تداعيات تحرير درنة الليبية (2 من 3) : صداع الخلايا النائمة في ليبيا

حفتر يطهر شرق البلاد من «المتطرفين» بإمكانات متواضعة

أحد مواطني درنة بعد تحرير اجزاء كبيرة في المنطقة من المتطرفين (رويترز)
أحد مواطني درنة بعد تحرير اجزاء كبيرة في المنطقة من المتطرفين (رويترز)
TT

تداعيات تحرير درنة الليبية (2 من 3) : صداع الخلايا النائمة في ليبيا

أحد مواطني درنة بعد تحرير اجزاء كبيرة في المنطقة من المتطرفين (رويترز)
أحد مواطني درنة بعد تحرير اجزاء كبيرة في المنطقة من المتطرفين (رويترز)

تمكن الجيش الوطني الليبي، الذي يعاني حظرا دوليا على تسليحه منذ 2011. من دحر جماعات متشددة في مدينة درنة الساحلية، آخر معاقل الخروج عن الدولة في شرق البلاد. ووضع الجيش، بقيادة المشير خليفة حفتر، خططا لنشر الأمن ومكافحة الإرهاب، لكن هذا يحتاج إلى جهود كبيرة من المجتمع المحلي ذي الطابع القبلي، ومن المعنيين بإنهاء الفوضى والانقسام في هذا البلد الغني بالنفط.
ويقول الشيخ علي أبو صوة، مستشار الهيئة العامة للأوقاف في النظام السابق، إن خطر خلايا المتطرفين النائمة خاصة في درنة وبنغازي، ما زال كبيرا... و«خطر هذه الجماعات يكمن في الفكر؛ الفكر المتهور... وهو أنه حين يستهدف أبرياء، أو الجيش، أو المؤسسات، أو المناطق الحيوية، يعد نفسه يقوم بعمل صحيح، نكاية في الطاغوت، أو الدولة، وفقا لتوصيفاتهم».
تبلغ مساحة ليبيا نحو مليوني كيلومتر مربع، وهي أراض صحراوية جرداء في العموم تقع على شريط ساحلي مواجه لأوروبا. ويربط بين المدن، البعيدة عن بعضها بعضا، طرق طويلة يصعب تأمينها. وفي محطة «المخيلي» الواقعة في منتصف الطريق الصحراوي الجنوبي الرابط بين طبرق وبنغازي، تقوم مجموعات من المتطرفين الفارين من درنة، بالمرور بشكل خاطف من هذه المحطة التي كانت في الماضي نقطة صراع بين جيوش الحرب العالمية الثانية.
في مرات كثيرة كان ينبغي المرور من «المخيلي»، مع مرافقين مغامرين، لأن الخطر مستبعد فيها أكثر من الطريق الساحلي. وإذا ظهر الخطر فإنه يظهر فجأة، ويجعلك تستسلم سريعا لمصيرك، كما حدث لعشرات من سائقي الشاحنات المصرية في السابق. ورغم تواضع إمكانياته، بسبب الحظر الدولي، وضع الجيش نقاط تفتيش عدة من أجل منع أي خارجين عن القانون من الوصول إلى مفترق الطرق الرئيسية الذي تعد «المخيلي» نقطة ارتكاز لها، ما بين مدن الشمال والجنوب ومدن الشرق والغرب.
ويتميز أبناء التجمعات السكنية المبعثرة في الصحراء حول «المخيلي»، مثل غالبية مناطق ليبيا، بالكرم، والبساطة، وقرض الشعر، منذ القدم. وفي السابق كان يمكن أن تجد سيارة مفتوحة وداخلها المفتاح، دون أن يخشى صاحبها من سرقتها. كما اعتادت المطاعم التي تقدم الطعام للمسافرين كتابة شعار «معك نقود تأكل... ليس معك نقود تأكل أيضا».
لكن مرور المتطرفين على المنطقة، وارتكاب جرائم ضد الأبرياء، بعد مقتل القذافي، جعل السكان أكثر حرصا ومراقبة للغرباء. وحين أرسل حفتر الجيش إلى هنا، كان موضع ترحيب كبير. وتطوع شبان في الخدمة. وأثنى الشعراء على الجنرال في قصائدهم.
وفي البوابة الأمنية التي تقع على بعد خطوات من مطعم الفرسان الرئيسي في «المخيلي»، يقول أحد العرفاء التابعين للجيش: المشكلة التي تواجهنا هي الافتقار إلى أجهزة حديثة للكشف عن الأسلحة والمتفجرات التي قد تكون في السيارات العابرة من هنا، بالإضافة إلى عدم القدرة على توفير عناصر تفتيش نسائية، لأن العادات والتقاليد في ليبيا تمنع الرجال، حتى لو كانوا من الأمن، من الكشف عن وجوه النسوة المنتقبات.
