تداعيات تحرير درنة الليبية (2 من 3) : صداع الخلايا النائمة في ليبيا

حفتر يطهر شرق البلاد من «المتطرفين» بإمكانات متواضعة

أحد مواطني درنة بعد تحرير اجزاء كبيرة في المنطقة من المتطرفين (رويترز)
أحد مواطني درنة بعد تحرير اجزاء كبيرة في المنطقة من المتطرفين (رويترز)
TT

تداعيات تحرير درنة الليبية (2 من 3) : صداع الخلايا النائمة في ليبيا

أحد مواطني درنة بعد تحرير اجزاء كبيرة في المنطقة من المتطرفين (رويترز)
أحد مواطني درنة بعد تحرير اجزاء كبيرة في المنطقة من المتطرفين (رويترز)

تمكن الجيش الوطني الليبي، الذي يعاني حظرا دوليا على تسليحه منذ 2011. من دحر جماعات متشددة في مدينة درنة الساحلية، آخر معاقل الخروج عن الدولة في شرق البلاد. ووضع الجيش، بقيادة المشير خليفة حفتر، خططا لنشر الأمن ومكافحة الإرهاب، لكن هذا يحتاج إلى جهود كبيرة من المجتمع المحلي ذي الطابع القبلي، ومن المعنيين بإنهاء الفوضى والانقسام في هذا البلد الغني بالنفط.
ويقول الشيخ علي أبو صوة، مستشار الهيئة العامة للأوقاف في النظام السابق، إن خطر خلايا المتطرفين النائمة خاصة في درنة وبنغازي، ما زال كبيرا... و«خطر هذه الجماعات يكمن في الفكر؛ الفكر المتهور... وهو أنه حين يستهدف أبرياء، أو الجيش، أو المؤسسات، أو المناطق الحيوية، يعد نفسه يقوم بعمل صحيح، نكاية في الطاغوت، أو الدولة، وفقا لتوصيفاتهم».
تبلغ مساحة ليبيا نحو مليوني كيلومتر مربع، وهي أراض صحراوية جرداء في العموم تقع على شريط ساحلي مواجه لأوروبا. ويربط بين المدن، البعيدة عن بعضها بعضا، طرق طويلة يصعب تأمينها. وفي محطة «المخيلي» الواقعة في منتصف الطريق الصحراوي الجنوبي الرابط بين طبرق وبنغازي، تقوم مجموعات من المتطرفين الفارين من درنة، بالمرور بشكل خاطف من هذه المحطة التي كانت في الماضي نقطة صراع بين جيوش الحرب العالمية الثانية.
في مرات كثيرة كان ينبغي المرور من «المخيلي»، مع مرافقين مغامرين، لأن الخطر مستبعد فيها أكثر من الطريق الساحلي. وإذا ظهر الخطر فإنه يظهر فجأة، ويجعلك تستسلم سريعا لمصيرك، كما حدث لعشرات من سائقي الشاحنات المصرية في السابق. ورغم تواضع إمكانياته، بسبب الحظر الدولي، وضع الجيش نقاط تفتيش عدة من أجل منع أي خارجين عن القانون من الوصول إلى مفترق الطرق الرئيسية الذي تعد «المخيلي» نقطة ارتكاز لها، ما بين مدن الشمال والجنوب ومدن الشرق والغرب.
ويتميز أبناء التجمعات السكنية المبعثرة في الصحراء حول «المخيلي»، مثل غالبية مناطق ليبيا، بالكرم، والبساطة، وقرض الشعر، منذ القدم. وفي السابق كان يمكن أن تجد سيارة مفتوحة وداخلها المفتاح، دون أن يخشى صاحبها من سرقتها. كما اعتادت المطاعم التي تقدم الطعام للمسافرين كتابة شعار «معك نقود تأكل... ليس معك نقود تأكل أيضا».
لكن مرور المتطرفين على المنطقة، وارتكاب جرائم ضد الأبرياء، بعد مقتل القذافي، جعل السكان أكثر حرصا ومراقبة للغرباء. وحين أرسل حفتر الجيش إلى هنا، كان موضع ترحيب كبير. وتطوع شبان في الخدمة. وأثنى الشعراء على الجنرال في قصائدهم.
وفي البوابة الأمنية التي تقع على بعد خطوات من مطعم الفرسان الرئيسي في «المخيلي»، يقول أحد العرفاء التابعين للجيش: المشكلة التي تواجهنا هي الافتقار إلى أجهزة حديثة للكشف عن الأسلحة والمتفجرات التي قد تكون في السيارات العابرة من هنا، بالإضافة إلى عدم القدرة على توفير عناصر تفتيش نسائية، لأن العادات والتقاليد في ليبيا تمنع الرجال، حتى لو كانوا من الأمن، من الكشف عن وجوه النسوة المنتقبات.
