العالم بعد قمتي «السبع الكبار» و«منظمة شنغهاي»

«الشرق الأوسط» تنشر ثلاث قراءات أميركية وروسية وأوروبية

المستشارة الألمانية انجيلا ميركل تتحدث الى الرئيس ترمب خلال قمة «السبع الكبار» في كيبيك. (رويترز)
المستشارة الألمانية انجيلا ميركل تتحدث الى الرئيس ترمب خلال قمة «السبع الكبار» في كيبيك. (رويترز)
TT

العالم بعد قمتي «السبع الكبار» و«منظمة شنغهاي»

المستشارة الألمانية انجيلا ميركل تتحدث الى الرئيس ترمب خلال قمة «السبع الكبار» في كيبيك. (رويترز)
المستشارة الألمانية انجيلا ميركل تتحدث الى الرئيس ترمب خلال قمة «السبع الكبار» في كيبيك. (رويترز)

تزامن انعقاد قمة «السبع الكبار» في كيبيك الكندية مع قمة «منظمة شنغهاي» في مدينة تشينغداو الصينية الأسبوع الماضي وما جرى فيهما، قد يكون مؤشرا للمرحلة الجديدة التي دخل فيها العالم والقوى الكبرى.
وخيمت على قمة كيبك الخلافات بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب وحلفائه الآخرين حول أمور كثيرة بينها دعوته إلى إعادة روسيا إلى نادي الكبار ومسائل المناخ والعلاقات التجارية، إضافة إلى الموقف من الاتفاق النووي الإيراني.
في المقابل، نوه الرئيس الصيني شي جينبينغ في قمة «منظمة شنغهاي» بالتعاون والمستقبل الواعد و«وحدة دول التكتل» الذي يضم روسيا وأربع جمهوريات سوفياتية سابقة وعضوين جديدين هما باكستان والهند. كما التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره الإيراني حسن روحاني على هامش القمة وعبر له عن دعمه لانضمام طهران إلى المنظمة.
«الشرق الأوسط» سألت السفير الأميركي الأسبق في سوريا والجزائر روبرت فورد والسفير الفرنسي الأسبق في دمشق ميشال دوكلو ورئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية فيتالي نعومكين عن رأيهم بقمتي «السبع الكبار» و«منظمة شنغهاي». وهنا آراؤهم:
> هل نتفاءل بقمة ترمب ـ كيم؟
روبرت فورد

