الفلسفة... صعبة حقاً ؟

المحاورة سبيلاً لتقريبها للعموم

الفلسفة... صعبة حقاً ؟
TT

الفلسفة... صعبة حقاً ؟

الفلسفة... صعبة حقاً ؟

قد تقطع الفلسفة، وهي تعالج إشكالات الحياة ومفارقاتها اللامحدودة، أنفاس البعض، وفي أحسن الأحوال تتعب غير المتخصص وترهق تفكيره، هذا الأمر هو الذي دفع بكثير من الباحثين إلى بذل الجهد للتخفيف من صرامة الفلسفة والعمل على تقديمها للمتلقي العادي بحلة شائقة وماتعة، والاجتهاد في تيسيرها للعموم، وهو ما قام به الأستاذ المغربي بلعيد سكحال، المتخصص في الفلسفة؛ إذ ألف كتاباً صدر هذا العام، بعنوان: «محاورات فلسفية» ويدخل ضمن سلسلة «في تقريب الفلسفة»، وأصدرته مطبعة «الرباط - نت/ المغرب».
كتب بلعيد سكحال كتابه وهو متأكد من أن الطرق الملتزمة بالإطار الأكاديمي الصرف والمنهج العلمي المتعارف عليه، تعمل على إيصال الفلسفة، لكن فقط للمتخصصين، وهو ما يضيع الفرصة على العموم في تقريبها لهم، فليس كل الناس قد تعودوا على الصبر لجني ثمار البحث والاستفادة منه من خلال البحث والنظر والقراءة في المتون مباشرة. لهذا قرر المؤلف أن يتحرر من الكتابة الأكاديمية، قصد خدمة الفلسفة وإبراز فضلها وكشف قيمتها، خصوصا لدى الناشئة، فهي تكون عادة جافة وثقيلة، ليختار طريقا يراه الأسهل والأيسر... إنه طريق المحاورات. وهو للذكر، أسلوب قديم، لجأ إليه كثير من الفلاسفة كأفلاطون الذي لا يعرف إلا بمحاوراته، وكذلك نذكر الفيزيائي غاليليو الذي بسط أفكاره العلمية الثورية على شاكلة حوار في كتابه الشهير «حوار بين النظامين العالميين»؛ حيث أجرى نقاشا محتدما بين نظريتين متنافستين وهما «مركزية الأرض» القديمة و«مركزية الشمس» الطارئة آنذاك في القرن السابع عشر.
يجتهد المؤلف في تقديم الفلسفة بأسلوب سهل المأخذ ويعرضها في قالب أدبي يخرجها في شكل درامي، ليتغلب على ثقل قولها ويحوله إلى قول مرح يعيد للفلسفة بريقها ويضعها في شهرتها التي تليق بمقامها باعتبارها «محبة الحكمة». فكيف سيتم ذلك؟ يقول المؤلف عن طريقة اشتغاله: «سيلاحظ القارئ أن العمل الذي أضعه بين يديه، يتخذ صيغة برنامج تلفزيوني، عنونته (محاورات فلسفية)، من إعداد سيدة (اسمها صوفيا) مهتمة بالفكر الفلسفي وعلى اطلاع بما يجري في الساحة الفكرية، تقوم بدعوة فيلسوفين عرفا بتعارض وجهتي نظرهما، إلى حد التضاد، من قضية فلسفية معينة، ليتحاورا حولها، فيعرض كل واحد منهما دعواه بما يكفي من الحجج والأسانيد، ومعترضا على دعوى الآخر، على أساس أن تمهد منشطة البرنامج بأرضية تحدد فيها الموضوع وتستشكله وتقدم ضيفيهما وبعد ذلك تنطلق المحاورة».
طبعا الحوار التلفزيوني المقترح لتقريب الفلسفة، يدخل الفلاسفة في حوار افتراضي، لكن بمضامين فلسفية حقيقية، بمعنى أن المؤلف حرص على هضم أفكار الفلاسفة انطلاقا من مصادرها، ثم بعد ذلك نسج منها حوارا مفترضا بينهم سعيا لتبسيطها وجعل القارئ يحس كأنه ينصت لحوار حقيقي في طزاجته الأولى، على الرغم من أن بعض الفلاسفة لم يعرف بعضهم بعضاً مطلقاً، أو لم يلتقيا معاً رغم وحدة العصر. فمثلا نجد فيلسوف القرن الرابع قبل الميلاد، اليوناني أرسطو وبكل أفق التفكير في زمانه يوضع جنباً لجنب مع الفيلسوف الألماني الأنواري كانط وهو ابن القرن الثامن عشر، لمناقشة قضية السعادة... وهنا قوة هذه المحاورات التي تجعل القارئ يحس بأنه بحق يتفرج على محاورة تلفزيونية مباشرة بين الكبار وحول قضايا إنسانية عالقة إلى حد الساعة.