وقام الجيش بتعزيز واحدة من أهم النقاط الأمنية في الوقت الراهن، وهي نقطة «وادي السهل» المعبر الرئيسي للقادمين من مدينة درنة التي تشهد اشتباكات بين الجيش والمتطرفين، إلى مدينة طبرق التي يوجد فيها برلمان الدولة.
وفي منطقة «وادي السهل» نفسها، وقعت في سنة (1913) مواجهات دامية بين الاحتلال الإيطالي والقبائل. وفي الوقت الراهن وقف معظم أبناء القبائل مع الجيش ضد متطرفين استوطنوا درنة التي تقع بين جبلين على ساحل البحر. ومع تشديده للحصار على مسلحي المدينة، زاد الجيش كذلك من عدد الجنود المسلحين بالكلاشنيكوف هنا. وجرى مضاعفة عدد السيارات العسكرية في النقطة. وتم نصب مدافع من عيار 23 ملم على صناديق خمس سيارات. بينما تقف ثلاث سيارات أخرى بجوار المبنى الإداري للنقطة، وكل منها مخصص لها جندي محترف في مطاردة من يحاولون الفرار من كمين الجيش.
وعلى كثير من النقاط الأمنية، تبدو حالة الفقر والعوز في أوساط جنود شبان التحقوا خلال السنوات الأخيرة بالعمليات العسكرية لاستعادة الأمن في عموم البلاد. ويقول أحد هؤلاء الجنود من قبيلة القطعان، ويبلغ من العمر 22 عاما، إنه فر من درنة إلى طبرق، مع أسرته في 2016. بسبب سطوة المتطرفين. وفي طبرق التحق بالجيش وتلقى تدريبات على عجل في معسكر يقع قرب المطار الجوي للمدينة، مع مئات الشبان الآخرين، لمدة شهر، ثم جرى تعيينه على نقطة «وادي السهل»، تحت إمرة رئيس عرفاء، له خبرة أمنية منذ عهد معمر القذافي. ويقول الجندي في فخر إن جده كان ممن استشهدوا في معركة «وادي السهل» أثناء التصدي للاحتلال الإيطالي.
ويروي الجنود في مرارة أن العالم تركهم ليحاربوا الإرهاب وحدهم، لأنه ما زال يمنع تسليح الجيش. ولا يوجد في هذه النقطة أيضا أي معدات حديثة لكشف المعادن. كما يصعب توفير عناصر أمن نسائية. ويتذكر الجندي، القطعاني، أنه في إحدى المرات جاءت سيارة ذات قمرتين وصندوق. ويُعرف هذا النوع من السيارات لدى العامة باسم «ميتشي موزة». وتتسع لحمل شخصين في القمرة الأمامية، وثلاثة في القمرة الخلفية.
ويضيف: كان الظاهر من خلال الزجاج الأمامي للسيارة، وجود سائق وبجواره سيدة تخفي وجهها بطرحة سوداء، لا غير. وفي هذه الأحوال فإن المتعارف عليه هو أن يقوم الجندي بإزاحة البرميل الذي يغلق الطريق، والسماح للسيارة بالمرور، دون تفتيش، باعتبار أن من فيها عائلة (رجل وزوجته).
لكن الأمور تغيرت الآن، بالنظر إلى الحرب ضد «المتطرفين». فمثل هذه الاستثناءات كانت من الماضي... «ظل البرميل يسد الطريق، وهو أمر لم يتوقعه السائق... وحين اقترب أحد الجنود لفحص السيارة، وهويته، وهوية المرأة التي معه، اندفع السائق بالسيارة مرة واحدة، وضرب البرميل بمقدمتها وفر هاربا». وفي لمح البصر استقل جنديان آخران سيارتيهما، وطارداه على الطريق المرصوف لأكثر من عشرين كيلومترا. ثم انحرفت السيارة إلى درب ترابي، وتم توقيفها في نهاية المطاف.
وكانت المفاجأة. يوجد خمسة شبان صغار السن جرى إخفاؤهم في موضع الأقدام، في القمرة الخلفية، وكان فوقهم حقائب سفر فارغة، للتمويه. وبالتحقيق في القضية اتضح أنهم من المتطرفين الفارين من درنة، وكانوا في طريقهم إلى الشرق، حيث يعتقد أنه توجد خلايا نائمة في طبرق، التي تعرف باسم «مدينة السلام»، وتبعد عن درنة بنحو 150 كيلومترا. كما يوجد مركز تجميع للمتطرفين الهاربين يقع في صحراء واحة الجغبوب على الحدود، قبالة واحة سيوه المصرية.
