التفاعل بطبيعتها، أو بوجهها الأثري، أو الخروج بانفعال فني ذاتي، وهذا يمنح للأعمال فرصة الخروج بصورة أكثر تنوعاً كنتاج للملتقى».

ويتابع: «بالإضافة إلى ذلك، فهناك اهتمام هذا العام بخلق حوار مع مجتمع مدينة الأقصر، عبر تنظيم أكثر من فعالية وورش عمل بين الفنانين والأطفال والأهالي لخلق حالة أكبر من التفاعل الفني».

عدد من الفنانين المشاركين في ملتقى الأقصر للتصوير (قوميسير الملتقى)

ومع اليوم الأول لانطلاق الملتقى بدأ الفنانون في الاندماج مع المدينة من خلال ورش عمل متخصصة، منها ورشة للفنان الهندي هارش أجراول الذي نظم ورشة عمل باستخدام خامة «الأكواريل» المعروف بتميزه في التعامل معها فنياً، وهي ورشة استقبلت عدداً من طلاب كلية الفنون الجميلة من قسم التصوير بالأقصر الذين سيحضرون على مدار أيام الملتقى للتفاعل مع الفنانين بشكل مباشر والاستفادة من خبراتهم الفنية، وفق القوميسير.

ويعتبر الدكتور وليد قانوش، رئيس قطاع الفنون التشكيلية في مصر، عضو اللجنة العليا للملتقى، أن «ثمة تغييرات تم استحداثها في برنامج الملتقى للخروج بنسخة مميزة لدورة هذا العام»، حسبما يقول لـ«الشرق الأوسط»، ويضيف: «توفير أفضل الظروف للفنانين من خامات، وإطالة مدة الجولات الفنية الخارجية داخل المدينة، والرسم في المواقع المفتوحة والأثرية... كان من أبرز الأفكار والموضوعات التي يسعى لتفعيلها قوميسير الملتقى ياسر جعيصة خلال تلك الدورة، في محاولة أن تخرج أعمال الملتقى أكثر انسجاماً وتعبيراً عن روح مدينة الأقصر».

ومن المنتظر أن تُعرض أعمال الملتقى في اليوم الختامي بمحافظة الأقصر، على أن يتم تنظيم عرض خاص آخر لها بالقاهرة مطلع العام المقبل.

ويرى الفنان طارق الكومي، نقيب الفنانين التشكيليين بمصر، عضو اللجنة العليا للملتقى، أن «ملتقى الأقصر مناسبة لتبادل الخبرات بين الجنسيات والأجيال المختلفة، وكذلك مناسبة لتقديم حدث تشكيلي مميز للمجتمع الأقصري وزوار المدينة، واستلهام الفنانين لعالم فني مُغاير يستفيد من عناصر مدينة الأقصر وتاريخها العريق»، وفق تصريحاته لـ«الشرق الأوسط».

وتعد مدينة الأقصر من أبرز الوجهات السياحية العالمية التي تضم مواقع أثرية وثقافية بارزة منها: معبد الأقصر، ومعبد الكرنك، ومقابر وادي الملوك، ووادي الملكات.