تداعيات تحرير درنة الليبية (2 من 3) : صداع الخلايا النائمة في ليبيا

حفتر يطهر شرق البلاد من «المتطرفين» بإمكانات متواضعة

أحد مواطني درنة بعد تحرير اجزاء كبيرة في المنطقة من المتطرفين (رويترز)
أحد مواطني درنة بعد تحرير اجزاء كبيرة في المنطقة من المتطرفين (رويترز)
TT

تداعيات تحرير درنة الليبية (2 من 3) : صداع الخلايا النائمة في ليبيا

أحد مواطني درنة بعد تحرير اجزاء كبيرة في المنطقة من المتطرفين (رويترز)
أحد مواطني درنة بعد تحرير اجزاء كبيرة في المنطقة من المتطرفين (رويترز)

تمكن الجيش الوطني الليبي، الذي يعاني حظرا دوليا على تسليحه منذ 2011. من دحر جماعات متشددة في مدينة درنة الساحلية، آخر معاقل الخروج عن الدولة في شرق البلاد. ووضع الجيش، بقيادة المشير خليفة حفتر، خططا لنشر الأمن ومكافحة الإرهاب، لكن هذا يحتاج إلى جهود كبيرة من المجتمع المحلي ذي الطابع القبلي، ومن المعنيين بإنهاء الفوضى والانقسام في هذا البلد الغني بالنفط.
ويقول الشيخ علي أبو صوة، مستشار الهيئة العامة للأوقاف في النظام السابق، إن خطر خلايا المتطرفين النائمة خاصة في درنة وبنغازي، ما زال كبيرا... و«خطر هذه الجماعات يكمن في الفكر؛ الفكر المتهور... وهو أنه حين يستهدف أبرياء، أو الجيش، أو المؤسسات، أو المناطق الحيوية، يعد نفسه يقوم بعمل صحيح، نكاية في الطاغوت، أو الدولة، وفقا لتوصيفاتهم».
تبلغ مساحة ليبيا نحو مليوني كيلومتر مربع، وهي أراض صحراوية جرداء في العموم تقع على شريط ساحلي مواجه لأوروبا. ويربط بين المدن، البعيدة عن بعضها بعضا، طرق طويلة يصعب تأمينها. وفي محطة «المخيلي» الواقعة في منتصف الطريق الصحراوي الجنوبي الرابط بين طبرق وبنغازي، تقوم مجموعات من المتطرفين الفارين من درنة، بالمرور بشكل خاطف من هذه المحطة التي كانت في الماضي نقطة صراع بين جيوش الحرب العالمية الثانية.
في مرات كثيرة كان ينبغي المرور من «المخيلي»، مع مرافقين مغامرين، لأن الخطر مستبعد فيها أكثر من الطريق الساحلي. وإذا ظهر الخطر فإنه يظهر فجأة، ويجعلك تستسلم سريعا لمصيرك، كما حدث لعشرات من سائقي الشاحنات المصرية في السابق. ورغم تواضع إمكانياته، بسبب الحظر الدولي، وضع الجيش نقاط تفتيش عدة من أجل منع أي خارجين عن القانون من الوصول إلى مفترق الطرق الرئيسية الذي تعد «المخيلي» نقطة ارتكاز لها، ما بين مدن الشمال والجنوب ومدن الشرق والغرب.
ويتميز أبناء التجمعات السكنية المبعثرة في الصحراء حول «المخيلي»، مثل غالبية مناطق ليبيا، بالكرم، والبساطة، وقرض الشعر، منذ القدم. وفي السابق كان يمكن أن تجد سيارة مفتوحة وداخلها المفتاح، دون أن يخشى صاحبها من سرقتها. كما اعتادت المطاعم التي تقدم الطعام للمسافرين كتابة شعار «معك نقود تأكل... ليس معك نقود تأكل أيضا».
لكن مرور المتطرفين على المنطقة، وارتكاب جرائم ضد الأبرياء، بعد مقتل القذافي، جعل السكان أكثر حرصا ومراقبة للغرباء. وحين أرسل حفتر الجيش إلى هنا، كان موضع ترحيب كبير. وتطوع شبان في الخدمة. وأثنى الشعراء على الجنرال في قصائدهم.
وفي البوابة الأمنية التي تقع على بعد خطوات من مطعم الفرسان الرئيسي في «المخيلي»، يقول أحد العرفاء التابعين للجيش: المشكلة التي تواجهنا هي الافتقار إلى أجهزة حديثة للكشف عن الأسلحة والمتفجرات التي قد تكون في السيارات العابرة من هنا، بالإضافة إلى عدم القدرة على توفير عناصر تفتيش نسائية، لأن العادات والتقاليد في ليبيا تمنع الرجال، حتى لو كانوا من الأمن، من الكشف عن وجوه النسوة المنتقبات.