شهد الثلاثاء الماضي العرض السياسي الكبير المتمثل في اجتماع الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون في سنغافورة. وقبل عام كامل، كان الزعيمان الأميركي والكوري الشمالي يهددان بشن الحرب النووية كلاهما ضد الآخر. والآن يجتمعان ويبتسمان ويتصافحان ويتحادثان لساعات. لقد شهدنا للتو قمة الدول الغربية الكبرى في كندا التي كان من المفترض أن يسهل خروجها عن الأطوار. فماذا حدث في القمة الأكثر صعوبة بين الرئيس ترمب والرئيس كيم؟
تملك الولايات المتحدة بالفعل خبرة ممتدة وسجلا طويلا من التفاوض غير المجدي وغير المثمر مع كوريا الشمالية. وطرح السفير الأميركي الأسبق لدى روسيا مايكل ماكفول المقرب من الرئيس السابق باراك أوباما، سؤالا على حسابه في «تويتر» قال فيه: «كيف يتسنى لترمب التوصل إلى اتفاق بشأن الأسلحة النووية في كوريا الشمالية إن كان لا يستطيع مجرد التفاوض على صفقة بسيطة بشأن تجارة منتجات الألبان مع أصدقائنا في كندا؟».
بيد أن اجتماع القمة في سنغافورة لا علاقة له بالاتفاق النهائي بين واشنطن وبيونغ يانغ على أي حال. وصرح الرئيس الأميركي بأنه لم يتجهز بدرجة كبيرة لهذا الاجتماع. وبعض من الرؤساء الآخرين الذين عرفتهم كانوا يحملون مجلدات ضخمة مليئة بالمستندات الكثيرة ذات التفاصيل المعقدة، غير أن السيد دونالد ترمب غير مولع بالتفاصيل الصغيرة. وبالنسبة له، فإن اجتماع القمة يتعلق بعلاقته الشخصية مع زعيم كوريا الشمالية. وصرح الرئيس ترمب لوسائل الإعلام الأميركية بأنه يعمل بشكل رئيسي عن طريق حدسه وغريزته. وقال أيضا إنه سيدرك في غضون 5 دقائق من بدء الاجتماع ما إذا كان يمكن إبرام الاتفاق النهائي مع كيم من عدمه. وتحليله الأخير الموجه إلى الشعب الأميركي لخصه في عبارة: «سوف نرى ما سوف تسفر عنه الأمور».
فإن كان تقييم الاجتماعات الأميركية - الكورية الشمالية أنها جيدة، فسنشهد إطلاق عملية طويلة من المفاوضات بين الجانبين. والبدء في عملية التفاوض هذه من الخطوات الجيدة، نظرا لأن تواصل المفاوضات واستمرار الاتصالات بين الخبراء والدبلوماسيين من شأنهما أن يسفرا عن انخفاض حدة التوتر في شبه الجزيرة الكورية.
يخشى رئيس كوريا الشمالية أن تشن الولايات المتحدة هجوما ضد نظامه. ومن شأن الضمانات الأمنية التي يريدها كيم أن تتسق مع معاهدة السلام المنشودة، ولكن ما الذي تعنيه عبارتا «معاهدة السلام» و«الضمانات الأمنية» على الحقيقة. بالنسبة إلى الجانب الأميركي، فإن «معاهدة السلام» ستحل محل اتفاق الهدنة الموقع عليه في عام 1953 والذي توقفت بموجبه الحرب الكورية. وتعتقد كوريا الشمالية أن معاهدة السلام تعني رحيل كل القوات الأميركية عن كوريا الجنوبية. كما ترغب كوريا الشمالية أيضا في سحب القوات النووية الأميركية المنتشرة في آسيا، والتي يمكنها توجيه الضربات الانتقامية ضد بيونغ يانغ في حال شنها الهجوم أولا. فهل تعدّ كوريا الجنوبية، واليابان، والولايات المتحدة الأميركية على استعداد لذلك؟ وما الدور الصيني في ما يتعلق بالضمانات الأمنية المتوقعة في شبه الجزيرة الكورية؟
