موسكو الجديدة رافعة للتيار الشعبوي في الغرب

TT

موسكو الجديدة رافعة للتيار الشعبوي في الغرب

- *لم يكن فلاديمير بوتين ليحلم بعد اندلاع المواجهة التي تخوضها روسيا مع الغرب، منذ عام 2014، بسبب قرار ضم القرم الذي فجر الحرب الأهلية في أوكرانيا، بأن يشهد بعد مرور سنوات قليلة حالاً من الفوضى والارتباك في المعسكر الذي يواجهه.
في 2016، رد واحد من أبرز الخبراء المقربين من الكرملين على سؤال حول التوقعات الروسية في ظروف الحصار والعزلة بالإشارة إلى أن الكرملين يضع رهانه على أن المعسكر المقابل سيتفكك أولاً. الأسباب التي بُني عليها الرهان كثيرة، ومنها الداخلي في المجتمعات الغربية الناجم عن التباينات السياسية والتحولات التي يفرضها تداول السلطة، والضغوط المتواصلة على النخب الغربية من جانب وسائل الإعلام، ومجتمع المال والأعمال الذي يتحمل مسؤولية القرارات السياسية ومنظمات المجتمع المدني الناشطة.
كل هذه الآليات لا تأثير كبيراً لها في روسيا، حيث تتركّز السلطات بيد قيادة مركزية مدعومة بتيار شعبي قومي واسع، تم حشده بتأثير دعاية إعلامية وسياسية قوية، مسنودة بقبضة أمنية لا تفسح مجالات واسعة لتحركات المعارضة أو النخب المدنية.
في هذه الأجواء، كان الرهان على تفكك المعسكر الغربي المعادي لروسيا أولاً يبدو منطقياً، ويمكن البناء عليه، لكن الكرملين لم يوفر آلية يمكن استخدامها لتحفيز القوى الساعية إلى التغيير في الغرب، وتعميق مأزقه.
إذ لم يمر عام منذ 2014 من دون أن تستقبل روسيا مؤتمرات جامعة للقوى والتيارات الشعبوية والقومية المتطرفة من كل أنحاء أوروبا، وبعضها جاء حتى من الولايات المتحدة. ولَم تستقبل موسكو تلك المؤتمرات وتوفر الأرضيّة المناسبة لعملها بشكل يعزّز من توحيد جهودها وتنسيق مواقفها وحسب، بل عملت أيضاً على إرساء قواعد ثابتة لتنظيم جهودها في إطار مشترك، استفادت منه لاحقاً في تحقيق شرخ مهم في عدد من المجتمعات الأوروبية حيال ملفات مهمة، بينها سوريا وأوكرانيا. ويكفي ذكر عدد المرات التي نظمت فيها موسكو رحلات لبرلمانيين وإعلاميين وسياسيين غربيين إلى سوريا وإلى شرق أوكرانيا لتعزيز حملاتها الإعلامية والسياسية في الغرب. وجاءت النجاحات المتتابعة لروسيا في عدد من الاستحقاقات السياسية الداخلية لتتوج هذا الجهد بشكل عزّز «براغماتية» بوتين وحلمه باسترداد نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق، وتعزيز دور روسيا كقوة إقليمية كبرى.
ومن انتصار دونالد ترمب في الولايات المتحدة إلى التأثيرات المتتالية لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلى النتائج التي أفرزها التأثير على عدد من الاستحقاقات الداخلية في بعض البلدان... واصلت روسيا حصد ثمار «صمودها»، وهي اليوم تراقب مرتاحة «التفكك الحتمي» للمعسكر الآخر. كذلك، تبدو الأطراف السياسية الأوروبية الأكثر حذراً في التعامل مع مسألة عزل روسيا هي صاحبة الصوت المسموع في المجتمعات الأوروبية، حتى في بلدان تقود قاطرة العمل ضد تفرد روسيا في ملفات مهمة، مثل فرنسا وألمانيا. وتزامن ذلك مع وصول المقرّبين من روسيا إلى الحكم في بلغاريا ومولدافيا، رومان راديف وإيغور دودون.
ورأى محللون أن أسباب الدعم الروسي للرئيس الأميركي في أثناء حملته انطلقت أساساً من أن دوائر صنع القرار في موسكو تراهن على أن اختيار ترمب يعمق المأزق الأميركي، في ما يخص السياسات الخارجية، وانكفاء واشنطن، وتدهور علاقاتها مع حلفائها، خصوصاً في أوروبا. وكذلك يعزز فرص الشعبويين في أوروبا والعالم. وبالتالي، يقوي حضور روسيا في المسرح العالمي. ورأت ماريا ليبمان، الخبيرة لدى مركز كارنيغي موسكو، أن «هذا المشهد الجديد جاء نتيجة سياسة وضعت منذ أمد بعيد، وبدأ بوتين يجني ثمارها اليوم»، وأضافت: «إذا كانت شعبية بوتين تزداد فلأن الناس باتوا أكثر انجذاباً إلى القادة الذين يعارضون الوضع القائم الذي أضعفته أزمات سياسية واقتصادية كثيرة». وعلى الجانب الآخر من الأطلسي «أثر الفشل المتكرر للسياسة الخارجية الأميركية على نفوذ واشنطن في العالم، خصوصاً في الملف السوري حيث أخذت روسيا زمام المبادرة».
ويرى محللون روس أن الحماسة الناشئة لسياسات بوتين في أوساط اليمين الأوروبي والأميركي ناجمة خصوصاً عن رغبة في الخروج من عالم أحادي القطب، وإيجاد توازن عالمي جديد، لكنهم لا يتحدثون كثيراً في المقابل عن الآليات التي استخدمها الكرملين للتأثير على وسائل الإعلام الغربية، وعلى آليات صنع القرار في عدد من البلدان.
ويكفي كمثال تذكر أنه في غمار تأهب السويد للتصويت على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) قبل سنتين، سيطرت تغطيات دعائية واسعة، وتبين لاحقاً أن مصدرها مجموعات قريبة من روسيا شنت «بروباغاندا» على أساس أن ظهور جنود «ناتو» في المدن السويدية سيؤدي إلى انتشار حالات الاغتصاب والجرائم. وفي حالات أخرى، مثل التغطيات التي رافقت استحقاقات انتخابية في فرنسا وإيطاليا وألمانيا، كانت الأدوات مختلفة، لكن في كل الحالات وجهت أصابع اتهام إلى أوساط مدعومة من جانب الكرملين يشن حملات دعائية للتأثير على مزاج الناخب.



موريتانيا بين اقتراعين... وولد الغزواني الرابح الأكبر

موريتانيا بين اقتراعين... وولد الغزواني الرابح الأكبر
TT

موريتانيا بين اقتراعين... وولد الغزواني الرابح الأكبر

موريتانيا بين اقتراعين... وولد الغزواني الرابح الأكبر

تتأهب موريتانيا لتنصيب برلمان جديد، مع مجالس محلية وجهوية، أفرزتها الانتخابات التي نظمت يوم 13 مايو (أيار) الماضي، وبذا ترتسم ملامح خارطة سياسية جديدة في البلاد، تمهدُ الطريق نحو انتخابات رئاسية مقرّر تنظيمها في منتصف العام المقبل (2024)، ومن المتوقع أن يخوضها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني للفوز بولاية رئاسية ثانية. ولد الشيخ الغزواني (66 سنة)، جنرال متقاعد تقلّد العديد من المناصب الأمنية والعسكرية لأربعة عقود من الخدمة. وهو عسكري مثقف وهادئ، كان قد انتخب رئيساً للبلاد عام 2019، وحاول أن يحكم وفق نمط سياسي جديد على الموريتانيين، يقوم على تطبيع العلاقة مع الأحزاب السياسية المعارضة، في إطار ما سمّاه «التهدئة السياسية»، وأصبح يلتقي دورياً بقادة هذه الأحزاب، ويتشاور معها في الشأن العام. كانت فكرة ولد الشيخ الغزواني تستند إلى أن موريتانيا تقع في محيط إقليمي صعب. وهو ما وصفه في برنامجه الانتخابي بأنه موقعٌ «يجعلُ منها هدفاً لجميع الإرهابيين والمهرّبين والمتاجرين من كل صنف»، فهي جزء من منطقة الساحل التي تضربها المجموعات الإرهابية وشبكات التهريب والجريمة المنظمة. ثم إنها تقعُ على حافة صراع الصحراء، وتتأثر بأي تقلب أمني في منطقة غرب أفريقيا، حيث يحتدم الصراع بين روسيا والغرب. وبالتالي، فإنها تحتاج إلى «تهدئة سياسية» تساهم في استقرار الجبهة الداخلية، خاصةً أنها تتحضّر بنهاية العام الحالي لتصدير أول شحنة من الغاز الطبيعي، وهو ما ينعش آمال الموريتانيين بغدٍ اقتصادي مُشرق، بيد أنه، في المقابل، يثير مخاوف النخبة الموريتانية، فلطالما كانت حقول الغاز محفوفة بالمخاطر.

على الرغم من كلام بعض المراقبين والمتابعين عن «خارطة سياسية جديدة» تشكلت إثر الانتخابات الأخيرة في موريتانيا، فإن حزب الإنصاف الحاكم حقق انتصاراً يمكن وصفه بالساحق، حين حصل على 107 مقاعد في البرلمان من أصل 176 مقعداً، . ويضاف إلى هذا فوزه بجميع المجالس الجهوية البالغ عددها 13 مجلساً، وتحقيقه الفوز أيضاً في 165 من المجالس المحلية البالغ عددها 238. لقد كان فوزاً كاسحاً، مع أن المعارضة شككت في نزاهته، واتهمت الحزب الحاكم بالتزوير واستغلال وسائل الدولة، غير أن سيد أعمر ولد شيخنا، وهو الناطق باسم حزب الإنصاف، جدّد رفض حزبه لهذه الاتهامات.

ولد شيخنا في لقاء مع «الشرق الأوسط» قال إنَّ الحزب كان يتوقع هذه النتائج؛ لأن الانتخابات حسب رأيه «كانت بمثابة استفتاء حول برنامج رئيس الجمهورية، والإنجازات التي تحققت، وتوجهات النظام بشكل عام... ولقد جاءت النتائج معبّرة عن اهتمام المواطنين بهذا البرنامج الهادف لتحقيق التنمية والاستقرار».

وأردف ولد شيخنا: «كنا مقتنعين بأن الحزب سيحقق نتائج جيدة لجملة من الاعتبارات، منها الاستناد إلى المنجزات في مجال الحَكامة ومحاربة الفساد، وفي مجال الانحياز للطبقات الهشّة والبرامج الاجتماعية التي أنجزت في هذا المجال، ولأن المواطنين يدركون أن موريتانيا اليوم واحة أمان واستقرار وديمقراطية في محيط ملتهب... وبالتالي، هناك وعي بضرورة تعزيز هذا المناخ وتشكيل مظلة أمان سياسي له».

موت السياسة

غير أن ديدي ولد السالك، رئيس المركز المغاربي للدراسات الاستراتيجية، له رأي آخر؛ إذ يقول فيه إن «الانتخابات الأخيرة لم يكن فيها رابح، بل الجميع خاسرون. والدولة الموريتانية هي أكبر الخاسرين، لأن هذه الانتخابات كانت تعني - وبشكل واضح - موت الحياة السياسية، التي من المفترض أن تقوم على خطاب آيديولوجي واضح، وأفكار ومشاريع تتنافس فيما بينها... وهي لم تشهد أي شيء من ذلك، بل كانت مجرد صراع بين القبائل والشرائح والأعراق».

ثم إن ولد السالك يذهب أبعد من ذلك، ليؤكد أن «الانتخابات الأخيرة أفرزت برلماناً لا لون له ولا طعم، وليست له معالم سياسية واضحة، وإنما هو مجموعة من رجال الأعمال والتجار، مع مَن ترشحوا بخطابات قبلية وشرائحية. أما الذين يحملون أفكاراً سياسية فهم قلة قليلة، وربما يمكنني القول إنه البرلمان الأكثر ميوعة، رغم ميوعة البرلمانات السابقة».

ومن جانبه، يعبّر أحمد سالم ولد الداه، مدير المركز العربي الأفريقي للإعلام والتنمية، عن اعتقاده بأن الانتخابات الأخيرة أفرزت ما سمَّاه «خارطة سياسية جديدة». وهو يدافع عن وجهة نظره بالقول إن «إلقاء نظرة بسيطة على البرلمان الجديد، كافية ليتضح حضور تيارات جديدة، أغلبها من شباب المعارضة، كما يتضح أن أغلب البرلمانيين وجوه جديدة، غير معروفة في الساحة السياسية، سواء في المعارضة أو الموالاة. وبالتالي، علينا أن نتريّث في الحكم عليهم؛ إذ لا يمكننا منذ الآن تصنيف قدراتهم السياسية، ولا إمكانية تأثيرهم وحضورهم داخل قبة البرلمان».

... وهزيمة التاريخ

ولد الداه في حواره مع «الشرق الأوسط» قال إن الحدث الأبرز في هذه الانتخابات هو «النكسة التي تعرّضت لها أحزاب المعارضة التقليدية»، في إشارة إلى حزب تكتل القوى الديمقراطية (اشتراكي) وحزب اتحاد قوى التقدم (يسار تقدمي) وحزب التحالف الشعبي التقدمي (قومي ناصري)، وهي الأحزاب الثلاثة الأقدم في الساحة السياسية، ذلك أنها عجزت مجتمعة عن الحصول على أي مقعد برلماني، للمرة الأولى منذ بداية التعدّدية السياسية في مطلع تسعينات القرن الماضي.

ويشرح ولد الداه، إن «النكسة التي تعرّضت لها أحزاب المعارضة العتيدة دفعتها إلى الكلام عن تزوير الانتخابات، وعن تعرّضها لمؤامرة سياسية، ما يعني أننا دخلنا في مرحلة جديدة من الشد والجذب، بعد سنوات من التهدئة السياسية». ويعتقد أن هذه الأحزاب «تضرّرت كثيراً من التهدئة السياسية، ولم تستثمرها لتعزيز الصلة بقواعدها الشعبية، ولتشرح موقفها السياسي بشكل واضح وصريح؛ لأن أغلب الموريتانيين كانوا يتحدثون عن موت المعارضة حتى قبل الانتخابات، بسبب غيابها عن الساحة وصمتها المطبق، وجاءت النتائج كشهادة وفاة لهذه المعارضة وتأكيداً واضحاً لهذا الموت السياسي».

ويرى ديدي ولد السالك، رئيس المركز المغاربي للدراسات الاستراتيجية، أن «تراجع الأحزاب السياسية التقليدية، حالة طبيعية جداً، ساهم فيها الكثير من العوامل؛ العامل الأول هو أن هذه الأحزاب شاخت قياداتها، وهرمت منظومتها الداخلية، والعامل الثاني أنها خرجت من حصار الأنظمة السابقة، وخاصة نظام الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، منهكة جداً، كما مزقها التفكك والانشطار، والعامل الثالث دخولها في جو التهدئة السياسية في عهد الرئيس الحالي، متخلية بذلك عن خطابها المعارض والمحرض على النضال».

في المقابل، ولد السالك يرى أن العامل الأخير الذي لعب دوراً محورياً في تراجع المعارضة التقليدية هو «موت الحياة السياسية في موريتانيا؛ إذ لم يعد هنالك أي أحد يهتم بالأفكار والقِيَم، ولا بمَن يملكون تاريخاً من النضال، وإنما أصبحت هنالك صراعات عبثية، تحرّكها المصالح الشخصية الضيقة».

وللعلم، ليستْ وحدها أحزاب المعارضة التقليدية هي التي تراجعت، بل إن حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (إسلامي) الحديث العهد نسبياً في الساحة السياسية، والذي رغم أنه واصل صدارته لأحزاب المعارضة في البرلمان، تراجع عدد مقاعده من 18 مقعداً إلى 11 فقط في البرلمان الجديد، وأيضاً تراجع عدد مقاعد حزب الصواب (تقدمي - بعثي)، المتحالف مع الناشط الحقوقي بيرام الداه اعبيد، أحد أبرز الوجوه المنافسة في آخر اقتراعين رئاسيين (2014 و2019).

معارضة جديدة

إنَّ نهاية المعارضة التي توصف في موريتانيا بـ«التاريخية»، كانت إيذاناً بتقاعد شخصيات ظلت حاضرة لعدة عقود في المشهد السياسي، على غرار أحمد ولد داداه ومسعود ولد بلخير ومحمد ولد مولود، ولكن في المقابل صعدت معارضة جديدة كانت «الحصان الأسود» لهذه الانتخابات. وهذا ما علّق عليه سيد أعمر ولد شيخنا، الناطق باسم حزب الإنصاف الحاكم، بقوله إن «المعارضة التقليدية تشهد منذ سنوات حالة ضعف وتراجع، ومشاكل بنيوية ومؤسسية وقيادية، وبالتالي لا تشكل جهة استقطاب مؤثرة». ثم يتابع: «مع هذا، هناك قوى معارضة جديدة حققت نتائج جيدة، ونحن ندرك أن الوضع الصحي للديمقراطية هو وجود موالاة ومعارضة في كامل اللياقة السياسية».

تتمثلُ هذه المعارضة الجديدة في تيارات شبابية، من مشارب فكرية وسياسية مختلفة، لا يجمعها سوى فكرة المعارضة وإتقان لعبة الإعلام الجديد. ويقود هذه المعارضة «ائتلاف أمل موريتانيا» الذي حصد 7 مقاعد في البرلمان الجديد، متفوقاً على العديد من الأحزاب العتيدة. وهنا يعلّق ديدي ولد السالك موضحاً أن «النتائج التي حققها ائتلاف أمل موريتانيا كانت متوقعة؛ لأنه مثّل خيار الشباب، وفيه شخصيات كانت فاعلة في أحزاب عريقة، بالإضافة إلى شباب متطلع نحو التغيير، وخاصة شباب المهجر الذي ترشح وصوّت لأول مرة في هذه الانتخابات... ورغم تباين هذه الأطراف فكرياً، فإنها تشكّل معاً قوة دافعة، وإذا استطاع أفرادها الاندماج في حزب سياسي، فإنهم سيشكلون حينئذ أحد تيارات المعارضة القوية في المستقبل».

أمَّا أحمد سالم ولد الداه، فيعتبر أن «المعارضة الجديدة تقودها شخصيات قفزت من سفينة أحزاب المعارضة التقليدية قبل أن تغرق... وهؤلاء كانوا يدركون وضعيتها الانتخابية وسوء علاقتها بقواعدها الشعبية... لقد كانت قراءتهم سليمة لمسار الأحداث». ثم يضيف أن «حراكاً سياسياً جديداً، طابعه شبابي بالدرجة الأولى، بدأ يحدث داخل صفوف المعارضة، وقد يظهر تأثيره بشكل أكبر خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة».

نهاية التهدئة

بعد إعلان نتائج الانتخابات، خرجت أحزاب المعارضة في أول مظاهرة لها منذ عام 2019، أي منذ أن دخلت في تهدئة مع نظام ولد الشيخ الغزواني. ولقد رفعت هذه الأحزاب والقوى في مظاهرتها مطلب إلغاء نتائج الانتخابات وإعادة تنظيمها من جديد، وهو مطلب رفضته السلطة، بحجة أن المعارضة كانت شريكة في كل مراحل التحضير للانتخابات، وهي من انتدبت نصف أعضاء اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات.