وقام الجيش بتعزيز واحدة من أهم النقاط الأمنية في الوقت الراهن، وهي نقطة «وادي السهل» المعبر الرئيسي للقادمين من مدينة درنة التي تشهد اشتباكات بين الجيش والمتطرفين، إلى مدينة طبرق التي يوجد فيها برلمان الدولة.
وفي منطقة «وادي السهل» نفسها، وقعت في سنة (1913) مواجهات دامية بين الاحتلال الإيطالي والقبائل. وفي الوقت الراهن وقف معظم أبناء القبائل مع الجيش ضد متطرفين استوطنوا درنة التي تقع بين جبلين على ساحل البحر. ومع تشديده للحصار على مسلحي المدينة، زاد الجيش كذلك من عدد الجنود المسلحين بالكلاشنيكوف هنا. وجرى مضاعفة عدد السيارات العسكرية في النقطة. وتم نصب مدافع من عيار 23 ملم على صناديق خمس سيارات. بينما تقف ثلاث سيارات أخرى بجوار المبنى الإداري للنقطة، وكل منها مخصص لها جندي محترف في مطاردة من يحاولون الفرار من كمين الجيش.
وعلى كثير من النقاط الأمنية، تبدو حالة الفقر والعوز في أوساط جنود شبان التحقوا خلال السنوات الأخيرة بالعمليات العسكرية لاستعادة الأمن في عموم البلاد. ويقول أحد هؤلاء الجنود من قبيلة القطعان، ويبلغ من العمر 22 عاما، إنه فر من درنة إلى طبرق، مع أسرته في 2016. بسبب سطوة المتطرفين. وفي طبرق التحق بالجيش وتلقى تدريبات على عجل في معسكر يقع قرب المطار الجوي للمدينة، مع مئات الشبان الآخرين، لمدة شهر، ثم جرى تعيينه على نقطة «وادي السهل»، تحت إمرة رئيس عرفاء، له خبرة أمنية منذ عهد معمر القذافي. ويقول الجندي في فخر إن جده كان ممن استشهدوا في معركة «وادي السهل» أثناء التصدي للاحتلال الإيطالي.
ويروي الجنود في مرارة أن العالم تركهم ليحاربوا الإرهاب وحدهم، لأنه ما زال يمنع تسليح الجيش. ولا يوجد في هذه النقطة أيضا أي معدات حديثة لكشف المعادن. كما يصعب توفير عناصر أمن نسائية. ويتذكر الجندي، القطعاني، أنه في إحدى المرات جاءت سيارة ذات قمرتين وصندوق. ويُعرف هذا النوع من السيارات لدى العامة باسم «ميتشي موزة». وتتسع لحمل شخصين في القمرة الأمامية، وثلاثة في القمرة الخلفية.
ويضيف: كان الظاهر من خلال الزجاج الأمامي للسيارة، وجود سائق وبجواره سيدة تخفي وجهها بطرحة سوداء، لا غير. وفي هذه الأحوال فإن المتعارف عليه هو أن يقوم الجندي بإزاحة البرميل الذي يغلق الطريق، والسماح للسيارة بالمرور، دون تفتيش، باعتبار أن من فيها عائلة (رجل وزوجته).
لكن الأمور تغيرت الآن، بالنظر إلى الحرب ضد «المتطرفين». فمثل هذه الاستثناءات كانت من الماضي... «ظل البرميل يسد الطريق، وهو أمر لم يتوقعه السائق... وحين اقترب أحد الجنود لفحص السيارة، وهويته، وهوية المرأة التي معه، اندفع السائق بالسيارة مرة واحدة، وضرب البرميل بمقدمتها وفر هاربا». وفي لمح البصر استقل جنديان آخران سيارتيهما، وطارداه على الطريق المرصوف لأكثر من عشرين كيلومترا. ثم انحرفت السيارة إلى درب ترابي، وتم توقيفها في نهاية المطاف.
وكانت المفاجأة. يوجد خمسة شبان صغار السن جرى إخفاؤهم في موضع الأقدام، في القمرة الخلفية، وكان فوقهم حقائب سفر فارغة، للتمويه. وبالتحقيق في القضية اتضح أنهم من المتطرفين الفارين من درنة، وكانوا في طريقهم إلى الشرق، حيث يعتقد أنه توجد خلايا نائمة في طبرق، التي تعرف باسم «مدينة السلام»، وتبعد عن درنة بنحو 150 كيلومترا. كما يوجد مركز تجميع للمتطرفين الهاربين يقع في صحراء واحة الجغبوب على الحدود، قبالة واحة سيوه المصرية.