يريد الأميركيون القضاء النهائي والتام على الأسلحة النووية في كوريا الشمالية، بالإضافة إلى إقامة نظام قوي من التفتيش والتحقق داخل كوريا الشمالية. فهل من شأن ذلك أن يتضمن الصواريخ الباليستية؛ حيث أعلنت واشنطن من قبل أن اتفاقية الأسلحة النووية مع إيران يجب أن تشمل برنامج الصواريخ الإيراني كذلك؟ وهل كوريا الشمالية على استعداد لتدمير ترسانتها الوطنية كافة من الصواريخ الباليستية وقبول عمليات التفتيش الدولية المفاجئة، من دون إنذار مسبق، على أي موقع وفي أي وقت؟ وهل سوف تقبل كوريا الشمالية بشروط الإدارة الأميركية التي رفضتها إيران من قبل؟
ولعل الأمر الجدير بالاهتمام إن كانت هناك مفاوضات مستقبلية بين الجانبين هو: من سيكون مسؤولاً عن تقديم أول التنازلات؟ وهل ستقبل كوريا الشمالية، من حيث المبدأ، الإزالة الكاملة لبرنامج الأسلحة النووية، واتخاذ بعض الخطوات الأولية الصغيرة والملموسة على هذا المسار، أم ستصر على أن يتقدم الجانب الأميركي أولا بالتنازلات واتخاذ الخطوات الجادة في ما يتعلق بالضمانات الأمنية المنشودة؟ تلك نوعية التفاصيل المدرجة في سجلات الإحاطة السياسية التي لم يقرأها الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وتلك هي التفاصيل التي سوف يتعين على الولايات المتحدة وكوريا الشمالية التعامل معها وتلمس شتى السبل لحلها وتسويتها.
عندما كنت دبلوماسياً شاباً في أول حياتي المهنية عام 1986، التقى الرئيس الراحل رونالد ريغان مع زعيم الاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف في العاصمة الآيسلندية ريكيافيك. وقد تم ترتيب تلك القمة في عجالة لأجل مناقشة ملف الأسلحة النووية ونزع السلاح. ولم يكن الرئيس ريغان، كمثل الرئيس ترمب، مولعا بالتفاصيل، وقبل وصوله إلى آيسلندا لم تكن هناك ترتيبات مسبقة بين المفاوضين الأميركيين والروس، وكان هناك يومان من المباحثات المكثفة والمضنية والشاقة بين الزعيمين ريغان وغورباتشوف. وانتهت أعمال القمة من دون التوصل لأي اتفاق، وألقى كل من ريغان وغورباتشوف بلائمة الفشل في ذلك كلاهما على الآخر.
لكن التاريخ يقول إن قمة ريكيافيك، في خاتمة المطاف، لم تكن فشلا بالمعنى المعروف. بدلا من ذلك، طور كل من ريغان وغورباتشوف نوعا من العلاقات الشخصية؛ فلقد تحدث كل منهما مع نظيره بكل صراحة وانفتاح ووضوح. واكتشاف أنهما يرغبان فعلا في الحد من الأسلحة النووية حتى وإن لم يتفق المفاوضون من الجانبين على التفاصيل. وفي عامي 1987 و1991 وقعت واشنطن وموسكو على اتفاقيات مهمة للغاية بشأن الأسلحة النووية كان الفضل الأول فيها يرجع إلى قمة ريكيافيك.
الرئيس دونالد ترمب ليس هو الرئيس رونالد ريغان بطبيعة الحال. ولم تكن قمة مجموعة السبع في كندا لتسفر عما أسفرت عنه يوم الأحد الماضي، كما حدث، إن كان الرئيس الأميركي الحالي هو رونالد ريغان. غير أن الرئيس ترمب يشعر بسعادة بالغة لأن يكون هو، بشخصه، مركز الجاذبية في المسرح السياسي؛ حيث ينظر إلى نفسه نظرة القائد العظيم. وسنرى ما سيحدث.
- السفير الأميركي السابق لدى سوريا والجزائر
خاص بـ«الشرق الأوسط»