وفي هذا السياق، يعتقد ولد الداه أن المعارضة التقليدية «تدفع نحو خلق أزمة انتخابية قد تتجه لأن تكون أزمة سياسية». وأشار إلى أنها اكتشفت متأخرة أنها خسرت كل شيء، ثم يستطرد: «مع أن الانتخابات سبقها اتفاق سياسي وقّع عليه 25 حزباً سياسياً (هو إجمالي عدد الأحزاب المرخّصة في موريتانيا)، وأشرفت عليه وزارة الداخلية، فإنها في النهاية كانت محل رفض من أحزاب المعارضة».

وفي هذا السياق يقول ولد شيخنا إن «الانتخابات كانت تُدار من لجنة مستقلة للانتخابات، تشارك فيها جميع الأحزاب السياسية؛ مولاةً ومعارضة، ولا يوجد حكيم من حكماء اللجنة تكلّم عن تزوير أو استقال أو تحفّظ عن سير العملية، ومع هذا يمكن أن تحدث خروق هنا أو هناك، مجالها الطعن لدى المؤسسات المختصة».

أما ولد السالك فيؤكد أن «الانتخابات من الناحية النظرية أجريت في ظل توافق سياسي، لكن الإخفاقات التي واكبتها تعود إلى جملة من العوامل. ولعل العامل الأهم هو المحاصصة في اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات؛ إذ إن المحاصصة دوماً تكون على حساب المبدئية والشفافية والنزاهة، المحاصصة ضد فكرة المواطنة والدولة... وبالتالي، كان المفروض أن تشكل اللجنة من شخصيات وطنية تتمتع بالكفاءة والاستقلالية عن الأحزاب وعن السلطة»، ويضيف ولد السالك «أنه بالإضافة إلى ما سبق لم تُتح للجنة فترة زمنية كافية للتحضير الجيد للانتخابات، وتدريب لجانها وهيئاتها».

وحول مدى تأثير نتائج الانتخابات الأخيرة على مستقبل التهدئة السياسية، يختتم ولد السالك بالقول: «ظهر أن التهدئة السياسية ليست قائمة على بنية توافقية، كما أريد لها منذ البداية بسبب فشل التشاور الوطني. لذا من الطبيعي أن تعود الساحة إلى الشدّ والجذب، وستظهر معارضة جديدة تتمثل في الحركات الشبابية التي ستتبلور منها المعارضة الصاعدة، مستغلة حالة اللا رضا في الشارع والدخول في أجواء الانتخابات الرئاسية».

من الانتخابات الموريتانية (أ.ف.ب)

طريق ولد الغزواني المفتوح نحو الرئاسة

> كانت أعين الموريتانيين حين صوتوا في الانتخابات التشريعية الأخيرة بنسبة مشاركة تجاوزت السبعين في المائة، منتصف الشهر الماضي، موجهة حقاً نحو الانتخابات الرئاسية، منتصف العام المقبل. والقصد هنا، بصورة خاصة، الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الذي بدأ مشروعه الانتخابي بوعد كبير تمثَّل في «التهدئة». فهل سينجحُ الرجلُ في تنظيم انتخابات رئاسية هادئة؟... هكذا يتساءلُ من يتابعون المشهد الموريتاني.

المؤكد هو أن ولد الشيخ الغزواني كان أكبر رابح في الانتخابات الأخيرة، حين حصلت الأحزاب الداعمة له على غالبية ساحقة في البرلمان. بل إن جميع أحزاب المعارضة لم تتجاوز حصتها 27 مقعداً من أصل 176 مقعداً في البرلمان، وهي نسبة ضئيلة جداً، جاءت لتؤكد أن ولد الغزواني خلال أربع سنواتٍ مضت من حكمه، نجح في أن ينتزع من المعارضة حجة «الإقصاء» التي ظلت تشكل ركيزة أساسية من خطابها طوال عقود، وقارعت بها عدة أنظمة متعاقبة.

في هذا السياق، يرى أحمد سالم ولد الداه أن الرئيس الموريتاني لم يستفد فقط من هزيمة المعارضة، وإنما أيضاً من التنافس داخل أحزاب الموالاة، ويضيف: «لاحظنا أن الانتخابات شهدت صراعاً قوياً بين أحزاب الموالاة، في الكثير من الدوائر الانتخابية. وتركز هذا الصراع حول أي حزب يمثل البرنامج الانتخابي للرئيس. لقد كان ولد الغزواني هو الرابح من كل ذلك، دون أن يظهر في أي مهرجان سياسي أو يعلن الانحياز لأي حزب».

أمَّا ديدي ولد السالك فيقول: «لا أعتقد أن الرئيس الحالي كسب الكثير من الرهانات في هذه الانتخابات؛ لأن ما ظهر من ولاءات وما ترتب عليها من نتائج، هو حالة مكررة عشناها أكثر من مرة في العقود الماضية، وهي ناتجة عن وضع اجتماعي يسود فيه الفقر والأمية وغياب الوعي، وتحكم السلطة في كل شيء، بما في ذلك الانتخابات نفسها». وخلص من ثم إلى أن الرئيس ولد الشيخ الغزواني قد لا يكون مشغولاً كثيراً بما سيحدث في الانتخابات الرئاسية المقبلة؛ «لأن القاعدة تقول إن من يترشّح من القصر هو من يفوز، مهما كانت حصيلته السياسية، وهذه القاعدة لن تتغير ما لم يحدث تغيّر عميق في المجتمع».

ولكن في المقابل، من الواضح أن السلطة في موريتانيا منشغلة لفكرة تنظيم انتخابات «هادئة». وهي تراهن على أن يستمر «تطبيع» العلاقة مع المعارضة، لا سيما بعد تكرار أعمال عنف يُخشى أن تصبح لازمة للانتخابات في موريتانيا. بل إنها باتت تثير القلق من أن تتطور ما لم يتيسّر علاجها. إذ وقعت أعمال عنف عقب رئاسيات 2019، وتجدّدت في أعقاب انتخابات الشهر الماضي، وأخذت نسقاً تصاعدياً وطابعاً عرقياً.

وفي كلتا المرتين خرج الجيش ليعيد الأمن في بعض المدن، واضطرت السلطات لقطع الإنترنت للحدّ ممّا وصفته بـ«الشائعات وخطاب الكراهية»، ومع ذلك تؤكد السلطات دوماً جاهزيتها للتعامل مع أي وضعية للسيطرة عليها، بينما تظل احتمالات الانزلاق قائمة.

الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني (أ.ف.ب) نهاية المعارضة التي توصف في موريتانيا بـ«التاريخية»، كانت إيذاناً بتقاعد شخصيات ظلت حاضرة لعدة عقود في المشهد السياسي


وزراء الخارجية الأتراك... من المنصب إلى المعارضة

عبد الله غُل
عبد الله غُل
TT

وزراء الخارجية الأتراك... من المنصب إلى المعارضة

عبد الله غُل
عبد الله غُل

لم تشهد فترة حكم حزب «العدالة والتنمية» التركي، التي بدأت في عام 2002، كثيراً من التعديل على منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية، الذي شغله فقط 6 وزراء، خلال 21 سنة. وفي حين كان أول وزراء الحزب يشار ياكش الأقصر عهداً في المنصب، إذ بقي فيه أقل من 5 أشهر، يُعتبر الوزير المودّع مولود جاويش أوغلو الأطول إقامة في هذا المنصب، حيث شغله فترة امتدت لنحو 9 سنوات، بينما كان الوزير أحمد داود أوغلو هو الأكثر شهرة من بين هؤلاء مع نظريته الخاصة بـ«العمق الاستراتيجي»، وسياسة «صفر مشاكل». واللافت أن كل الوزراء انتقلوا لاحقاً إلى المعارضة، ما عدا الوزير جاويش أوغلو الذي انتقل إلى البرلمان.

يشار ياكش... أقصر الوزراء عهداً

وُلد يشار ياكش في بلدة أقجاقوجة على البحر الأسود عام 1938، تقلَّد منصب وزير الخارجية التركية، وكان سفيراً لدى «حلف شمال الأطلسي (ناتو)» ومصر والمملكة العربية السعودية، وكان ياكش عضواً في حزب «العدالة والتنمية»، إلا أنه انتقل لاحقاً إلى صفوف المعارضة. وقد تسلَّم منصب وزير الخارجية لأقل من 5 أشهر، فقد تقلّده في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 2002، وغادره في 14 مارس (آذار) 2003.

عبد الله غُل... أتى من رئاسة الوزراء وغادر إلى رئاسة الجمهورية

شغل عبد الله غُل منصب وزير الخارجية، في 14 مارس 2003، بعدما استقال من منصب رئيس الوزراء لإفساح المجال أمام رجب طيب إردوغان لترؤس الحكومة، في أعقاب إسقاط الحظر الدستوري عنه. وظلّ غل في هذا المنصب حتى 28 أغسطس (آب) 2007 حين غادره ليصبح رئيساً للجمهورية.

وُلد غُل في 29 أكتوبر (تشرين الأول) 1950 في مدينة قيصري بالأناضول، وتلقّى جزءاً من تعليمه الجامعي في بريطانيا، وهو حالياً أقرب إلى المعارضة، منذ خروجه من المنصب.

علي باباجان

علي باباجان... قائد مفاوضات الانضمام إلى أوروبا

علي باباجان واحد من أبرز وزراء الخارجية الأتراك، تسلّم المنصب في 29 أغسطس 2007، وغادره في 2 مايو (أيار) 2009 ليصبح وزيراً للاقتصاد، كما أنه كان المفاوض في ملف انضمام تركيا لـ«الاتحاد الأوروبي». وقبلها كان باباجان - الذي تابع دراسته العليا في الولايات المتحدة - وزيراً للشؤون الاقتصادية، وذلك منذ تسلَّم حزب «العدالة والتنمية» الحكم في نوفمبر 2002. غير أنه اختلف بشدة مع إردوغان، وغادر الحزب والحكومة، وانتقل لاحقاً إلى صفوف المعارضة، حيث أسّس حزباً جديداً دخل البرلمان الحالي بـ14 نائباً.

احمد داود اوغلو

أحمد داود أوغلو... من «صفر مشاكل» إلى «صفر أصدقاء»

قاد أحمد داود أوغلو الدبلوماسية التركية في واحدة من أصعب المراحل التي عبَرتها البلاد في سياستها الخارجية. وكان الرجل قد جاء إلى المنصب من الحياة الأكاديمية، في الأول من مايو 2009 حاملاً شعار «تصفير المشاكل» مع دول الجوار، غير أن انتفاضات «الربيع العربي» وثوراته التي وصلت إلى سوريا، وضعت العصيّ في دواليب مشروعه، الذي انتهى بعداوات لتركيا مع غالبية دول الجوار، حتى بات التندر على هذه السياسة مشروعاً من «صفر مشاكل» إلى «صفر أصدقاء».

أحمد داود أوغلو وُلد يوم 26 فبراير (شباط) 1959، وكان الرئيس الثاني لحزب «العدالة والتنمية» ورئيساً للحكومة، في الفترة ما بين 2014 - 2016 خلفاً لإردوغان، إلا أنه استقال من منصب رئيس الوزراء يوم 22 مايو 2016، بعد خلاف مع إردوغان، وانتقل إلى صفوف المعارضة وأسس حزب «المستقبل» الذي فاز بـ10 مقاعد في البرلمان الحالي.

مولود جاويش أوغلو... الوزير الأكثر ثباتاً في الموقع

من مواليد 5 فبراير 1968، وهو من مدينة ألانيا على ساحل المتوسط. جاويش أوغلو أيضاً واحد من الأعضاء المؤسسين لحزب «العدالة والتنمية». وقد شغل منصب وزير الخارجية في 29 أغسطس 2014، وبقي في هذا الموقع حتى يونيو (حزيران) الحالي، ما يجعله الأكثر ثباتاً في موقعه من بين وزراء خارجية تركيا في عصرها الحديث، ثم إنه انتُخب عضواً في البرلمان عن مدينته، وغادر موقعه ليسلِّمه إلى الوزير الجديد هاكان فيدان.


هاكان فيدان... من «شاويش بلا مستقبل» إلى قيادة دبلوماسية الانفتاح على «الخصوم»

هاكان فيدان... من «شاويش بلا مستقبل» إلى قيادة دبلوماسية الانفتاح على «الخصوم»
TT

هاكان فيدان... من «شاويش بلا مستقبل» إلى قيادة دبلوماسية الانفتاح على «الخصوم»

هاكان فيدان... من «شاويش بلا مستقبل» إلى قيادة دبلوماسية الانفتاح على «الخصوم»

لم يكن مفاجئاً للعموم، تعيين رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان وزيراً في حكومة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الجديدة، إذ كان الجميع يعلم رغبة فيدان في العمل السياسي، منذ طلب من إردوغان أن يرشحه للانتخابات البرلمانية في عام 2015. إلا أن المفاجأة كانت - في نظر هؤلاء - في الحقيبة التي تولّاها؛ أي «الخارجية»، المتعارف عليها أنها للدبلوماسيين لا الأمنيين، مع أن عارفي فيدان عن قرب لم يُفاجأوا مطلقاً، بل هم يتوقعون له النجاح في إحداث نقلة نوعية بالسياسة الخارجية التركية، خصوصاً مع الدول التي تصنَّف في خانة «الخصوم».



كُتب الكثير عن «كره» إسرائيل لفيدان، الذي اتهمته صحيفة «واشنطن بوست» في 2013 بكشف هوية 10 جواسيس إسرائيليين لإيران لعلَّ أكثر الخطابات وضوحاً من الرئيس التركي رجب طيب إردوغان كان وصفه هاكان فيدان بـ«صندوقي الأسود وكاتم أسراري». وأضاف: «هو ومَن معه يشكلون مستقبل تركيا». وبالمناسبة، يعتقد أن فيدان كان أول من اكتشف مخطط الانقلاب على الحكم التركي في عام 2016، إذ يقول مسؤولون أتراك، قريبون من إردوغان، لـ«الشرق الأوسط»، إن فيدان حاول الوصول إلى الرئيس لتحذيره، إلا أنه لم يجده بسهولة؛ لكون الأخير في إجازة عائلية. وبناءً عليه، تواصل مع أحد أصهار إردوغان ونقل إليه الخبر. ويقال إن وزير الخارجية الجديد هو مَن نصح رئيسه بالظهور على وسائل التواصل الاجتماعي لتعبئة الجماهير، وقال له: «سنقاتلهم نحن حتى الموت، اذهب وتحدَّثْ للناس».

وخلافاً للانطباعات الأولى، يتحدث مصدر تركي عن سياسة جديدة في البلاد، في أيام دبلوماسية فيدان تُقارب النظام البريطاني، فوزير الخارجية آتٍ من الاستخبارات، ووزير الدفاع من المؤسسة العسكرية، أما وزير الداخلية فمن إدارة الحكم؛ أي من حكام الولايات. ويتوقع كثيرون نجاح فيدان في مهمته؛ «كونه يمتلك العلاقات والمعلومات»، ويعرف كيف يستثمرهما. يضاف إلى هذا الدورُ الخارجي الكبير الذي لعبه، خلال السنتين الماضيتين اللتين شهدتا تحولاً في السياسة التركية نحو «تصفير المشاكل» من جديد، لكن وفق آلية جديدة.

وحقّاً، كان فيدان «نقطة الوصل» والاتصال مع الدول التي ناصبت الحكومة التركية حكوماتها العداء كسوريا ومصر، كما مع بعض الدول التي تطبع علاقتها «التنافس» كإيران. وتقول مصادر متابعة للملف، لـ«الشرق الأوسط»، إنه هو مَن أطلق عملية تفاوض واسعة مع سوريا أخيراً أسفرت عن لقاءات قام بها شخصياً مع المسؤولين السوريين من دون تحديد مكان اللقاءات.

هنا يرى المدير السابق لجهاز الأمن العام اللبناني عباس إبراهيم أن تعيين فيدان «يدفع في الاتجاه الإيجابي لتحسين العلاقات التركية السورية».

ويتابع إبراهيم، الذي عمل مع فيدان على عدد من الملفات وتجمعهما «صداقة عمل» مستمرة، أن فيدان رجل براغماتي إلى حد كبير، وهو يعرف الملف بتفاصيله، كاشفاً عن لقاءات جمعت فيدان أخيراً بمسؤولين سوريين، وهو «يفهمهم ويفهمونه». ويعتبر أن لدى فيدان «قدرة عالية على بداية بناء الثقة مع الجانب السوري»، موضحاً أنه «عمل على الملفات: الأمني، والسياسي، والعسكري، للوجود التركي في سوريا»، ومتحدثاً عن توصل فيدان مع المسؤولين السوريين إلى «تنظيم خلاف تركي سوري على الأراضي السورية، لكنه للأسف لم يطبَّق من قِبل السياسيين الأتراك تحديداً»

مفاوضات مع سوريا... في لبنان

كذلك كشف إبراهيم أنه تعاون مع فيدان عن كثب، في وقت سابق؛ في مسعى لـ«تخفيف حِدة التوتر في الأراضي السورية»، وأن الأتراك وافقوا على مبدأ إطلاق مفاوضات تركية سورية في بيروت، لكن السوريين لم يتجاوبوا لاحقاً»، ومن ثم توقّع المسؤول الأمني اللبناني السابق أن يكون «وزير الخارجية التركي الجديد ناجحاً؛ لأنه في عمله الأمني كان يمارس دبلوماسية عالية»، معتبراً أن فيدان «يعيدنا إلى سياسة صفر مشاكل، فوزير خارجية بهذه الصفات يمكنه أن يقلص حجم المشاكل إلى حد كبير».

عاشق للمسلسلات التركية!

بعيداً عن السياسة، يتحدث مقرَّبون من فيدان عن وجهه الآخر «الفني»، فهو عاشق للأفلام والمسلسلات التركية، حتى لا يكاد يفوِّت واحداً منها. ويذهب بعضهم إلى اهتمامه بالسيناريوهات المكتوبة للإنتاجات التركية التي عُرضت على منصة «نتفليكس»، خصوصاً التاريخية منها. أيضاً الوزير الجديد شغوف جداً بالقراءة، إذ يصفه مسؤول تركي عمل معه، وعرفه وتواصل معه، بأنه «كثير القراءة، ويأتي على رأس قائمة أكثر الشخصيات قراءة للكتب في رحلات الرئيس إردوغان». ويضيف المسؤول - وكان قد تعرَّف على فيدان في مراحل متعددة - بدءاً من فترة تولي الأخير رئاسة الوكالة التركية للتعاون والتنسيق «تيكا»، ثم عمله معاون مستشار رئيس الحكومة، ثم معاون مستشار «وكالة الاستخبارات التركية»، إلى مرحلة تولّيه رئاسة «الاستخبارات الوطنية التركية» - لـ«الشرق الأوسط»، أن فيدان «يعتمد على فريق العمل الجماعي إلى أبعد الحدود، ويعمل على تشجيع فريقه»، ويعتبره «صاحب رؤية ورابط الجأش، وجانبه هذا له تأثير كبير».

