تداعيات تحرير درنة الليبية (1 من 3) : دخول حفتر درنة يرعب خصومه السياسيين في طرابلس

تطورات المعركة على الأرض تعزز حظوظه في الرئاسة

صورة أرشيفية لحفتر وهو يؤدي التحية لجنوده خلال حضور عرض عسكري شرق بنغازي (أ.ف.ب)
صورة أرشيفية لحفتر وهو يؤدي التحية لجنوده خلال حضور عرض عسكري شرق بنغازي (أ.ف.ب)
TT

تداعيات تحرير درنة الليبية (1 من 3) : دخول حفتر درنة يرعب خصومه السياسيين في طرابلس

صورة أرشيفية لحفتر وهو يؤدي التحية لجنوده خلال حضور عرض عسكري شرق بنغازي (أ.ف.ب)
صورة أرشيفية لحفتر وهو يؤدي التحية لجنوده خلال حضور عرض عسكري شرق بنغازي (أ.ف.ب)

بينما كانت الرياح تحمل عبق الزهور على حواف الجبل الأخضر تحت شمس الصباح، اقتحم الجنرال الليبي المخضرم خليفة حفتر، آخر معاقل المتطرفين في شرق البلاد، وأصبح يثير مخاوف خصومه في طرابلس، أكثر من أي وقت مضى. لكنه قد يكون في حاجة إلى خوض حروب أخرى في الغرب من أجل بسط كامل سيطرته على الدولة الغارقة في الفوضى.
«الشرق الأوسط» تقدم ثلاث حلقات عن تداعيات تحرير الجيش الوطني، بقيادة حفتر، على الوضع السياسي والعسكري والأمني في عموم ليبيا. وتدور حلقة اليوم عن الحملة السياسية التي تحاول التقليل من انتصارات الجيش وتضخيم اتهامات بارتكاب جرائم ضد مدنيين، خصوصاً بعد قيام عسكريين بإعدام معتقلين يُعتقد أنهم متطرفون، خارج القانون.
في أثناء تمركزهم تحت هوائيات طويلة مع سيارتين تابعتين لسلاح الإشارة العسكرية، تحدث ضباط في الجيش عن الوضع في درنة، مؤكدين أن الجنرال يتعرض في الوقت الحالي لحملة سياسية شرسة من أعدائه، «بسبب أخطاء ثلاثة أو أربعة جنود متهورين»، وأن هذا التصرف «يمكن أن يؤدي إلى تشويه جهوده»، حيث تجري علميات حربية شرسة يقودها في مدينة درنة.
ومن أعلى الهضبة الصخرية، بدت بيوت المدينة، بيضاء. وبين الحين والآخر يتصاعد دخان اشتباكات من منطقة الشلال جنوباً، حيث ما زالت مجموعة من المسلحين تتحصن داخلها.
في صباح اليوم التالي جاءت ثلاث عائلات كانت قد هربت من سطوة المتطرفين، الذين فرضوا سيطرتهم على درنة منذ عام 2011. لكن آمال العبيدي، وهي إعلامية معروفة وابنة المدينة، قالت إنها لم تتمكن من العودة إليها منذ سنوات بسبب سيطرة جماعة «أبو سليم» على مقاليد الأمور فيها. (يطلق اسم «أبو سليم» اختصاراً على خليط من المتطرفين استوطنوا درنة). موضحة أن الوضع في المدينة ما زال صعباً، وأن عملية الجيش، التي تؤيدها، ينبغي أن تكون أكثر احترافية، بالنظر إلى قيام متطرفين بتوريط أطفال في القتال معهم عنوة.
وقال مرافق آخر: «بعض أهالي درنة ظلوا رهائن لدى تنظيمي داعش والقاعدة. وهذا ما ينبغي أن يعرفه الجيش، وهو يتقدم داخل المدينة، حتى يتجنب سقوط أبرياء لا ذنب لهم». في إشارة إلى آخر واقعة عرفتها المعارك، حيث أصيب طفل يدعى عادل فايز في درنة إصابة بالغة.
تقول العبيدي موضحة حقيقة ما حدث «خرج فايز البالغ من العمر 14 سنة لكي يشتري الخبز لوالدته، وبمجرد أن مشى عدة خطوات نحو المخبز في ضاحية إمبخ حتى اعترضته سيارة»، كان يستقلها ثلاثة مسلحين حسب رواية شاهد آخر.
وتوضح الرواية التي استقتها «الشرق الأوسط» من مصادر مختلفة إلى أن راكباً ملثماً نزل من السيارة، وصوب المسدس نحو رأس الطفل، وأجبره على الركوب لكي «يجاهد مع المجاهدين». وفي مساء اليوم نفسه أصيب الطفل بطلقة رصاص في أثناء اشتباكات مع قوات الجيش على المحور الغربي. وهو الآن محتجز بجروحه، لدى محققين في بنغازي.
فيما تقول معلومات أمنية إن «داعش» اختطف العشرات من أطفال درنة، تتراوح أعمارهم بين 13 و17 عاماً بغرض الحرب في صفوفهم، لتعويض النقص في عدد المقاتلين خلال الأسابيع الأخيرة.
وقبل عودتها، ألقت العبيدي نظرة على تخوم درنة ومضت إلى حال سبيها، في انتظار تحرير ما تبقى من أوكار المتطرفين داخل المدينة، التي يبلغ عدد سكانها نحو 120 ألفاً، لكن نحو ربع هذا العدد نزح إلى بلدات مجاورة طيلة السنوات الماضية، هرباً من الجماعات المسلحة ومن حصار الجيش. وارتكب المتطرفون عدة مذابح، كان أشهرها إعدام خصوم لهم في ساحة مسجد الصحابة بوسط درنة. أما غالبية المهجرين فيقيمون لدى أقارب لهم في مدن طبرق، والقبة، والبيضاء، وشحات، وغيرها.

