يوميات تشرد جورج أورويل ممسرحة

عن أول كتاب نشره الكاتب البريطاني عام 1933

عرض «Dawn & Out» المستوحى من يوميات الكاتب البريطاني جورج أورويل (مؤسسة أورويل الخيرية)
عرض «Dawn & Out» المستوحى من يوميات الكاتب البريطاني جورج أورويل (مؤسسة أورويل الخيرية)
TT

يوميات تشرد جورج أورويل ممسرحة

عرض «Dawn & Out» المستوحى من يوميات الكاتب البريطاني جورج أورويل (مؤسسة أورويل الخيرية)
عرض «Dawn & Out» المستوحى من يوميات الكاتب البريطاني جورج أورويل (مؤسسة أورويل الخيرية)

عندما كان الكاتب جورج أورويل في العشرينات من عمره، زار باريس حيث تعرضت غرفته في الفندق للسرقة، وفقد بالتالي كل ما يحمله معه من مال. الكارثة الشخصية أثرت على حياته وقتها، ودفعته للعمل كي يمول إقامته هناك، لكنها كانت وراء إصدار أول كتاب له لاحقاً، مزج بين اليوميات والمقالة السياسية. الكتاب الذي صدر عام 1933 لا يزال صامداً حتى اليوم لصاحب روايات «مزرعة الحيوان» و«1984» و«وداعاً كاتالونيا»، بل ألهم عرضاً مسرحياً يبحث في التشرد والفقر، ويعرج على أوضاع المهاجرين المزرية، في باريس ولندن، وحقق حلم أورويل الذي تطلع طوال حياته لأن يجعل من «الكتابة السياسية فناً»، وطرح علينا تساؤلاً حول إمكانية أن تصلح الكتابة السياسية لفرجة المسرحية.
بعد سرقة ماله عام 1929 في باريس، اضطر أورويل إلى بيع ملابسه، ثم عمل في فندق لم يسمه في يومياته، ورمز له ب حرف X، غير أنه بقي 10 أيام يعمل من دون أن يدفع له مقابل مادي عن عمله، فلم يمتلك المال ليبات في مكان نظيف ومحترم خلالها، ما دفعه لأن يقضي ليله على مقعد في الطريق العام. لقد عانى الكاتب الشاب الذي لم يكن معروفاً بعد خلال هذه التجربة، وشهد في الوقت نفسه على معاناة غيره من المشردين في «مدينة الأنوار» باريس، فقد اقترب منهم سيكولوجياً، وشرح شخصياتهم التي غيرها الفقر وحررها من المستوى الأخلاقي المطلوب، فما عادت ترى عيباً في التسول «تماماً كما يحرر المال البشر من العمل».
أقيم العرض المسرحي أخيراً في اليوم الثقافي لجامعة «يو سي إل» بلندن، بتعاون بين مؤسسة أورويل الخيرية ومؤسسة راونتري فاونديشين. وحشد المنظمون قراءً لليوميات ومقتطفات من أعمال أخرى، مثل روايته «ابنة الكاهن»، ساهم فيها سياسيون وإعلاميون وكتّاب ومسرحيون ونشطاء في بريطانيا، اجتمعوا ليثيروا معاني التشرد والفقر والعوز، التشرد الذي كان ولا يزال سمة واضحة في المدينتين. غير أن القراءات لم تكن منبرية، فهي متداخلة مع عرض تمثيلي وموسيقي وإضاءة مدروسة، وجمهور يجلس على أرض القاعة لا على مقاعد نظيفة، ما منح العرض صدقية مشهدية، في تعبيره عن انتشار التشرد في الأماكن العامة. هذا التشرد الذي تطور شكله وحجمه عبر الزمن. فما بين الأعوام 1929 - 2018، تحول مشهد التشرد خلال تسعين سنة من كونه يخص أبناء الطبقة المهمشة في العاصمتين الأبرز في أوروبا، إلى بيئة تستوعب حالات اجتماعية جديدة ناتجة من البطالة والهجرة غير الشرعية واللجوء، أمراض العصر الاقتصادية. ولم يعد المشردون من أبناء الطبقة الفقيرة فقط، إنهم من أصحاب الرواتب المحدودة، وفرص العمل المتقطعة أو غير المضمونة بقوانين تحميها، ومن ارتفاع الإيجارات، وغلاء المعيشة؛ كلها ظروف تدفع الأفراد والعوائل إلى الشارع. لم تغب هذه المتغيرات عن ذهن منظمي العرض الذي استمر لعدة ساعات وليوم واحد فقط، فدمجوا في العرض نماذج حقيقية من هؤلاء البشر الذين باتوا يشكلون عبئاً على المدن التي فشلت في أن تحل أسباب تشردهم وعوزهم. بالإضافة للمشهدية العفوية التي وسمت العرض، كان لافتاً أنه قدم داخل مبنى «Senate House» في الجامعة، وهو المبنى الذي ألهمت عمارته جورج أورويل بتصور «وزارة الحقيقة» في روايته الأشهر «1984».
يذكر أن العرض المقبل المستوحى من كتاب يوميات جورج أورويل «Dawn & Out» ستشهده باريس بعد لندن، في سبتمبر (أيلول) المقبل، في المدينة التي عانت من تدفق كبير للمهاجرين واللاجئين في السنوات الأخيرة، وحيث وجد ناشطون متطوعون في إحصائية نشرت في فبراير (شباط) الماضي أكثر من 3 آلاف شخص ينامون في العراء لافتقادهم المسكن، باريس نفسها التي شهدت وقتاً صعباً في إيواء المشردين بين الحربين العالميتين. ولا ننسى تداعيات مخيم كاليه العشوائي بالقرب من الحدود البريطانية، حيث اضطرت الحكومة إلى إزالته عام 2015 بطريقة غير إنسانية.
يذكر أن يوميات أورويل قدمت كعرض مونودراما الشهر الماضي في دبلن، وكان العرض نفسه قد قدم في مهرجان دبلن عام 2014.