ثم يشير المسؤول - الذي طلب إغفال اسمه - إلى أن فيدان «يهتم كثيراً بالتكنولوجيا، وله مساعٍ كبيرة في حصول وكالة الاستخبارات على تكنولوجيا عالية». ويستطرد شارحاً: «تحليلاته دقيقة، ورسائله صريحة وواضحة، لا تجده يتلاعب معك في حديثه... فهو يقابل أسئلتك بأجوبة صريحة، ويهتم بوصول رسائله إلى الطرف الآخر، ويحب التأكد من وضوح فكرته بنظر الطرف الآخر... إنه شخصية متّزنة، ويطلب من خصمه أن يكون كذلك». وبالفعل، يصفه اللواء عباس إبراهيم بأنه «شخصية هادئة جداً، ورجل صبور، ومستمع جيد... ويحافظ على علاقاته، ولا يقطع الاتصال معها في كل الظروف، ويتابع ملفاته بدقة متناهية».

علاقات سيئة مع إسرائيل

على صعيد آخر، يتوقع أن تكون علاقة فيدان مع إسرائيل تحدياً جدياً، إذ كُتب كثير عن «كره» إسرائيل لفيدان، الذي اتهمته صحيفة «واشنطن بوست» في عام 2013، بتسليمه 10 جواسيس إسرائيليين لإيران. كذلك هناك تقرير لـ«نيويورك تايمز» يتحدث عن تراجع التعاون التركي الإسرائيلي، بسبب مخاوف من تسريب فيدان المعلومات إلى الاستخبارات الإيرانية، وإلى المجاهدين في سوريا. وفي حينه، نشرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية تقريرها عنه، ونقلت فيه مخاوف «الموساد» إزاء تعيينه؛ بسبب دوره في تنظيم «أسطول الحرية»، وأيضاً بسبب قربه اللصيق من إردوغان، وحزبه الحاكم «العدالة والتنمية»، ودفاعه عن المصالح النووية الإيرانية.

سيرة ذاتية لافتة

في الحقيقة، يتمتع هاكان فيدان بسيرة ذاتية لافتة يقل فيها الجانب العملي، ويندر فيها الشخصي، فهو شخصية كتومة لم يسمع الأتراك صوته إلا في خطاب تسلم وزارته. بيد أن المتابع لسيرته يلاحظ أنه كان يتمتع بقوة دفع هائلة في حياته، إذ إنه دخل المؤسسة العسكرية لـ15 سنة، وبدأ مسيرته فيها «شاويشاً» (رقيب)، وأنهاها برتبة ضابط صف، من دون مستقبل باهر في المؤسسة، التي لا يمكن لها أن تستوعب «الشاب المتديّن» برتبة أكبر، مهما طال بقاؤه فيها.

على الجانب الشخصي، فيدان متزوج، وأب لثلاثة أولاد، وهو من مواليد العاصمة أنقرة عام 1968، وقد درس وتخرّج في مدرسة قوات المشاة عام 1986، ثم درس في مدرسة اللغات، التابعة لقوات المشاة، ومن ثم جمع خبرة عملية في ميدان الاستخبارات، وعمل بين عامي 1986 و2001، في «وحدة التدخل السريع»، التابعة لـ«حلف شمال الأطلسي (ناتو)»، وعمل في فرع جمع المعلومات السريعة بألمانيا.

ولاحقاً، أكمل تعليمه الجامعي إبّان فترة وجوده مع «الناتو» في ألمانيا، وحصل على شهادته الجامعية في الإدارة والعلوم السياسية من جامعة «ماريلاند» الأميركية، وتحديداً من كليتها العالمية التي أسّست لتمكين الجنود الأميركيين من مواصلة تعليمهم في الخارج، ثم أكمل درجتي الماجستير والدكتوراه في قسم العلاقات الدولية بجامعة «بيلكنت» المرموقة في أنقرة.

بعد ذلك، في أعقاب فترة خدمة استمرت 15 سنة بصفوف القوات المسلَّحة، استقال فيدان عام 2001 وهو برتبة ضابط صف، والتحق مباشرة بوزارة الخارجية مستشاراً سياسياً واقتصادياً، ومن ثم عُيّن رئيساً لإدارة «مؤسسة التعاون والتنمية»، التابعة لرئاسة الوزراء، وفي الوقت نفسه عمل مساعداً لمستشار لرئاسة الوزراء، ثم عُيّن مستشاراً للمسؤول عن السياسة الخارجية والأمن الدولي، وبعد ذلك عمل موفَداً خاصاً لرئاسة الوزراء.

اهتمامه بالاستخباراتوهنا يقول الإعلامي التركي أردام أتاي، الذي تابع عمل فيدان عن كثب، لـ«الشرق الأوسط»، إن اهتمام فيدان بالإستخبارات بدأ بعد عودته من مهمته الخارجية مع «الناتو»، وكانت وظيفته الأولى في أنقرة إعداد أطروحة ماجستير حول «الاستخبارات والسياسة الخارجية: مقارنة بين أنظمة الاستخبارات البريطانية والأميركية والتركية». وقد ركزت أطروحته على البحث في الرأي القائل إن «وجود استخبارات قوية ومؤهلة ضرورية لسياسة خارجية ناجحة». وذكر أتاي أن فيدان «فحص الهياكل الاستخباراتية لكل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، اللتين استخدمتا المعلومات الاستخباراتية بنجاح في السياسة الخارجية، ثم أجرى مقارنة مع نظام الاستخبارات التركي، وقدّم بعض الاقتراحات لمزيد من التطوير لنظام عملها». وبعد الانتهاء من أطروحته كانت مهمته الوحيدة هي انتخابه عام 2000 عضواً في الجمعية العامة لمؤسسة «أوياك (OYAK)»، وهي مؤسسة للاستثمار، تابعة للقوات المسلَّحة التركية، وقد استقال من الجيش بمجرد أن أنهى خدمته الإجبارية في عام 2001.

مستشار في سفارة أجنبية

حصل هاكان فيدان على وظيفته الأولى، بعد خلع زيِّه العسكري، وكانت المستشار السياسي والاقتصادي في السفارة الأسترالية بأنقرة. وللعلم، فإن وزير المالية الحالي محمد شيمشك كان بدوره في موقع مُشابه في السفارة الأميركية بأنقرة، وكذلك رئيس لجنة الشؤون الخارجية السابق سعاد كينيكلي أوغلو.

وبدأ فيدان مشوار الصعود السريع عام 2003 عندما عُيّن رئيساً لإدارة التعاون والتنمية التركية «تيكا».

في ذلك الوقت كانت «تيكا» تابعة لوزير الدولة بشير أتالاي، وكان يعمل بالقرب من أتالاي، الذي كانت علاقاته مع عبد الله غل، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية - حينذاك - جيدة، لدرجة أن شائعات انتشرت بأن فيدان سيصبح الأمين العام لرئاسة الجمهورية، عندما يصبح غل رئيساً. غير أن هذا لم يحصل، ذلك أنه أثناء وجود فيدان في «تيكا» لفت انتباه رئيس الوزراء إردوغان - يومذاك - فضمَّه إلى فريقه في عام 2007. وبالفعل، عُيّن نائباً لوكيل رئاسة الوزراء مسؤولاً عن السياسة الخارجية وقضايا الأمن الدولي. وما يستحق الذكر في هذا المجال، أن رئاسة «تيكا»، التي تعمل بالتعاون مع كل من وحدات الشؤون الخارجية والاستخبارات، كانت ملائمة ومناسبة تماماً لفيدان، إذ ركز من خلالها على العلاقات مع البلدان التي ترتبط مع تركيا بعلاقات تاريخية وثقافية، ولا سيما في آسيا الوسطى، ومنها انطلق إلى أفريقيا.

في تلك الفترة، كان أيضاً يرافق مستشار رئاسة الوزراء للسياسة الخارجية أحمد داود أوغلو «وزير الخارجية الأسبق» في رحلاته الإقليمية، كما كان يعمل عن قرب، ويرافق نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية آنذاك عبد الله غل في رحلاته الخارجية، وأيضاً كان يشارك في عدد من الوفود التي تُرافق إردوغان في زياراته خارج تركيا، أو عند استقباله الضيوف الأجانب من رؤساء ومسؤولين.

قانون في 48 ساعة لحماية فيدان

من جهة أخرى، كان فيدان موضع عداء لـ«جماعة فتح الله غولن»، التي تحوّلت من حليف لإردوغان إلى ألدّ أعدائه. وقد تعرّض فيدان لمتابعة دقيقة من الجماعة، حتى إنه اتهمها بالتنصت على مكالماته، وعرض مضمونها في بعض الصحف المعارضة. وقبل تعيينه في عام 2010 مستشاراً للاستخبارات التركية، حصلت حادثة أظهرت النفوذ الذي صار يتمتع به، فقد استدعى قاضي التحقيق في قضية التنظيم السري لـ«حزب العمال الكردستاني» المحظور «بي كي كي»، فيدان؛ للتحقيق معه بوصفه مشتبهاً به مع 4 من قيادات جهاز الاستخبارات، بعد الاشتباه في تقديمه الدعم للحزب الكردستاني المحظور، أو غضّ بصره عن معلومات مسبقة عن عمليات مسلَّحة وهجمات نفّذها الحزب ضد رجال الأمن في تركيا. إلا أن الحكومة عمدت فوراً إلى إرسال قانون يعطي رجال الاستخبارات الحصانة من الإدلاء بأقوالهم أمام المحاكم الجنائية. وجرى إقرار القانون في البرلمان، خلال 48 ساعة فقط، رغم انتقادات المعارضة.

تغيير في الاستخبارات

وعلى الرغم من الاتهامات، استخدم فيدان القوة التي حصل عليها من دعم إردوغان، لإعادة هيكلة جهاز الاستخبارات، وكان من إنجازاته إنشاء «قسم المصادر المفتوحة»، وكان أعظم إنجازاته - كما يقول أردام أتاي - إنهاء المعركة الاستخباراتية بين الجهاز ورئاسة الأركان والدرك، إذ جرى تشكيل «مجلس تنسيق الاستخبارات الوطنية»، وكان مرتاحاً لكونه الرئيس الوحيد بلا منازع، لجميع أجهزة استخبارات الدولة. وما يستحق الإشارة أيضاً أن فيدان هو المستشار الثاني الذي يعتلي ذلك المنصب من خارج المؤسسة الاستخباراتية، إذ كان تبتان جوسال هو المستشار الأول الذي عُيّن من خارج المؤسسة عام 1992.

أخيراً، الرئيس إردوغان كان يريد - وفق الصحف التركية - من تعيين الرجل المقرَّب منه المزيد من تحديث «وكالة الاستخبارات الوطنية»، ومأسستها، وإبعادها عن سطوة العسكر، بما أنه لا يزال 50 في المائة من موظفيها من سِلك الجيش، فعمل فيدان على تقسيم الاستخبارات إلى جهازين؛ أحدهما للداخل، والآخر للخارج، على غرار مكتب التحقيقات الفيدرالي «إف بي آي»، ووكالة الاستخبارات المركزية «سي آي إيه» في الولايات المتحدة؛ وذلك لتعزيز حضور الاستخبارات التركية في المناطق الساخنة، وتلبية حاجات دور تركيا المتنامي، بدءاً من الشرق الأوسط وجيرانها الروس، والقوقاز، وآسيا، وأفريقيا، وحتى الأميركيتين، وأوروبا، وإسرائيل.


الائتلاف الألماني الحاكم ماض ٍقدماً بتعديلاته على «قانون الجنسية»

المستشار الاشتراكي أولاف شولتز ... يقود حملة التغييرات على قانون الجنسية (د.ب.أ)
المستشار الاشتراكي أولاف شولتز ... يقود حملة التغييرات على قانون الجنسية (د.ب.أ)
TT

الائتلاف الألماني الحاكم ماض ٍقدماً بتعديلاته على «قانون الجنسية»

المستشار الاشتراكي أولاف شولتز ... يقود حملة التغييرات على قانون الجنسية (د.ب.أ)
المستشار الاشتراكي أولاف شولتز ... يقود حملة التغييرات على قانون الجنسية (د.ب.أ)

تشهد ألمانيا منذ عقود تحولات كبيرة في ديموغرافيتها جعلتها اليوم «دولة مهاجرين» بحق، وذلك بعدما بات أكثر من 27 في المائة من سكانها ذوي خلفية مهاجرة، حسب إحصاءات رسمية في العام 2021. ولكن، مع هذا ما زالت القوانين الألمانية لا تعكس هذا الواقع؛ إذ إن تشدد شروط الجنسية وفرض التخلي عن الجنسية الأصلية، يعنيان أن أكثر من 10 ملايين شخص يعيشون في بلد الـ83 مليوناً من دون أن يحملوا جنسية البلاد أو يتمتّعوا بحقوق المواطنين الألمان أو يشاركوا في الحياة السياسية. ولعل الفئة الأكثر تأثراً بشروط الجنسية المشددة هم الأتراك الذين يقارب عددهم الـ4 ملايين في ألمانيا، نصفهم لا يحمل الجنسية الألمانية والسبب رفضهم التخلي عن جنسيتهم التركية. إلا أن هذا الوضع يقترب أخيراً من نهايته في أعقاب تحضير الحكومة الاتحادية في برلين لطرح قانون تجنيس جديد يسمح بازدواجية الجنسية كما يخفف شروط التقدّم للحصول على الجواز الألماني.

مسعود أوزل، نجم كرة القدم الألماني العالمي، المتحدة من أصول تركية (د ب أ)

الحكومة الألمانية الحالية، التي يقودها اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي بمشاركة حزبي «الخضر» والديمقراطيين الأحرار (الليبراليون)، اتفقت على تقصير المهلة الزمنية للسماح للأشخاص بالتقدم للحصول على جنسية، فباتت 5 سنوات من العيش في ألمانيا عوضاً عن 8 سنوات كما ينص القانون الحالي، وحتى إلى 3 سنوات في حال إثبات المتقدم تمتعه بمستوى لغة مرتفع. والعنصر الأهم تسهيل إجراءات التقدم للحصول على الجنسية الألمانية للأتراك الذين جاءوا عمالاً مهاجرين بعد الحرب العالمية الثانية وبقوا في ألمانيا من دون أن يحملوا جنسيتها. ومن ناحية أخرى، سيعفي القانون الجديد أولئك الذين هم فوق سن الـ67 منهم من شرط التقدم لامتحان اللغة المكتوب، ولن يفرض عليهم سوى اجتياز الامتحان الشفهي.

ثمة سؤال يُطرح الآن، هو... هل ستصبح ألمانيا بهذا القانون، الذي من المفترض أن يصوّت عليه البرلمان خلال الصيف أو الخريف المقبلين، دولة تحتضن حقاً إرثها العرقي المتنوع؟

«لا أكترث كثيراً بالتقدم للحصول على جنسية ألمانية، أنا سعيد بجوازي التركي»... يقول ليفانت بلغة ألمانية طليقة، وهو ينقل معدات للطلاء قبل أن يبدأ العمل داخل شقة في منطقة كرويتسبيرغ ببرلين. وبالفعل، يمضي ليفانت، عامل البناء الخمسيني الذي يعمل ويقيم في برلين، الكثير من الوقت في تركيا، حيث ما زال لديه أفراد من عائلته والكثير من الأصدقاء. أما أولاده الذين وُلدوا في ألمانيا فقد حصلوا على الجنسية الألمانية، وما زالوا يحتفظون بجنسيتهم التركية؛ لأن القانون الحالي لا يجبرهم على اختيار إحدى الجنسيتين إلا عندما بلوغ سن الـ23.

رشا نصر، النائبة الاشتراكية في "البوندستاغ"، وهي متحدرة من اصول سورية (موقع "البوندستاغ")

تعديل عام 1999

الواقع أن قانون الجنسية الألماني المعدّل عام 1999 أتاح لأولاد ليفانت الحصول على الجواز الألماني بعد 8 سنوات من إثبات سكن الوالدين في ألمانيا، وهذه المدة قلصت من 15 سنة قبل تعديل القانون آنذاك. وللعلم، حتى عقد التسعينات لم يكن أمام الأجانب المولودين في ألمانيا أي سبيل للحصول على الجنسية الألمانية. ولم يُعدَّل القانون إلا في العام 1993 للمرة الأولى من أجل السماح لأولاد المهاجرين الذين يثبتون أنهم يعيشون في ألمانيا منذ 15 سنة، بالتقدم للحصول على الجنسية. أما قبل ذلك فلم يكن ممكناً الحصول على الجواز الألماني إلا باثبات صلة الدم، أي من أحد الوالدين.

بعدها، عام 1999 عندما وصل الاشتراكيون إلى السلطة، وشكّلوا الحكومة الاتحادية مع حزب «الخضر»، أرادوا إدخال تعديلات إضافية على قانون الجنسية تشمل السماح بازدواجية الجنسية وتغييرات أخرى كانت ستمنح حق الجنسية للمولودين في ألمانيا لأهالٍ غير ألمان. غير أنهم عجزوا عن إدخال تعديلات جذرية بسبب المعارضة الكبيرة التي واجهوها من قوى اليمين بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ، الذي كانت المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، أمينته العامة آنذاك، ثم أصبحت زعيمته في العام التالي أي عام 2000. وفي حينه، قاد اليمين المحافظ حملة شرسة لوقف تغييرات الاشتراكيين، وبالأخص، السماح بازدواجية الجنسية، رافعاً شعار «نعم للاندماج، لا لازدواجية الجنسية»، وجمع 5 ملايين توقيع رافض لتلك التغييرات.

وفي نهاية الأمر، اضطر الاشتراكيون إلى التخلي عن الكثير من تغييراتهم، وجرى تمرير القانون بعد الاكتفاء ببعض التعديلات البسيطة منها السماح لأولاد المهاجرين الذين يولدون في ألمانيا بالحصول على الجنسية الألمانية بعد 8 سنوات عوضاً عن 15 سنة من إثبات سكن الوالدين. بل واقترن هذا الشرط بضرورة أن يختار الشخص المولود في ألمانيا عندما يبلغ سن الـ23 الجنسية التي يريد الاحتفاظ بها حصراً.

ولكن في العام 2014، أُدخل تعديل جديد حول هذه النقطة بإصرار من الاشتراكيين، الذين كانوا الشريك الأصغر في الائتلاف الحكومي بقيادة ميركل، ألغى شرط الاختيار بين الجنسيتين فقط للمولودين في ألمانيا.

ومن ثم، سمح القانون المعدل عام 1999 بوجود الجنسية المزدوجة فقط لمواطني دول الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي ما زال صالحاً حتى اليوم. ولكن، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، شهدت دوائر الهجرة في ألمانيا ارتفاعاً بخمسة أضعاف في أعداد المتقدمين البريطانيين للحصول على الجنسية الألمانية قبل انتهاء المهلة الانتقالية التي ستخرج فيها بلادهم رسمياً من الاتحاد؛ وذلك تفادياً لاضطرارهم إلى التخلي عن جنسيتهم البريطانية.

الوزيرة نانسي فايزر (آ ف ب)

خلافات حزبية مبدئية

كثيرون من الأتراك الذي يعيشون في ألمانيا يرفضون، مثل ليفنات، التخلي عن جوازهم التركي لصالح الجواز الألماني. وهنا نشير إلى أن معظم أفراد الجيل الأول من الأتراك - الذين جاءوا عمالاً بعد الحرب للمساعدة في جهود إعادة البناء وإطلاق عجلة الاقتصاد - لا يحملون الجنسية الألمانية لأنهم لم يتمكنوا من استيفاء شروط اللغة. ذلك أن مدارس تعليم اللغة لم تكن موجودة أو نادرة في الخمسينات، على الرغم من أن معظمهم يجيد التخاطب الشفهي ولكن ليس الكتابة.