ويقول ضابط في الجيش، إن «القوات المسلحة العربية الليبية»، أصبح لديها خطة صارمة للتحقق من كل عابر على الطرق المرصوفة والترابية، في كل المناطق التي فرضت سلطتها عليها، سواء كان هذا العابر رجلا أو امرأة، حتى لو كانت الإمكانيات ضعيفة، مثلما هو الحال في «المخيلي» وفي «وادي السهل»، وغيرهما.
ويضيف: أن الجيش بدأ في الفترة الأخيرة يشرك المرأة في العمل الأمني، بعد الالتحاق بمعسكرات تدريب متخصصة، وذلك لتسهيل مهمة التفتيش في مجتمع له تقاليد محافظة. وأنه بدأ بنشر عناصر أمنية نسائية في بنغازي وسيفعل ذلك في درنة، وغيرها، ويشير مع ذلك، إلى أن خطر الخلايا النائمة في هذه المدن المحررة ما زال قائما، قائلا: إن الأجهزة الاستخباراتية التابعة للجيش تراقب عن كثب تحركات المجاميع المسلحة التي تمكنت من الفرار من بنغازي ودرنة إلى الصحراء في وسط البلاد وجنوبها.
ويعمل معظم جنود الجيش في ظل ظروف صعبة. ويضطر بعض الملتحقين بالخدمة لشراء الملابس العسكرية على نفقتهم الخاصة. وفي كثير من الأحيان تتأخر الرواتب لشهور عدة. وتتطوع بعض العائلات بإعداد الطعام لنقطة أمنية مجاورة. ومن خلال الحديث مع جنود في بنغازي ودرنة وطبرق، يبدو أن الدافع الرئيسي وراء هذا النوع من العمل المضني، هو الرغبة الجارفة في تخليص البلاد من «المتطرفين» ومن الفوضى. فقد أدى انتشار «المتطرفين» المحليين والأجانب في عموم ليبيا، إلى ابتعاد معظم المواطنين عن الطرق السريعة، حتى لا يقعوا في كمين يديره الدواعش أو غيرهم ممن يحملون مسميات مختلفة ويقومون بنفس تصرفات الابتزاز وسرقة السيارات الخاصة والقتل والاحتجاز والتعذيب في سجون سرية.
ولوقت طويل كان لا يمكن لعائلة من مدينة طبرق، مثلا، أن تزور أقرباءها في مدن بنغازي أو درنة أو البيضاء أو القبة، إلا بعد إجراء عشرات الاتصالات الهاتفية مع معارفهم للتأكد من أن هذا الطريق آمن أو لا. وظل الطريق الساحلي الرابط بين طبرق وبنغازي، والذي يبلغ طوله نحو 475 كيلومترا، ويمر بمدن عدة، بمثابة طريق للموت. وسقط فيه عشرات المواطنين ضحية لعناصر التنظيمات المتطرفة. ويقول جندي قبيلة القطعان في بوابة «وادي السهل «أنا أقف هنا لأدافع عن أهلي... عن أبناء عمومتي. ومن يدافع عن أهله لا ينتظر راتبا عن هذا العمل».
ويبدو أن سلطة البرلمان التي يتبعها الجيش، وهي سلطة منتخبة، تشجع على التعاون الأمني والاستخباراتي بين الجيش ودول أخرى، سواء عربية أو أوروبية. لكن البرلمان لم يتمكن أبدا من إقناع المجتمع الدولي برفع حظر التسليح. ومع ذلك هناك اعتقاد أن الضربات الدقيقة التي وجهتها الطائرات الحربية الليبية لمعسكرات ومراكز المتطرفين في درنة، استفادت إلى حد كبير من معلومات جرى جمعها من مصادر مختلفة من أصدقاء ليبيا «لأنها ضربات اعتمدت على تقنيات حديثة في الرصد والتتبع»، كما يقول أحد القيادات السابقة في الجيش.
وطوال الشهور الثمانية الأخيرة، وحتى توغل الجيش في درنة، الأسبوع الماضي، كانت تحركات «المتطرفين» وقياداتهم تحت رقابة صارمة من القوات المسلحة. وأمكن توجيه غارات محكمة في أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني)، وفبراير (شباط)، أدت إلى إضعاف العناصر المتشددة وإصابة زعماء مهمين من العرب، من بينهم المصري الملقب بـ«المهاجر»، والذي يعتقد أنه محاصر في الوقت الراهن في منطقة في الوادي الجنوبي لدرنة، أي ما بين «الشلال» و«شيحا».