هاني شاكر في بيروت... الأحزان المُعتَّقة تمسحها ضحكة

بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)
بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)
TT

هاني شاكر في بيروت... الأحزان المُعتَّقة تمسحها ضحكة

بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)
بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)

القبلات المتطايرة التي تدفّقت من هاني شاكر إلى أحبّته طوال حفل وداع الصيف في لبنان، كانت من القلب. يعلم أنه مُقدَّر ومُنتَظر، والآتون من أجله يفضّلونه جداً على أمزجة الغناء الأخرى. وهو من قلّة تُطالَب بأغنيات الألم، في حين يتجنَّب فنانون الإفراط في مغنى الأوجاع لضمان تفاعل الجمهور. كان لافتاً أن تُفجّر أغنية «لو بتحبّ حقيقي صحيح»، مثلاً، وهو يختمها بـ«وأنا بنهار»، مزاج صالة «الأطلال بلازا» الممتلئة بقلوب تخفق له. رقص الحاضرون على الجراح. بارعٌ هاني شاكر في إشعالها بعد ظنّ أنها انطفأت.

بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)

تغلَّب على عطل في هندسة الصوت، وقدَّم ما يُدهش. كان أقوى مما قد يَحدُث ويصيب بالتشتُّت. قبض على مزاج الناس باحتراف الكبار، وأنساهم خللاً طرأ رغم حُسن تنظيم شركة «عكنان» وجهود المتعهّد خضر عكنان لمستوى يليق. سيطر تماماً، بصوت لا يزال متّقداً رغم الزمن، وأرشيف من الذهب الخالص.

أُدخل قالب حلوى للاحتفاء بأغنيته الجديدة «يا ويل حالي» باللهجة اللبنانية في بيروت التي تُبادله الحبّ. قبل لقائه بالآتين من أجله، كرَّرت شاشة كبيرة بثَّها بفيديو كليبها المُصوَّر. أعادتها حتى حُفظت. وحين افتتح بها أمسيته، بدت مألوفة ولطيفة. ضجَّ صيف لبنان بحفلاته، وقدَّم على أرضه حلاوة الأوقات، فكان الغناء بلهجته وفاءً لجمهور وفيّ.