وحقاً، لعقود خلت ظلت الجالية التركية عبر ممثليها في ألمانيا تطالب بتسهيل منح الجوازات للأتراك والسماح بازدواجية الجنسية، ولكن الديمقراطيين المسيحيين أصرّوا على موقفهم، رافضين إقرار أي تعديلات أو تغييرات، وواصلوا عرقلة المساعي التي تبذلها الأحزاب الأخرى لتلك الغاية. وما يستحق الذكر، أنه منذ محاولة الاشتراكيين الأخيرة عام 1999، حصلت محاولات على مستوى الولايات التي تضم جاليات تركية كبيرة، مثل برلين وهيسن (التي تضم مدينة فرانكفورت)، لتغيير القوانين، بيد أن المحاولات لم تؤدِ إلى إنجاز الكثير بسبب معارضة الديمقراطيين المسيحيين. ولذا؛ نجد أنه طوال فترة حكم ميركل - الزعيمة الديمقراطية المسيحية المحافظة - التي قادت 4 حكومات اتحادية متتالية بين العامين 2005 و2021، ظل حزبها يرفض إدخال أي تعديلات على قانون الجنسية.

إلا أن هذا الوضع تغيّر بعد تقاعد ميركل وخسارة حزبها في الانتخابات الأخيرة عام 2021، وعودة الاشتراكيين لقيادة الحكومة بعد غياب 22 سنة. إذ تعهدت الأحزاب الثلاثة التي شكلت الحكومة - أي الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) وحزب «الخضر» البيئي والحزب الديمقراطي الحر الليبرالي - على إدخال تعديلات على قانون الجنسية «يماشي العصر ويكون (متلائماً أكثر) مع المجتمع الألماني.

والآن بعد سنة ونصف السنة من تسلم الحكومة الحالية مهامها، توافقت الأحزاب الثلاثة على شكل هذا القانون الذي قدّمته وزيرة الداخلية الاشتراكية نانسي فايزر إلى أعضاء الحكومة في مارس (آذار) الماضي، وسيناقش في «البوندستاغ» (مجلس النواب الاتحادي - الفيدرالي) خلال الصيف. وعلى الرغم من ارتفاع الأصوات المعارضة من الديمقراطيين المسيحيين وقوى اليمين عموماً، من المتوقع أن يمرّ القانون هذه المرة ويغدو نافذ المفعول في الخريف المقبل بعد أن يُناقَش أيضاً في «البوندسرات» (أي مجلس الولايات، الذي يمثل الأحزاب المشاركة في الولايات الألمانية الـ16 الذي تحظى الأحزاب الثلاثة المشاركة في الحكومة الائتلافية الاتحادية، بغالبية الاصوات فيه (نصف زائد واحد).

في المقابل، لم يكف حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي عن توجيه الانتقادات لخطة الحكومة تلك، وحتى أن نواباً ومسؤولين في الحزب يتكلمون عن «بيع الجواز الألماني» عبر السماح بازدواجية الجنسية. ولا يرفض الحزب فقط هذه النقطة في التغييرات، بل يرفض أيضاً تقصير مهلة السماح للتقدم للحصول على الجنسية من 8 سنوات إلى 5 سنوات. ويرى الحزب اليميني أن «التجنيس يجب أن يأتي في نهاية عملية اندماج ناجحة وليس في بدايتها؛ لأن الاندماج الجيد يحتاج إلى وقت».

على هذا يرد مؤيدو بأن تقصير المهمة والسماح بازدواجية الجنسية من السياسات التي تقرب ألمانيا من سياسات دول غربية أخرى تعتمد المبدأ نفسه. وينتقد الاشتراكيون و«الخضر»، خصوصاً، خصومهم الديمقراطيين المسيحيين وزعيمهم فريدريش ميرتز - الذي يميل إلى الجناح المتطرف في حزبه - ويتهمونه باعتماد «سياسة إقصاء». وكان ميرتز قد تعرض بالفعل لانتقادات شديدة بعدما وصف الطلاب المسلمين في المدارس، من عرب وأتراك، بأنهم «باشاوات صغار». وكان ميرتز يومها يعلق على أحداث رأس السنة الأخيرة التي شهدت اعتداءات على الشرطة من قبل شبان من أصول مهاجرة، وأراد في تعليقه الإضاءة على ضعف اندماج العائلات المسلمة في المجتمع الألماني.

هذا، ويكرّر المستشار شولتس (زعيم الاشتراكيين) نفسه في معرض رده على منتقدي إصلاح قانون التجنيس، بأن في ألمانيا قرابة الـ10 ملايين شخص يعملون ويدفعون الضرائب من دون أن يحملوا الجواز الألماني. ويضيف أن «الديمقراطية تزدهر عندما تتوافر فرص لإسماع الصوت»، في إشارة إلى ضرورة السماح لهؤلاء بالمشاركة في حق الاقتراع والحياة السياسية.

غايات تسريع الاندماج

ولكن، مع أن القانون الجديد يذهب بعيداً في تلبية دعوات الاندماج والانفتاح والإصلاح، فإنه وجّه ببعض الانتقادات من ممثلي الجالية التركية نفسها. إذ رحّب أمين عام «الجالية التركية في ألمانيا» غوياك صوفو أوغلو بالتغييرات التي تريد الحكومة إدخالها على قانون الجنسية، قائلاً «... وأخيراً ستأتي!»، لكنه سرعان ما أضاف منتقداً «إبقاء الامتحان الشفهي للغة على من يعرفون جيل العمال المهاجرين لا داعي له. كانت ستكون إشارة جيدة لو اعتُمد تسهيل أكبر في عملية للحصول على الجنسية لأولئك الذين ساهموا بإعادة بناء ألمانيا». وانتقد صوفو أوغلو كذلك تشديد القانون بالنسبة للجرائم المتعلقة بمعاداة السامية، قائلاً: «وفق المسودة الحالية، فإن ارتكاب (أفعال) بدافع العنصرية ومعاداة السامية هي لوحدها معيار استبعاد... (أفعال) وليس (جرائم) (!)... وهذا يترك الباب مفتوحاً أمام ما إذا كانت مجرد المشاركة في تظاهرات ضمن إطار حقوق حرية التعبير ستغدو معياراً للإبعاد».

في أي حال، تسعى الحكومة الاتحادية الحالية عبر تغييراتها المقترحة، ليس فقط إلى منح صوت لملايين المواطنين الذين يعيشون في ألمانيا من دون التمتع بكامل الحقوق، بل أيضاً تريد جذب مزيد من الأيدي العاملة التي تحتاج إليها البلاد بصورة ماسة وبشكل عاجل، وخاصة في مجالات الطب والتعليم. وهي تأمل أن تجذب تغييرات قانون الجنسية أعداداً أكبر من هذه الفئات لسد ثغرات كبيرة في المهارات المطلوبة.

غير أن البعض يحذر من أن ألمانيا ستكون في حاجة إلى أكثر من مجرد تعديل القانون لجذب هذه المهارات. فقد كتبت صحيفة «نويه أوزنابروك» أن ألمانيا «تحتاج إلى أكثر من مجرد قانون هجرة جذاب... إنها في حاجة إلى ثقافة ترحيبية تنقصها حتى الآن». وأضافت الصحيفة أن النقاش حول التجنيس والاندماج نقاش حساس، «لكن القانون شيء وما يعيشه الأشخاص من ذوات الخلفية المهاجرة في حياتهم اليومية في ألمانيا هو شيء آخر».

وتابعت الصحيفة شارحة «أي شخص اسمه ليس ماير أو مولر، غالباً، ما يواجه تمييزاً ضده. فمثلاً أثناء البحث عن وظيفة أو السفر في القطار وفي العمل أو عند التبضع أو التعامل مع السلطات... ليس مهماً إذا كنت مولوداً هنا أم لا». واستطردت من ثم «ما تحتاج إليه ألمانيا إلى جانب تغيير القوانين... هو ثقافة الترحيب، وهذا لا يمكن تغييره بالقوانين، بل يعتمد على المقاربة الشخصية، وعلى ألا ننظر إلى الطبيب أو الممرضة وغيرهم على أنه متضرّع يتسوّل وظيفة، بل النظر إليه كمواطن يؤدي دوره لضمان دوران عجلة المجتمع».

آليس فايدل وتينو شروبالا، الزعيمان بالشراكة لحزب "البديل لألمانيا" اليميني المتطرف (أ ب)

مخاوف من استفادة «البديل لألمانيا» المتطرف وسط الجدل المحتدم حول الجنسية والاندماج

> وسط كل الجدل حول قانون الجنسية الألماني، والتغييرات المقترحة عليه، يخشى كثيرون من الألمان أن تستغل الأصوات اليمينية المتطرفة هذا القانون الجديد لكسب المزيد من الأصوات، كما حصل بعد موجة اللاجئين السوريين عام 2015. فالكل يتذكّر في تلك الفترة كيف نجح حزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف بدخول «البوندستاغ» (مجلس النواب الاتحادي) للمرة الأولى في العام 2017.

في حينه، بات أول حزب ألماني يميني متطرف يعود إلى البرلمان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولقد بنى الحزب حملته آنذاك على مشاعر الكراهية والعداء للمهاجرين والمسلمين. وراهناً، تظهر استطلاعات الرأي في ألمانيا تقدم حزب «البديل لألمانيا» في الولايات الشرقية (ألمانيا الشرقية سابقاً) التي كانت تحت سيطرة السوفيات قبل الوحدة اللألمانية.

وهنا نشير إلى جميع الأحزاب الألمانية، حتى الآن، ترفض الدخول في أي ائتلاف حكومي مع حزب «البديل لألمانيا» سواءً على مستوى كل ولاية أو مستوى البلاد ككل. إلا أن هذا الوضع قد يتسبب بمشاكل معقدة قريباً، وبالذات، على الصعيد الولايات، في حال حافظ الحزب اليميني المتطرف على تقدمه في الاستطلاعات وترجمتها نتائج حقيقية في الانتخابات.

الاختبار الأول في الولايات الشرقية خلال العام المقبل سيكون مع الانتخابات المحلية المقرّرة في ولايات ثورينجيا وساكسونيا وبراندنبرغ. وحسب أحدث الاستطلاعات في هذه الولايات، فإن «البديل لألمانيا» يتبوأ الصدارة في كل منها ولكن من دون الحصول على الغالبية المطلقة التي تمكنه من الحكم منفرداً، ما يعني بأنه سيتوجب عليه تشكيل ائتلافات مع أحد الأحزاب الأخرى.

ولكن في حال ظلت الأحزاب الأخرى متمسكة برفضها التحالف، ولو مؤقتاً مع «البديل لألمانيا»، قد تواجه هذه الولايات مأزقاً شديداً وسط مخاوف من أنها قد تصبح «غير قابلة للحكم»، خاصةً، وأن الأحزاب الأخرى مجتمعة قد لا تكون لديها هي الأخرى غالبية كافية كذلك للحكم. ثم أن حزب «البديل لألمانيا» لا يستفيد فقط من النقاش الدائر حالياً حول المهاجرين، بل يستفيد من الحرب في أوكرانيا، إذ حيث تتزايد الدعوات في صفوف الحزب المتطرف لوقف «نشر العداء لروسيا» ووقف التورط في «حرب ليست حربنا».

بيد أنه، على الرغم من كل هذه المخاوف، تتجه ألمانيا لأن تصبح - على الأقل بحسب القانون - دولة «أكثر احتواءً لتنوّعها» وقبولها للمهاجرين الذين باتوا يشكلون جزءاً أساسياً من المجتمع، وهذا ينعكس كذلك في «البوندستاغ» حيث يوجد واحد من أصل 9 نواب من خلفية مهاجرة. ومعظم هؤلاء ينتمون إما إلى حزب «الخضر» أو إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي)، بينما يظل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي «الأقل تلوّناً» من بين الأحزاب الكبيرة الثلاثة.

حقائق

سمح القانون المعدل عام 1999 بوجود الجنسية المزدوجة فقط لمواطني دول الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي ما زال صالحاً حتى اليوم


تساؤلات وتحديات بعد الفوز الكبير لأحزاب المعارضة التايلاندية

بيتا ليمجارونرات... زعيم حزب «التحرك نحو الأمام» يحيي مناصريه (رويترز)
بيتا ليمجارونرات... زعيم حزب «التحرك نحو الأمام» يحيي مناصريه (رويترز)
TT

تساؤلات وتحديات بعد الفوز الكبير لأحزاب المعارضة التايلاندية

بيتا ليمجارونرات... زعيم حزب «التحرك نحو الأمام» يحيي مناصريه (رويترز)
بيتا ليمجارونرات... زعيم حزب «التحرك نحو الأمام» يحيي مناصريه (رويترز)

تشكّل نتائج الانتخابات الأخيرة في تايلاند بداية حقبة جديدة، وقد جاءت بمثابة حكم صادم وقوي من جانب قرابة 40 مليون ناخب تايلاندي ضد هيمنة العسكريين على المشهد السياسي بالبلاد. المؤسسة العسكرية سيطرت على حكم تايلاند معظم الفترة منذ عام 1947، وإن تخللت هذه السنوات فترات قليلة تولت خلالها السلطة حكومات منتخبة ديمقراطياً. ولكن في السنوات الأخيرة، واجهت المملكة الواقعة في جنوب شرقي آسيا اضطرابات سياسية ومشكلات اقتصادية، في حين تعرّض النظام لتحديات كبيرة، في الوقت الذي تراجعت فيه شعبية رئيس الوزراء. يقدر عدد سكان تايلاند بـ70 مليون نسمة، وعُرفت تاريخياً باسم سيام، وتعيش تحت نظام حكم ملكي دستوري، وتعد البلد الوحيد في جنوب شرقي آسيا الذي نجا من الحكم الاستعماري. وجرى إعلان ماها فاجيرالونغكورن، الملك التايلاندي العاشر من سلالة تشاكري، ملكاً على البلاد في ديسمبر (كانون الأول) 2016. وتولّى الملك الحالي العرش خلفاً لوالده الملك بوميبول أدولياديغ، أطول ملوك العالم حكماً في ذلك الوقت، الذي توفي في أكتوبر (تشرين الأول) من ذلك العام.

ثمة احتمال لأن تصبح الانتخابات العامة التي شهدتها تايلاند يوم 14 مايو (أيار) الماضي الحدث السياسي الأبرز في تاريخها منذ منتصف السبعينات، حين أطاحت حركة مؤيدة للديمقراطية لأول مرة بالنظام العسكري الحاكم.

حصيلة الانتخابات الأخيرة كانت أشبه بزلزال سياسي، إذ اختار الناخبون التايلانديون بغالبية كاسحة اثنين من الأحزاب الديمقراطية هما «التحرك نحو الأمام» و«بويا تاي». وحصد الحزبان معاً أكثر من ثلاثة أخماس مقاعد مجلس النواب، جامعَين نحو 25 مليون صوت.

نجم حزب «التحرك نحو الأمام» لمع بوصفه أكبر كتلة سياسية في تايلاند، باستحواذه على 152 مقعداً، تلاه «بويا تاي» بـ141 مقعداً، داخل البرلمان البالغ إجمالي مقاعده 500. ولم يقترب أي حزب آخر من الإنجاز المزدوج الذي حققه هذا الحزبان.

بيتا ليمجارونرات (42 سنة) الذي تلقى تعليمه بجامعتي هارفارد والـ«إم آي تي» الأميركيتين العريقتين، هو زعيم حزب «التحرك نحو الأمام»، الذي يتبع أفكاراً تقدمية، ولقد نجح في استغلال شعبيته في صفوف الناخبين الشباب الساخطين والراغبين في التغيير.

بايتونغتارن شيناواترا (أ.ف.ب - غيتي)

أما «بويا تاي»، فإنه حزب شعبوي تقوده بايتونغتارن شيناواترا (36 سنة)، وهي ابنة رئيس الوزراء السابق والملياردير الشعبوي ثاكسين شيناواترا. ويستقي هذا الحزب دعمه من الطبقة العاملة في الريف والحضر، خصوصاً بالمناطق الواقعة شمال وشمال شرقي البلاد. وكانت شعبية هذين الزعيمين قد تصاعدت كثيراً في مواجهة المؤسسة العسكرية خلال العقدين الماضيين.

في المقابل، حصل الجنرال برايوت تشان أوتشا (69 سنة)، الذي أطاح عام 2014 بالحكومة المدنية المنتخبة ديمقراطياً بقيادة زعيمة «بويا تاي»، ينغلوك شيناواترا (وهي أخت ثاكسين) على نسبة هزيلة بلغت 7 في المائة من الأصوات، وحصل الائتلاف الحاكم المؤلف من أحزاب عسكرية على 77 مقعداً فقط. وهو ما يشكل تراجعاً كبيراً عن الـ116 مقعداً التي كان فاز بها الائتلاف في انتخابات 2019. ويذكر أن ينغلوك شيناواترا كانت أول امرأة تتولى رئاسة الحكومة، قبل الانقلاب العسكري الذي نفذه الجنرال برايوت وبعده عيّن نفسه رئيساً للوزراء. وهنا نشير إلى أن برايوت حرص باستمرار على تأكيد دعمه للعائلة المالكة التايلاندية، بينما اتخذت المؤسسة العسكرية إجراءات قمعية صارمة ضد أي تحرك ضد «حكومتها».

هل ستشكَّل حكومة؟

عادة ما تستغرق الإجراءات البرلمانية في تايلاند أشهراً عدة قبل أن تتشكل الحكومة الجديدة وتتولى السلطة. وأمام لجنة الانتخابات في تايلاند ما يصل إلى 60 يوماً للمصادقة رسمياً على نتائج الانتخابات العامة هذا العام. وبعد ذلك، يجتمع البرلمان بدوره للمصادقة على الحكومة الجديدة.

وينص الدستور على ضرورة انعقاد الجلسة الأولى لمجلس النواب في غضون 15 يوماً بعد إعلان لجنة الانتخابات نتائج الانتخابات الرسمية، وذلك لانتخاب رئيس مجلس النواب الجديد، الذي سيكون أيضاً رئيساً للبرلمان التايلاندي، ومن المعتقد أن يوافق ذلك 13 يوليو (تموز) المقبل. ويعني هذا أن جلسة مشتركة لمجلس النواب المكون من 500 مقعد، ومجلس الشيوخ المؤلف من 250 مقعداً، ستُعقد في يوليو؛ لاختيار رئيس الوزراء الجديد.

يضم مجلس النواب (الغرفة الأدنى من البرلمان) إجمالي 500 مقعد، منها 400 مقعد متاحة أمام الدوائر الانتخابية و100 مقعد بنظام «القائمة الحزبية» (مقاعد تفوز بها الأحزاب على أساس نصيبها من الأصوات الوطنية). ولقد أعلن بيتا، زعيم حزب «التحرك نحو الأمام»، جاهزيته لتولي منصب رئيس الوزراء الثلاثين لتايلاند، وتشكيل حكومة ائتلافية من 8 أحزاب حليفة داعمة للديمقراطية هي: «بويا تاي» و«براشاشات» و«ثاي سانغ ثاي» و«سيري روام ثاي» (ثاي الليبرالي) و«فير» و«بلونغ سونغكوم ماي» (القوة الجديدة) و«بيو ثاي رومفلانغ».

