العالم بعد قمتي «السبع الكبار» و«منظمة شنغهاي»

«الشرق الأوسط» تنشر ثلاث قراءات أميركية وروسية وأوروبية

المستشارة الألمانية انجيلا ميركل تتحدث الى الرئيس ترمب خلال قمة «السبع الكبار» في كيبيك. (رويترز)
المستشارة الألمانية انجيلا ميركل تتحدث الى الرئيس ترمب خلال قمة «السبع الكبار» في كيبيك. (رويترز)
TT

العالم بعد قمتي «السبع الكبار» و«منظمة شنغهاي»

المستشارة الألمانية انجيلا ميركل تتحدث الى الرئيس ترمب خلال قمة «السبع الكبار» في كيبيك. (رويترز)
المستشارة الألمانية انجيلا ميركل تتحدث الى الرئيس ترمب خلال قمة «السبع الكبار» في كيبيك. (رويترز)

تزامن انعقاد قمة «السبع الكبار» في كيبيك الكندية مع قمة «منظمة شنغهاي» في مدينة تشينغداو الصينية الأسبوع الماضي وما جرى فيهما، قد يكون مؤشرا للمرحلة الجديدة التي دخل فيها العالم والقوى الكبرى.
وخيمت على قمة كيبك الخلافات بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب وحلفائه الآخرين حول أمور كثيرة بينها دعوته إلى إعادة روسيا إلى نادي الكبار ومسائل المناخ والعلاقات التجارية، إضافة إلى الموقف من الاتفاق النووي الإيراني.
في المقابل، نوه الرئيس الصيني شي جينبينغ في قمة «منظمة شنغهاي» بالتعاون والمستقبل الواعد و«وحدة دول التكتل» الذي يضم روسيا وأربع جمهوريات سوفياتية سابقة وعضوين جديدين هما باكستان والهند. كما التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره الإيراني حسن روحاني على هامش القمة وعبر له عن دعمه لانضمام طهران إلى المنظمة.
«الشرق الأوسط» سألت السفير الأميركي الأسبق في سوريا والجزائر روبرت فورد والسفير الفرنسي الأسبق في دمشق ميشال دوكلو ورئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية فيتالي نعومكين عن رأيهم بقمتي «السبع الكبار» و«منظمة شنغهاي». وهنا آراؤهم:
> هل نتفاءل بقمة ترمب ـ كيم؟
روبرت فورد