> يا لها من أيام سعيدة لبوتين
ميشال دوكلو

يا لها من أيام سعيدة لفلاديمير بوتين، أيام سعيدة بالتأكيد: في كيبيك، عكست قمة مجموعة السبع صورة واضحة ومثيرة للذهول عن ازدراء الرئيس ترمب لأقرب حلفاء الولايات المتحدة، كما عكست حدة الانقسامات العميقة التي باتت جلية الآن داخل المعسكر الغربي. كيف لا يتعارض ذلك مع السلاسة التي شهدتها قمة شنغهاي للتعاون؟ وكيف يمكن للسيد بوتين، في سياق الصداقة الجديدة المثيرة للدهشة بين الرئيس الأميركي والزعيم الكوري الشمالي، ألا يتوقع المزيد من التطورات الجيدة التي تصب في صالحه، والناجمة عن البيت الأبيض؟
قبل مغادرته إلى كندا للانضمام إلى زعماء أكثر دول العالم تقدماً في الاقتصاد، أعلن الرئيس ترمب أنه على الرغم من اللياقة السياسية، فإنه يعتقد أنه تنبغي دعوة الرئيس الروسي مرة أخرى إلى ما كان عليه اسم المجموعة من قبل «مجموعة الثماني».
وأثارت هذه التصريحات غضب نظرائه الذي يتذكرون أن روسيا قد خرجت من تلك المجموعة ليس بسبب الصواب السياسي، ولكن في أعقاب غزوها لأوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم إلى سيادتها.
وعلاوة على ذلك، روسيا ليست بالاقتصاد الموجَّه نحو الأسواق في واقع الأمر، وهي ليست بالاقتصاد الكبير، وليست بالتأكيد من الدول الديمقراطية. وبالنسبة للقضايا الجوهرية في القمة، فإن الأعمال التحضيرية المعتادة جرت بطريقة عسيرة للغاية. واستحدث وزير المالية الفرنسي برونو لومير اصطلاحاً جديداً هو «مجموعة الست زائد واحد»، في إشارة إلى الثغرة الواضحة بين الولايات المتحدة الأميركية والدول الأعضاء الآخرين (كندا، وإيطاليا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، وألمانيا، واليابان، ومؤسسات الاتحاد الأوروبي).
ومع ذلك، تم الوصول إلى بعض الصياغات التوافقية، على مضض كبير، للتأكيد على أهمية نظام التجارة الدولية القائمة على القواعد.
وصل الرئيس دونالد ترمب متأخراً إلى القمة، وغادر مبكراً للغاية، ومِن على متن الطائرة التي كانت تقله إلى سنغافورة (لحضور القمة مع الرئيس كيم)، تنكَّر تماماً للإعلان المشترك الذي كان قد أيده قبل دقائق معدودة. كما أعرب عن غضبه الشخصي من رئيس الوزراء الكندي، الذي ترأس أعمال القمة، وهدد بفرض الرسوم الجمركية الجديدة على كندا.
وفي الأثناء ذاتها، عقدت الصين، وروسيا، وباكستان، والهند، وأربع دول مركزية في آسيا، الاجتماع السنوي لمنظمة شنغهاي للتعاون في مدينة تقع بجنوب الصين. وكان ضيف الشرف على أعمال القمة هو الرئيس الإيراني حسن روحاني. وأدرجت التعهدات بزيادة التعاون الاقتصادي في بيان مشترك لم يتراجع عنه أحد. وأعلنت الصين وغيرها من الدول عن التزامها بالدفاع عن خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني)، في إشارة مفعمة بالتحدي ضد الولايات المتحدة الأميركية. وانتهز الرئيس الصيني الفرصة للتأكيد على دعم بلاده للاقتصاد المفتوح، ومنظمة التجارة الدولية. واستغل الرئيس الروسي الفرصة للتباهي بأنه لم يكن مهتماً فعلاً بالعودة إلى مجموعة الثماني، إن كان سوف يتم إعادة هيكلة هذه المجموعة، إذ إن منظمة شنغهاي للتعاون تحمل في الواقع ثقلاً اقتصادياً كبيراً (وهو الأمر غير الدقيق)، وأن التجمع الدولي الأهم هو مجموعة العشرين.
ومن المهم في هذا السياق أن نضع كلمات السيد بوتين في سياقها الصحيح. في واقع الأمر، ومن دون التقليل من أهمية منظمة شنغهاي للتعاون، فإن هذه المنظمة مكرَّسة بالأساس لإدارة الاختلافات وحالات التنافس المحتملة بين الدول الأعضاء في أواسط آسيا. ومع ذلك، فإن حقيقة تمكُّنِها من التوسع وضم الهند وباكستان إلى عضويتها تُعد من النجاحات الكبيرة. وطالما كانت روسيا حريصة على العثور على المجموعة القادرة على تجسيد العالم متعدد الأقطاب. وكانت الدبلوماسية الروسية جوهرية في تسهيل إضفاء الطابع المؤسسي على الاجتماع السنوي لدول «البريكس». ولبضع سنوات، شكلت هذه المجموعة تحدياً حقيقياً لمجموعة السبع المتمركزة حول الأطلسي (التي تمثل اليابان فيها الدولة غير المنتمية للعالم الغربي). وصار نجم مجموعة «البريكس» أقل سطوعاً عن ذي قبل، نظراً للأداء الاقتصادي الضعيف لبعض الدول الأعضاء، والأزمات السياسية في البرازيل وفي جنوب أفريقيا إلى حد ما. وصحيح أن صعود منظمة شنغهاي للتعاون، في السياق ذاته، يظهر بشكل خاص في الوقت المناسب.
كانت هذه الملاحظات تتعلق بالأعمال المسرحية للقمة الأخيرة. ودعونا نحاول المضي قدماً قليلاً. أولاً، إذا كان ترمب يريد فعلاً إنهاء مجموعة السبع، وليس المجموعة نفسها وإنما السياسات التي تتمخض عن هذه المجموعة (أو ما يُسمَّى بالنظام الليبرالي الدولي)، فإننا سنعيش في عالم مختلف تماماً. ولاحظ معلقون آخرون بالفعل أن «مجموعة السبع ناقص واحد» تتساوى في واقع الأمر مع المنظمة الدولية التي لا تحظى بدعم ومشاركة الولايات المتحدة، وبالتالي يبقى هناك القليل للغاية مما يمكن لمجموعة الست أن تفعله في حماية وتعزيز التعاون الدولي.