كما يعتقد أن قياديا مصريا آخر يدعى «سرور» قتل، مع عشرات آخرين من المتشددين المصريين والتونسيين والجزائريين، في الاشتباكات الأخيرة، بالإضافة إلى القبض على شخصيات تعد «صناديق سوداء لحركة المتطرفين في المدينة»، كما يقول أحد المصادر الأمنية الليبية. ويضيف أن معلومات المقبوض عليهم «تقلل إلى حد كبير من خطر الخلايا النائمة... من خلالهم نعرف أين توجد هذه الخلايا، وماذا تريد أن تفعل، وما نوع الإمكانيات التي يتحصلون عليها. وهذا ما فعلناه في بنغازي، بعد تحريرها، حيث كان عدد السيارات المفخخة التي تنتقم من الجيش ومن مؤسسات الدولة، أقل من المتوقع».
وشهدت درنة تفجير سيارتين مفخختين وهجمات بأحزمة ناسفة، قرب ضاحية شيحا الشرقية، الأسبوع الماضي. كما وقعت تفجيرات مماثلة في السابق في بنغازي وفي نقاط أمنية قرب سرت والجفرة في الشمال الأوسط والجنوب الأوسط من البلاد. وفي مقابلة سابقة في مكتبه، يقول العميد أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش الليبي، وباسم المشير حفتر، إن القوات المسلحة تدرك أن تحرير المدن من «الإرهابيين» لا يكفي للقضاء على الإرهاب، وأن الأمر يتطلب تجفيف منابع هذا الفكر.
ومن ضمن الاستراتيجية الجديدة للجيش، إنشاء غرفة أمنية موحدة، للتنسيق بين مختلف الأجهزة سواء تلك التابعة للجيش، أو الشرطة، أو المخابرات، من أجل تبادل المعلومات ووضع الخطط لتأمين المواطنين والمؤسسات الحيوية والمرافق العامة. ويقول مسؤول عسكري، إن ليبيا في حاجة ماسة إلى «غرفة أمنية موحدة» بشكل أوسع، لكي تشمل كل البلاد، بحيث لا يقتصر الأمر على مدن المنطقة الشرقية وبعض المدن في الجنوب.
ويضيف أن خطر الإرهاب لا يمكن أن يتوقف طالما ظلت مؤسسة الجيش والشرطة منقسمة بين شرق ليبيا وغربها... «هناك انقسام أيضا في المخابرات العامة، وفي المخابرات العسكرية... وبالتالي يصعب، في الوقت الراهن، وضع تصور شامل لخريطة أمنية تحد من نشاط «الإرهابيين»... أنظر إلى مدن الغرب مثل طرابلس، وصبراتة، وزوارة، والزاوية، ومصراتة. نعلم أنه توجد مراكز للمتطرفين هناك، لكن لا نعرف في الحقيقة كل ما يدور فيها على وجه التحديد».
وشهدت طرابلس نفسها عمليات إرهابية عدة، كان أكبرها في الفترة الأخيرة تفجير مفوضية الانتخابات بسيارة مفخخة وأحزمة ناسفة في العاصمة. ويقول الشيخ أبو صوة، الذي تعرض للسجن في طرابلس بعد سقوط نظام القذافي في مقار يديرها متطرفون، إن مشكلة الإرهاب تكمن في الفكر. والسيارات المفخخة من أخطر ما يكون في هذا المجال.
وعما إذا كان يعتقد بوجود حواضن شعبية للمتطرفين في مدن مثل درنة وبنغازي، يقول المستشار السابق للهيئة العامة للأوقاف: لا... لكن هناك أئمة في بعض المساجد (يقومون بالتحريض)، وبعض الناس تتعاطف مع الخطاب الديني... المشكلة تكمن في أن الفكر المتداول في كثير من المواقع هو نفس الفكر الذي أسست له كتب سيد قطب (المنظر الإخواني المصري الراحل). ويضيف: «يتم الترويج للقصة التي تتبعها جماعة «الإخوان» منذ القدم، فيما يتعلق بصوت الحق، وصوت الباطل، وصوت الطاغوت... وهكذا».