داخل مجلس النواب، لدى هذا الائتلاف الآن 313 صوتاً من 500 صوت. ولقد وافق أعضاء الائتلاف رسمياً على العمل معاً من خلال توقيع مذكرة تفاهم، تتضمن سياسات مكوناته الجديدة، وأعربوا عن رغبتهم في قيادة الحكومة القادمة. كذلك أعربت أحزاب الائتلاف رفضها السلطة المطلقة في البلاد، ووعدت بإجراء إصلاحات حال وصولها للسلطة.

أثناء التوقيع على مذكرة التفاهم، قال بيتا: «يتعلق اليوم بإقرار بداية جيدة، وعلينا أن نعمل معاً للمضي قدماً نحو إعلان سياساتنا بعد أن أتولى منصب رئيس الوزراء. لذا، فإن اليوم ليس سوى الخطوة الأولى». وأضاف أمام حشد من الصحافيين: «هناك كثير من الخطوات التالية الفورية التي تتبع ذلك، ومن المحتمل أن يفسر ذلك بشكل أفضل قليلاً كيفية إحداث التغيير».

ولكن على الرغم من الدعم الساحق، فإن معلقين سياسيين يشيرون لوجود مخاوف في صفوف مؤيدي الائتلاف، من إمكانية استغلال المعارضين المتحالفين مع الجيش مجلس الشيوخ، غير المنتخب، لمنع أعضاء الائتلاف من تولي مناصب. ويذكر أنه بموجب دستور تايلاند لعام 2017 الذي صيغ في ظل الحكم العسكري بعد انقلاب عام 2014، يتوجب على مجلسي البرلمان التصويت لاختيار رئيس وزراء جديد.

دستور 2017

تبعاً للدستور الذي أقره المجلس العسكري عام 2017، يجب انتخاب رئيس الوزراء، إضافة إلى 250 من أعضاء مجلس الشيوخ المعينين من قبل المجلس العسكري الملكي. ولتجاوز مجلس الشيوخ، سيحتاج بيتا إلى دعم 376 نائباً بالبرلمان. وهو أمر متعذّر من دون ضم حزب «بهومغايتاي»، الصديق للمجلس العسكري وصاحب التوجهات المحافظة.

هذا يعني أنه لا يزال بإمكان المؤسسة العسكرية الاضطلاع بدور رئيسي في تحديد الحكومة، مع فشل الائتلاف بالفوز بالغالبية المطلوبة وهي 376 مقعداً. وعلى الرغم من أن الائتلاف الجديد يأمل في أن تضغط المقاعد المشتركة في الحكومة على مجلس الشيوخ للتصويت لصالحه، فإن محللين يرون أن بيتا (المرشح الأبرز لتولي رئاسة الوزراء إذا شكّل الائتلاف الذي يقوده حزبه الحكومة) قد يصار إلى استهدافه، بل وإبعاده إذا قبلت «لجنة الانتخابات» شكوى بأنه لم يبع أسهماً يمتلكها في شركة إعلامية قبل إطلاق حملته الانتخابية، وهو ما يشكل خرقاً للقواعد ـ المصير ذاته الذي لقيه مؤسس حزبه عام 2019. ولقد تقدم بالفعل مرشح لحزب «فالانغ براشاراث»، المدعوم من المؤسسة العسكرية، بشكوى إلى لجنة الانتخابات واللجنة الوطنية لمكافحة الفساد، متهماً بيتا بأنه لم يدرج الأسهم التي يملكها في الشركة المذكورة في البيان الرسمي الذي قدمه بخصوص الأصول المملوكة له. لكن بيتا أنكر اقتراف أية مخالفة، وقال إن الاتهام الموجه له يقوم على نقطة فنية صغيرة.

من ناحية ثانية، رغم توجيه حزب «بويا تاي» الشعبوي دعوات قوية لتشكيل حكومة بقيادة حزب «التحرك نحو الأمام»، يرى محللون أن الحزب قد يتحالف مع حزب «بهومغايتاي»، الذي جاء في المركز الثالث، بجانب المؤسسة العسكرية والحزب الحاكم المدعوم من العائلة المالكة، «فالانغ براشاراث»، والذي بمقدوره بسهولة الحصول على دعم 270 من أعضاء مجلس الشيوخ.

ومع ذلك، يعتقد محللون بأن الجيش لن يعجبه عودة العائلة السياسية لرئيس الوزراء السابق ثاكسين شيناواترا، عبر حزبها «بويا تاي»، بعدما تحولت لشبح يطارد المؤسسة العسكرية والنخب الموالية للملكية منذ عام 2001. وبالتالي، في غياب حل وسط، قد تعاني تايلاند من مأزق غياب حكومة عاملة على امتداد شهور، خصوصاً أن الدستور لا ينص على موعد نهائي لتشكيل الحكومة.

الاضطرابات والجيش والعرش

على مدى عقود، لجأ حكام تايلاند العسكريون إلى الانقلابات والأحكام القضائية لإبقاء المعارضين المنتخبين بعيداً عن السلطة. وعلى الرغم من إقرار الحكم المدني رسمياً في تايلاند عام 1992، فإن الجيش التايلاندي ما زال مؤسسة مؤثرة وقادرة على تأجيل الإصلاح السياسي.

ما يستحق الإشارة إليه أنه في عام 1932 انتهت المَلَكية المطلقة بعد الثورة السيامية. ولكن، مع ذلك احتفظ العرش التايلاندي بمكانة مميزة في المجتمع، وبنفوذ هائل في الحكومة، ولطالما بقيت المؤسسة الملكية محصنة ضد النقد العام، من خلال نص القانون. ولكن، منذ ذلك الحين، دبر الجيش التايلاندي 22 انقلاباً، نجح 13 منها، وأجرى 20 تعديلاً دستورياً منذ قيام الدولة.

وعلى مدار سنوات، شكلت المواجهة بين الجنرالات العسكريين، والسياسيين والنشطاء المدنيين، السبب الجذري وراء غياب الاستقرار باستمرار عن البلاد.

أول حكومة منتخبة

عام 2001، أصبحت لدى تايلاند أول حكومة منتخبة استكملت فترة ولاية مدتها 4 سنوات، تحت قيادة ثاكسين شيناواترا، رجل الشرطة الذي تحوّل إلى رجل أعمال عملاق بمجال الاتصالات، الذي قاد موجة شعبوية للفوز مع حزبه «تاي راك تاي» (التايلانديون يحبون التايلانديين). ووعد حزبه بتحقيق استقرار في الاقتصاد، وتقديم رعاية صحية شاملة، وتخفيف ديون المزارعين، وتوفير تمويل لتحقيق تنمية بالقرى.

مع ذلك، أشعلت حرب ثاكسين المثيرة للجدل على المخدرات بجنوب البلاد ذي الغالبية المسلمة، جولة جديدة من أعمال التمرد. وعلى الرغم من اكتساح ثاكسين انتخابات عام 2005، سرعان ما هزت حكومته فضيحة مالية واحتجاجات لاحقة، فاضطر للدعوة إلى انتخابات جديدة. ومن ثم أُطيح به بعد أشهر في انقلاب مرّ دون إراقة للدماء.

الجنرال برايوت تشان أوتشا (أ.ف.ب - غيتي)

فترة ما بعد عام 2006 توصف عادةً بأنها «العقد الضائع» في تايلاند. ومع وجود ثاكسين في المنفى الذاتي وعزل خلفائه من قبل المحاكم، شهدت تايلاند عام 2010 أعنف حملة قمع ضد المتظاهرين، أُطلق عليها حملة «القمصان الحمر»، بقيادة رئيس الوزراء الحالي - الذي كان جنرالاً حينها - برايوت تشان أوتشا. وسلطت سنوات الاحتجاج الضوء على الانقسام الاجتماعي العميق بين فقراء الريف والطبقات الوسطى والعليا الأكثر ثراءً في العاصمة (بانكوك).

بعدها، عام 2011، أصبحت ينغلوك، شقيقة ثاكسين الصغرى، أول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في تايلاند، لكن حكومتها واجهت هي الأخرى احتجاجات في خضم مساعيها لاستصدار عفو عن أخيها المنفي يومذاك. وأدى ذلك إلى انقلاب عسكري آخر وإعلان الأحكام العرفية عام 2014 لحجة إحلال الاستقرار. وعام 2017، أقر الجيش دستوراً جديداً يسمح له بتعيين 250 عضواً في مجلس الشيوخ الذي سيلعب دوراً في اختيار رئيس الوزراء.

تجربة... وسخط

انتخابات 14 مايو 2019 التي نُظر إليها في البداية بوصفها «تدريباً على نقل السلطة» من المجلس العسكري إلى حكومة منتخبة، أسفرت عن احتفاظ برايوت بالسلطة بعد انتخابات متنازع عليها، ما جدد مشاعر السخط والاستياء. أما الانتخابات الأخيرة، فيصفها أنيل وادوا، السفير الهندي السابق لدى تايلاند، بـ«الحدث السياسي الأكثر أهمية في البلاد منذ منتصف السبعينات، عندما نجحت للمرة الأولى حركة داعمة للديمقراطية في الإطاحة بنظام عسكري حاكم. ومع ذلك، شهدت هذه الانتخابات استخدام الجماهير التايلاندية الوسائل المتاحة للتعبير عن رفضها... وهو رفض تحول إلى حركات احتجاجية كبرى في السنوات الأخيرة. وأكدت نتيجة التصويت رغبة الناخبين في تعزيز المؤسسات الديمقراطية، وفرض مزيد من المساءلة على الجيش والخدمة المدنية، إلى جانب مزيد من المساواة في الفرص الاقتصادية».

=========================

شيخوخة السكان... بين التحديات الكبرى

* تعد تايلاند من أسرع الدول شيخوخة في العالم. ومن بين سكانها البالغ عددهم 70 مليون نسمة، هناك 12 مليون تايلاندي من كبار السن، طبقاً لأحدث تقرير إحصائي وطني. ومنذ عام 2005، جرى تصنيف تايلاند بوصفها «مجتمعاً مسناً»، حيث يمثل الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 60 سنة فما فوق 10 في المائة من السكان. ومن المتوقع أن يرتفع عدد السكان المسنين في البلاد إلى 28 في المائة، وأن تصبح تايلاند «مجتمعاً مسناً للغاية» بحلول العقد المقبل.

ومع التقدم في نظام الرعاية الصحية، يتضح أن أعداد ونسبة الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 60 سنة فما فوق آخذ في الارتفاع في تايلاند والعالم. وما يجدر ذكره أنه عام 2019، كان أكثر من مليار من سكان العالم فوق سن الـ60. ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 1.4 مليار بحلول عام 2030 و2.1 مليار بحلول عام 2050.

في حين أن هذا التحول الديموغرافي يعكس أوجه التقدم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والصحة، فإنه - في المقابل - يطرح كذلك تحديات جديدة. وإدراكاً منهم لهذه التحولات والتحديات الديموغرافية، عمل صناع السياسات والجهات المعنية في جنوب شرقي آسيا على مدار سنوات على إصلاح السياسات والمبادرات لمواجهة التحديات التي تواجه رفاه كبار السن.

=========================

تداعيات جيوسياسية محتملة لانتخابات 2023

* لا يستبعد مراقبون متابعون للشأن السياسي في تايلاند أن تخلف نتائج الانتخابات الأخيرة تداعيات جيوسياسية مهمة للبلاد وللإقليم المحيط بها. ذلك أن تايلاند، التي كانت شريكاً سابقاً للولايات المتحدة طوال سنوات «الحرب الباردة»، هي الدولة الديمقراطية الوحيدة المتعددة الأحزاب في البر الرئيسي لجنوب شرقي آسيا، والتي تخضع في الوقت ذاته لنفوذ الصين.

من جهته، نفى حزب «التحرك نحو الأمام» بشدة تأييده السماح للولايات المتحدة بإنشاء قاعدة عسكرية في تايلاند. ويأتي هذا الجدل في خضم تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين، مع وجود مؤشرات على أن كمبوديا المجاورة لتايلاند تعزز روابطها مع الجيش الصيني. ويتضمن هذا التعزيز، تبعاً لمسؤولين أميركيين، بناء قاعدة بحرية صينية في خليج تايلاند.

في هذا الصدد، أعرب أنيل وادوا عن اعتقاده بأن «الولايات المتحدة لعبت دوراً في الانتخابات العامة في 14 مايو، التي يُنظر إليها بوصفها زلزالاً هزّ أركان المشهد السياسي التايلاندي، ما ترك حزب (التحرك نحو الأمام) في وضع يسمح له بتأسيس ائتلاف يمثل 62 في المائة من أعضاء البرلمان».

ويأتي نفي حزب «التحرك نحو الأمام» في وقت تراجعت فيه الفلبين في عهد رئيسها الحالي فرديناند ماركوس «الابن»، عن سياسة استمرت لعقود سمحت في إطارها للجيش الأميركي بإنشاء قواعد في البلاد، الأمر الذي لا بد من أن يُنظر إليه في إطار تصاعد التوترات العسكرية بين الصين وأميركا ببحر الصين الجنوبي وسياقاته.


القوى السياسية العراقية حائرة بين دعم السوداني والخوف منه

جانب من قمة جدة (رويترز)
جانب من قمة جدة (رويترز)
TT

القوى السياسية العراقية حائرة بين دعم السوداني والخوف منه

جانب من قمة جدة (رويترز)
جانب من قمة جدة (رويترز)

الأجواء التي تهيمن على المشهد السياسي العراقي بعد نحو 7 أشهر على تشكيل الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، تمضي باتجاهات مختلفة تتناقض أحياناً فيها المواقف والرؤى والتطلعات التي كثيراً ما تتناقض بين دعم السوداني من جهة والخوف منه من جهة أخرى. وبين الموقفين المتباينين حيناً والمتناقضين حيناً آخر يبقى موقف زعيم التيار الصدري غامضاً إلى حد بعيد، لا سيما بعد ظهور جماعة دينية متطرفة مذهبياً، هي جماعة «أصحاب القضية». وفي ما يخص موقف الصدر، الذي كان انسحب من البرلمان العام الماضي مع أنه فاز بأكبر عدد من المقاعد في انتخابات أواخر عام 2021، فإنه يرتبط بمواقف قوى الحراك المدني و«قوى تشرين» التي لا تزال تنتظر ما يمكن أن يصدر من الصدر من موقف حيال ما يجري لكي تحدد مسارها اللاحق. ولكن يتضح من خلال ما يجري، أنه بينما تجنّب السوداني إجراءات التغيير التي أحدثها في مختلف مؤسسات الدولة الكوادر الإدارية التي تنتمي إلى التيار الصدري، فإن الصدر لم يأمر هذه الكوادر، ومن بينهم موظفون كبار في الدولة بالانسحاب من الحكومة، مثلما أمر نوابه الانسحاب من البرلمان.

محمد شياع السوداني خلال القمة (رويترز)

طوال الأشهر السبعة الماضية، وعلى الرغم من المواقف العديدة التي اتخذها السيد مقتدى الصدر حيال قضايا عراقية مختلفة - كانت في الغالب دينية واجتماعية وفكرية وسياسية - فهو، على مستوى أدنى، لم يتبن موقفاً واضحاً من حكومة محمد شياع السوداني لا سلباً ولا إيجاباً، وإن كان أشار غير مرة إلى الفساد والفاسدين، الذين يقصد بهم خصومه من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي... باستثناء السوداني.

واستناداً إلى هذه المؤشرات وسواها الكثير، يبدو السوداني في عجلة من أمره لإحداث تغيير كبير في مختلف الميادين والمجالات طبقاً للبرنامج الحكومي الذي شُكّلت حكومته بموجبه. ومع أن رئيس الحكومة يدرك أنه أمام تحديات كبيرة، لا سيما في ما يتعلق بالانتخابات المقبلة. وللعلم، انتخابات مجالس المحافظات مقرّرة بنهاية العام الحالي، أما انتخابات البرلمان فينتظر أن تُجرىَ في وقت لم يحدد بعد، لكنه قابل للتحديد من قِبل الأطراف السياسية طبقاً لما يرتبط بمصالحها الخاصة.

السوداني، بدا جاداً وصارماً في تطبيق برنامجه الحكومي، الذي بدأ الكثير من مفرداته - خصوصاً بالجانب الخدمي - يرى النور ويتحوّل مصدر قبول لدى المواطن العراقي، إلا أن ما يمكن أن يغدو منجزات بارزة للعيان وملموسة في الشارع ولدى المواطن، قد لا يكون بالضرورة مقبولاً ومرضياً عنه لدى الطبقة السياسية.

إن رئيس الحكومة العراقية الذي يسعى لاستثمار أجواء الهدوء في المنطقة، وبالأخص، بعد التفاهم الأخير بين المملكة العربية السعودية وإيران برعاية الصين، يدرك أن أجواء الهدوء باتت بالنسبة للقوى السياسية سلاحاً ذا حدين. فمن جهة تساعد هذه الأجواء في إمكانية استعادة الثقة بين المواطن والطبقة السياسية؛ وهو ما يمكن أن يعزّز رصيد هذه الطبقة في الشارع. غير أنه في المقابل سيرفع رصيد رئيس الحكومة؛ ما يضع قيد الاختبار تلك القوى السياسية، ولا سيما الشيعية منها، التي تولّت ترشيحه للمنصب بوصفها الكتلة البرلمانية الأكبر عدداً.

الرؤية التي تنطلق منها هذه القوى، التي تنضوي تحت تسمية قوى «الإطار التنسيقي الشيعي»، أن رصيد السوداني الجماهيري لن يؤثر على المكوّنين السني والكردي من منطلق أن السوداني الذي يتزعم تياراً ناشئاً اسمه «تيار الفراتين» حاز مقعدين في الانتخابات الماضية، لكنه سيأكل كثيراً من جرف هذه القوى في المناطق والمحافظات الشيعية.

واستناداً إلى هذه الرؤية، فإن التأييد الوطني الذي سيحظى به السوداني في مختلف محافظات العراق سينعكس عليها سلباً، لا سيما أن السوداني في حال شارك في أي انتخابات سيحصل على مقاعد كثيرة. وهذا أمر لا يقلق السنّة والكرد، لكنه يقلق حلفاءه الشيعة.

«الدبلوماسية المُنتجة»

في الحقيقة، منذ تولّى محمد شياع السوداني رئاسة الحكومة، لوحظ أنه رسم طريقاً في التعامل مع المحيط العربي والإقليمي والدولي عبر ما أسماه «الدبلوماسية المنتجة». وهي دبلوماسية تقوم على أساس استثمار الأجواء العامة في المنطقة والعالم بطريقة تجعل من أي تحرك يبنى على قاعدة من التفاهمات الصحيحة التي تؤدي في النهاية إلى مُخرجات سليمة.

وبناءً عليه؛ في ضوء تنامي العلاقة بين المملكة العربية السعودية وإيران بعد توقيع الاتفاق بينهما الذي كان لبغداد دور بارز، أكد السوداني عبر اتصال هاتفي مع ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان، على أهمية استثمار أجواء الهدوء السياسي الذي تمر به المنطقة، والذي يسمح بإمكانية طرح مشاريع كبرى. وهذا بالضبط ما فعله أثناء مشاركته في «قمة جدة» أخيراً، حين دعا إلى تشكيل تكتل اقتصادي عربي. وكذلك دعا في جدة إلى تطبيق ما أسماه «طريق الحرير»، الذي جرى بالفعل الإعلان عنه الأسبوع الماضي عبر مؤتمر لوزراء النقل لدول الخليج العربي ودول الجوار الجغرافي للعراق.