ويقول ضابط في الجيش، إن «القوات المسلحة العربية الليبية»، أصبح لديها خطة صارمة للتحقق من كل عابر على الطرق المرصوفة والترابية، في كل المناطق التي فرضت سلطتها عليها، سواء كان هذا العابر رجلا أو امرأة، حتى لو كانت الإمكانيات ضعيفة، مثلما هو الحال في «المخيلي» وفي «وادي السهل»، وغيرهما.
ويضيف: أن الجيش بدأ في الفترة الأخيرة يشرك المرأة في العمل الأمني، بعد الالتحاق بمعسكرات تدريب متخصصة، وذلك لتسهيل مهمة التفتيش في مجتمع له تقاليد محافظة. وأنه بدأ بنشر عناصر أمنية نسائية في بنغازي وسيفعل ذلك في درنة، وغيرها، ويشير مع ذلك، إلى أن خطر الخلايا النائمة في هذه المدن المحررة ما زال قائما، قائلا: إن الأجهزة الاستخباراتية التابعة للجيش تراقب عن كثب تحركات المجاميع المسلحة التي تمكنت من الفرار من بنغازي ودرنة إلى الصحراء في وسط البلاد وجنوبها.
ويعمل معظم جنود الجيش في ظل ظروف صعبة. ويضطر بعض الملتحقين بالخدمة لشراء الملابس العسكرية على نفقتهم الخاصة. وفي كثير من الأحيان تتأخر الرواتب لشهور عدة. وتتطوع بعض العائلات بإعداد الطعام لنقطة أمنية مجاورة. ومن خلال الحديث مع جنود في بنغازي ودرنة وطبرق، يبدو أن الدافع الرئيسي وراء هذا النوع من العمل المضني، هو الرغبة الجارفة في تخليص البلاد من «المتطرفين» ومن الفوضى. فقد أدى انتشار «المتطرفين» المحليين والأجانب في عموم ليبيا، إلى ابتعاد معظم المواطنين عن الطرق السريعة، حتى لا يقعوا في كمين يديره الدواعش أو غيرهم ممن يحملون مسميات مختلفة ويقومون بنفس تصرفات الابتزاز وسرقة السيارات الخاصة والقتل والاحتجاز والتعذيب في سجون سرية.
ولوقت طويل كان لا يمكن لعائلة من مدينة طبرق، مثلا، أن تزور أقرباءها في مدن بنغازي أو درنة أو البيضاء أو القبة، إلا بعد إجراء عشرات الاتصالات الهاتفية مع معارفهم للتأكد من أن هذا الطريق آمن أو لا. وظل الطريق الساحلي الرابط بين طبرق وبنغازي، والذي يبلغ طوله نحو 475 كيلومترا، ويمر بمدن عدة، بمثابة طريق للموت. وسقط فيه عشرات المواطنين ضحية لعناصر التنظيمات المتطرفة. ويقول جندي قبيلة القطعان في بوابة «وادي السهل «أنا أقف هنا لأدافع عن أهلي... عن أبناء عمومتي. ومن يدافع عن أهله لا ينتظر راتبا عن هذا العمل».
ويبدو أن سلطة البرلمان التي يتبعها الجيش، وهي سلطة منتخبة، تشجع على التعاون الأمني والاستخباراتي بين الجيش ودول أخرى، سواء عربية أو أوروبية. لكن البرلمان لم يتمكن أبدا من إقناع المجتمع الدولي برفع حظر التسليح. ومع ذلك هناك اعتقاد أن الضربات الدقيقة التي وجهتها الطائرات الحربية الليبية لمعسكرات ومراكز المتطرفين في درنة، استفادت إلى حد كبير من معلومات جرى جمعها من مصادر مختلفة من أصدقاء ليبيا «لأنها ضربات اعتمدت على تقنيات حديثة في الرصد والتتبع»، كما يقول أحد القيادات السابقة في الجيش.
وطوال الشهور الثمانية الأخيرة، وحتى توغل الجيش في درنة، الأسبوع الماضي، كانت تحركات «المتطرفين» وقياداتهم تحت رقابة صارمة من القوات المسلحة. وأمكن توجيه غارات محكمة في أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني)، وفبراير (شباط)، أدت إلى إضعاف العناصر المتشددة وإصابة زعماء مهمين من العرب، من بينهم المصري الملقب بـ«المهاجر»، والذي يعتقد أنه محاصر في الوقت الراهن في منطقة في الوادي الجنوبي لدرنة، أي ما بين «الشلال» و«شيحا».