شهد الثلاثاء الماضي العرض السياسي الكبير المتمثل في اجتماع الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون في سنغافورة. وقبل عام كامل، كان الزعيمان الأميركي والكوري الشمالي يهددان بشن الحرب النووية كلاهما ضد الآخر. والآن يجتمعان ويبتسمان ويتصافحان ويتحادثان لساعات. لقد شهدنا للتو قمة الدول الغربية الكبرى في كندا التي كان من المفترض أن يسهل خروجها عن الأطوار. فماذا حدث في القمة الأكثر صعوبة بين الرئيس ترمب والرئيس كيم؟
تملك الولايات المتحدة بالفعل خبرة ممتدة وسجلا طويلا من التفاوض غير المجدي وغير المثمر مع كوريا الشمالية. وطرح السفير الأميركي الأسبق لدى روسيا مايكل ماكفول المقرب من الرئيس السابق باراك أوباما، سؤالا على حسابه في «تويتر» قال فيه: «كيف يتسنى لترمب التوصل إلى اتفاق بشأن الأسلحة النووية في كوريا الشمالية إن كان لا يستطيع مجرد التفاوض على صفقة بسيطة بشأن تجارة منتجات الألبان مع أصدقائنا في كندا؟».
بيد أن اجتماع القمة في سنغافورة لا علاقة له بالاتفاق النهائي بين واشنطن وبيونغ يانغ على أي حال. وصرح الرئيس الأميركي بأنه لم يتجهز بدرجة كبيرة لهذا الاجتماع. وبعض من الرؤساء الآخرين الذين عرفتهم كانوا يحملون مجلدات ضخمة مليئة بالمستندات الكثيرة ذات التفاصيل المعقدة، غير أن السيد دونالد ترمب غير مولع بالتفاصيل الصغيرة. وبالنسبة له، فإن اجتماع القمة يتعلق بعلاقته الشخصية مع زعيم كوريا الشمالية. وصرح الرئيس ترمب لوسائل الإعلام الأميركية بأنه يعمل بشكل رئيسي عن طريق حدسه وغريزته. وقال أيضا إنه سيدرك في غضون 5 دقائق من بدء الاجتماع ما إذا كان يمكن إبرام الاتفاق النهائي مع كيم من عدمه. وتحليله الأخير الموجه إلى الشعب الأميركي لخصه في عبارة: «سوف نرى ما سوف تسفر عنه الأمور».
فإن كان تقييم الاجتماعات الأميركية - الكورية الشمالية أنها جيدة، فسنشهد إطلاق عملية طويلة من المفاوضات بين الجانبين. والبدء في عملية التفاوض هذه من الخطوات الجيدة، نظرا لأن تواصل المفاوضات واستمرار الاتصالات بين الخبراء والدبلوماسيين من شأنهما أن يسفرا عن انخفاض حدة التوتر في شبه الجزيرة الكورية.
يخشى رئيس كوريا الشمالية أن تشن الولايات المتحدة هجوما ضد نظامه. ومن شأن الضمانات الأمنية التي يريدها كيم أن تتسق مع معاهدة السلام المنشودة، ولكن ما الذي تعنيه عبارتا «معاهدة السلام» و«الضمانات الأمنية» على الحقيقة. بالنسبة إلى الجانب الأميركي، فإن «معاهدة السلام» ستحل محل اتفاق الهدنة الموقع عليه في عام 1953 والذي توقفت بموجبه الحرب الكورية. وتعتقد كوريا الشمالية أن معاهدة السلام تعني رحيل كل القوات الأميركية عن كوريا الجنوبية. كما ترغب كوريا الشمالية أيضا في سحب القوات النووية الأميركية المنتشرة في آسيا، والتي يمكنها توجيه الضربات الانتقامية ضد بيونغ يانغ في حال شنها الهجوم أولا. فهل تعدّ كوريا الجنوبية، واليابان، والولايات المتحدة الأميركية على استعداد لذلك؟ وما الدور الصيني في ما يتعلق بالضمانات الأمنية المتوقعة في شبه الجزيرة الكورية؟