بشأن مدى ما يمكن أن تحققه الدبلوماسية المنتجة من نتائج إيجابية للعراق والمنطقة، حاورت «الشرق الأوسط» الأكاديمي العراقي الدكتور إحسان الشمّري، رئيس مركز التفكير السياسي. وممّا قاله الشمري أن «دبلوماسية الهاتف تأتي في إطار تنسيق المواقف بين العراق من جهة والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى، خصوصاً أن العراق بات يستشعر الاستقرار في المنطقة نتيجة المصالحة ما بين السعودية وإيران... المملكة العربية السعودية تقدم حزم مبادرات من أجل استقرار المنطقة، وهذا يصب في مصلحة العراق بشكل مباشر وغير مباشر، من منطلق أن استقرار المنطقة سيساهم على استقرار داخلي في العراق على كل المستويات».

وأضاف الشمّري «هناك أمر آخر يؤكد مواصلة العراق العمل على بناء علاقات جيدة مع المنظومة العربية، وبالذات مع المملكة العربية السعودية كدولة ضامنة. إذ لا بد للعراق أن يعتبر السعودية دولة ضامنة يمكن أن تكون مساهمة بفاعلية في إزالة الأزمات وتفكيك الأزمات الاقتصادية في الداخل العراقي».

أما أستاذ الإعلام الدولي الدكتور غالب الدعمي، فقال في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إن «هناك هدوءاً كبيراً في المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط؛ وهو ما يساعد العراق على لعب دور في سياق استثمار هذا الهدوء عبر بناء علاقات متوازنة». وأردف الدعمي «في هذا الوقت، بالذات، يمثل العراق نقطة اللقاء بين المنطقة العربية وإيران... ذلك أنه يملك علاقات جيدة مع إيران، وكذلك لديه علاقات بدأت تتحسن مع الدول العربية، ولا سيما الدول الخليجية منها. وبالتالي، فإن الطريق الأقرب لنمو هذه العلاقات تمر عبر العراق، ومن ثم، فهدوء العراق واستقراره إنما هما جزء من هذا الهدوء».

وفي سياق متصل، اعتبر الدعمي أن تحسن العلاقات بين دول الخليج العربي إيران ينعكس إيجاباً بالعراق. وقال إنه «عندما يتحقق الاستقرار يبدأ الاستثمار... حيث تنطلق المشاريع الصناعية والزراعية وغيرها من المشاريع الكبرى. ونحن في العراق بأمس الحاجة إلى ذلك... وعلى وجه الخصوص، في مناطق البصرة والمثنى ونينوى وديالى وصلاح الدين، وغيرها من المناطق والمحافظات في العراق».

التنمية «طريق حرير» عراقية الهوية

على صعيد ثانٍ، في بغداد، لبّت عشر دول عربية وشرق أوسطية ممثلة بوزراء النقل فيها، هي دول الخليج العربي الست، ودول «الجوار الجغرافي» للعراق - أي سوريا والأردن وإيران وتركيا - الدعوة التي أطلقها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني.

السوداني كان قد أطلق في جدة، من خلال كلمته أمام «القمة العربية» الأخيرة، دعوة إلى عقد مؤتمر لوزراء النقل في هذه الدول الخليجية و«الجوارية» العشر؛ وذلك بهدف إطلاق ما أسماه مشروع «طريق التنمية» أو القناة الجافة. وهذه الطريق - أو القناة الجافة - التي تمتد على مسافة 1200كم من ميناء الفاو الكبير بمحافظة البصرة في أقصى الجنوب العراقي إلى أقصى الشمال العراقي من جهة محافظة نينوى. ومن محافظة نينوى إلى تركيا ومن إلى أوروبا.

وتشمل هذه «الطريق - القناة» خط سكك حديدية وطريقاً برّية لنقل البضائع تضاهي إلى حد كبير مبادرة «الحزام والطريق» الصينية... ولكن بنسخة عراقية. ومما ذكره السوداني خلال كلمته في قمة جدة أن «العراق سيستضيف مؤتمرات عدةً، منها مؤتمر (بغداد 2023) للتكامل الاقتصادي والاستقرار الإقليمي». وذلك قبل أن يدعو القادة العرب جميعاً، إلى عقد القمة العربية لعام 2025 في بغداد، «التي تتطلع إلى احتضان الأشقّاء العرب في بلاد الرافدين».

رئيس الحكومة العراقي أورد في مقاله الذي نشرته «الشرق الأوسط» قبل يومين من عقد القمة العربية، القول «... بدأنا العملَ على مشروع طريق التنمية الاستراتيجي لربط ميناء الفاو مع الحدود التركية، ومنها إلى أوروبا. وتستعد بغدادُ لاحتضان اجتماع يضمُّ وزراءَ نقلِ دول مجلس التعاون الخليجي وإيران وتركيا وسوريا والأردن أواخر هذا الشهر؛ لبحث هذا المشروع الاستراتيجي وتنفيذه لما فيه من ترسيخ لآفاق التعاونِ الاقتصادي الإقليمي، وخدمةٍ لمصالحِ هذه البلدان وشعوبها». وبيّن أن «كل هذا التعاون الاقتصادي والسياسي والرياضي مع محيطنا العربي يدلُّ على رغبةِ العراق الصادقة في الالتحام مع أشقائه العرب، بما يضمن السلامَ والرخاء لنا جميعاً، ولشعوبنا التواقة للاستظلالِ بمظلة واحدة تجمعها من جديد».

مؤتمر المستثمرين...

أيضاً، قبل بضعة أسابيع أكد السوداني خلال مؤتمر للمستثمرين العرب والأجانب أن «الحكومة تعمل بشكل جادّ لتحرير العراق من الاقتصاد الأحادي، من خلال تفعيل باقي القطاعات، لا سيما الزراعة والصناعة لدعم الاقتصاد». إلا أنه أشار في الوقت ذاته إلى أن الحكومة «لن تلجأ إلى خصخصة تجلب آثاراً اجتماعية وسياسية، ولن تثقل كاهل المستثمر بسبب العمالة المتوفرة». وشدد رئيس الحكومة على أولوية «الإصلاح الاقتصادي»؛ إذ قال «لا يمكن أن نبقى أسرى للاقتصاد الأحادي الذي يعتمد على إيرادات النفط، ولا بدّ أن نفكر في قطاعات أخرى، وأهمها الصناعة والزراعة... لأن العراق بلد صناعي تتوفر فيه البنى التحتية والموارد الطبيعية غير المستغلة».

وعن قدرات العراق الصناعية وثرواته الطبيعية التي يجب أن تستثمر، قال إن البلاد هي «الأولى على مستوى احتياطي الكبريت، والثاني على مستوى الفوسفات، ثم أن السيليكا متوافرة بنقاوة 98 في المائة»، قبل أن يذكّر الحضور والمستمعين بأن العراق يزخر بـ«كفاءات وخبرات وموارد طبيعية وبشرية تجعله قادراً على خلق صناعة وطنية متطورة».

الحائرون بين الدعم والخوف

وسط هذا كله، غير مرة خاضت القوى السياسية والبرلمانية مع السوداني «اختبار قوة» بهدف معرفة أين يمكن أن يصل في مجال المضي بتنفيذ ما كان قد طرحه من برنامج حكومي طموح. والمعروف، أن القوى السياسية العراقية اعتادت في الماضي على برامج حكومية تبدو مماثلة من حيث المفردات والخطط، لكنها غالباً تبقى مجرد كلام إنشائي لا يُنفَّذ منه شيء. أما السبب خلف تعذّر التنفيذ، فغالباً ما يتعلق بمبّررات مثل قوى الإرهاب مرة والمؤامرات الداخلية والخارجية مرة أخرى، ومعها الذريعة المتكررة التي هي «قلة التخصيصات»، ناهيك من الغول الدائم... أي الفساد المالي والإداري في البلاد.

في أي حال، يبدو أن طُموح السوداني الطَّموح جداً يدفعه للتعامل مع مفردات البرنامج الحكومي بطريقة تختلف عن المرات السابقة. وهكذا، بات رئيس الحكومة، بالإضافة إلى طرحه رؤى مستقبلية تبدو قابلة للتطبيق، باشر حقاً في تنفيذ العديد من المشاريع الخدمية التي بدأ المواطن يلمسها بشكل واضح في عموم المناطق، وبالأخص، المناطق والأحياء الشعبية.

وفي ضوء هذا الواقع، انقسمت القوى السياسية العراقية بين فئتين:

- الفئة الأولى، التي تريد الاستمرار بدعمه من منطلق أنها هي التي رشحته، وبالتالي فإن نجاحه يُحسب لها.

- الفئة الأخرى، التي تضم القوى الأخرى، لعلها الغالبية، التي تعتقد - أو يعتقد بعضها - أن مواصلة دعمه من دون شروط موضوعة على السوداني ستجعله يتمرد تماماً، خصوصاً أن الناس تؤيد «الحاكم القوي» القادر على تحقيق منجزات ومتابعة ما يجري بدقة وحزم.

والواقع، أن السوداني أعلن - مثلاً - نيته إجراء تعديل وزاري، وقبلها إعادة النظر بالمديرين العامين في دوائر الدولة. وبالفعل، أقال اكثر من 60 مديراً عاماً بعد ثبوت تقصيرهم، بينما ينتظر الوزراء والمحافظون إعادة النظر بهم، وهذا الأمر يحصل للمرة الأولى. ولعل الأهم هنا، أنه سبق لرئيس الحكومة أن أطلق تصريحات تعهّد فيها بألا يجامل أي زعيم أو حزب بالتعديل الوزاري... «ومن يريد أن يرفض فليرفض». وبالتالي، بينما تستمر حيرة القوى السياسية بين دعم السوداني من جهة والخوف منه من جهة أخرى، يُربك الاتفاق على إجراء انتخابات مجالس المحافظات بنهاية العام الحالي المشهد السياسي وخريطة التحالفات السياسية.

السيد مقتدى الصدر (أ.ف.ب)

من ملامح ارتباك المشهد السياسي العراقي

> من أبرز ملامح الارتباك في المشهد السياسي العراقي هو الكيفية التي ستخوض بموجبها مختلف الكتل انتخابات مجالس المحافظات (الانتخابات المحلية) المرتقبة. وبسبب الغموض الواضح يتوقع المتابعون فتح البعض معارك تبدو جانبية لأول وهلة، لكنها سرعان ما تتحول إحدى العلامات الفارقة في خريطة التحالفات والتحولات السياسية.

هذه الانتخابات لمجالس المحافظات ستكون إلى حد كبير بديلاً عن الانتخابات البرلمانية التي يبدو أنها لن تنظّم قبل نهاية الدورة الحكومية الحالية (ثلاث سنوات ونصف السنة على الأقل).

ولذا؛ فإن القوى السياسية البرلمانية؛ من أجل المحافظة على أوزانها، والتحضير من خلال عدد مقاعدها في مجالس المحافظات المقبلة لأي انتخابات برلمانية مقبلة، ستعمل على التأهب للمعركة الانتخابية من زوايا مختلفة.

واحدة من هذه الزوايا المعركة داخل البرلمان بشأن الميزانية. إذ على الرغم من الخلافات المعروفة داخل البرلمان بشأن الميزانية سواءً لجهة العجز أو سعر صرف الدولار أو أسعار النفط أو كونها ثلاثية (للسنوات الثلاث المقبلة)، ثمة خلافات تتعلق بالمناقلات بين الوزارات والمحافظات؛ وهو ما يعني حاجة القوى السياسية من كل الأطراف والأطياف إلى الحصول مبكراً على أموال إضافية لهذه المحافظة أو تلك تخضيراً لتلك الانتخابات.

جانب آخر يمثل خطورة قائمة بحد ذاتها، هو ما أعلنه زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر أخيراً عن أن الخلاف بينه وبين خصومه «انتقل من الشق السياسي إلى العقائدي». ولعل ما يقصده الصدر بهذا الكلام هو أن الذين يلقَّبون بـ«أصحاب القضية» - الذين يصرّون رغم تكفيرهم من قِبله على أنه هو «المهدي المنتظر» - يهدفون إلى إبعاده عن المشهد السياسي في حال فكر بالعودة إليه ثانية، وذلك عبر الانشغال العقائدي بقضية خطيرة عند الشيعة. وللعلم، يعتبر الصدر أن هؤلاء مدفوعون من قِبل خصومه في بعض الفصائل المسلحة التي يسميها هو «الميليشيات الوقحة»، ولكن من دون أن يحدد هويتها بالضبط. ومع أن الصدر كرّر مراراً أنه ليس مرجعاً ولا مجتهداً ولا معصوماً، لم ينفعه كل هذا في دحض ما يدعيه هؤلاء بين فترة وأخرى بأنه هو «المهدي المنتظر».

منذ تولّى محمد شياع السوداني رئاسة الحكومة لوحظ أنه رسم طريقاً في التعامل مع المحيط العربي والإقليمي والدولي عبر ما سمّاه «الدبلوماسية المنتجة»


سانتياغو بينيا ... وارث رئاسة الباراغواي يعيش هم إرث «عرّابه» وداعمه السياسي

سانتياغو بينيا ... وارث رئاسة الباراغواي يعيش هم إرث «عرّابه» وداعمه السياسي
TT

سانتياغو بينيا ... وارث رئاسة الباراغواي يعيش هم إرث «عرّابه» وداعمه السياسي

سانتياغو بينيا ... وارث رئاسة الباراغواي يعيش هم إرث «عرّابه» وداعمه السياسي

المفاجأة الوحيدة التي حملتها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي شهدتها الباراغواي أخيراً، لم يكن فوز سانتياغو بينيا مرشّح «الحزب الأحمر/الملّون» اليميني الذي يهيمن على المشهد السياسي في البلاد منذ أكثر من 75 سنة، بل الفارق الكبير الذي فاز به على منافسه اليساري، وحصول هذا الحزب للمرة الأولى في تاريخه على الغالبية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن فوزه بحاكمية 15 من أصل 17 دائرة. مع هذا، وعلى الرغم من الفوز الكاسح الذي حققه الرئيس الجديد، الذي سيتسلم مهامه مطلع أغسطس (آب) المقبل وهو لا يزال في الرابعة والأربعين من عمره، تواجه ولايته سلسلة من التحديات والعقبات. وليس التحدي الأقل بينها العلاقات المُلتبسة مع الحليف الرئيسي الولايات المتحدة، وبخاصة، بعدما فرضت الإدارة الأميركية في مطلع العام الجاري عقوبات على الرئيس الأسبق أوراسيو كارتيس، «عرّاب» بينيا وداعمه الأكبر، وطلبت تسليمه لمحاكمته بتهم الفساد والتعامل مع منظمات إرهابية.

سانتياغو بينيا هو أصغر رئيس جمهورية في تاريخ الباراغواي. وهو تكنوقراطي بامتياز إذ سبق له أن تولّى حقيبة المال في حكومة الرئيس الأسبق أوراسيو كارتيس بعدما كان نشاطه المهني مقتصراً على وظائف استشارية في المصرف المركزي الوطني وصندوق النقد الدولي، الذي التحق به في أعقاب حصوله على درجة الماجستير من جامعة كولومبيا العريقة في نيويورك، ومن ثم، إدارة أحد المصارف التي يملكها كارتيس الذي - إلى جانب نفوذه السياسي الواسع - يعد من أكبر الأثرياء في الباراغواي ويملك شبكة مترامية من المؤسسات الناشطة على امتداد أميركا اللاتينية.

ثم أن بينيا، إبان عضويته لمجلس إدارة المصرف المركزي، برز بين زملائه كصاحب أفكار جديدة وجريئة نادراً ما وجدت طريقها إلى التطبيق - كما يقول بعض الذين واكبوه آنذاك - لكن «الوصمة» التي لازمته منذ ذلك الحين، والتي كرّرها خصومه السياسيون طوال الحملة الانتخابية الرئاسية، أنه ينتمي إلى نخبة ضئيلة منفصلة عن واقع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها الباراغواي... ثم أنه أداة طيّعة بيد الزعيم اليميني والرئيس الأسبق كارتيس الذي يعتقد كثيرون أنه سيكون الرئيس الفعلي للبلاد.

في المقابل، فإن الذين رافقوا مسيرته في السنوات الثلاث المنصرمة يقولون عنه إنه «براغماتي... لا يسعى لإحداث ثورة في بلد ترسّخت فيه الأساليب الاجتماعية والاقتصادية التقليدية، بل سيحاول تطوير النظام السائد انطلاقاً من برنامج توافقي سبق أن أعلن مراراً أنه يريده ميثاقاً وطنياً يتبناه أكبر عدد ممكن من القوى السياسية». وما يذكر أنه في أول تصريح للرئيس الجديد الشاب بعد انتخابه، قال «هذا ليس انتصاراً شخصياً، بل هو انتصار الشعب الذي اختار طريق السلم الاجتماعي والحوار والأخوة والمصالحة الوطنية كي نواجه معاً التحديات العديدة للنهوض بالاقتصاد بعد سنوات من الصعوبات. لقد أزف الوقت كي نؤجل خلافاتنا وصراعاتنا، ونعطي الأولوية للقضايا التي تجمعنا حول مصلحة الوطن العليا».

النشأة والمسيرة

ينتمي سانتياغو بينيا (44 سنة) إلى عائلة ميسورة كانت له سنداً قوياً لمواصلة تحصيله العلمي بعدما أصبح أباً وهو لا يزال دون السابعة عشرة من عمره. ويقول المقربون منه إن تجربة الأبوّة المبكرة تركت أثراً عميقاً في تكوين شخصيته من حيث تحمّله المسؤولية في سن يافعة، ويردد هؤلاء أنها كانت مرحلة صعبة في حياته ساعدته على رسم طريق واضح لطموحاته، وعلمته «الالتزام والنزاهة، وأن خدمة الذين يعتمدون علينا هي أنبل القضايا التي يمكن للمرء أن يكرّس لها حياته»، كما جاء في تصريح له أخيراً. وبالمناسبة، يدافع بينيا عن العائلة بمفهومها التقليدي المحافظ، فيرفض الإجهاض وزواج المثليين، وقد تعهّد في برنامجه الانتخابي بتعديل التشريعات التي قال إنها «تشرع الأبواب أمام التراخي في ضبط السلوك الأخلاقي للمجتمع».

في المقابل، رغم خبرة بينيا الضئيلة في المجال السياسي، فإنه ليس حديث العهد على المعارك الانتخابية، إذ سبق له أن حاول الفوز بترشيح حزبه اليميني للانتخابات الرئاسية عام 2017، لكنه خسر أمام منافسه الرئيس الحالي ماريو عبده، الذي يتزّعم التيار المناهض لداعمه كارتيس داخل الحزب. وهذه المرة، جاء ترشيحه حلاً توافقياً وثمرة «هدنة» بين كارتيس وعبده بعدما تعذّر على كليهما فرض سيطرته كاملة على الحزب، الأمر الذي هدد بصعوبات وعقبات تنتظره حتى على الجبهة الداخلية التي من المفترض أن تؤمن له الاستقرار... بعد حصول الحزب على الغالبية في مجلسي الشيوخ والنواب.