كما يعتقد أن قياديا مصريا آخر يدعى «سرور» قتل، مع عشرات آخرين من المتشددين المصريين والتونسيين والجزائريين، في الاشتباكات الأخيرة، بالإضافة إلى القبض على شخصيات تعد «صناديق سوداء لحركة المتطرفين في المدينة»، كما يقول أحد المصادر الأمنية الليبية. ويضيف أن معلومات المقبوض عليهم «تقلل إلى حد كبير من خطر الخلايا النائمة... من خلالهم نعرف أين توجد هذه الخلايا، وماذا تريد أن تفعل، وما نوع الإمكانيات التي يتحصلون عليها. وهذا ما فعلناه في بنغازي، بعد تحريرها، حيث كان عدد السيارات المفخخة التي تنتقم من الجيش ومن مؤسسات الدولة، أقل من المتوقع».
وشهدت درنة تفجير سيارتين مفخختين وهجمات بأحزمة ناسفة، قرب ضاحية شيحا الشرقية، الأسبوع الماضي. كما وقعت تفجيرات مماثلة في السابق في بنغازي وفي نقاط أمنية قرب سرت والجفرة في الشمال الأوسط والجنوب الأوسط من البلاد. وفي مقابلة سابقة في مكتبه، يقول العميد أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش الليبي، وباسم المشير حفتر، إن القوات المسلحة تدرك أن تحرير المدن من «الإرهابيين» لا يكفي للقضاء على الإرهاب، وأن الأمر يتطلب تجفيف منابع هذا الفكر.
ومن ضمن الاستراتيجية الجديدة للجيش، إنشاء غرفة أمنية موحدة، للتنسيق بين مختلف الأجهزة سواء تلك التابعة للجيش، أو الشرطة، أو المخابرات، من أجل تبادل المعلومات ووضع الخطط لتأمين المواطنين والمؤسسات الحيوية والمرافق العامة. ويقول مسؤول عسكري، إن ليبيا في حاجة ماسة إلى «غرفة أمنية موحدة» بشكل أوسع، لكي تشمل كل البلاد، بحيث لا يقتصر الأمر على مدن المنطقة الشرقية وبعض المدن في الجنوب.
ويضيف أن خطر الإرهاب لا يمكن أن يتوقف طالما ظلت مؤسسة الجيش والشرطة منقسمة بين شرق ليبيا وغربها... «هناك انقسام أيضا في المخابرات العامة، وفي المخابرات العسكرية... وبالتالي يصعب، في الوقت الراهن، وضع تصور شامل لخريطة أمنية تحد من نشاط «الإرهابيين»... أنظر إلى مدن الغرب مثل طرابلس، وصبراتة، وزوارة، والزاوية، ومصراتة. نعلم أنه توجد مراكز للمتطرفين هناك، لكن لا نعرف في الحقيقة كل ما يدور فيها على وجه التحديد».
وشهدت طرابلس نفسها عمليات إرهابية عدة، كان أكبرها في الفترة الأخيرة تفجير مفوضية الانتخابات بسيارة مفخخة وأحزمة ناسفة في العاصمة. ويقول الشيخ أبو صوة، الذي تعرض للسجن في طرابلس بعد سقوط نظام القذافي في مقار يديرها متطرفون، إن مشكلة الإرهاب تكمن في الفكر. والسيارات المفخخة من أخطر ما يكون في هذا المجال.
وعما إذا كان يعتقد بوجود حواضن شعبية للمتطرفين في مدن مثل درنة وبنغازي، يقول المستشار السابق للهيئة العامة للأوقاف: لا... لكن هناك أئمة في بعض المساجد (يقومون بالتحريض)، وبعض الناس تتعاطف مع الخطاب الديني... المشكلة تكمن في أن الفكر المتداول في كثير من المواقع هو نفس الفكر الذي أسست له كتب سيد قطب (المنظر الإخواني المصري الراحل). ويضيف: «يتم الترويج للقصة التي تتبعها جماعة «الإخوان» منذ القدم، فيما يتعلق بصوت الحق، وصوت الباطل، وصوت الطاغوت... وهكذا».
ولا يفرق عموم الليبيين بين التنظيمات المتشددة... وتتساوى لدى معظمهم أسماء جماعة «الإخوان» و«القاعدة» و«داعش» و«أنصار الشريعة» و«أبو سليم». واعتاد العميد المسماري نفسه جمع كل هؤلاء في سلة واحدة، حين يتناول تحركات «المتطرفين» الذين يستهدفون الجيش والدولة. وتبين في تحقيقات متفرقة مع قيادات تنتمي لهذه الجماعات وجود تنسيق بطريق مباشر، أو غير مباشر، فيما بينها.