- درنة موطن المبدعين
في فترة الراحة بدأ جندي من أبناء درنة يتلو مقاطع شعرية للشاعر الشعبي نصيب السكوري، تتحدث عن زملائه الذين وقعوا في السنوات الماضية بأيدي «الدواعش»، الذين قاموا بنحرهم أمام العامة في وسط المدينة، ومن بينهم رجل أمن جرى قتله بطريقة بشعة يدعى غيث نجيب.
وللشعر الشعبي في ليبيا أثر كبير في تشكيل الرأي العام. وفي قصيدة السكوري هناك بيت يهاجم مسلك المتطرفين، متخذاً من واقعة قتل نجيب مثالاً على همجيتهم. وبعد قليل ارتفع صوت العزف على المزمار من جندي «درناوي» يجلس أعلى صخرة، ووجهه إلى المدينة، كأنه يحاول إخراج الثعابين منها. ومن جوار صندوق السيارة، ينظر ضابط في الجيش، من أبناء درنة أيضاً، إلى المدينة من أعلى، كأنه يبحث عن مكان بيته الذي لم يدخله منذ مقتل معمر القذافي، واستقواء المسلحين واستيلائهم على مرافق المدينة.
لقد كانت درنة في ما مضى واحة للإبداع، والعلم، والفنون. ويقول هذا الضابط إن عدداً كبيراً من أبناء درنة، الذين هاجروا إلى أوروبا، أصبحوا ناجحين في أعمالهم، ومن بينهم أطباء جرى تكريمهم من طرف الأجانب.