يريد الأميركيون القضاء النهائي والتام على الأسلحة النووية في كوريا الشمالية، بالإضافة إلى إقامة نظام قوي من التفتيش والتحقق داخل كوريا الشمالية. فهل من شأن ذلك أن يتضمن الصواريخ الباليستية؛ حيث أعلنت واشنطن من قبل أن اتفاقية الأسلحة النووية مع إيران يجب أن تشمل برنامج الصواريخ الإيراني كذلك؟ وهل كوريا الشمالية على استعداد لتدمير ترسانتها الوطنية كافة من الصواريخ الباليستية وقبول عمليات التفتيش الدولية المفاجئة، من دون إنذار مسبق، على أي موقع وفي أي وقت؟ وهل سوف تقبل كوريا الشمالية بشروط الإدارة الأميركية التي رفضتها إيران من قبل؟
ولعل الأمر الجدير بالاهتمام إن كانت هناك مفاوضات مستقبلية بين الجانبين هو: من سيكون مسؤولاً عن تقديم أول التنازلات؟ وهل ستقبل كوريا الشمالية، من حيث المبدأ، الإزالة الكاملة لبرنامج الأسلحة النووية، واتخاذ بعض الخطوات الأولية الصغيرة والملموسة على هذا المسار، أم ستصر على أن يتقدم الجانب الأميركي أولا بالتنازلات واتخاذ الخطوات الجادة في ما يتعلق بالضمانات الأمنية المنشودة؟ تلك نوعية التفاصيل المدرجة في سجلات الإحاطة السياسية التي لم يقرأها الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وتلك هي التفاصيل التي سوف يتعين على الولايات المتحدة وكوريا الشمالية التعامل معها وتلمس شتى السبل لحلها وتسويتها.
عندما كنت دبلوماسياً شاباً في أول حياتي المهنية عام 1986، التقى الرئيس الراحل رونالد ريغان مع زعيم الاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف في العاصمة الآيسلندية ريكيافيك. وقد تم ترتيب تلك القمة في عجالة لأجل مناقشة ملف الأسلحة النووية ونزع السلاح. ولم يكن الرئيس ريغان، كمثل الرئيس ترمب، مولعا بالتفاصيل، وقبل وصوله إلى آيسلندا لم تكن هناك ترتيبات مسبقة بين المفاوضين الأميركيين والروس، وكان هناك يومان من المباحثات المكثفة والمضنية والشاقة بين الزعيمين ريغان وغورباتشوف. وانتهت أعمال القمة من دون التوصل لأي اتفاق، وألقى كل من ريغان وغورباتشوف بلائمة الفشل في ذلك كلاهما على الآخر.
لكن التاريخ يقول إن قمة ريكيافيك، في خاتمة المطاف، لم تكن فشلا بالمعنى المعروف. بدلا من ذلك، طور كل من ريغان وغورباتشوف نوعا من العلاقات الشخصية؛ فلقد تحدث كل منهما مع نظيره بكل صراحة وانفتاح ووضوح. واكتشاف أنهما يرغبان فعلا في الحد من الأسلحة النووية حتى وإن لم يتفق المفاوضون من الجانبين على التفاصيل. وفي عامي 1987 و1991 وقعت واشنطن وموسكو على اتفاقيات مهمة للغاية بشأن الأسلحة النووية كان الفضل الأول فيها يرجع إلى قمة ريكيافيك.
الرئيس دونالد ترمب ليس هو الرئيس رونالد ريغان بطبيعة الحال. ولم تكن قمة مجموعة السبع في كندا لتسفر عما أسفرت عنه يوم الأحد الماضي، كما حدث، إن كان الرئيس الأميركي الحالي هو رونالد ريغان. غير أن الرئيس ترمب يشعر بسعادة بالغة لأن يكون هو، بشخصه، مركز الجاذبية في المسرح السياسي؛ حيث ينظر إلى نفسه نظرة القائد العظيم. وسنرى ما سيحدث.
- السفير الأميركي السابق لدى سوريا والجزائر
خاص بـ«الشرق الأوسط»

