قطاعا الإعلام والاتصالات في أميركا مهددان بالاحتكار

صفقة اندماج «إيه تي آند تي» و«تايم وارنر» ستكشف قدرة الشركات التكنولوجية على معرفة عادات المستهلك واستغلالها

قطاعا الإعلام والاتصالات في أميركا مهددان بالاحتكار
TT

قطاعا الإعلام والاتصالات في أميركا مهددان بالاحتكار

قطاعا الإعلام والاتصالات في أميركا مهددان بالاحتكار

يبدو أن عصراً جديداً للاستحواذات الإعلامية والتكنولوجية يبدأ في أميركا، حيث أثار الحكم القضائي الذي أصدره قاضٍ فيدرالي أميركي بواشنطن، الأسبوع الماضي بالموافقة على صفقة اندماج ما بين شركة الاتصالات الأميركية «إيه تي آند تي» (AT&T) وشركة «تايم وارنر» العالمية لصناعة الترفيه والأفلام، الكثير من القلق والتوتر في السوق المالية، وفي حقل صناعة الإعلام في الولايات المتحدة.
فالمسائل لا تتعلق باندماج شركتين كبيرتين، وإنما يتعلق الأمر بالتغيرات الكبيرة في صناعات الإعلام والتكنولوجيا، ويتعلق الأمر بالمحتوى الذي تقدمه هذه الشركات الضخمة وبالأسلوب الذي تتبعه هذه الشركات في الحصول على بيانات حول عادات المشاهد وسلوك المستهلك، وأيضاً مخاوف الاحتكار والتحكم بشكل كبير في سوقي الإعلام والاتصال حينما يمنح الاندماج بين شركتين كبيرتين مثل AT&T وشركة «تايم وارنر» الكثير من القدرة على التحكم في إنتاج المحتوي الإعلامي وتوصيله للمستهلك.

مكتبة مرئية عملاقة وباقات للمستخدمين
تعد شركة AT&T هي أكبر شركة اتصالات في العالم، وهي شركة أميركية قابضة متعددة الجنسيات مقرها في برج وايتاكر في وسط مدينة دالاس بولاية تكساس، وتعد أكبر شركة لخدمات الهاتف الثابت في الولايات المتحدة، وثاني أكبر شركة لخدمات الهاتف المحول.
أما شركة «تايم وارنر»، فهي تعد ثالث أكبر شركة ترفيه في العالم (من حيث العائد) بعد شركة «كومكاست» Comcast، وشركة «والت ديزني»، وتعد أكبر تكتل إعلامي في العالم، وتضم شبكة «سي إن إن» الإخبارية وقنوات HBO للأفلام، وعدداً من الشركات الإعلامية تحت مظلتها.
وتسعى شركة AT&T من هذه الصفقة إلى جذب ملايين المشاهدين إلى الاشتراك في باقات للمحتوى التلفزيوني المدفوع مقدماً، حيث ستطرح عرضاً جديداً تحت مسمي «WATCH»، أو «شاهد»، وهو عبارة عن حزمة تلفزيونية مقابل 15 دولاراً في الشهر، تشمل برامج رياضية وعروضاً تجتذب فئات عريضة من الشباب من Game of thrones مع عروض خدمات تلفونية.
وستمتلك الشركة بهذا الاندماج مكتبة ضخمة من القنوات التلفزيونية، أهمها شبكة HBO وشبكة CNN الإخبارية، وعدد من القنوات الرياضية الكثيفة المشاهدة، إلى جانب انتشار واسع لخدمات التلفزيون على الهاتف المحمول. أي أن هذا الاندماج سيمنح شركة الاتصالات العملاقة AT&T أن تقدم لعملائها باقات تمكّن المستهلك من مشاهدة قنوات ترفيهية ورياضية، والحصول على أحدث الأفلام السينمائية، وإنتاج أشكال ومحتوى إعلامي خاص يجذب المستهلكين للبقاء على أجهزة الهاتف المحمول طوال اليوم في مشاهدة الأفلام ومقاطع الفيديو والألعاب الرياضية، وذلك مقابل اشتراك مالي مع فاتورة الهاتف المحمول والترويج لعروض دفع متنوعة.