- تحديات في انتظار حفتر
يرد العسكريون المرابطون على مداخل درنة الجنوبية بأن الجنرال حفتر تعهد بأن يحرر المدينة، وأن يأتي ليصلي في مسجد الصحابة. وحول ذلك تعلِّق العبيدي قائلة: «إذا تمكن حفتر من أداء الصلاة في هذا المسجد بالفعل فسيكون ذلك رسالة قوية للجميع بأنه رجل يمكن الاعتماد عليه لإعادة الأمن في ليبيا». مضيفة أنه «يمكن أن يكون رئيسا للدولة أيضاً»، وهو ما يتفق عليه عدد كبير من أنصار المشير.
لكن حفتر يواجه صعوبات مباشرة، تتسبب فيها أحياناً رعونة بعض الجنود في الميدان. وأخرى غير مباشرة، يديرها خصومه في محاولة لتفتيت القوى التي يستند إليها في أوساط قبائل الشرق، وفي البرلمان.
فقد نسب شريط مصور لبعض جنود الجيش قيامهم بإطلاق النار، دون تحقيق أو محاكمة، على اثنين يعتقد أنهما من المتطرفين في درنة. وتلقف خصوم الجنرال الواقعة بسرعة. وجرى الترويج لها على نطاق واسع، مع التذكير بواقعة ضابط بنغازي الشهير، الرائد محمود الورفلي، الذي ظهر العام الماضي، وهو يفرغ الرصاص في رؤوس متهمين بالإرهاب، دون تحقيق أيضاً، ما تسبب في لغط دولي، وإحراج كبير لحفتر.
وفي محاولة منه لتجنب الانتقادات، شدد حفتر على رجال الجيش ضرورة التزام الانضباط في الحرب، وتسليم الإرهابيين إلى الجهات العسكرية المختصة، والتحقيق في صحة مقطع الفيديو الجديد، وإحالة المتهمين إلى التحقيق.
يحدث هذا في وقت يسعى فيه بعض القوى الرافضة لوجود حفتر في مستقبل ليبيا، لإرباك المشهد في البلاد، أكثر مما هو مرتبك أصلاً، وذلك لعرقلة تقدمه عبر دعم تحركات عسكرية في الغرب الليبي لاستهداف عصب الاقتصاد؛ أي مصافي تصدير النفط الرئيسية في الشمال الأوسط من ليبياً.
كما تأتي هذه التطورات بالتزامن مع نشاط خلايا إرهابية تحاول توجيه طعنات إلى تمركزات الجيش الوطني من الخلف، خصوصاً على جبهتي «سرت»، شمالاً، و«براك الشاطئ» جنوباً، إضافة إلى بنغازي ودرنة.
لقد كان حفتر طوال أكثر من عام قاب قوسين أو أدنى من دخول عملية سياسية توحد البلاد المنقسمة على نفسها، إلا أن الرياح تأتي أحياناً بما لا تشتهي السفن.
وفي هذا السياق يرى ضابط كبير في الجيش أن ما يعرقل عمل حفتر بشكل عام هو الاتفاق السياسي، الذي جرى توقيعه بين خصوم ليبيين في مدينة الصخيرات المغربية أواخر عام 2015، إذ وضع هذا الاتفاق سلطة موازية لسلطة البرلمان، الذي أجبره مسلحون في طرابلس على العمل من بلدة طبرق في أقصى شرق ليبيا. ومن مخرجات البرلمان هناك الحكومة المؤقتة، التي يرأسها عبد الله الثني، وهناك قائد الجيش الوطني نفسه، حفتر.
لقد خلق اتفاق الصخيرات سلطة جديدة برئاسة فايز السراج، أطلق عليها «المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق»، واستحدث مجلساً أطلق عليه «المجلس الأعلى للدولة»، يضم نصيباً من أعضاء البرلمان السابق (كان يسمى «المؤتمر الوطني»)، ومعظمهم أعضاء رفض الليبيون إعادة انتخابهم في 2014.
ويعمل المجلسان المشار إليهما من طرابلس، تحت حماية خليط من العسكريين والميليشيات المدججة بالأسلحة الثقيلة، وهؤلاء لا يفضلون وجود حفتر. وعلى كل حال كان ينبغي، وفقاً لاتفاق الصخيرات نفسه، أن تحظى حكومة الوفاق بمصادقة البرلمان في طبرق، لكنّ هذا لم يحدث.
وتعمل حكومة السراج دون أي مرجعية تشريعية، ودون أي رقابة برلمانية. وهي متهمة من جانب جهاز المحاسبة في طرابلس بإنفاق نحو ثلث تريليون دولار «دون نتيجة، حيث يعاني الليبيون الفاقة والتشرد والأمراض ونقص الخدمات»، كما يقول أحمد قذاف الدم، المسؤول في جبهة النضال الوطني، وأحد أبرز المقربين من العقيد الراحل معمر القذافي.
كما كان ينبغي، لتفعيل مخرجات الصخيرات منذ بداية 2016، عقد جلسة للبرلمان في طبرق لضم الاتفاق السياسي ضمن الإعلان الدستوري الذي يجري العمل به في البلاد كدستور مؤقت. لكنّ هذا أيضاً لم يحدث أبداً. ومع ذلك استمرت حكومة الوفاق في العمل بذريعة أنه معترف بها دولياً. وبالتزامن مع هذا الارتباك السياسي، لم يتوقف حفتر عن ملاحقة الجماعات المسلحة، بما فيها تلك الموالية للمجلس الرئاسي ومجلس الدولة.