بقيادة المايسترو بسام بدّور، عزفت الفرقة ألحان العذاب. «معقول نتقابل تاني» و«نسيانك صعب أكيد»، وروائع لا يلفحها غبار. الأغنية تطول ليتحقّق جَرْف الذكريات. وكلما امتّدت دقائقها، نكشت في الماضي. يوم كان هاني شاكر فنان الآهات المستترة والمعلنة، وأنّات الداخل وكثافة طبقاته، وعبق الورد رغم الجفاف والتخلّي عن البتلات. حين غنّى «بعد ما دابت أحلامي... بعد ما شابت أيامي... ألقاقي هنا قدامي»، طرق الأبواب الموصودة؛ تلك التي يخالها المرء صدأت حين ضاعت مفاتيحها، وهشَّم الهواء البارد خشبها وحديدها. يطرقها بأغنيات لا يهمّ إن مرَّ عُمر ولم تُسمَع. يكفيها أنها لا تُنسى، بل تحضُر مثل العصف، فيهبّ مُحدِثاً فوضى داخلية، ومُخربطاً مشاعر كوَقْع الأطفال على ما تظنّه الأمهات قد ترتَّب واتّخذ شكله المناسب.

هاني شاكر مُنتَظر والآتون من أجله يفضّلونه جداً (الشرق الأوسط)

تتطاير القبلات من فنان يحترم ناسه، ويستعدّ جيداً من أجلهم. لا تغادره الابتسامة، فيشعر مَن يُشاهده بأنه قريب ودافئ. فنانُ الغناء الحزين يضحك لإدراكه أنّ الحياة خليط أفراح ومآسٍ، ولمّا جرّبته بامتحانها الأقسى، وعصرت قلبه بالفراق، درّبته على النهوض. همست له أن يغنّي للجرح ليُشفى، وللندبة فتتوارى قليلاً. ولا بأس إن اتّسم الغناء بالأحزان، فهي وعي إنساني، وسموّ روحي، ومسار نحو تقدير البهجات. ابتسامة هاني شاكر المتألِّمة دواخلَه، إصرار وعناد.

تراءى الفنان المصري تجسيداً للذاكرة لو كان لها شكل. هكذا هي؛ تضحك وتبكي، تُستعاد فجأة على هيئة جَرْف، ثم تهمد مثل ورقة شجر لا تملك الفرار من مصيرها الأخير على عتبة الخريف الآتي. «بحبك يا هاني»، تكرَّرت صرخات نسائية، وردَّ بالحبّ. يُذكِّر جمهوره بغلبة السيدات المفتتنات بأغنياته، وبما تُحرِّك بهنّ، بجمهور كاظم الساهر. للاثنين سطوة نسائية تملك جرأة الصراخ من أجلهما، والبوح بالمشاعر أمام الحشد الحاضر.

نوَّع، فغنّى الوجه المشرق للعلاقات: «بحبك يا غالي»، و«حنعيش»، و«كدة برضو يا قمر». شيءٌ من التلصُّص إلى الوجوه، أكّد لصاحبة السطور الحبَّ الكبير للرجل. الجميع مأخوذ، يغنّي كأنه طير أُفلت من قفصه. ربما هو قفص الماضي حين ننظر إليه، فيتراءى رماداً. لكنّ الرماد وجعٌ أيضاً لأنه مصير الجمر. وهاني شاكر يغنّي لجمرنا وبقاياه، «يا ريتك معايا»، و«أصاحب مين»؛ ففي الأولى «نلفّ الدنيا دي يا عين ومعانا الهوى»، وفي الثانية «عيونك هم أصحابي وعمري وكل أحبابي»، لتبقى «مشتريكي ما تبعيش» بديع ما يُطرب.

ضجَّ صيف لبنان بحفلاته وقدَّم على أرضه حلاوة الأوقات (الشرق الأوسط)

استعار من فيروز «بحبك يا لبنان» وغنّاها. بعضٌ يُساير، لكنّ هاني شاكر صادق. ليس شاقاً كشفُ الصدق، فعكسُه فظٌّ وساطع. ردَّد موال «لبنان أرض المحبّة»، وأكمله بـ«كيف ما كنت بحبك». وكان لا مفرّ من الاستجابة لنداء تكرَّر. طالبوه مراراً بـ«علِّي الضحكاية»، لكنه اختارها للختام. توَّج بها باقة الأحزان، كإعلان هزيمة الزعل بالضحكاية العالية.