تعهّد بينيا في برنامجه الانتخابي وضع سياسات «ليبرالية» لتشجيع الاستثمارات الخارجية في القطاعات الإنتاجية الرئيسة مثل الزراعة والصناعات الغذائية، وخفض الضرائب بالتركيز على إيجاد فرص العمل... إذ تشكّل البطالة المرتفعة في البارغواي «كعب أخيل» الاقتصاد الذي يتباطأ نموه باطراد منذ سنوات برغم القدرات والموارد الكبيرة التي تزخر بها البلاد. ثم بعد فوزه، وجهت إليه الإدارة الأميركية التهنئة في بيان قالت فيه إنها تتطلع إلى التعاون معه لتحقيق أهداف مشتركة مثل مكافحة الفساد والإفلات من العقاب وتعزيز سيادة القانون والنهوض بالاقتصاد. وفي ذلك إشارة واضحة إلى طلب تسليم كارتيس إلى القضاء الأميركي بعد توجيه التهم إليه بالتعامل مع منظمات إرهابية، من بينها «حزب الله» اللبناني. وكان أنصار كارتيس في الحزب قد استغلّوا العقوبات الأميركية المفروضة عليه لمهاجمة الولايات المتحدة خلال الحملة الانتخابية، واتهامها بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد بهدف منع وصول بينيا إلى الرئاسة، ما ساعد على تعبئة مؤيديه واستقطاب كثيرين من المترددين في حسم خيارهم الانتخابي.

مواقف حزبية وسياسية

خلال الحملة الانتخابية جهد بينيا للنأي بنفسه عن الرئيس الحالي ماريو عبده، الذي سيسلمه السلطة مطلع أغسطس (آب) المقبل، بعد تراجع شعبية عبده كثيراً في الفترة الأخيرة بسبب سوء إدارته جائحة «كوفيد - 19» والخلافات التي نشبت داخل الحزب على عهده، وبالذات، مع جناح الرئيس الأسبق كارتيس الذي أهداه بينيا الفوز بالرئاسة، وشكره على دعمه، قائلاً له: «دورك لا يقابل إلا بالاحترام والتقدير والثناء. شكراً على هذا الفوز».

ومن ثم، حرص بعد ذلك في عدة تصريحات أدلى بها إلى وسائل إعلام محلية وأميركية على التأكيد بأن كارتيس «بريء» من الاتهامات التي وجهتها إليه الخزانة الأميركية. ومن هذه التهم أنه كان يدفع خلال ولايته الرئاسية رواتب شهرية مقدارها 50 ألف دولار لعدد من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب لتأمين الغالبية التي كان يحتاج إليها لتمرير المشاريع والقوانين التي تخدم مصالحه، وأنه أسس علاقات تجارية مع جهات قريبة من تنظيم «حزب الله» اللبناني الذي بنى خلال السنوات الأخيرة شبكة واسعة من المصالح الاقتصادية في عدد من بلدان أميركا اللاتينية، في طليعتها فنزويلا والإكوادور والباراغواي. واستغرب الرئيس المنتخب كيف وصلت مثل هذه «المعلومات الخاطئة» الى الإدارة الأميركية، مضيفاً: «هذا سيبقى من الأسرار التي لن نعرف أبداً حقيقتها مثل: هل نزل الإنسان فعلاً على سطح القمر؟؟ (!!) ومن قتل الرئيس جون كيندي؟؟».

موضوع تايوان الحساس

من ناحية أخرى، إلى جانب دفاع بينيا القوي عن «عرّابه» السياسي في وجه الاتهامات والعقوبات الأميركية، فهو أبدى استعداده للتهدئة مع واشنطن بإعلانه أنه سيحافظ على العلاقات الدبلوماسية مع تايوان، برغم الضغوط الشديدة التي يتعرض لها حتى من داخل حزبه والقطاعات الزراعية والصناعية التي تطالبه بإنهاء هذه العلاقات والانفتاح على الصين وسوقها التجارية الواسعة. وللعلم، الباراغواي هي واحدة من 13 دولة في العالم فقط لا تزال تقيم علاقات دبلوماسية مع تايوان تعود إلى عام 1957، أي على عهد الديكتاتور السابق ألفريدو ستروسنير، الذي دام حتى عام 1989، والذي كان على علاقة وثيقة بالزعيم الوطني الصيني (ورئيس تايوان المؤسس) شيانغ كاي شيك، الذي ما زال تمثاله الضخم يرتفع وسط حديقة واسعة تحمل اسمه في العاصمة الباراغوانية أسونسيون.

وفي حين يشكك كثيرون في قدرة بينيا على الصمود في وجه الضغوط التي يتعرّض لها من بعض النافذين في حزبه - وأيضاً من شركات الصناعات الغذائية الكبرى التي تشكّل العماد الأساسي لاقتصاد الباراغواي - لإقامة علاقات دبلوماسية مع بكين التي تواظب على التلويح بالإغراءات التجارية، يؤكد الرئيس الشاب أن لبلاده مصلحة على المدى الطويل في الحفاظ على العلاقات مع تايوان وزيادة استثماراتها في عدد من القطاعات الإنتاجية والتكنولوجية المتقدمة، وليس في الاعتماد على سوق واحدة من الصين لتصريف إنتاجها من المواد الزراعية والثروة الحيوانية.

غير أنه بعد تراجع صادرات الباراغواي إلى الأسواق الدولية بسبب المنافسة الشديدة التي تتعرض لها منتوجاتها، أخذت البلاد تواجه صعوبات متزايدة في السنوات الأخيرة لإيصال هذه المنتوجات إلى السوق الصينية، إذ أنها تضطر الآن إلى تصريف إنتاجها عبر أسواق بلدان ثالثة مثل الأرجنتين والبرازيل وتشيلي، وهي دول تصدّر المنتوجات ذاتها إلى الصين.

ثم أن المراقبين كانوا قد توقفوا عند بعض تصريحاته التي قال فيها «إن المواطنين يعرفون أن بلادهم تملك من الموارد ما يمكّنها أن تكون بين أكثر بلدان العالم تطوراً»، في حين أنها اليوم من أفقر بلدان أميركا اللاتينية. إذ يعيش ربع سكانها تحت خط الفقر، وتعدّ مؤسساتها التعليمية وخدماتها الصحية من الأسوأ في المنطقة. وأيضاً من تصريحاته المثيرة للاستغراب قوله إن «أسباب التخلف الذي تعاني منه الباراغواي تعود إلى الهزيمة القاسية التي تعرّضت لها عام 1870 على يد جيرانها وقضت على غالبية سكانها من الذكور ما أدّى إلى خسارتها قطار التنمية لسنوات طويلة». وكانت الباراغواي قد خاضت حرباً عسكرية طويلة، يطلق عليها اسم «الحرب الكبرى»، ضد التحالف الثلاثي الذي كانت تشكله البرازيل والأرجنتين والأوروغواي، انتهت بتعرضها لهزيمة قاسية خسرت معها مناطق واسعة كانت تتنازع عليها مع البرازيل والأرجنتين. وبجانب ذلك قضت تلك الحرب على نسبة عالية من رجالها، حتى أن بعض المؤرخين يعتبرون أنها كانت «حرب إبادة» للقضاء على الشعب في الباراغواي - الذي يقدّر أنه فقد بين 50 و 80 في المائة من أفراده، بل و90 في المائة من ذكوره البالغين إبان السنوات الست التي اشتعلت فيها تلك الحرب.

أخيراً، من الملفات الساخنة التي تنتظر الرئيس الجديد العلاقات مع إسرائيل، وذلك بعدما قررت حكومة بنيامين نتنياهو الحالية قطعها وإقفال سفارتها في أسونسيون رداً على قرار الرئيس المنتهية ولايته ماريو عبده إعادة مقر سفارة الباراغواي إلى تل أبيب، بعدما كان الرئيس الأسبق كارتيس قرّر نقلها إلى القدس.

ومع أن الطرفين عادا وقررا استئناف العلاقات في عام 2019، فإنهما لم يتفقا على إعادة فتح السفارتين، ويعزو المراقبون عودة إسرائيل عن خطوتها إلى قلقها من نفوذ «حزب الله» وتغلغله في المنطقة، وما تعتبره تهديداً لمصالحها وأمنها. وكان بينيا قد صرّح خلال حملته الانتخابية بأنه تعهّد في المباحثات التي أجراها قبل أشهر مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنه في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية سيعيد مقر السفارة إلى القدس.


الباراغواي... حرب تاريخية مكلِّفة و«ديكتاتورية» طويلة وحضور ألماني لافت

جانب من آسونسيون، عاصمة الباراغواي (غيتي)
جانب من آسونسيون، عاصمة الباراغواي (غيتي)
TT

الباراغواي... حرب تاريخية مكلِّفة و«ديكتاتورية» طويلة وحضور ألماني لافت

جانب من آسونسيون، عاصمة الباراغواي (غيتي)
جانب من آسونسيون، عاصمة الباراغواي (غيتي)

الباراغواي جمهورية غير مطلة على البحر، وهي الدولة السابعة من حيث المساحة في أميركا الجنوبية، إلا أن عدد سكانها لا يزيد على 7.5 مليون نسمة،. شهدت الباراغواي أعنف مراحل العنف في تاريخ المنطقة خلال الحرب التي تُعرف باسم «الحرب الكبرى» أو «حرب التحالف الثلاثي» التي خاضتها ضد جيوش البلدان المتاخمة لها: البرازيل والأرجنتين والأوروغواي، وانتهت تلك الحرب عام 1870 بهزيمة قاسية للباراغواي خسرت نتيجتها مساحات واسعة من أراضيها وقضت على نسبة كبيرة من سكانها -خصوصاً الذكور- ودمّرت اقتصادها بعدما اضطرت لسنوات إلى دفع تعويضات مالية هائلة لأعدائها عن الأضرار التي تسببت بها تلك الحرب.

خلافاً لمعظم بلدان أميركا اللاتينية، لم تنل الباراغواي استقلالها عن تاج المستعمر الإسباني في حروب التحرير التي شهدتها المنطقة خلال القرن التاسع عشر، بل عن إمبراطورية البرازيل والكونفيدرالية الأرجنتينية. ذلك أن أراضيها كانت تابعة لهاتين الدولتين اللتين رفضتا المحاولات الاستقلالية المتكررة التي قامت بها، إلى أن تمّ توقيع الاتفاق الرسمي الذي أعلن استقلالها نهائياً عن الأرجنتين في عام 1842، لتنشب بعد ثلاث سنوات «الحرب الكبرى».

وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تحولت الباراغواي إلى ملاذ للنازيين الألمان الفارين من وجه عدالة الدول الحليفة. وبالفعل، استقرت فيها أعداد كبيرة منهم بحماية النظام الذي وطّد علاقاته معهم، خصوصاً بعد الانقلاب العسكري الذي قاده ألفريدو ستروسنير وحكم به البلاد بقبضة من حديد حتى سقوطه عام 1989. ويعد عهد ستروسنير أطول عهد لنظام ديكتاتوري شهدته أميركا الجنوبية في القرن العشرين، والثالث في أميركا اللاتينية بعد نظام فيديل كاسترو في كوبا (49 سنة) وبورفيريو دياز في المكسيك (34 سنة).

هذا، ويقدّر بعض المصادر المستقلة أن عدد الألمان -أو المتحدرين من أصول ألمانية- الذين يعيشون حالياً في الباراغواي بما يزيد على 400 ألف شخص. وكانت السنوات الأخيرة قد شهدت موجة أخرى من «النزوح» الألماني إلى الباراغواي، بعضها من جماعات دينية هامشية تنشد الحياة حسب التقاليد القديمة بعيداً عن النمط الحضاري الحديث، والبعض الآخر جذبتهم فيها الطبيعة والمناخ المعتدل الذي يشبه مناخ المناطق المتوسطية، فضلاً عن تدني تكاليف المعيشة والضرائب التي تكاد تكون معدومة، حتى إن صندوق النقد الدولي أوصى مراراً بزيادتها.

وإلى هذه الموجات انضمت أخرى منذ سنتين مع بداية جائحة «كوفيد - 19»، وفي حينه كانت الباراغواي من البلدان القليلة التي لم تفرض إلزامية اللقاحات وتدابير الحجر الصحي، فتوافدت إليها أعداد كبيرة من الألمان والنمساويين الرافضين الانصياع للإجراءات الصحية المفروضة في بلدانهم.

إلى جانب ذلك، تقدّر أجهزة أمنية عدة أن الباراغواي تحوّلت في العقود الأخيرة إلى «ملاذ آمن» لمئات الفارين من العدالة وعشرات المنظمات الإجرامية التي تنشط في مجال تجارة المخدرات، يساعدهم في ذلك تواطؤ بعض الجهات المحلية النافذة التي تؤمّن لهم الغطاء القانوني والحماية الأمنية، فضلاً عن استحالة مراقبة الحدود البرية التي تمتد على 3700 كيلومتر مع الأرجنتين والبرازيل وبوليفيا.


تساؤلات وتحديات بعد الفوز الكبير لأحزاب المعارضة التايلندية

تساؤلات وتحديات بعد الفوز الكبير لأحزاب المعارضة التايلندية
TT

تساؤلات وتحديات بعد الفوز الكبير لأحزاب المعارضة التايلندية

تساؤلات وتحديات بعد الفوز الكبير لأحزاب المعارضة التايلندية

تشكّل نتائج الانتخابات الأخيرة في تايلند بداية حقبة جديدة، وقد جاءت بمثابة حكم صادم وقوي من جانب قرابة 40 مليون ناخب تايلندي ضد هيمنة العسكريين على المشهد السياسي بالبلاد. المؤسسة العسكرية سيطرت على حكم تايلند معظم الفترة منذ عام 1947، وإن تخللت هذه السنوات فترات قليلة تولت خلالها السلطة حكومات منتخبة ديمقراطياً. ولكن في السنوات الأخيرة، واجهت المملكة الواقعة في جنوب شرق آسيا اضطرابات سياسية ومشاكل اقتصادية، في حين تعرّض النظام لتحديات كبيرة، في الوقت الذي تراجعت شعبية رئيس الوزراء. يقدر عدد سكان تايلند بـ70 مليون نسمة، وعُرفت تاريخياً باسم «سيام»، وتعيش تحت نظام حكم ملكي دستوري، وتعدّ البلد الوحيد في جنوب شرق آسيا الذي نجا من الحكم الاستعماري. وجرى إعلان ماها فاجيرالونغكورن، الملك التايلندي العاشر من سلالة تشاكري، ملكاً على البلاد في ديسمبر (كانون الأول) 2016. وتولّى الملك الحالي العرش خلفاً لوالده الملك بوميبول أدولياديج، أطول ملوك العالم حكماً في ذلك الوقت، الذي توفي في أكتوبر (تشرين الأول) من ذلك العام.

على مدى عقود لجأ حكام تايلند العسكريون إلى الانقلابات والأحكام القضائية لإبقاء المعارضين المنتخبين بعيداً عن السلطة

ثمة احتمال لأن تصبح الانتخابات العامة التي شهدتها تايلند يوم 14 مايو (أيار) المنصرم الحدث السياسي الأبرز في تاريخها منذ منتصف السبعينات، حين أطاحت حركة مؤيدة للديمقراطية لأول مرة بالنظام العسكري الحاكم.

حصيلة الانتخابات الأخيرة كانت أشبه بزلزال سياسي؛ إذ اختار الناخبون التايلنديون بغالبية كاسحة اثنين من الأحزاب الديمقراطية، هما «التحرك نحو الأمام» و«بويا تاي». وحصد الحزبان معاً أكثر من ثلاثة أخماس مقاعد مجلس النواب، جامعين نحو 25 مليون صوت.

نجم حزب «التحرك نحو الأمام» لمع كأكبر كتلة سياسية في تايلند، باستحواذه على 152 مقعداً، تلاه «بويا تاي» بـ141 مقعداً، داخل البرلمان البالغ إجمالي مقاعده 500. ولم يقترب أي حزب آخر من الإنجاز المزدوج الذي حققه هذان الحزبان.

بيتا ليمجارونرات (42 سنة) الذي تلقى تعليمه بجامعتي هارفارد والـ«إم آي تي» الأميركيتين العريقتين، هو زعيم حزب «التحرك نحو الأمام»، الذي يتبع أفكاراً تقدمية، ولقد نجح في استغلال شعبيته في صفوف الناخبين الشباب الساخطين والراغبين في التغيير.

أما «بويا تاي»، فإنه حزب شعبوي تقوده بايتونغتارن شيناواترا (36 سنة)، وهي ابنة رئيس الوزراء السابق والملياردير الشعبوي ثاكسين شيناواترا. ويستقي هذا الحزب دعمه من الطبقة العاملة في الريف والحضر، خاصة بالمناطق الواقعة شمال وشمال شرق البلاد. وكانت شعبية هذين الزعيمين قد تصاعدت كثيراً في مواجهة المؤسسة العسكرية خلال العقدين الماضيين.

في المقابل، حصل الجنرال برايوت تشان أوتشا (69 سنة)، الذي أطاح عام 2014 الحكومة المدنية المنتخبة ديمقراطياً بقيادة زعيمة «بويا تاي»، ينغلوك شيناواترا (وهي أخت ثاكسين) على نسبة هزيلة بلغت 7 في المائة من الأصوات، فيما حصل الائتلاف الحاكم المؤلف من أحزاب عسكرية على 77 مقعداً فقط. وهو ما يشكل تراجعاً كبيراً عن الـ116 مقعداً التي كان فاز بها الائتلاف في انتخابات 2019. ويذكر أن ينغلوك شيناواترا كانت أول امرأة تتولى رئاسة الحكومة، قبل الانقلاب العسكري الذي نفّذه الجنرال برايوت وبعده عين نفسه رئيساً للوزراء. وهنا نشير إلى أن برايوت حرص باستمرار على تأكيد دعمه للعائلة المالكة التايلندية، بينما اتخذت المؤسسة العسكرية إجراءات قمعية صارمة ضد أي تحرك ضد «حكومتها».

هل ستشكَّل حكومة؟ عادة ما تستغرق الإجراءات البرلمانية في تايلند أشهراً عدة قبل أن تتشكل الحكومة الجديدة وتتولى السلطة. وأمام لجنة الانتخابات في تايلند ما يصل إلى 60 يوماً للمصادقة رسمياً على نتائج الانتخابات العامة هذا العام. وبعد ذلك، يجتمع البرلمان بدوره للمصادقة على الحكومة الجديدة.

وينص الدستور على ضرورة انعقاد الجلسة الأولى لمجلس النواب في غضون 15 يوماً بعد إعلان لجنة الانتخابات نتائج الانتخابات الرسمية؛ وذلك لانتخاب رئيس مجلس النواب الجديد، والذي سيكون أيضاً رئيساً للبرلمان التايلندي، ومن المعتقد أن يوافق ذلك 13 يوليو (تموز) المقبل. ويعني هذا أن جلسة مشتركة لمجلس النواب المكون من 500 مقعد، ومجلس الشيوخ المؤلف من 250 مقعداً، ستنعقد في يوليو (تموز) لاختيار رئيس الوزراء الجديد.

يضم مجلس النواب، الغرفة الأدنى من البرلمان، إجمالي 500 مقعد ـ 400 مقعد متاح أمام الدوائر الانتخابية و100 مقعد بنظام «القائمة الحزبية» (مقاعد تفوز بها الأحزاب على أساس نصيبها من الأصوات الوطنية). ولقد أعلن بيتا، زعيم حزب «التحرك نحو الأمام»، جاهزيته لتولي منصب رئيس الوزراء الثلاثين لتايلند، وتشكيل حكومة ائتلافية من 8 أحزاب حليفة داعمة للديمقراطية، هي: «بويا تاي» و«براشاشات» و«ثاي سانغ ثاي» و«سيري روام ثاي» (ثاي الليبرالي) و«فير» و«بلونغ سونغكوم ماي» (القوة الجديدة) و«بيو ثاي رومفلانغ».