وقام الجيش بتعزيز واحدة من أهم النقاط الأمنية في الوقت الراهن، وهي نقطة «وادي السهل» المعبر الرئيسي للقادمين من مدينة درنة التي تشهد اشتباكات بين الجيش والمتطرفين، إلى مدينة طبرق التي يوجد فيها برلمان الدولة.
وفي منطقة «وادي السهل» نفسها، وقعت في سنة (1913) مواجهات دامية بين الاحتلال الإيطالي والقبائل. وفي الوقت الراهن وقف معظم أبناء القبائل مع الجيش ضد متطرفين استوطنوا درنة التي تقع بين جبلين على ساحل البحر. ومع تشديده للحصار على مسلحي المدينة، زاد الجيش كذلك من عدد الجنود المسلحين بالكلاشنيكوف هنا. وجرى مضاعفة عدد السيارات العسكرية في النقطة. وتم نصب مدافع من عيار 23 ملم على صناديق خمس سيارات. بينما تقف ثلاث سيارات أخرى بجوار المبنى الإداري للنقطة، وكل منها مخصص لها جندي محترف في مطاردة من يحاولون الفرار من كمين الجيش.
وعلى كثير من النقاط الأمنية، تبدو حالة الفقر والعوز في أوساط جنود شبان التحقوا خلال السنوات الأخيرة بالعمليات العسكرية لاستعادة الأمن في عموم البلاد. ويقول أحد هؤلاء الجنود من قبيلة القطعان، ويبلغ من العمر 22 عاما، إنه فر من درنة إلى طبرق، مع أسرته في 2016. بسبب سطوة المتطرفين. وفي طبرق التحق بالجيش وتلقى تدريبات على عجل في معسكر يقع قرب المطار الجوي للمدينة، مع مئات الشبان الآخرين، لمدة شهر، ثم جرى تعيينه على نقطة «وادي السهل»، تحت إمرة رئيس عرفاء، له خبرة أمنية منذ عهد معمر القذافي. ويقول الجندي في فخر إن جده كان ممن استشهدوا في معركة «وادي السهل» أثناء التصدي للاحتلال الإيطالي.
ويروي الجنود في مرارة أن العالم تركهم ليحاربوا الإرهاب وحدهم، لأنه ما زال يمنع تسليح الجيش. ولا يوجد في هذه النقطة أيضا أي معدات حديثة لكشف المعادن. كما يصعب توفير عناصر أمن نسائية. ويتذكر الجندي، القطعاني، أنه في إحدى المرات جاءت سيارة ذات قمرتين وصندوق. ويُعرف هذا النوع من السيارات لدى العامة باسم «ميتشي موزة». وتتسع لحمل شخصين في القمرة الأمامية، وثلاثة في القمرة الخلفية.
ويضيف: كان الظاهر من خلال الزجاج الأمامي للسيارة، وجود سائق وبجواره سيدة تخفي وجهها بطرحة سوداء، لا غير. وفي هذه الأحوال فإن المتعارف عليه هو أن يقوم الجندي بإزاحة البرميل الذي يغلق الطريق، والسماح للسيارة بالمرور، دون تفتيش، باعتبار أن من فيها عائلة (رجل وزوجته).
لكن الأمور تغيرت الآن، بالنظر إلى الحرب ضد «المتطرفين». فمثل هذه الاستثناءات كانت من الماضي... «ظل البرميل يسد الطريق، وهو أمر لم يتوقعه السائق... وحين اقترب أحد الجنود لفحص السيارة، وهويته، وهوية المرأة التي معه، اندفع السائق بالسيارة مرة واحدة، وضرب البرميل بمقدمتها وفر هاربا». وفي لمح البصر استقل جنديان آخران سيارتيهما، وطارداه على الطريق المرصوف لأكثر من عشرين كيلومترا. ثم انحرفت السيارة إلى درب ترابي، وتم توقيفها في نهاية المطاف.
وكانت المفاجأة. يوجد خمسة شبان صغار السن جرى إخفاؤهم في موضع الأقدام، في القمرة الخلفية، وكان فوقهم حقائب سفر فارغة، للتمويه. وبالتحقيق في القضية اتضح أنهم من المتطرفين الفارين من درنة، وكانوا في طريقهم إلى الشرق، حيث يعتقد أنه توجد خلايا نائمة في طبرق، التي تعرف باسم «مدينة السلام»، وتبعد عن درنة بنحو 150 كيلومترا. كما يوجد مركز تجميع للمتطرفين الهاربين يقع في صحراء واحة الجغبوب على الحدود، قبالة واحة سيوه المصرية.
