إيران والإرهاب توأمان

طهران تسعى لزعزعة الأمن بمنطقة الخليج والشرق الأوسط

أحمد المغسل العقل المدبر للهجوم الإرهابي على جزء من مجمع سكني بمدينة الخبر في يونيو 1996 كان في إيران ثم تم تسليمه للسعودية بعد أن قبض عليه في لبنان عام 2015 (غيتي)
أحمد المغسل العقل المدبر للهجوم الإرهابي على جزء من مجمع سكني بمدينة الخبر في يونيو 1996 كان في إيران ثم تم تسليمه للسعودية بعد أن قبض عليه في لبنان عام 2015 (غيتي)
TT

إيران والإرهاب توأمان

أحمد المغسل العقل المدبر للهجوم الإرهابي على جزء من مجمع سكني بمدينة الخبر في يونيو 1996 كان في إيران ثم تم تسليمه للسعودية بعد أن قبض عليه في لبنان عام 2015 (غيتي)
أحمد المغسل العقل المدبر للهجوم الإرهابي على جزء من مجمع سكني بمدينة الخبر في يونيو 1996 كان في إيران ثم تم تسليمه للسعودية بعد أن قبض عليه في لبنان عام 2015 (غيتي)

بات من الصعب تقصي مدى انتهاك مبدأ سيادة الدولة وعدم التدخل في ظل عالم شائك تمارس فيه بعض الدول حرب الوكالات أو دعم تنظيمات إرهابية في أراضي دول أخرى، مثل ما يحدث من انتهاكات إيران لدول الخليج بتدخلها السافر دون وضع أي اعتبار لمفهوم ظهر جزءاً من نظام الدول القومية ذات السيادة بموجب صلح وستفاليا عام 1948، الذي ينص على أن ما يقع «داخل نطاق الأرض ذات الكيان السياسي، تمثل الدولة فيه القوة المطلقة»، وقد جعلت من مبدأ «ولاية الفقيه» حجة لما تسميها حماية مصالحها الدينية، وإن كان ذلك خارج أراضيها.
تحتضن إيران كثيرا من الجماعات الإرهابية، بعد أن فروا نحو طهران، في أعقاب الهجوم الأميركي على أفغانستان، إبان تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، حيث جعلت لهم مقراً لعمليات التنظيمات الإرهابية، لاستهداف الدول في المنطقة، خصوصاً السعودية، وتصدير العناصر الإرهابية إلى اليمن والعراق وسوريا وليبيا، حيث شهدت بعض الدول الأبرز في العالم، هجمات إرهابية متعددة الأدوار، وكذلك جنسيات منفذيها، والمخططون لها، إلا أن إيران لم تتعرض لمثل ذلك، بحيث إن إيران والإرهاب ليسا عدوين.
يتضح ذلك في أعقاب ما حدث مؤخراً من كشف القضاء السعودي عن بدء محاكمة سعوديين متورطين بالتخابر مع إيران، بهدف «إثارة الفتن» بتمويل جهات خارجية مناوئة للسعودية يتضح أنها إيرانية، الأمر الذي يكشف عن سعي إيران الحثيث لزعزعة الأمن في عدة مناطق في الخليج، وطالبت النيابة العامة بالسعودية بتنفيذ حكم الإعدام بهم، وكان هؤلاء الأربعة ضمن سلسلة من القضايا، في التواطؤ مع إيران، ولكن بطرق مختلفة، بعضهم مع دبلوماسيين إيرانيين يعملون في سفارة طهران في الرياض، وكذلك القنصلية في جدة، إضافة إلى المبعوث الإيراني في منظمة التعاون الإسلامي، وآخرون كانوا على تواصل مباشر مع أحمد المغسل، العقل المدبر للهجوم الإرهابي على جزء من مجمع سكني في مدينة الخبر عام 1996، الذي راح ضحيته 19 من الضباط والأفراد الأميركيين الذين كانوا يوجدون في المبنى، خصوصاً أن إيران كانت تحتضن الإرهابي المغسل من ذلك الوقت، ثم تم تسليمه للسعودية بعد أن قبض عليه في لبنان عام 2015.
كذلك أصدرت المحكمة الجزائية المتخصصة في العاصمة الرياض حكماً ابتدائياً بإعدام 4 سعوديين تمت إدانتهم بالتواطؤ مع إيران ضد مصالح السعودية، وتأسيس خلية إرهابية برئاسة أحمد المغسل المدبر لتفجيرات أبراج الخبر عام 1996؛ ومما كشف عن التدخل الإيراني في مثل هذه القضايا، اعتراف موقوف سعودي في السابق ببقائه مع كل من المغسل وإبراهيم اليعقوب وعبد الكريم الناصر ومحمد الحسين تحت حماية المخابرات الإيرانية خلال الفترة ما بين 1996 و2010. إضافة إلى الاعتراف بمد أسر المتورطين في التفجير ممن تم تجنيدهم من قبل طهران بالأموال، إلى جانب عدد من السعوديين ممن تم تجنيدهم ودعمهم بأموال من أجل التجسس على السعودية بالتعاون مع عناصر إيرانية بسفارة طهران في الرياض وقنصليتها في جدة، إضافة إلى موظف كان يعمل في مندوبية منظمة التعاون الإسلامي.
هذا الأمر ليس بجديد؛ إذ يأتي امتداداً لحالات أخرى تم فيها الكشف عن سعوديين آخرين تم تجنيدهم من قبل السلطات الإيرانية، وقد أعلنت السلطات السعودية في مارس (آذار) 2013 القبض على 15 سعودياً وآخر يمني الجنسية في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة والرياض والمنطقة الشرقية ممن انضموا إلى خلية للتجسس وتعاونوا مع إيران، وعقدوا عدة لقاءات بتمويل من قبل المخابرات الإيرانية.