ولا يفرق عموم الليبيين بين التنظيمات المتشددة... وتتساوى لدى معظمهم أسماء جماعة «الإخوان» و«القاعدة» و«داعش» و«أنصار الشريعة» و«أبو سليم». واعتاد العميد المسماري نفسه جمع كل هؤلاء في سلة واحدة، حين يتناول تحركات «المتطرفين» الذين يستهدفون الجيش والدولة. وتبين في تحقيقات متفرقة مع قيادات تنتمي لهذه الجماعات وجود تنسيق بطريق مباشر، أو غير مباشر، فيما بينها.
ويعتقد الشيخ أبو صوة أن هناك نوعا من التواطؤ بين «الإخوان» و«القاعدة» و«داعش»، في بعض المدن، وفي بعض المسارات، وفي بعض الطرق أيضا. ويقول: «لا أشك في مثل هذا التواطؤ أبدا. فالقاعدة العامة تقول عدو عدوي، صديقي، فما بالك بأن هناك فكرا يلتقون حوله». ويشير إلى أن «الدواعش هم فصيل من جماعة «الإخوان»... حتى لو رأيت دواعش ينالون من شخصيات إخوانية بأنهم ميعوا القضية، فأنا أقول لك: لا... هم في النهاية يتفقون حول عدة نقاط».
ويخلص كثير من المحققين في ليبيا، إلى أن الفرق بين جماعة «الإخوان» وتنظيم داعش، هو أن الإخوان يعملون ببطء، أما الدواعش فيتعجلون الأمور، ويريدون تنفيذ كل شيء بسرعة. ويقول أبو صوة عن هذا إنه «صحيح إلى حد كبير... الدواعش متعجلون أكثر من «الإخوان»، لكن الفكر واحد، وهو تكفير المجتمع، وتكفير الحاكم، والخروج عليه، والغاية تبرر الوسيلة، وما إلى ذلك».
ويتشكل المجتمع الليبي في أغلبه من قبائل وعائلات كبيرة معروفة. وسبق لمصر أن استضافت مؤتمرا لهذه القبائل في القاهرة في صيف 2015. وأصدر المؤتمر وقتها توصيات كان من بينها دعوة أبنائهم للخروج من صفوف الجماعات المسلحة، أيا كان نوعها. وتعهدت برفع الغطاء الاجتماعي عن الأبناء الذين يصرون على العمل في صفوف الميليشيات. وأدت مخرجات المؤتمر إلى تقليص كبير في عدد المنخرطين في صفوف المسلحين في المنطقة الشرقية ذات التماسك القبلي.
وحول ما إذا كان يعتقد أن الجانب القبلي والعائلي يمكن أن يتغاضى عن بعض الشباب المتطرف، رغم كل شيء، يقول أبو صوة: هذا ممكن. حسب القبيلة. وحسب الشخصية التي يراد الإبلاغ عنها. هذا يلعب دورا كبيرا في التغاضي عن المتطرفين من عدمه.
وتمكنت قبائل كثيرة من «تنظيف» مناطقها من «المتطرفين»، بمن فيهم أولئك الذين ينتمون إلى القبيلة نفسها، ولم يقتصر هذا الأمر على الشرق الليبي فقط، ولكنه حدث في بعض مناطق الغرب والجنوب. واضطرت بعض المجاميع المنتمية إلى «داعش» أو «القاعدة» أو «الإخوان»، إلى النزوح بعيدا عن مواقع قبيلتها، وبعضها اجتاز الحدود إلى خارج البلاد مع القيادات الأجنبية التي تواليها. لكن الخطر يظل كامنا، ويمكن أن يظهر في أي وقت في المستقبل، مثلما حدث العام الماضي من عملية اغتيال لوفد المصالحة القبلية الذي كان قادما من مدينة «بني وليد» للم شمل قبيلتين في غرب طرابلس.
والأمر لا يقتصر على رغبة «المتطرفين» في استمرار الفوضى والانقسام في ليبيا، ولكن توجد أطراف مختلفة - بعضها مدني، وبعضها ليبرالي مدعوم من المجتمع الدولي - تمد يد المساعدة لكل ما من شأنه أن يطيل أمد الأزمة، أو بالأحرى، لكل ما من شأنه أن يعرقل جهود حفتر والجيش الوطني لفرض الأمن والاستقرار في عموم البلاد.
ويقول أبو صوة، بعد أن تمكن حفتر من بسط مظاهر الدولة في شرق ليبيا: الآن، وفي سبيل الإطاحة بحفتر، أو إضعافه، أو تأخير مشروعه: «الإخوان» يتعاطفون مع كل من يعمل ضد قائد الجيش. ويشير إلى أن الهجوم الذي جرى قبل أيام على منطقة مصافي تصدير البترول في الهلال النفطي، التي يسيطر عليها الجيش في غربي بنغازي... «يبدو هجوما مدعوما من كل خصوم حفتر، سواء كانوا «متطرفين»، أو غير «متطرفين».



فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

TT

فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)
جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)

216 ليس مجرد رقم عادي بالنسبة لعائلة «سالم» الموزعة بين مدينة غزة وشمالها. فهذا هو عدد الأفراد الذين فقدتهم العائلة من الأبناء والأسر الكاملة، (أب وأم وأبنائهما) وأصبحوا بذلك خارج السجل المدني، شأنهم شأن مئات العائلات الأخرى التي أخرجتها الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ عام.

سماهر سالم (33 عاماً) من سكان حي الشيخ رضوان، فقدت والدتها وشقيقها الأكبر واثنتين من شقيقاتها و6 من أبنائهم، إلى جانب ما لا يقل عن 60 آخرين من أعمامها وأبنائهم، ولا تعرف اليوم كيف تصف الوحدة التي تشعر بها ووجع الفقد الذي تعمق وأصبح بطعم العلقم، بعدما اختطفت الحرب أيضاً نجلها الأكبر.

وقالت سالم لـ«الشرق الأوسط»: «أقول أحياناً إنني وسط كابوس ولا أصدق ما جرى».

وقصفت إسرائيل منزل سالم وآخرين من عائلتها في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2023، وهو يوم حفر في عقلها وقلبها بالدم والألم.

رجل يواسي سيدة في دفن أفراد من عائلتهما في خان يونس في 2 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

تتذكر سالم لحظة غيرت كل شيء في حياتها، وهي عندما بدأت تدرك أنها فقدت والدتها وشقيقاتها وأولادهن. «مثل الحلم مثل الكذب... بتحس إنك مش فاهم، مش مصدق أي شي مش عارف شو بيصير». قالت سالم وأضافت: «لم أتخيل أني سأفقد أمي وأخواتي وأولادهن في لحظة واحدة. هو شيء أكبر من الحزن».

وفي غمرة الحزن، فقدت سالم ابنها البكر، وتحول الألم إلى ألم مضاعف ترجمته الأم المكلومة والباقية بعبارة واحدة مقتضبة: «ما ظل إشي».

وقتلت إسرائيل أكثر من 41 ألف فلسطيني في قطاع غزة خلال عام واحد في الحرب التي خلّفت كذلك 100 ألف جريح وآلاف المفقودين، وأوسع دمار ممكن.

وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، بين الضحايا 16.859 طفلاً، ومنهم 171 طفلاً رضيعاً وُلدوا وقتلوا خلال الحرب، و710 عمرهم أقل من عام، و36 قضوا نتيجة المجاعة، فيما سجل عدد النساء 11.429.

إلى جانب سالم التي بقيت على قيد الحياة، نجا قلائل آخرون من العائلة بينهم معين سالم الذي فقد 7 من أشقائه وشقيقاته وأبنائهم وأحفادهم في مجزرة ارتكبت بحي الرمال بتاريخ 19 ديسمبر 2023 (بفارق 8 أيام على الجريمة الأولى)، وذلك بعد تفجير الاحتلال مبنى كانوا بداخله.

وقال سالم لـ«الشرق الأوسط»: «93 راحوا في ضربة واحدة، في ثانية واحدة، في مجزرة واحدة».