وهنا، قد يقع خلاف ما بين الصين وروسيا: في المقام الأول، روسيا على استعداد لتقويض النظام الدولي مثل الذي أقامه الأميركيون بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى العكس من ذلك، يمكن للصين التظاهر بأن تكون القوة العظمى المهيمنة التالية في هذا النظام، ولديها المزيد من المصالح والاهتمامات للعمل ضمن هذا النظام بدلاً من تقويضه.
ثانياً، من المرجَّح تماماً الآن أن يستمر ويزيد الصدع القائم بين الولايات المتحدة وحلفائها - وحلفاء الأطلسي على الأقل الآن. وتميزت الشهور الأولى للإدارة الأميركية الجديدة تحت ظل ترمب بالخلافات حيث كانت واشنطن تنأى بنفسها جانباً عن حلفائها التقليديين - بشأن اتفاقية باريس للتغيرات المناخية بصورة خاصة - وتوجيه الانتقادات المستمرة إليهم - بشأن إسهاماتهم في الدفاع المشترك على سبيل المثال.
وبلغت واشنطن مستوى جديداً من الخلاف اتخذت فيه إجراءات لممارسة المزيد من الضغوط على الحلفاء، إن لم يكن لمعاقبتهم: وهذا هو الحال بالنسبة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، حيث يتعين على الجانب الأوروبي دعم أعباء إعادة فرض العقوبات ضد إيران، وبالطبع مواجهة حرب الرسوم الجمركية التي شنَّتها إدارة الرئيس ترمب. وفي هذا السياق الجديد، ازداد تدهور العلاقات، المتضررة بالفعل، مع ألمانيا، في حين دخلت العلاقات مع فرنسا والمملكة المتحدة إلى منطقة خطرة. وهناك مجازفة كبيرة بأن تطغى هذه المشاعر المسمومة على جوهر العلاقات عبر الأطلسي، وعلى تحالف الأطلسي ذاته.
ومن شأن قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) أن تُعقَد في بروكسل في الفترة بين 11 و12 يوليو (تموز) المقبل، ولا يجرؤ أحد على تصور قمة بمثل كارثية قمة مجموعة السبع الأخيرة، ولكن في واقع الأمر، من الممكن للغاية أن تحقق الأحلام السعيدة للقيادة الروسية.
ثالثاً، أحد الدروس المستفادة من الأحداث الأخيرة هو أن السيد ترمب يبدو أنه قد عثر على أسلوبه الخاص في الدبلوماسية: فهو يقول ما يريد، ولا يحترم الحكم التقليدية أو المحرمات، ويشعر بحرية مطلقة في تغيير آرائه وقتما يشاء وبسرعة فائقة، وهو يثمن الخصوم التقليديين بأكثر من تقديره للحلفاء القدامى، ويثق كثيراً في حدسه وغريزته أكثر من ثقته في أي شيء آخر، وهو على استعداد للانخراط في مؤتمرات القمة الشخصية إثر تجهيز وإعداد وجيز للغاية على أساس أنه سوف يعرف أفضل من أي شخص آخر إن كان يمكن الثقة في الزعيم الأجنبي، حتى الديكتاتور المستبد كيم جونغ أون، من عدمه.
والآن، وحيث إننا نتعامل مع دونالد ترمب غير المقيَّد، فمن غير المتصور أن الرئيس الأميركي، بعد قمة «حلف الناتو» الفاشلة، وزيارة العاصمة لندن التي تستلزم فنجاناً من الشاي مع جلالة الملكة، يقرر على نحو مفاجئ الذهاب إلى حفل افتتاح كأس العالم لكرة القدم في موسكو، ويعقد لقاءً كبيراً مع الرئيس فلاديمير بوتين في الكرملين.
وهذا مجرد سيناريو تصوري قد لا يتحول أبداً إلى واقع، ولكن حقيقة أنه في عالم الممكن يظهر المدى الذي ينضبط فيه المشهد الدولي بشكل كبير. وفي مثل هذا السيناريو، ينبغي على دونالد ترمب أن يعارض النفور الكلي للحزب الجمهوري والطبقة السياسية الأميركية من السياسات الحالية للقيادة الروسية. وصحيح أيضاً أنه من شأن هذه الخطوة أن تشكل طريقة شديدة الغرابة للتعامل مع الشكوك التي جسدها تساؤل موللر حول حملة ترمب الانتخابية وضلوع روسيا في مجرياتها. ولكن بعد كل شيء، مَن يدري كيف يكون رد فعل القاعدة الانتخابية للرئيس الأميركي؟ كذلك، أليس هذا هو العامل الوحيد المهم بالنسبة للسيد ترمب؟
على أية حال، في ظل قمة حلف الناتو المعقدة أم لا، ومع زيارة ترمب إلى موسكو من عدمها، فإن حلفاء الولايات المتحدة يواجهون معضلة شديدة القسوة، إثر فشل قمة مجموعة السبع الأخيرة: من ناحية، إن امتثلوا لمطالب ترمب وأذعنوا لتذمره الشديد، فإن يساهمون تلقائياً في إضعاف النظام الذي أكد سيطرة الغرب على النظام الدولي حتى اليوم، وربما هم يحفزون الرئيس الأميركي على ممارسة المزيد من الضغوط رغماً عن مصالحهم، بالنسبة للقضايا التجارية على سبيل المثال.
ومن ناحية أخرى، إن تخيروا الاتحاد فيما بينهم ومقاومة إرادة البيت الأبيض، فإنهم بالتالي يساهمون في تعميق الانقسام الذي يعاني منه الغرب. وعلى أي حال، ومرة أخرى، إنه الوقت المناسب للرئيس فلاديمير بوتين. ويا له من وقت مناسب حيث قد يتناسى أنه في خاتمة المطاف سوف يصب إضعاف الغرب في صالح الصين بصورة أساسية حسن النيات الذي سوف تعتمد روسيا عليه أكثر فأكثر.
- السفير الفرنسي الأسبق في سوريا
خاص بـ«الشرق الأوسط»