إيران وتنظيم «القاعدة»
عكست أدلة كثيرة تورط إيران بدعمها تنظيمات وميليشيات متطرفة، ومما يعد الأكثر تعقيداً تلك العلاقة مع تنظيم «القاعدة»؛ بالأخص لتناقض الرؤى فيما بينهما؛ بل ورفض كل منهما مبادئ الآخر. وقد ظهرت العلاقة ما بين التنظيم وإيران من خلال رسالة زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري التي تعود إلى عام 2005، حين وجه لأبي مصعب الزرقاوي ما شدد فيه على ضرورة تجنب مواجهة إيران والشيعة بشكل عام؛ بالأخص في العراق، إذ كثف الزرقاوي في تلك الفترة هجماته على الشيعة فيه، وتبعه أبو بكر البغدادي الذي جعل من الشيعة هدفاً لتنظيم «داعش» إلى جانب كل من يعدّهم مخالفين لنهجه، الأمر الذي شكل سبباً محورياً لتكوين تنظيم جديد منشق عن تنظيم «القاعدة» متمثلاً في تنظيم داعش.
وقد كشفت الوثائق التي أفصحت عنها القوات الأميركية في آبوت آباد بعد الحصول عليها من مخبأ زعيم «القاعدة» السابق أسامة بن لادن بعد مقتله في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، عن مدى علاقة تنظيم «القاعدة» بإيران، وقد تضمن ذلك أن عضواً بارزاً في التنظيم أكد في رسالة له أن إيران مستعدة لتوفير كل ما تحتاجه «القاعدة»، وتضمن ذلك أسلحة وأموالا ومعسكرات لتدريب «حزب الله» في لبنان، مقابل أن يقوم التنظيم بالهجوم على مصالح أميركا في السعودية ودول الخليج.
وقد آوت إيران عدداً كبيراً من أعضاء تنظيم «القاعدة»؛ إذ احتضنت عدداً من أبرز قيادييه مثل حمزة بن لادن الذي أقيم حفل زفافه وابنة الرجل الثاني في تنظيم «القاعدة» المكنى أبو محمد المصري، في إيران مطلع عام 2005، وذلك في مقر إقامته بالمجمع الذي خصصه الحرس الثوري الإيراني سكنا لقياديي «القاعدة»، بعد أن فر عدد منهم إلى إيران. من جهة أخرى؛ اتضح وجود سيف العدل المصري في إيران منذ عام 2011 ولمدة 9 أعوام؛ وتوجه فيما بعد إلى المنطقة الحدودية ما بين أفغانستان وباكستان.
ويعرف سيف العدل بأنه ضابط سابق في الجيش المصري انضم إلى تنظيم «القاعدة»، وأشرف على معسكرات التدريب فيه في كل من السودان وأفغانستان في التسعينات، وقد ساهم في عمليتي تفجير السفارتين الأميركيتين في كل من نيروبي ودار السلام في عام 1998، إضافة إلى تدبيره تفجيرات الرياض في عام 2003.
دعم إيران لتنظيم «القاعدة» تمثل أيضا في التنسيق لاستقبال مقاتلين قادمين من السعودية أو تمويلهم من أجل تمكينهم من السفر إلى مناطق قتال أخرى، إضافة لعدد آخر من قياديي التنظيمات، وذلك على الرغم من وجود معرفة مسبقة من قبل السلطات الإيرانية بهم، مثل ما حدث مع أولمزون أحمدوفيتش صادقين المعروف بكنيته «جعفر الأوزبكي» وعز الدين عبد العزيز خليل المعروف بـ«زين العابدين السوري»، وهو المنسق لتنظيم «القاعدة» في إيران... وقد التقى آنذاك به السعودي صالح القرعاوي الملقب بـ«نجم الخير» والذي قام باستقطاب عدد من السعوديين وإرسالهم إلى إيران على أن يكون بحوزتهم ما لا يقل عن 50 ألف ريال يتم تسليمها إلى زين العابدين السوري، وقد عرف القرعاوي بأنه زعيم لكتائب عبد الله عزام قبل أن يتم استبداله السعودي «الماجد» به نتيجة إصابة القرعاوي جراء انفجار، وقد كان القرعاوي من أخطر عناصر كتائب عبد الله عزام، وقد كان يتحرك مع عناصر أخرى لـ«القاعدة» بين إيران ووزيرستان.
مثل هذه الأدلّة لم تقتصر على وثائق كشفتها السلطات الأميركية، وإنما اتضحت من خلال تصريحات لمسؤولين إيرانيين، وقد صرّح مؤخراً معاون السلطة القضائية الإيراني محمد جواد لاريجاني في مقابلة حصرية مع التلفزيون الإيراني الرسمي بأن «إيران سهلت مرور عناصر (القاعدة) الذين نفذوا هجمات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك»، وأكد في لقاء مع التلفزيون الرسمي الإيراني أن الحكومة الإيرانية وافقت على «عدم ختم جوازات بعضهم لأنهم عبروا بشكل رحلات (ترانزيت) لمدة ساعتين وكانوا يواصلون رحلتهم دون ختم جوازاتهم، لكن كل تحركاتهم كانت تحت إشراف المخابرات الإيرانية بشكل كامل».