وأضاف: «دفنت بعضهم وبعضهم ما زال تحت الأنقاض. وبقيت وحدي».

وتمثل عائلة سالم واحدة من مئات العائلات التي شطبت من السجل المدني في قطاع غزة خلال الحرب بشكل كامل أو جزئي.

وبحسب إحصاءات المكتب الحكومي في قطاع غزة، فإن الجيش الإسرائيلي أباد 902 عائلة فلسطينية خلال عام واحد.

أزهار مسعود ترفع صور أفراد عائلتها التي قتلت بالكامل في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة (رويترز)

وقال المكتب الحكومي إنه في إطار استمرار جريمة الإبادة الجماعية التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، فقد قام جيش الاحتلال بإبادة 902 عائلة فلسطينية ومسحها من السجل المدني بقتل كامل أفرادها خلال سنة من الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

وأضاف: «كما أباد جيش الاحتلال الإسرائيلي 1364 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها، ولم يتبقَّ سوى فرد واحد في الأسرة الواحدة، ومسح كذلك 3472 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها ولم يتبقَّ منها سوى فردين اثنين في الأسرة الواحدة».

وأكد المكتب: «تأتي هذه الجرائم المتواصلة بحق شعبنا الفلسطيني في إطار جريمة الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، وبمشاركة مجموعة من الدول الأوروبية والغربية التي تمد الاحتلال بالسلاح القاتل والمحرم دولياً مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول».

وإذا كان بقي بعض أفراد العائلات على قيد الحياة ليرووا ألم الفقد فإن عائلات بأكملها لا تجد من يروي حكايتها.

في السابع عشر من شهر سبتمبر (أيلول) المنصرم، كانت عائلة ياسر أبو شوقة، من بين العائلات التي شطبت من السجل المدني، بعد أن قُتل برفقة زوجته وأبنائه وبناته الخمسة، إلى جانب اثنين من أشقائه وعائلتيهما بشكل كامل.

وقضت العائلة داخل منزل مكون من عدة طوابق قصفته طائرة إسرائيلية حربية أطلقت عدة صواريخ على المنزل في مخيم البريج وسط قطاع غزة.

وقال خليل أبو شوقة ابن عم العائلة لـ«الشرق الأوسط»: «لا يوجد ما يعبر عن هذه الجريمة البشعة».

وأضاف: «كل أبناء عمي وأسرهم قتلوا بلا ذنب. وذهبوا مرة واحدة. شيء لا يصدق».

الصحافيون والعقاب الجماعي

طال القتل العمد عوائل صحافيين بشكل خاص، فبعد قتل الجيش الإسرائيلي هائل النجار (43 عاماً) في شهر مايو (أيار) الماضي، قتلت إسرائيل أسرته المكونة من 6 أفراد بينهم زوجته و3 أطفال تتراوح أعمارهم بين عامين و13 عاماً.

وقال رائد النجار، شقيق زوجة هائل: «لقد كان قتلاً مع سبق الإصرار، ولا أفهم لماذا يريدون إبادة عائلة صحافي».

وقضى 174 صحافياً خلال الحرب الحالية، آخرهم الصحافية وفاء العديني وزوجها وابنتها وابنها، بعد قصف طالهم في دير البلح، وسط قطاع غزة، وهي صحافية تعمل مع عدة وسائل إعلام أجنبية.

الصحافي غازي أشرف علول يزور عائلته على شاطئ غزة وقد ولد ابنه في أثناء عمله في تغطية أخبار الموت (إ.ب.أ)

إنه القتل الجماعي الذي لا يأتي بطريق الخطأ، وإنما بدافع العقاب.

وقال محمود بصل، المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني بغزة، إن الاحتلال الإسرائيلي استخدم الانتقام وسيلة حقيقية خلال هذه الحرب، وقتل عوائل مقاتلين وسياسيين ومسؤولين حكوميين وصحافيين ونشطاء ومخاتير ووجهاء وغيرهم، في حرب شنعاء هدفها إقصاء هذه الفئات عن القيام بمهامها.

وأضاف: «العمليات الانتقامية كانت واضحة جداً، واستهداف العوائل والأسر والعمل على شطب العديد منها من السجل المدني، كان أهم ما يميز العدوان الحالي».

وأردف: «ما حدث ويحدث بحق العوائل جريمة مكتملة الأركان».