- معضلة اتفاق الصخيرات
على الهضبة المطلة على درنة، جاء وقت تناول الطعام، وتقدم خمسة جنود صغار السن من الحواف الصخرية المجاورة، حيث يراقبون مدخل منطقة الشلال لأخذ نصيبهم من المعكرونة المطبوخة على النار بالطماطم. يقول أحد الضباط وهو يمسح لحيته «كلما تقدم الجيش نصب له بعض رجال الصخيرات الفخ تلو الآخر. رأينا هذا حين طردنا الإرهابيين من بنغازي السنة الماضية. ونراه اليوم، لكننا ماضون في طريقنا إلى أن نحرر طرابلس نفسها».
إن لفت الانتباه إلى معضلة اتفاق الصخيرات أمر حاضر في أذهان كثير من العسكريين والسياسيين، ليس على مشارف درنة فقط، ولكن حتى في مناطق كثيرة في ليبيا. ومما يذكره أحد الضباط أن من بين ما تسبب فيه هذا الاتفاق، قيام نواب من البرلمان السابق (المؤتمر الوطني)، وغالبيتهم من المتشددين الإسلاميين، باستغلال الوضع، وتشكيل «مجلس الدولة» ذي الطابع الاستشاري، إلا أنه أصبح واجهة سياسية مهمة.
ويقول هذا الضابط إنه جرى في البداية انتخاب الدكتور عبد الرحمن السويحلي، كواجهة مدنية، رئيساً لمجلس الدولة، حيث بدأ العمل فيه دون انتظار لضمّ الاتفاق في الإعلان الدستوري عن طريق البرلمان. ويعمل هذا المجلس، مثله مثل حكومة الوفاق، دون مرجعية في الدستور والقانون الليبيين حتى الآن. وهذا في حد ذاته مثير لحنق كثيرين، حتى ممن لا يوالون حفتر.
يقول عبد الله ناكر، رئيس حزب القمة، الذي كان يرأس «مجلس ثوار طرابلس»، «هذا أمر غريب للغاية. فنحن لا نعرف من هي الجهة التي يمكن أن تحاسب حكومة السراج. هذه حكومة لم ينتخبها الليبيون، ولم تحصل على الشرعية من جهة منتخبة من الشعب».
ومنذ مطلع عام 2016، أي منذ دخول السراج طرابلس لتطبيق اتفاق الصخيرات، أصبح الوضع السياسي معقداً ويصعب حله، كما اتضح من محاولات تبذلها دول إقليمية، منها مصر والإمارات، ورعاة دوليون عدة، كان آخرهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أواخر الشهر الماضي.
وفي تلخيص لجذور المشكلة، يقول العقيد المهدي البرغثي، وزير الدفاع في حكومة الوفاق: «نحن نعمل حتى الآن دون مصادقة البرلمان، وهذا أمر يزيد الأمور تعقيداً، ولا يشجع على الوصول إلى تسوية. نحن أشبه بوزراء تسيير أعمال. تصحيح المسار السياسي وتوحيد الصفوف هو القادر على إنقاذ ليبيا مما هي فيه».
وعلى كل حال، يعتقد أنصار المشير حفتر بثقة أن الواقع على الأرض أصبح يقول إن حفتر هو القوة الضاربة في الشرق، ويستند في عمله إلى مرجعية سياسية تتمثل في البرلمان المنتخب، أما السراج فيبدو لدى كثيرين كرجل يعتمد في وجوده على التأييد الدولي.
وتضغط فرنسا ودول أخرى على الخصوم الليبيين لتهيئة البلاد لانتخابات قبل نهاية هذا العام. وفي هذا الصدد يقول ناكر إن الحل في الانتخابات، وهي الفيصل بين الجميع. لكن وولفغانغ بوتشاي، المحلل الأمني والسياسي الغربي، يقلل من إمكانية هذا الأمر وفقاً للظروف الراهنة.
يحدث كل هذا اللغط، بينما تحول الجنوب إلى إقليم هش، لا توجد فيه سلطة قوية قادرة على حسم الولاء لهذا أو ذاك. وأصبح مصدر خطر على الدولة الليبية وحتى دول الجوار أيضاً، وذلك بسبب سهولة تحرك المتطرفين والمسلحين ومهربي البشر، كما يشير العقيد البرغثي نفسه. وقد عرفت الشهور الماضية أكثر من مبادرة سياسية للم الشمل، وللقبول باتفاق الصخيرات. لكن من خلال بوابة البرلمان.
ودخلت البلاد في حراك كبير بفضل تولي المبعوث الأممي الجديد، الدكتور غسان سلامة، هذه المسؤولية. وفي تلك الأثناء أبدى الدكتور السويحلي، مرونة غير مسبوقة للدخول في مفاوضات، وأرسل مندوبين منه لاجتماعات عُقدت في مصر وتونس والجزائر. ولعب دوراً في تلطيف الأجواء في أوساط سياسيين أقوياء بمدينته مصراتة، وسياسيين من طرابلس من الموالين للسراج.