الإعلام التقليدي يواكب
يقول المسؤولون التنفيذيون، إن إنشاء المحتوى الإعلامي وتوزيعه هو السبيل الوحيد للبقاء على قيد الحياة في مواجهة شركات تكنولوجية ضخمة مثل «أمازون» و Netflix، وقد بدأت هذه الشركات إنتاج برامجها الخاصة في السنوات الماضية بما يمكّن المستخدمين من بث فيديوهات على الأجهزة المحمولة؛ وهو ما سبب ضغطاً على شركات الإعلام التقليدية.
يقول الخبراء، إن هذا الاندماج سيؤدي إلى تمركز السيطرة على الإعلام والاتصالات وخلق قطب جديد، وإعادة تشكيل المشهد في هذه الصناعات. من جانب آخر، توقع الخبراء أن يفتح هذا الحكم القضائي الباب أم موجة واسعة من الاستحواذات على الشركات والاندماجات بين الشركات العملاقة. وتدور تسريبات بأن شركة «كومكاست» Comcast العملاقة أيضاً ترغب في الاستحواذ على شركة «والت ديزني» وبعض أصول شركة 21st century Fox وقدمت «كومكاست» آخر الأسبوع الماضي عرضاً بنحو 65 مليار دولار.
القضية كانت أطرافها وزارة العدل الأميركية التي كانت ترفض الصفقة من منطلق أنها تكافح الاحتكار، مقابل شركة AT&T، وأصدر القاضي ريتشارد جيه ليون حكمه بالموافقة على صفقة الاندماج البالغة 85 مليار دولار، وقال إن وزارة العدل فشلت في إثبات أن امتلاك شركة الاتصالات العملاقة AT&T لشركة «تايم وارنر» ستؤدي إلى خيارات أقل للمستهلكين وأسعار أعلى لخدمات التلفزيون والإنترنت.

صفقة وراء أبواب محكمة
وقد جادل محامو وزارة العدل من خلال أستاذ الاقتصاد كارل شابيرو بجامعة كاليفورنيا، الذي استخدام نموذجاً اقتصادياً للتنبؤ بأن العملاء سيواجهون زيادة في الأسعار (نتيجة الاندماج) تتراوح بين 235 مليون دولار و561 مليون دولار، أي أقل من دولار واحد لكل عميل شهرياً. وأشار محامو وزارة العدل إلى أن الأمر لا يتعلق بتوجه الشركات في إنتاج برامج مبتكرة ومثيرة تجذب ملايين المشاهدين، لكنهم يجمعون أيضاً بيانات عن عملائهم بما يسمح لهم بفهم تفضيلات المستهلكين. فشركة «تايم وارنر» لا تستطيع معرفة من يشاهد ماذا ومتى وكيف.
بينما أكد محامو شركة الاتصالات العملاقة، أن الاندماج بين شركة AT&T وشركة «تايم وارنر»، والقدرة على معرفة تفضيلات المشاهدين والمستهلكين سيؤدي إلى تقديم خدمة أفضل للعملاء عن طريق إنشاء المحتوى الذي يريدونه، وتقول الشركة إن معرفة بيانات المستهلك ستساعد أيضاً على الترويج لإعلانات مستهدفة؛ مما قد يؤدي إلى خفض فواتير المستهلك؛ لأن الشركة ستحصّل رسوماً أقل لأنها تحقق المزيد من الأموال من الإعلانات.
ويدعم عدد من السياسيين اليساريين في واشنطن وخبراء مكافحة الاحتكار توجه الحكومة لتفكيك شركات عملاقة مثل «غوغل» و«فيسبوك» و«أمازون»، وبخاصة مع شكوك حول الخصوصية وقدرة تلك الشركات على الحصول على بيانات المستهلك وتحليل عاداته وتوجهاته الشرائية.
ومثلما تتصاعد الدراما والأحداث في الأفلام السينمائية، شهدت قاعات المحكمة يوم الثلاثاء الماضي، نوعاً مثيراً من الدراما خلال نظر القضية، وتم منع الصحافيين من مغادرة قاعة المحكمة حتى ينطق القاضي بحكمه، ومُنعوا من استخدام هواتفهم المحمولة. وامتلأت قاعة المحكمة بحشد كبير من الرؤساء التنفيذيين ومديري صناديق التحوط والمحللين الماليين.
وقد ظلت القضية لمدة 18 شهراً في أروقة المحكمة، وأنفقت وزارة العدل عشرات الملايين من الدولارات في القضية، واستخدمت نحو 32 محامياً من الخبراء العاملين في الوزارة ومن الخبراء المستقلين. وهو ما قاد كثيراً من الصحف الأميركية إلى اتهام وزارة العدل بإهدار أموال دافعي الضرائب الأميركيين، وطرح تساؤل ما إذا كانت تحركات وزارة العدل تحكمها أغراض سياسية (تتعلق بموقف إدارة ترمب من قناة «سي إن إن» - الذراع الإخبارية لشركة «تايم وارنر» - والإعلام بصفة عامة وإطلاق الاتهامات بتزييف الأخبار) أكثر من الأهداف الاقتصادية.