ويقول ضابط في الجيش، إن «القوات المسلحة العربية الليبية»، أصبح لديها خطة صارمة للتحقق من كل عابر على الطرق المرصوفة والترابية، في كل المناطق التي فرضت سلطتها عليها، سواء كان هذا العابر رجلا أو امرأة، حتى لو كانت الإمكانيات ضعيفة، مثلما هو الحال في «المخيلي» وفي «وادي السهل»، وغيرهما.
ويضيف: أن الجيش بدأ في الفترة الأخيرة يشرك المرأة في العمل الأمني، بعد الالتحاق بمعسكرات تدريب متخصصة، وذلك لتسهيل مهمة التفتيش في مجتمع له تقاليد محافظة. وأنه بدأ بنشر عناصر أمنية نسائية في بنغازي وسيفعل ذلك في درنة، وغيرها، ويشير مع ذلك، إلى أن خطر الخلايا النائمة في هذه المدن المحررة ما زال قائما، قائلا: إن الأجهزة الاستخباراتية التابعة للجيش تراقب عن كثب تحركات المجاميع المسلحة التي تمكنت من الفرار من بنغازي ودرنة إلى الصحراء في وسط البلاد وجنوبها.
ويعمل معظم جنود الجيش في ظل ظروف صعبة. ويضطر بعض الملتحقين بالخدمة لشراء الملابس العسكرية على نفقتهم الخاصة. وفي كثير من الأحيان تتأخر الرواتب لشهور عدة. وتتطوع بعض العائلات بإعداد الطعام لنقطة أمنية مجاورة. ومن خلال الحديث مع جنود في بنغازي ودرنة وطبرق، يبدو أن الدافع الرئيسي وراء هذا النوع من العمل المضني، هو الرغبة الجارفة في تخليص البلاد من «المتطرفين» ومن الفوضى. فقد أدى انتشار «المتطرفين» المحليين والأجانب في عموم ليبيا، إلى ابتعاد معظم المواطنين عن الطرق السريعة، حتى لا يقعوا في كمين يديره الدواعش أو غيرهم ممن يحملون مسميات مختلفة ويقومون بنفس تصرفات الابتزاز وسرقة السيارات الخاصة والقتل والاحتجاز والتعذيب في سجون سرية.
ولوقت طويل كان لا يمكن لعائلة من مدينة طبرق، مثلا، أن تزور أقرباءها في مدن بنغازي أو درنة أو البيضاء أو القبة، إلا بعد إجراء عشرات الاتصالات الهاتفية مع معارفهم للتأكد من أن هذا الطريق آمن أو لا. وظل الطريق الساحلي الرابط بين طبرق وبنغازي، والذي يبلغ طوله نحو 475 كيلومترا، ويمر بمدن عدة، بمثابة طريق للموت. وسقط فيه عشرات المواطنين ضحية لعناصر التنظيمات المتطرفة. ويقول جندي قبيلة القطعان في بوابة «وادي السهل «أنا أقف هنا لأدافع عن أهلي... عن أبناء عمومتي. ومن يدافع عن أهله لا ينتظر راتبا عن هذا العمل».
ويبدو أن سلطة البرلمان التي يتبعها الجيش، وهي سلطة منتخبة، تشجع على التعاون الأمني والاستخباراتي بين الجيش ودول أخرى، سواء عربية أو أوروبية. لكن البرلمان لم يتمكن أبدا من إقناع المجتمع الدولي برفع حظر التسليح. ومع ذلك هناك اعتقاد أن الضربات الدقيقة التي وجهتها الطائرات الحربية الليبية لمعسكرات ومراكز المتطرفين في درنة، استفادت إلى حد كبير من معلومات جرى جمعها من مصادر مختلفة من أصدقاء ليبيا «لأنها ضربات اعتمدت على تقنيات حديثة في الرصد والتتبع»، كما يقول أحد القيادات السابقة في الجيش.
وطوال الشهور الثمانية الأخيرة، وحتى توغل الجيش في درنة، الأسبوع الماضي، كانت تحركات «المتطرفين» وقياداتهم تحت رقابة صارمة من القوات المسلحة. وأمكن توجيه غارات محكمة في أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني)، وفبراير (شباط)، أدت إلى إضعاف العناصر المتشددة وإصابة زعماء مهمين من العرب، من بينهم المصري الملقب بـ«المهاجر»، والذي يعتقد أنه محاصر في الوقت الراهن في منطقة في الوادي الجنوبي لدرنة، أي ما بين «الشلال» و«شيحا».