إيران والمجتمع الدولي
وضعت الولايات المتحدة الأميركية إيران في قائمة الدول الداعمة للإرهاب منذ 19 يناير (كانون الثاني) 1984، وذلك نتيجة دعمها «حزب الله» وتنظيمات أخرى، أو الحرس الثوري من جهة أخرى، بما في ذلك في سوريا التي يتجلى دعمها من قبل الحكومة الإيرانية مالياً، إضافة إلى وجود جماعة «حزب الله» في سوريا من أجل حماية النظام السوري.
وقد نشرت منظمة الأمم المتحدة عدة تقارير لانتهاكات إيران للمواثيق الدولية وقرارات مجلس الأمن نتيجة دعمها الحوثيين بتسليحهم في اليمن، وقد ظهر دورها من خلال توفيرهم الصواريخ الباليستية الإيرانية التي وصلت إلى الرياض في عدّة مرّات مما شكل ضرراً مباشراً على المملكة؛ الأمر الذي يعيد إلى الأذهان دور الحرس الثوري في التدخل في كثير من الدول الأخرى بما يناقض مبدأ السيادة الوطنية للدول، والذي يضمن للمجتمع الدولي حدود كل عضو من أعضائه من خلال المواثيق والمعاهدات الدولية من أجل درء حل النزاعات الدولية بالقوة، مثلما ظهر من تدخل إيران السافر في شؤون البحرين والشعب لزعزعة أمنها بدعمها عددا من الأعمال الإرهابية فيها. وقد أشار وزير الداخلية البحريني إلى وجود اعترافات لعدد ممن تم القبض عليهم بخصوص تلقيهم تدريباً في معسكرات تابعة للحرس الثوري الإيراني على استخدام السلاح وتصنيع المتفجرات.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.