ويقول مسؤول في الجيش إن حفتر قرر منذ البداية ترك الأمور للسياسيين، على أن يقتصر عمله على محاربة الجماعات المتطرفة. ورسخت حرب الجيش لتحرير بنغازي، ثم أخيراً درنة، مفاهيم جديدة عن الدور الإقليمي في ليبيا. وتبين أن هناك محورين رئيسيين: محور يطلق عليه البعض «محور الاعتدال»، وتعد مصر أحد أطرافه لأنها تعاني من خطر المتطرفين الذين يسعون لاستهدافها عبر حدودها مع هذا البلد. والمحور الثاني عُرف لدى ضباط في الجيش الليبي باسم «محور الشر»، وفيه قطر وتركيا، حيث يتهم العميد أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش، هاتين الدولتين تحديداً بدعم المتطرفين في بلاده.
وأدت انتصارات الجيش في بنغازي إلى ارتفاع أسهم حفتر محلياً ودولياً، وزار دولاً لم تكن لتقبل به في السابق. وقد وجه إنذاراً إلى السياسيين أواخر العام الماضي بضرورة حل خلافاتهم، وإلا سيضطر الجيش إلى اتخاذ الإجراءات المنوطة به لحماية مقدرات الشعب. كما ارتفعت أصوات تدعو إلى ترشحه كرئيس للدولة. وشعر تيار المتطرفين بالخطر، مثل بعض الخصوم السياسيين الذين يخشون تمدد حفتر خارج بنغازي.
وفي أثناء ظهور الحشود العسكرية استعداداً لتحرير درنة من باقي الجماعات المتطرفة، قبل شهرين، تمكن «الإسلاميون»، من أعضاء «مجلس الدولة»، من قلب الطاولة السياسية، والإطاحة بالدكتور السويحلي من رئاسة المجلس، وانتخاب رئيس جديد هو خالد المشري، الذي يتباهى بانتمائه إلى جماعة «الإخوان»، المصنفة في عدة بلدان، منها مصر، كـ«منظمة إرهابية». ووفقاً لهذا التحول السياسي المثير، تشجع نائبان اثنان على الأقل، في المجلس الرئاسي، لكي يتصرفا وفقاً للمرجعية الأصلية التي ينتميان إليها، حيث بدآ يثيران الفزع في كل مكان من تداعيات الحرب التي يشنها حفتر. أحدهما قادم من جماعة «الإخوان»، والثاني قادم من الجماعة الليبية المقاتلة (الأقرب إلى تنظيم القاعدة).
في هذا السياق يقول ضابط في الجيش «كلما تقدمنا في الحرب ضد الإرهاب، ضيَّقنا الخناق على داعمي (المتطرفين) في الداخل والخارج، ممن يتسترون في ملابس سياسيين ومسؤولين».
وحين دعا الرئيس الفرنسي ماكرون الأفرقاء الليبيين للحضور إلى فرنسا، أواخر الشهر الماضي، كان معلوماً، كما يقول بوتشاي، أن حفتر هو الوحيد من بين القادة المشاركين في مؤتمر باريس، الذي يملك تغيير الواقع على الأرض، أكثر من الآخرين، سواء كان السراج أو المشري، أو حتى المستشار عقيلة صالح رئيس البرلمان المؤيد لحفتر.
ولا تقتصر العملية السياسية، التي تستهدف النيل من حفتر، على تضخيم الأخطاء التي يرتكبها بعض جنوده في ميادين الحرب. لكنّ هناك مسارات أخرى، أهمها محاولة مجلس الدولة، في ثوبه الإسلامي الجديد، استقطاب المستشار صالح في مفاوضات ترمي إلى وقف الحملة العسكرية على درنة.
وسبق أن التقى صالح، في أواخر أبريل (نيسان) الماضي مع المشري في المغرب، التي يوجد فيها نشاط ملحوظ لجماعة «الإخوان». وفي الأسبوع الماضي أرسل المشري، الذي أعلن عدم اعترافه بحفتر، رسالة إلى صالح يبدي فيها استعداده لزيارته في طبرق. وقبل أيام أيضاً وصل إلى صالح وفد من مدينة درنة، من بينهم قيادات مناوئة لحملة الجيش على المدينة. وتابعت قيادات من جماعة «الإخوان» اللقاء عن كثب. وبدا للوفد أنه لم تكن هناك تأكيدات لموقف حاسم لوقف الحرب. ورغم هذه النتيجة فإن زعماء في «الإخوان» يصرون على الاستمرار في طَرْق أكثر من باب، في محاولة لتشتيت جهود الجيش.
ومن أعلى هضبة درنة، حيث تأتي رياح المساء برائحة بارود الاشتباكات، يقول ضابط الإشارة: «المعركة شارفت على الانتهاء هنا، وستبدأ في أماكن أخرى. فالطريق ما زال طويلاً لإخضاع ليبيا لسلطة موحدة».



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.