كما يعتقد أن قياديا مصريا آخر يدعى «سرور» قتل، مع عشرات آخرين من المتشددين المصريين والتونسيين والجزائريين، في الاشتباكات الأخيرة، بالإضافة إلى القبض على شخصيات تعد «صناديق سوداء لحركة المتطرفين في المدينة»، كما يقول أحد المصادر الأمنية الليبية. ويضيف أن معلومات المقبوض عليهم «تقلل إلى حد كبير من خطر الخلايا النائمة... من خلالهم نعرف أين توجد هذه الخلايا، وماذا تريد أن تفعل، وما نوع الإمكانيات التي يتحصلون عليها. وهذا ما فعلناه في بنغازي، بعد تحريرها، حيث كان عدد السيارات المفخخة التي تنتقم من الجيش ومن مؤسسات الدولة، أقل من المتوقع».
وشهدت درنة تفجير سيارتين مفخختين وهجمات بأحزمة ناسفة، قرب ضاحية شيحا الشرقية، الأسبوع الماضي. كما وقعت تفجيرات مماثلة في السابق في بنغازي وفي نقاط أمنية قرب سرت والجفرة في الشمال الأوسط والجنوب الأوسط من البلاد. وفي مقابلة سابقة في مكتبه، يقول العميد أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش الليبي، وباسم المشير حفتر، إن القوات المسلحة تدرك أن تحرير المدن من «الإرهابيين» لا يكفي للقضاء على الإرهاب، وأن الأمر يتطلب تجفيف منابع هذا الفكر.
ومن ضمن الاستراتيجية الجديدة للجيش، إنشاء غرفة أمنية موحدة، للتنسيق بين مختلف الأجهزة سواء تلك التابعة للجيش، أو الشرطة، أو المخابرات، من أجل تبادل المعلومات ووضع الخطط لتأمين المواطنين والمؤسسات الحيوية والمرافق العامة. ويقول مسؤول عسكري، إن ليبيا في حاجة ماسة إلى «غرفة أمنية موحدة» بشكل أوسع، لكي تشمل كل البلاد، بحيث لا يقتصر الأمر على مدن المنطقة الشرقية وبعض المدن في الجنوب.
ويضيف أن خطر الإرهاب لا يمكن أن يتوقف طالما ظلت مؤسسة الجيش والشرطة منقسمة بين شرق ليبيا وغربها... «هناك انقسام أيضا في المخابرات العامة، وفي المخابرات العسكرية... وبالتالي يصعب، في الوقت الراهن، وضع تصور شامل لخريطة أمنية تحد من نشاط «الإرهابيين»... أنظر إلى مدن الغرب مثل طرابلس، وصبراتة، وزوارة، والزاوية، ومصراتة. نعلم أنه توجد مراكز للمتطرفين هناك، لكن لا نعرف في الحقيقة كل ما يدور فيها على وجه التحديد».
وشهدت طرابلس نفسها عمليات إرهابية عدة، كان أكبرها في الفترة الأخيرة تفجير مفوضية الانتخابات بسيارة مفخخة وأحزمة ناسفة في العاصمة. ويقول الشيخ أبو صوة، الذي تعرض للسجن في طرابلس بعد سقوط نظام القذافي في مقار يديرها متطرفون، إن مشكلة الإرهاب تكمن في الفكر. والسيارات المفخخة من أخطر ما يكون في هذا المجال.
وعما إذا كان يعتقد بوجود حواضن شعبية للمتطرفين في مدن مثل درنة وبنغازي، يقول المستشار السابق للهيئة العامة للأوقاف: لا... لكن هناك أئمة في بعض المساجد (يقومون بالتحريض)، وبعض الناس تتعاطف مع الخطاب الديني... المشكلة تكمن في أن الفكر المتداول في كثير من المواقع هو نفس الفكر الذي أسست له كتب سيد قطب (المنظر الإخواني المصري الراحل). ويضيف: «يتم الترويج للقصة التي تتبعها جماعة «الإخوان» منذ القدم، فيما يتعلق بصوت الحق، وصوت الباطل، وصوت الطاغوت... وهكذا».
ولا يفرق عموم الليبيين بين التنظيمات المتشددة... وتتساوى لدى معظمهم أسماء جماعة «الإخوان» و«القاعدة» و«داعش» و«أنصار الشريعة» و«أبو سليم». واعتاد العميد المسماري نفسه جمع كل هؤلاء في سلة واحدة، حين يتناول تحركات «المتطرفين» الذين يستهدفون الجيش والدولة. وتبين في تحقيقات متفرقة مع قيادات تنتمي لهذه الجماعات وجود تنسيق بطريق مباشر، أو غير مباشر، فيما بينها.