ويعتقد الشيخ أبو صوة أن هناك نوعا من التواطؤ بين «الإخوان» و«القاعدة» و«داعش»، في بعض المدن، وفي بعض المسارات، وفي بعض الطرق أيضا. ويقول: «لا أشك في مثل هذا التواطؤ أبدا. فالقاعدة العامة تقول عدو عدوي، صديقي، فما بالك بأن هناك فكرا يلتقون حوله». ويشير إلى أن «الدواعش هم فصيل من جماعة «الإخوان»... حتى لو رأيت دواعش ينالون من شخصيات إخوانية بأنهم ميعوا القضية، فأنا أقول لك: لا... هم في النهاية يتفقون حول عدة نقاط».
ويخلص كثير من المحققين في ليبيا، إلى أن الفرق بين جماعة «الإخوان» وتنظيم داعش، هو أن الإخوان يعملون ببطء، أما الدواعش فيتعجلون الأمور، ويريدون تنفيذ كل شيء بسرعة. ويقول أبو صوة عن هذا إنه «صحيح إلى حد كبير... الدواعش متعجلون أكثر من «الإخوان»، لكن الفكر واحد، وهو تكفير المجتمع، وتكفير الحاكم، والخروج عليه، والغاية تبرر الوسيلة، وما إلى ذلك».
ويتشكل المجتمع الليبي في أغلبه من قبائل وعائلات كبيرة معروفة. وسبق لمصر أن استضافت مؤتمرا لهذه القبائل في القاهرة في صيف 2015. وأصدر المؤتمر وقتها توصيات كان من بينها دعوة أبنائهم للخروج من صفوف الجماعات المسلحة، أيا كان نوعها. وتعهدت برفع الغطاء الاجتماعي عن الأبناء الذين يصرون على العمل في صفوف الميليشيات. وأدت مخرجات المؤتمر إلى تقليص كبير في عدد المنخرطين في صفوف المسلحين في المنطقة الشرقية ذات التماسك القبلي.
وحول ما إذا كان يعتقد أن الجانب القبلي والعائلي يمكن أن يتغاضى عن بعض الشباب المتطرف، رغم كل شيء، يقول أبو صوة: هذا ممكن. حسب القبيلة. وحسب الشخصية التي يراد الإبلاغ عنها. هذا يلعب دورا كبيرا في التغاضي عن المتطرفين من عدمه.
وتمكنت قبائل كثيرة من «تنظيف» مناطقها من «المتطرفين»، بمن فيهم أولئك الذين ينتمون إلى القبيلة نفسها، ولم يقتصر هذا الأمر على الشرق الليبي فقط، ولكنه حدث في بعض مناطق الغرب والجنوب. واضطرت بعض المجاميع المنتمية إلى «داعش» أو «القاعدة» أو «الإخوان»، إلى النزوح بعيدا عن مواقع قبيلتها، وبعضها اجتاز الحدود إلى خارج البلاد مع القيادات الأجنبية التي تواليها. لكن الخطر يظل كامنا، ويمكن أن يظهر في أي وقت في المستقبل، مثلما حدث العام الماضي من عملية اغتيال لوفد المصالحة القبلية الذي كان قادما من مدينة «بني وليد» للم شمل قبيلتين في غرب طرابلس.
والأمر لا يقتصر على رغبة «المتطرفين» في استمرار الفوضى والانقسام في ليبيا، ولكن توجد أطراف مختلفة - بعضها مدني، وبعضها ليبرالي مدعوم من المجتمع الدولي - تمد يد المساعدة لكل ما من شأنه أن يطيل أمد الأزمة، أو بالأحرى، لكل ما من شأنه أن يعرقل جهود حفتر والجيش الوطني لفرض الأمن والاستقرار في عموم البلاد.
ويقول أبو صوة، بعد أن تمكن حفتر من بسط مظاهر الدولة في شرق ليبيا: الآن، وفي سبيل الإطاحة بحفتر، أو إضعافه، أو تأخير مشروعه: «الإخوان» يتعاطفون مع كل من يعمل ضد قائد الجيش. ويشير إلى أن الهجوم الذي جرى قبل أيام على منطقة مصافي تصدير البترول في الهلال النفطي، التي يسيطر عليها الجيش في غربي بنغازي... «يبدو هجوما مدعوما من كل خصوم حفتر، سواء كانوا «متطرفين»، أو غير «متطرفين».



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.