قدم لنا المؤلف 4 محاورات، وكل واحدة تعالج قضية يناقشها فيلسوفان متعارضان، وإذا ما أخذنا المحاورة الأولى مثالا؛ فهي جاءت بعنوان: «محاورة العدالة الاجتماعية»، وجعلها المؤلف تدور بين نوزاييك وراولز، حيث نجد نقاشا حادا حول السؤال التالي: ما الحد الذي ينبغي أن تتوقف عنده الدولة في علاقتها بأفرادها؟ أي متى ينبغي أن تضع يدها ومتى عليها أن تلتزم الحياد؟ بعبارة أخرى: هل يجب أن ندافع عما تسمى «الدولة الأدنى»؟ حيث يصبح دورها فقط ضمان الحرية والأمن والحفاظ على الملكية لتبقى الشؤون الأخرى من اختصاص الأفراد أنفسهم، وهذا هو رأي التيار الليبرتاري Liberterien الذي دافع عنه الأميركي روبرت نوزاييك Robert Nozick في كتابه: «الفوضوية... الدولة والطوباوية»، أم يمكن أن نذهب بالدولة إلى حدود أن تصبح «دولة عناية»؟ بمعنى أنها دولة ليبرالية لكنها ذات ملامح اجتماعية؛ بمعنى أنها تتدخل لإيقاف التفاوتات بين أفراد المجتمع وتعمل على إعادة توزيع الثروة لتعم الفائدة أو لنقل إنه ينبغي ألا ينكمش دور الدولة في القضايا ذات الروح التضامنية. وهو ما دافع عنه بقوة الفيلسوف الأميركي جون راولز J. Rawls في كتابه «العدالة كإنصاف». حقا نحن أمام معادلة صعبة؛ إذ إن تدخل الدولة قد يؤدي إلى هدر الحريات الفردية، أما عدم تدخلها فقد يؤدي إلى توحش واحتكار يكون ثمنه باهظا على الفئات غير المحظوظة.
إن الجميل طبعا في هذا الموضوع الشائك هو طريقة التناول، فالمؤلف عالجه بطريقة الحوار المحتدم الذي يضع كل فيلسوف في حيرة ومأزق، يجعلك، بصفتك قارئا، تتابع لآخر كلمة، وبمجرد أن تقتنع بأن الغلبة هي للأطروحة الأولى؛ إذ بك تجد أنها تنهار أمام الأطروحة الأخرى النقيض، وهكذا دواليك في جدل لا يتوقف، تحس معه بالإثارة والتشويق كأنك في مشهد درامي.
وبالطريقة نفسها سيتم تناول المحاورات المتبقية، حيث جاءت المحاورة الثانية بعنوان: «محاورة حرية الاختيار» التي ناقشها بجدل عنيف كل من ديكارت واسبينوزا، حيث نجد الفيلسوف ديكارت يعلن وبقوة أن الإنسان حر حرية مطلقة ودونما قيود ما دام قادرا على إثبات الشيء أو نفيه، على الفعل أو عدم الفعل، على الإقدام أو الإحجام... ناهيك بقدرة الإنسان على الشك، وهو مؤشر صارخ على إرادة الإنسان؛ فهو يتمكن من خلاله من تعليق الأحكام وعدم إصدارها حول القضايا... وهو ما يرفضه الفيلسوف اسبينوزا؛ إذ يرى أنه لا حرية عند الإنسان، بل هناك حتمية مطلقة وقانونية صارمة نابعة من الطبيعة الكلية التي نحن مجرد جزء منها، وما نحن نعتقده «إرادة» هو في الأصل «رغبة» لا نعرف سببها. فالطفل يعتقد أنه يشتهي الحليب بحرية، والسكير يظن أنه يقوم بقرار حر منه، والأمر نفسه بالنسبة لـ«الهذائي» والثرثار... فهم يرون أنهم يتصرفون بحريتهم، وأنهم لا يخضعون لأي إكراه، لكن الحفر في السبب سيظهر أنهم مسيرون بقوى خفية تجبرهم.
أما المحاورة الثالثة فكانت بعنوان: «محاورة الحق في الكذب» بين كانط وكونسطان، والرابعة والأخيرة «محاورة السعادة» التي تمت بين كانط وأرسطو.
إن كل المحاورات الأربع، اتبعت الخطة نفسها، وكانت بالدفق الدرامي المؤثر نفسه الذي يجعل القضايا الفلسفية سهلة المنال والاستيعاب، الأمر الذي يؤكد على أن العمل الفلسفي بقدر ما يحتاج للكبار الذين هم الفلاسفة؛ أي صناع المفاهيم، يحتاج إلى وسطاء يقربونه للعموم، وهو ما سعى المؤلف للقيام به، كما قلنا.


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».