> قمتان وسياستان... ورئيسان
فيتالي نعومكين

تزامُن قمة مجموعة السبع مع قمة منظمة شنغهاي للتعاون كان رمزياً. ليس هناك ما يثير الاستغراب بأن يكون للقاء قادة الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون معنى خاص بالنسبة لروسيا التي لا تزال تحت تأثير الضغط المتنامي من قبل دول الغرب.
لأول مرة تعقد هذه القمة بتشكيلتها الموسعة بمشاركة الهند وباكستان بصفتهما عضوين كاملَيْ الصلاحية في المنظمة. نتائج قمة «تشينغداو» استُقبِلت بحماس؛ فهي فاقت كل التوقعات رغم الإدراك تماماً في موسكو وجود مشكلات جدية بين بعض أعضاء المنظمة تفرق فيما بينهم وليس لدى أحد وَهْم بإمكانية حلها بسرعة. فهي بالدرجة الأولى تمس العضوين الجديدين في المنظمة.
أما نتائج القمة الأخرى التي عقدت في كندا فهي من جهة فاجأت بالتشدد الذي أبداه الرئيس دونالد ترمب في دفاعه عن مواقفه بالضغط غير المسبوق على حلفائه المقربين، وكذلك بعدم خوفه من عرض حجم الخلافات الموجودة بين أعضاء هذه المجموعة أمام العالم. في تعليقه على الأزمة في المجتمع العابر للأطلسي كتب الصحافي والمحلل السياسي الروسي المشهور والمقرب من الكرملين فيودور لوكيانوف في مقالته بمجلة «بروفيل»: «من الصعب التذكر متى كان قد تم تحدي الاتحاد الأوروبي بهذا الشكل الصارخ بأن رأيه لا قيمة له».
أما من جهة أخرى، فإن نتائج قمة مجموعة السبع أثارت حفيظة الكرملين، بحسب رد الفعل الرسمي الروسي، ذلك لأن الإعلان المشترك لـ«مجموعة السبع»، وكما يرون هنا، كعادته مبني على الكراهية لروسيا (فلقد تم التوافق على نصه من قبل الجميع بمن فيهم الولايات المتحدة رغم أن ترمب في نهاية المطاف لم يوقع عليه). مرة أخرى الدعوات لروسيا بـ«وقف التصرفات غير البناءة ونسف الأنظمة الديمقراطية ومساندة النظام في سوريا». مرة أخرى التهديدات بفرض عقوبات جديدة. الشروخ العميقة في التضامن بين أعضاء «مجموعة السبع» لم تمنعهم من تكرار الاتهامات التي لا أساس لها ومن دون أدلة تجاه روسيا بخصوص ضلوعها في محاولة تسميم المواطنين الروسيين في سالزبوري.
رغم أن بعض وسائل الإعلام الروسية المناهضة في توجهاتها للغرب لم تبخل في الكلام عن القمة في كندا بحديثها عن «الفضيحة» التي وقعت، وهنا المقصود مغادرة ترمب للقمة قبل اختتامها و«الانقسام» في المجتمع العابر للأطلسي، وحتى عن احتمال أن تكون هذه القمة هي الأخيرة، فإن رد الفعل الرسمي الروسي كان متزناً ولم يحمل في طياته أي نوع من الشماتة رغم وجود دافع للشعور بذلك.
هنا على ما يبدو ينطلقون من أن واشنطن بشكل أو بآخر ستتمكن من ترويض الأوروبيين ممن لا يتفقون معها حول عدد من القضايا. هذا بدا واضحاً من خلال تصرفات الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون الذي بدأ في تغيير موقفه تجاه الصفقة النووية مع إيران. لا تؤخذ هنا في الحسبان تصريحات بعض السياسيين الفرنسيين الحادة مع أن مثل هذا المزاج لا يزال موجوداً.
قبل عدة أيام قال بيار لولوش، الرئيس السابق للجمعية البرلمانية لحلف شمال الأطلسي (ناتو) والمحارب القديم في الحزب الديغولي، في خطابه من على منصة المنتدى الدولي «قراءات بريماكوف» في موسكو: «أنا لا أريد أن أعيش في عالم تملي فيه وزارة المالية للولايات المتحدة على الفرنسيين أين بإمكانهم أن يستثمروا أموالهم وأين لا يمكنهم فعل ذلك». وفي مسائل «الحرب التجارية» فسيضطر الأوروبيون بالإضافة إلى كندا والمكسيك إلى ابتلاع حبة الدواء الأميركية المُرَّة. فالشركات الأوروبية لا تريد أن تواجه العقوبات الأميركية نتيجة مواصلة تعاونها مع إيران (ترمب كان قد استعرض استعداده إلى عدم الاكتراث بآراء حلفائه). فتكلفتها أكبر. حتى إن بعض ممثلي الطبقة السياسية الروسية خلال الأحاديث الخاصة يعبرون عن إعجابهم بقدرة ترمب على الدفاع عن مصالح بلده «أميركا أولاً»، بما فيه باستخدام الأساليب الخشنة في بعض الأحيان، وفي التزامه بما تعهَّد به من وعود خلال حملته الانتخابية، ما عدا تعهداً واحداً: تسوية العلاقات مع روسيا.
جملة ترمب حول الرغبة في عودة روسيا جاءت مفاجئة بعض الشيء. لكن رد فعل موسكو على ذلك كان بارداً للغاية. ذلك أنه في موسكو، أولاً: يدركون تماماً أن هذا لن يحصل في المستقبل القريب، وثانياً: لقد غير الكرملين توجهه إلى صيغ أخرى يراها واعدة وذات أهمية أكبر، وهي بالدرجة الأولى مجموعة العشرين ومنظمة شنغهاي للتعاون.