داخل مجلس النواب، لدى هذا الائتلاف الآن 313 صوتاً من 500 صوت. ولقد وافق أعضاء الائتلاف «الثماني» رسمياً على العمل معاً من خلال توقيع مذكرة تفاهم، تتضمن سياسات مكوناته الجديدة، وأعربوا عن رغبتهم في قيادة الحكومة القادمة. كذلك أعربت أحزاب الائتلاف رفضها السلطة المطلقة في البلاد، ووعدت بإجراء إصلاحات حال وصولها للسلطة.

أثناء التوقيع على مذكرة التفاهم، قال بيتا «يتعلق اليوم بإقرار بداية جيدة، وعلينا أن نعمل معاً للمضي قدماً نحو إعلان سياساتنا بعد أن أتولى منصب رئيس الوزراء. لذا؛ فإن اليوم ليس سوى الخطوة الأولى». وأضاف أمام حشد من الصحافيين «هناك الكثير من الخطوات التالية الفورية التي تتبع ذلك، ومن المحتمل أن يفسر ذلك بشكل أفضل قليلاً كيفية إحداث التغيير».

ولكن رغم الدعم الساحق، يشير معلقون سياسيون إلى وجود مخاوف في صفوف مؤيدي الائتلاف، من إمكانية استغلال المعارضين المتحالفين مع الجيش مجلس الشيوخ، غير المنتخب لمنع أعضاء الائتلاف من تولي مناصب. ويذكر أنه بموجب دستور تايلند لعام 2017 الذي صيغ في ظل الحكم العسكري بعد انقلاب عام 2014، يتوجب على مجلسي البرلمان التصويت لاختيار رئيس وزراء جديد.

دستور 2017تبعاً للدستور الذي أقرّه المجلس العسكري عام 2017، يجب انتخاب رئيس الوزراء، إضافة إلى 250 من أعضاء مجلس الشيوخ المعينين من قِبل المجلس العسكري الملكي. ولتجاوز مجلس الشيوخ، سيحتاج بيتا إلى دعم 376 نائباً بالبرلمان. وهو أمر متعذّر من دون ضم حزب «بهومجايتاي» الصديق للمجلس العسكري وصاحب التوجهات المحافظة.

هذا يعني أنه لا يزال بإمكان المؤسسة العسكرية الاضطلاع بدور رئيسي في تحديد الحكومة، مع فشل الائتلاف بالفوز بالغالبية المطلوبة وهي 376 مقعداً. ومع أن الائتلاف «الثماني» الجديد يأمل أن تضغط المقاعد المشتركة في الحكومة على مجلس الشيوخ للتصويت لصالحه، يرى محللون أن بيتا، المرشح الأبرز لتولي رئاسة الوزراء إذا شكل الائتلاف الذي يقوده حزبه الحكومة، قد يصار إلى استهدافه، بل وإبعاده إذا قبلت «لجنة الانتخابات» شكوى بأنه لم يبع أسهماً يمتلكها في شركة إعلامية قبل إطلاق حملته الانتخابية؛ وهو ما يشكل خرقاً للقواعد - المصير ذاته الذي لقيه مؤسس حزبه عام 2019. ولقد قدّم بالفعل مرشح لحزب «فالانغ براشاراث»، المدعوم من المؤسسة العسكرية، شكوى إلى لجنة الانتخابات واللجنة الوطنية لمكافحة الفساد، متهماً بيتا بأنه لم يدرج الأسهم التي يملكها في الشركة المذكورة في البيان الرسمي الذي قدمه بخصوص الأصول المملوكة له. لكن بيتا أنكر اقتراف أي مخالفة، وقال إن الاتهام الموجه له يقوم على نقطة فنية صغيرة.

من ناحية أخرى، رغم توجيه حزب «بويا تاي» الشعبوي دعوات قوية لتشكيل حكومة بقيادة حزب «التحرك نحو الأمام»، يرى محللون أن الحزب قد يتحالف مع حزب «بهومجايتاي»، الذي جاء في المركز الثالث، بجانب المؤسسة العسكرية والحزب الحاكم المدعوم من العائلة المالكة، «فالانغ براشاراث»، والذي بمقدوره بسهولة الحصول على دعم 270 من أعضاء مجلس الشيوخ.

ومع ذلك، يعتقد محللون أن الجيش لن يعجبه عودة العائلة السياسية لرئيس الوزراء السابق ثاكسين شيناواترا، عبر حزبها «بويا تاي»، بعدما تحولت لشبح يطارد المؤسسة العسكرية والنخب الموالية للملكية منذ عام 2001. وبالتالي، في غياب حل وسط، قد تعاني تايلند من مأزق غياب حكومة عاملة على امتداد أشهر، خاصة أن الدستور لا ينص على موعد نهائي لتشكيل الحكومة.

الاضطرابات والجيش والعرشعلى مدى عقود، لجأ حكام تايلند العسكريون إلى الانقلابات والأحكام القضائية لإبقاء المعارضين المنتخبين بعيداً عن السلطة. ورغم إقرار الحكم المدني رسمياً في تايلند عام 1992، فإن الجيش التايلندي ما زال مؤسسة مؤثرة وقادرة على تأجيل الإصلاح السياسي.

ما يستحق الإشارة أنه في العام 1932 انتهت المَلَكية المطلقة بعد الثورة السيامية. ولكن، مع ذلك احتفظ العرش التايلندي بمكانة مميزة في المجتمع، وبنفوذ هائل في الحكومة، ولطالما بقيت المؤسسة الملكية محصنة ضد النقد العام، من خلال نص القانون. ولكن، منذ ذلك الحين، دبّر الجيش التايلندي 22 انقلاباً، نجح 13 منها، وأجرى 20 تعديلاً دستورياً منذ قيام الدولة.

وعلى مدار سنوات، شكّلت المواجهة بين الجنرالات العسكريين والسياسيين والنشطاء المدنيين، السبب الجذري وراء غياب الاستقرار باستمرار عن البلاد.

أول حكومة منتخبةعام 2001، أصبح لدى تايلند أول حكومة منتخبة استكملت فترة ولاية مدتها أربع سنوات، تحت قيادة ثاكسين شيناواترا، رجل الشرطة الذي تحوّل رجل أعمال عملاقاً بمجال الاتصالات، والذي قاد موجة شعبوية للفوز مع حزبه «تاي راك تاي» (التايلنديون يحبون التايلنديين). ووعد حزبه بتحقيق استقرار في الاقتصاد، وتقديم رعاية صحية شاملة وتخفيف ديون المزارعين وتوفير تمويل لتحقيق تنمية بالقرى.

مع ذلك، أشعلت حرب ثاكسين المثيرة للجدل على المخدرات بجنوب البلاد ذي الغالبية المسلمة، جولة جديدة من أعمال التمرد. وعلى الرغم من اكتساح ثاكسين انتخابات عام 2005، سرعان ما هزّت حكومته فضيحة مالية واحتجاجات لاحقة، فاضطر إلى الدعوة إلى انتخابات جديدة. ومن ثم أطيح به بعد أشهر في انقلاب مرّ دون إراقة للدماء.

فترة ما بعد عام 2006 توصف عادةً بأنها «العقد الضائع» في تايلند. ومع وجود ثاكسين في المنفى الذاتي وعزل خلفائه من قبل المحاكم، شهدت تايلند عام 2010 أعنف حملة قمع ضد المتظاهرين، أطلق عليها حملة «القمصان الحمر»، بقيادة رئيس الوزراء الحالي - الذي كان جنرالاً حينها - برايوت تشان أوتشا. وسلّطت سنوات الاحتجاج الضوء على الانقسام الاجتماعي العميق بين فقراء الريف والطبقات الوسطى والعليا الأكثر ثراءً في العاصمة بانكوك.

بعدها، عام 2011، أصبحت ينغلوك، شقيقة ثاكسين الصغرى، أول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في تايلند، لكن حكومتها واجهت هي الأخرى احتجاجات في خضم مساعيها لاستصدار عفو عن أخيها المنفي يومذاك. وأدى ذلك إلى انقلاب عسكري آخر وإعلان الأحكام العرفية عام 2014 لحجة إحلال الاستقرار. وعام 2017، أقرّ الجيش دستوراً جديداً يسمح له بتعيين 250 عضواً في مجلس الشيوخ الذي سيلعب دوراً في اختيار رئيس الوزراء.

تجربة... وسخط انتخابات 14 مايو 2019 التي نُظر إليها في البداية كـ«تدريب على نقل السلطة» من المجلس العسكري إلى حكومة منتخبة، أسفرت عن احتفاظ برايوت بالسلطة بعد انتخابات متنازع عليها؛ ما جدد مشاعر السخط والاستياء. أما الانتخابات الأخيرة، فيصفها أنيل وادوا، السفير الهندي السابق لدى تايلند، بـ«الحدث السياسي الأكثر أهمية في البلاد منذ منتصف السبعينات، عندما نجحت للمرة الأولى حركة داعمة للديمقراطية في الإطاحة بنظام عسكري حاكم. ومع ذلك، شهدت هذه الانتخابات استخدام الجماهير التايلندية الوسائل المتاحة للتعبير عن رفضها... وهو رفض تحول حركاتٍ احتجاجية كبرى في السنوات الأخيرة. وأكدت نتيجة التصويت على رغبة الناخبين في تعزيز المؤسسات الديمقراطية، وفرض مزيد من المساءلة على الجيش والخدمة المدنية، إلى جانب المزيد من المساواة في الفرص الاقتصادية».

شيخوخة السكان...بين التحديات الكبرى

> تعد تايلند من أسرع الدول شيخوخة في العالم. ومن بين سكانها البالغ عددهم 70 مليون نسمة، هناك 12 مليون تايلندي من كبار السن، طبقاً لأحدث تقرير إحصائي وطني. ومنذ عام 2005، جرى تصنيف تايلند باعتبارها «مجتمعاً مُسنّاً»، حيث يمثل الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 60 سنة فما فوق 10 في المائة من السكان. ومن المتوقع أن يرتفع عدد السكان المسنين في البلاد إلى 28 في المائة وأن تصبح تايلند «مجتمعاً مُسنّاً للغاية» بحلول العقد المقبل.

ومع التقدم في نظام الرعاية الصحية، يتضح أن أعداد ونسبة الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 60 سنة فما فوق آخذ في الارتفاع في تايلند والعالم. وما يجدر ذكره أنه عام 2019، كان أكثر عن مليار من سكان العالم فوق سن الـ60. ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 1.4 مليار بحلول عام 2030 و2.1 مليار بحلول عام 2050.

في حين أن هذا التحول الديموغرافي يعكس أوجه التقدم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والصحة، فإنه - في المقابل - يطرح كذلك تحديات جديدة. وإدراكاً منهم لهذه التحولات والتحديات الديموغرافية، عمل صناع السياسات والجهات المعنية في جنوب شرق آسيا على مدار سنوات على إصلاح السياسات والمبادرات لمواجهة التحديات التي تواجه رفاه كبار السن.

تداعيات جيوسياسيةمحتملة لانتخابات 2023

> لا يستبعد مراقبون متابعون للشأن السياسي في تايلند أن تخلف نتائج الانتخابات الأخيرة تداعيات جيوسياسية مهمة للبلاد للإقليم المحيط بها. ذلك أن تايلند، التي كانت شريكاً سابقاً للولايات المتحدة طوال سنوات «الحرب الباردة»، هي الدولة الديمقراطية الوحيدة المتعددة الأحزاب في البر الرئيس لجنوب شرق آسيا، والتي تخضع في الوقت ذاته لنفوذ الصين.

من جهته، نفى حزب «التحرك نحو الأمام» بشدة تأييده السماح للولايات المتحدة بإنشاء قاعدة عسكرية في تايلند. ويأتي هذا الجدل في خضم تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين، مع وجود مؤشرات على أن كمبوديا المجاورة لتايلند تعزز روابطها مع الجيش الصيني. ويتضمن هذا التعزيز، تبعاً لمسؤولين أميركيين، بناء قاعدة بحرية صينية في خليج تايلند.

في هذا الصدد، أعرب آنيل وادوا (السفير الهندي السابق لدى بانكوك) عن اعتقاده بأن «الولايات المتحدة لعبت دوراً في الانتخابات العامة في 14 مايو، والتي يجري النظر إليها باعتبارها زلزالاً هزّ أركان المشهد السياسي التايلندي؛ ما ترك حزب «التحرك نحو الأمام» في وضع يسمح له بتأسيس ائتلاف يمثل 62 في المائة من أعضاء البرلمان».

ويأتي نفي حزب «التحرك نحو الأمام» في وقت تراجعت فيه الفلبين في عهد رئيسها الحالي فرديناند ماركوس «الابن» عن سياسة استمرت عقوداً سمحت في إطارها للجيش الأميركي بإنشاء قواعد في البلاد؛ الأمر الذي لا بد من أن ينظر إليه في إطار تصاعد التوترات العسكرية بين الصين وأميركا ببحر الصين الجنوبي وسياقاته.


أوغان وعلامة استفهام... لقب «صانع الرؤساء»

سنان أوغان (إ.ب.أ)
سنان أوغان (إ.ب.أ)
TT

أوغان وعلامة استفهام... لقب «صانع الرؤساء»

سنان أوغان (إ.ب.أ)
سنان أوغان (إ.ب.أ)

> مع ظهور قوة التيار القومي في انتخابات 14 مايو، اتجهت الأنظار إلى المرشح الثالث في الانتخابات الرئاسية، سنان أوغان، على اعتبار أنه سيكون مفتاح ترجيح أيٍّ من المرشحين المتنافسين في جولة الإعادة، التي حسم خياره قبل أيام من إجرائها بإعلان تأييده لإردوغان.

وبدأت التساؤلات عن مصير الأصوات التي فاقت مليونين و800 ألف التي حصل عليها في الجولة الأولى الأكاديمي أوغان، البالغ من العمر 55 سنة، والذي ينحدر من أصول أذربيجانية، وهو معادٍ بشدة للمهاجرين واللاجئين السوريين بالذات، وكان قد تعهد بترحيلهم بالقوة إذا لزم الأمر.

خاض أوغان، يحمل دكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة موسكو الحكومية في روسيا، ويجيد اللغتين الإنجليزية والروسية، الانتخابات الرئاسية مرشحاً لتحالف «أتا» (الأجداد) المؤلف من 4 أحزاب يمينية قومية، أبرزها حزب «النصر» برئاسة أوميت أوزداغ الأكاديمي اليميني المتعصّب ضد المهاجرين واللاجئين السوريين.

بدأ أوغان مسيرته السياسية عام 2011 حين تمكن من حجز مقعد له في البرلمان عن مسقط رأسه، ولاية إغدير، بأقصى شرق تركيا على الحدود مع أذربيجان، ضمن حزب «الحركة القومية» اليميني الذي يشكَّل حالياً جزءاً من تحالف «الشعب» بقيادة حزب «العدالة والتنمية» الحاكم. ويومها لم يركّز في برنامجه الانتخابي إلا على قضية الهجرة واللجوء.

ولكن في عام 2015، وقعت خلافات شديدة بينه وبين دولت بهشلي، رئيس «الحركة القومية»، بسبب دعم الأخير لإردوغان في التحول إلى النظام الرئاسي، فاستُبعد من قوائم الحزب للانتخابات البرلمانية. وتصاعد الخلاف الذي انتهى بطرده من الحزب بموجب قرار حزبي داخلي.

مع هذا، كسب أوغان دعوى قضائية ضد قرار طرده من الحزب، وعاد إلى صفوفه... قبل طرده مجدداً مع آخرين عام 2017 وإعلانه انتهاء علاقته بالحزب.

وبعد الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة والانتقال إلى الإعادة، قال أوغان: «لن يكون أي من حزبي (الشعوب الديمقراطية)، مؤيداً لكليتشدار أوغلو أو (هدى بار) المؤيد لإردوغان، مفتاح في هذه الانتخابات»، مضيفاً: «سأفعل كل ما يلزم كي لا تدخل البلاد في اضطراب... سأتصرف بوصفي رجل دولة مسؤولاً».

وبالفعل، قبل الانتخابات الأخيرة بعدما عُرف حزب «الشعوب الديمقراطية» بأنه «صانع الرؤساء»، منحت الجولة غير الحاسمة للانتخابات الرئاسية اللقب لأوغان، الوجه الجديد... الذي جاء من بعيد ليعقّد الحسابات.

اختلف أوغان مع إردوغان في ملف اللاجئين، فموقف «العدالة والتنمية» كان مع العمل على إعادة اللاجئين السوريين طوعاً إلى بلادهم بعد توافر الظروف الملائمة، ولذا كان سعيه للقائه وإعلان تأييده له في جولة الإعادة مثار تساؤلات، وتردد أن الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف تدخّل لاتخاذه هذا القرار.

لكنّ قرار أوغان قوبل باستهجان كبير من جانب قيادات التيار القومي الذين دعموه في الحصول على تواقيع 100 ألف مواطن مكّنته من خوض الانتخابات، ورأوا أن القرار «انتحار سياسي»، وأن أطماع أوغان في الحصول على منصب من إردوغان أو تولي رئاسة حزب «الحركة القومية» -الذي طُرد منه سابقاً خلفاً لرئيسه الحالي العجوز دولت بهشلي- ستُنهي مشواره السياسي، وقد لا ينجح مستقبلاً حتى أن يكون نائباً بالبرلمان.

> يرى مراد كاران، مدير الأبحاث في مركز «آريا» التركي لاستطلاعات الرأي، كتلة ناخبي سنان أوغان «شريحة قومية وكمالية، معظمها دون الـ40 سنة، تعيش في المدن وتستخدم وسائل التواصل الاجتماعي أكثر... وأفرادها صوّتوا لأوغان لأنهم لم يُعجبوا بأي من المرشحين الرئيسيين. لكن أبرز السمات المميزة لهؤلاء الناخبين هو الشعور المناهض لإردوغان». ويضيف: «هذا هو الشعور السائد، ولقد أثار إحجام أوغان عن إخطار حتى زملائه المقربين منه، في أثناء إعلانه دعمه لتحالف (الشعب)، رد فعل كبيراً». وهو يتوقع أن يصل معدل التصويت لكليتشدار أوغلو الذي كان نحو 45 في المائة، إلى 48 في المائة في جولة الإعادة. وسيكون الفارق في الأصوات بين المرشحين في هذه الجولة ضئيلاً.

أما المحلل السياسي والكاتب، ياووز سليم دميراغ، فيرى أن من بين النسب التي حصل عليها أوغان، هناك 2.4 في المائة من الأصوات تعود إلى أوميت أوزداغ، رئيس حزب «النصر». وهناك كتلة لا ترضى عن وجود حزب «الحركة القومية» بسبب انضمامه إلى تحالف «الشعب» مع حزب «العدالة والتنمية»، و1 في المائة من ناخبي حزب «الجيد» برئاسة ميرال أكشينار، لرفضهم انضمام الحزب إلى تحالف «الأمة» المعارض بقيادة «الشعب الجمهوري». وهكذا، يتبقى من كتلة أصوات أوغان في الجولة الأولى نحو 0.5 في المائة قد لا يستطيع أوغان إقناعهم بالتصويت لإردوغان.