ويعتقد الشيخ أبو صوة أن هناك نوعا من التواطؤ بين «الإخوان» و«القاعدة» و«داعش»، في بعض المدن، وفي بعض المسارات، وفي بعض الطرق أيضا. ويقول: «لا أشك في مثل هذا التواطؤ أبدا. فالقاعدة العامة تقول عدو عدوي، صديقي، فما بالك بأن هناك فكرا يلتقون حوله». ويشير إلى أن «الدواعش هم فصيل من جماعة «الإخوان»... حتى لو رأيت دواعش ينالون من شخصيات إخوانية بأنهم ميعوا القضية، فأنا أقول لك: لا... هم في النهاية يتفقون حول عدة نقاط».
ويخلص كثير من المحققين في ليبيا، إلى أن الفرق بين جماعة «الإخوان» وتنظيم داعش، هو أن الإخوان يعملون ببطء، أما الدواعش فيتعجلون الأمور، ويريدون تنفيذ كل شيء بسرعة. ويقول أبو صوة عن هذا إنه «صحيح إلى حد كبير... الدواعش متعجلون أكثر من «الإخوان»، لكن الفكر واحد، وهو تكفير المجتمع، وتكفير الحاكم، والخروج عليه، والغاية تبرر الوسيلة، وما إلى ذلك».
ويتشكل المجتمع الليبي في أغلبه من قبائل وعائلات كبيرة معروفة. وسبق لمصر أن استضافت مؤتمرا لهذه القبائل في القاهرة في صيف 2015. وأصدر المؤتمر وقتها توصيات كان من بينها دعوة أبنائهم للخروج من صفوف الجماعات المسلحة، أيا كان نوعها. وتعهدت برفع الغطاء الاجتماعي عن الأبناء الذين يصرون على العمل في صفوف الميليشيات. وأدت مخرجات المؤتمر إلى تقليص كبير في عدد المنخرطين في صفوف المسلحين في المنطقة الشرقية ذات التماسك القبلي.
وحول ما إذا كان يعتقد أن الجانب القبلي والعائلي يمكن أن يتغاضى عن بعض الشباب المتطرف، رغم كل شيء، يقول أبو صوة: هذا ممكن. حسب القبيلة. وحسب الشخصية التي يراد الإبلاغ عنها. هذا يلعب دورا كبيرا في التغاضي عن المتطرفين من عدمه.
وتمكنت قبائل كثيرة من «تنظيف» مناطقها من «المتطرفين»، بمن فيهم أولئك الذين ينتمون إلى القبيلة نفسها، ولم يقتصر هذا الأمر على الشرق الليبي فقط، ولكنه حدث في بعض مناطق الغرب والجنوب. واضطرت بعض المجاميع المنتمية إلى «داعش» أو «القاعدة» أو «الإخوان»، إلى النزوح بعيدا عن مواقع قبيلتها، وبعضها اجتاز الحدود إلى خارج البلاد مع القيادات الأجنبية التي تواليها. لكن الخطر يظل كامنا، ويمكن أن يظهر في أي وقت في المستقبل، مثلما حدث العام الماضي من عملية اغتيال لوفد المصالحة القبلية الذي كان قادما من مدينة «بني وليد» للم شمل قبيلتين في غرب طرابلس.
والأمر لا يقتصر على رغبة «المتطرفين» في استمرار الفوضى والانقسام في ليبيا، ولكن توجد أطراف مختلفة - بعضها مدني، وبعضها ليبرالي مدعوم من المجتمع الدولي - تمد يد المساعدة لكل ما من شأنه أن يطيل أمد الأزمة، أو بالأحرى، لكل ما من شأنه أن يعرقل جهود حفتر والجيش الوطني لفرض الأمن والاستقرار في عموم البلاد.
ويقول أبو صوة، بعد أن تمكن حفتر من بسط مظاهر الدولة في شرق ليبيا: الآن، وفي سبيل الإطاحة بحفتر، أو إضعافه، أو تأخير مشروعه: «الإخوان» يتعاطفون مع كل من يعمل ضد قائد الجيش. ويشير إلى أن الهجوم الذي جرى قبل أيام على منطقة مصافي تصدير البترول في الهلال النفطي، التي يسيطر عليها الجيش في غربي بنغازي... «يبدو هجوما مدعوما من كل خصوم حفتر، سواء كانوا «متطرفين»، أو غير «متطرفين».



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».