تقييم موسكو لنتائج قمة منظمة شنغهاي للتعاون كان إيجابياً للغاية. القمة عُقِدت من دون خلافات. على أقل ما يمكن في تشينغداو لم يغادر أحد القمة قبل اختتامها. أما الوثيقة الختامية (بيان تشينغداو)، فلقد وَقَّع عليها جميع المشاركين. وبشكل عام تم التوقيع على 17 وثيقة حول نتائج المحادثات. في الوقت نفسه، كما قال أحد الصحافيين، فإن المشاركين في القمة حاولوا أن يتفقوا «قبل أن ينتقلوا من الكلام إلى الفعل». على الأغلب هذا كان مهماً بالنسبة للأعضاء الجدد في منظمة شنغهاي للتعاون، من الذين تربطهم علاقات معقدة أي الهند وباكستان.
في هذا السياق أشار المحلل السياسي ديمتري كوسيريف إلى «النشاط الماهر لرئيس الوزراء الهندي مودي في بناء علاقات متكافئة مع جميع مراكز القوى في العالم». اللقاءات الثنائية بين القادة على هامش القمة هي أيضاً كانت ذات أهمية، خصوصاً اللقاء بين الرئيس بوتين والرئيس شي جينبينغ. لقد تم توقيع عدد غير مسبوق من الاتفاقيات والعقود بين روسيا والصين بما في ذلك في مجال الطاقة النووية. الرئيس بوتين وعد، خلال حديثه مع الرئيس الإيراني حسن روحاني، بمساندته «في سعيه للتعاون في إطار منظمة شنغهاي».
في موسكو كالعادة يولون الاهتمام الأكبر لتصريحات الرئيس الصيني. رغم أن شي جينبينغ دائماً لبق وحذر في أقواله، عندما يتحدث عن الولايات المتحدة، فلقد كان واضحاً مَن يقصد حين قال: «رغم أن الهيمنة وسياسة القوة لا تزالان تجدان مكاناً لهما في العالم المعاصر، فإن دعوتي إلى نظام عالمي عقلاني وعادل تجذب الاهتمام».
وتحدث أيضاً عن القوى الهدامة في العالم قاصداً فيها بعض الدول من تلك التي وقعت على البيان الختامي لقمة «مجموعة السبع»، وليس تلك الدول التي تحدث عنها هذا البيان.
الرئيس الروسي أولى اهتماماً خاصاً بالمشروع الجديد الذي يتم تحضيره من قبل موسكو وبكين - الشراكة الاقتصادية الأوروآسيوية، التي، وكما أكد الرئيس بوتين «ستكون منفتحة لانضمام جميع دول منظمة شنغهاي». لا تزال تفاصيل هذا المشروع غير معلنة. لكن ما هو معروف أنه في إطار الاتحاد المصرفي للمنظمة ستطلق الصين برنامج اقتراض لهذا الغرض بـ30 مليار يوان (4.7 مليار دولار).
من بين فقرات البيان الختامي التي حازت على اهتمام كبير في روسيا هي تلك التي تتحدث عن التغيرات الخطيرة في الهيكلة العالمية، عن ازدياد عوامل عدم الاستقرار والضبابية في مستقبل العلاقات الاقتصادية الدولية، وعن تحديات التجارة العالمية من جهة الحمائية ونمو مخاطر تفاقم الأزمات الإقليمية، وعن نمو خطر التهديدات الإرهابية والتداول غير الشرعي للمخدرات والجريمة المنظمة... إلخ. لقد برز مصطلح جديد (روح شنغهاي)، الذي كان مخالفاً تماماً لتلك الأجواء التي خيمت على لقاء «مجموعة السبع».
فما هو المقصود بهذا المصطلح أو هذه الروح؟ هي «الثقة المتبادلة والمساواة والمنفعة المتبادلة والمساواة في الحقوق والمشاورات المتبادلة، واحترام التنوع الثقافي والسعي للتطور المشترك».
إجماع المشاركين على الدعوة لزيادة الكفاح ضد الإرهاب والفساد وتداول المخدرات والتمسك بالحرص على الفضاء السلمي وعدم انتشار الأسلحة النووية والتسوية السريعة للأزمات في أفغانستان وسوريا وشبه الجزيرة الكورية، حمل أهمية خاصة بالنسبة لموسكو. وتمت أيضاً الإشارة إلى أهمية تطبيق خطة العمل الشاملة المشتركة بشأن البرنامج النووي الإيراني. من الممكن أن الإجماع حول هذه المشكلة الأخيرة لن يرضي جميع اللاعبين الفاعلين.
أظهرت القمة نمو دور «صيغة شنغهاي» في السياسة العالمية والنظام الاقتصادي. فليس من الضروري وضعها في مواجهة مباشرة أمام الصيغ الأخرى أو أن ينظر إلى مشاريعها الطموحة (التي لا تزال مشاريع) كتحدٍّ موجَّه من قبل المحركين الأساسيين فيها (الصين وروسيا) ضد اللاعبين الدوليين الأكثر نفوذاً. لكن مما لا شك فيه هو أن هذه المنظمة ستستمر في تأثيرها في عملية تشكيل نظام عالمي جديد بصورة صحيحة.
- رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية - موسكو
خاص بـ«الشرق الأوسط»