مخاوف من اندثار التنافسية
قرار القاضي بالاندماج أثار أيضاً قلق شركات خدمات الإنترنت الذين انتقدوا القرار وتخوفوا من هذا الاندماج، وقالوا إنه سيؤدي إلى تقليل التنافسية بين الشركات المالكة والموزعة للمحتوى وسيصيب المستهلك بأضرار اقتصادية.
القضية أيضاً لها بالفعل إبعاد سياسية فشركة AT&T هي شركات خدمات تليفونية مقرها ولاية دالاس، وهي ولاية اشتهرت بالتصويت للحزب الجمهوري (مما يطلق عليهم ولايات حمراء الرمز اللوني للحزب الجمهوري) بينما شركة «تايم وارنر» هي شركة إعلامية لها مقرات ضخمة في كل من مدينة نيويورك ولوس انجلوس، وهي ولاية اشتهرت بالتصويت للحزب الديمقراطي (مما يطلق عليهم الولايات الزرقاء الرمز اللوني للحزب الديمقراطي)، ولها بعد آخر يتعلق بحرب الرئيس ترمب على ذراع شركة «تايم وارنر» الإخبارية واتهامه للإعلام بتزييف الأخبار.
ويقول ستيفن سالوب، أستاذ الاقتصاد والقانون بجامعة جورج تاون، إن القرار القضائي بالموافقة على صفقة الاندماج سيعطي شركة AT&T قوة سوقية كبيرة تدفعها لرفع سعر المحتوى الإعلامي الذي ستحصل عليه من شركة «تايم وارنر»، وثانياً سيؤدي هذا الاندماج إلى مزيد من عمليات الدمج العمودية في هذه الصناعة؛ مما سيضر في النهاية بالمستهلكين.
في عام 2000، تم بيع شركة «تايم وارنر» بمبلغ 100 مليار دولار، واشترتها شركة AOL الأميركية التابعة لشبكة «دوت كوم» في عملية اندماج قائمة على الأسهم، لكن الصفقة انتهت إلى الفشل الذريع، واعتبرت أسوأ حالة اندماج بين شركتين في التاريخ. فقد انهارت شبكة «دوت كوم» واضطرت AOL إلى خسارة 99 مليار دولار من القيمة الدفترية للصفقة؛ وهو ما أدى إلى انخفاض قيمة شركة AOL في السوق من 226 مليار دولار إلى نحو 20 مليار دولار، ويرجع السبب إلى عدم قدرة الشركة على الاستجابة لمطالب الوصول السريع إلى الإنترنت، وفقدت شركة AOL موقعها التنافسي ولم تستطع الخروج من الأزمة المالية التي واجهتها في أعقاب صفقة الاندماج.
وبعد سنوات عدة قامت شركة «تايم وارنر» بفصل إدارة «تايم وارنر كابل» عن شركة AOL، وقامت شركة «فيرايزون» VERIZON بشراء شركة AOL عام 2015 مقابل 4.4 مليار دولار فقط.


مقالات ذات صلة

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي شخص يلوّح بعلم تبنته المعارضة السورية وسط الألعاب النارية للاحتفال بإطاحة الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق (رويترز)

فور سقوطه... الإعلام السوري ينزع عباءة الأسد ويرتدي ثوب «الثورة»

مع تغيّر السلطة الحاكمة في دمشق، وجد الإعلام السوري نفسه مربكاً في التعاطي مع الأحداث المتلاحقة، لكنه سرعان ما نزع عباءة النظام الذي قمعه لعقود.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.