مقالات ذات صلة

2024 أول عام تتجاوز فيه الحرارة 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة

العالم من آثار الاحترار الأرضي في منتزه ماتو غروسو في البرازيل (أ.ف.ب)

2024 أول عام تتجاوز فيه الحرارة 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة

قال علماء اليوم الجمعة إن عام 2024 كان أول عام كامل تتجاوز فيه درجات الحرارة العالمية عتبة 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
يوميات الشرق موظف في مدينة ميامي يوزع زجاجات المياه على المشردين لمساعدتهم على التعامل مع درجات الحرارة المرتفعة (أ.ب)

الهند: عام 2024 كان الأعلى حرارة منذ 1901

أعلنت إدارة الأرصاد الجوية الهندية، الأربعاء، أن عام 2024 كان الأكثر حرّاً منذ سنة 1901، في ظل ظروف الطقس الحادة التي يشهدها العالم.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
بيئة منطقة سكنية غارقة بالمياه جرّاء فيضان في بتروبافل بكازاخستان 13 أبريل (رويترز)

الأمم المتحدة: التغير المناخي تسبّب في ظواهر مناخية قصوى عام 2024

أعلنت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية أن التغير المناخي تسبّب في أحوال جوية قصوى وحرارة قياسية خلال عام 2024، داعيةً العالم إلى التخلي عن «المسار نحو الهلاك».

«الشرق الأوسط» (جنيف)
صحتك رجل يسكب الماء على رأسه أثناء موجة حر في هيوستن بولاية تكساس بالولايات المتحدة 25 أغسطس 2023 (رويترز)

دراسة: كبار السن أكثر قدرة على تحمل حرارة الطقس مقارنة بالشباب

كشفت دراسة مكسيكية أنه على عكس الاعتقاد السائد، فإن كبار السن أكثر قدرة على تحمل موجات الحرارة مقارنة بالشباب.

«الشرق الأوسط» (سان فرانسيسكو)
خاص تم تحسين هذه النماذج لمحاكاة سيناريوهات المناخ مثل توقع مسارات الأعاصير مما يسهم في تعزيز الاستعداد للكوارث (شاترستوك)

خاص «آي بي إم» و«ناسا» تسخّران نماذج الذكاء الاصطناعي لمواجهة التحديات المناخية

«الشرق الأوسط» تزور مختبرات أبحاث «IBM» في زيوريخ وتطلع على أحدث نماذج الذكاء الاصطناعي لفهم ديناميكيات المناخ والتنبؤ به.

نسيم رمضان (زيوريخ)

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.