> يا لها من أيام سعيدة لبوتين
ميشال دوكلو

يا لها من أيام سعيدة لفلاديمير بوتين، أيام سعيدة بالتأكيد: في كيبيك، عكست قمة مجموعة السبع صورة واضحة ومثيرة للذهول عن ازدراء الرئيس ترمب لأقرب حلفاء الولايات المتحدة، كما عكست حدة الانقسامات العميقة التي باتت جلية الآن داخل المعسكر الغربي. كيف لا يتعارض ذلك مع السلاسة التي شهدتها قمة شنغهاي للتعاون؟ وكيف يمكن للسيد بوتين، في سياق الصداقة الجديدة المثيرة للدهشة بين الرئيس الأميركي والزعيم الكوري الشمالي، ألا يتوقع المزيد من التطورات الجيدة التي تصب في صالحه، والناجمة عن البيت الأبيض؟
قبل مغادرته إلى كندا للانضمام إلى زعماء أكثر دول العالم تقدماً في الاقتصاد، أعلن الرئيس ترمب أنه على الرغم من اللياقة السياسية، فإنه يعتقد أنه تنبغي دعوة الرئيس الروسي مرة أخرى إلى ما كان عليه اسم المجموعة من قبل «مجموعة الثماني».
وأثارت هذه التصريحات غضب نظرائه الذي يتذكرون أن روسيا قد خرجت من تلك المجموعة ليس بسبب الصواب السياسي، ولكن في أعقاب غزوها لأوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم إلى سيادتها.
وعلاوة على ذلك، روسيا ليست بالاقتصاد الموجَّه نحو الأسواق في واقع الأمر، وهي ليست بالاقتصاد الكبير، وليست بالتأكيد من الدول الديمقراطية. وبالنسبة للقضايا الجوهرية في القمة، فإن الأعمال التحضيرية المعتادة جرت بطريقة عسيرة للغاية. واستحدث وزير المالية الفرنسي برونو لومير اصطلاحاً جديداً هو «مجموعة الست زائد واحد»، في إشارة إلى الثغرة الواضحة بين الولايات المتحدة الأميركية والدول الأعضاء الآخرين (كندا، وإيطاليا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، وألمانيا، واليابان، ومؤسسات الاتحاد الأوروبي).
ومع ذلك، تم الوصول إلى بعض الصياغات التوافقية، على مضض كبير، للتأكيد على أهمية نظام التجارة الدولية القائمة على القواعد.
وصل الرئيس دونالد ترمب متأخراً إلى القمة، وغادر مبكراً للغاية، ومِن على متن الطائرة التي كانت تقله إلى سنغافورة (لحضور القمة مع الرئيس كيم)، تنكَّر تماماً للإعلان المشترك الذي كان قد أيده قبل دقائق معدودة. كما أعرب عن غضبه الشخصي من رئيس الوزراء الكندي، الذي ترأس أعمال القمة، وهدد بفرض الرسوم الجمركية الجديدة على كندا.
وفي الأثناء ذاتها، عقدت الصين، وروسيا، وباكستان، والهند، وأربع دول مركزية في آسيا، الاجتماع السنوي لمنظمة شنغهاي للتعاون في مدينة تقع بجنوب الصين. وكان ضيف الشرف على أعمال القمة هو الرئيس الإيراني حسن روحاني. وأدرجت التعهدات بزيادة التعاون الاقتصادي في بيان مشترك لم يتراجع عنه أحد. وأعلنت الصين وغيرها من الدول عن التزامها بالدفاع عن خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني)، في إشارة مفعمة بالتحدي ضد الولايات المتحدة الأميركية. وانتهز الرئيس الصيني الفرصة للتأكيد على دعم بلاده للاقتصاد المفتوح، ومنظمة التجارة الدولية. واستغل الرئيس الروسي الفرصة للتباهي بأنه لم يكن مهتماً فعلاً بالعودة إلى مجموعة الثماني، إن كان سوف يتم إعادة هيكلة هذه المجموعة، إذ إن منظمة شنغهاي للتعاون تحمل في الواقع ثقلاً اقتصادياً كبيراً (وهو الأمر غير الدقيق)، وأن التجمع الدولي الأهم هو مجموعة العشرين.
ومن المهم في هذا السياق أن نضع كلمات السيد بوتين في سياقها الصحيح. في واقع الأمر، ومن دون التقليل من أهمية منظمة شنغهاي للتعاون، فإن هذه المنظمة مكرَّسة بالأساس لإدارة الاختلافات وحالات التنافس المحتملة بين الدول الأعضاء في أواسط آسيا. ومع ذلك، فإن حقيقة تمكُّنِها من التوسع وضم الهند وباكستان إلى عضويتها تُعد من النجاحات الكبيرة. وطالما كانت روسيا حريصة على العثور على المجموعة القادرة على تجسيد العالم متعدد الأقطاب. وكانت الدبلوماسية الروسية جوهرية في تسهيل إضفاء الطابع المؤسسي على الاجتماع السنوي لدول «البريكس». ولبضع سنوات، شكلت هذه المجموعة تحدياً حقيقياً لمجموعة السبع المتمركزة حول الأطلسي (التي تمثل اليابان فيها الدولة غير المنتمية للعالم الغربي). وصار نجم مجموعة «البريكس» أقل سطوعاً عن ذي قبل، نظراً للأداء الاقتصادي الضعيف لبعض الدول الأعضاء، والأزمات السياسية في البرازيل وفي جنوب أفريقيا إلى حد ما. وصحيح أن صعود منظمة شنغهاي للتعاون، في السياق ذاته، يظهر بشكل خاص في الوقت المناسب.
كانت هذه الملاحظات تتعلق بالأعمال المسرحية للقمة الأخيرة. ودعونا نحاول المضي قدماً قليلاً. أولاً، إذا كان ترمب يريد فعلاً إنهاء مجموعة السبع، وليس المجموعة نفسها وإنما السياسات التي تتمخض عن هذه المجموعة (أو ما يُسمَّى بالنظام الليبرالي الدولي)، فإننا سنعيش في عالم مختلف تماماً. ولاحظ معلقون آخرون بالفعل أن «مجموعة السبع ناقص واحد» تتساوى في واقع الأمر مع المنظمة الدولية التي لا تحظى بدعم ومشاركة الولايات المتحدة، وبالتالي يبقى هناك القليل للغاية مما يمكن لمجموعة الست أن تفعله في حماية وتعزيز التعاون الدولي.
وهنا، قد يقع خلاف ما بين الصين وروسيا: في المقام الأول، روسيا على استعداد لتقويض النظام الدولي مثل الذي أقامه الأميركيون بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى العكس من ذلك، يمكن للصين التظاهر بأن تكون القوة العظمى المهيمنة التالية في هذا النظام، ولديها المزيد من المصالح والاهتمامات للعمل ضمن هذا النظام بدلاً من تقويضه.
ثانياً، من المرجَّح تماماً الآن أن يستمر ويزيد الصدع القائم بين الولايات المتحدة وحلفائها - وحلفاء الأطلسي على الأقل الآن. وتميزت الشهور الأولى للإدارة الأميركية الجديدة تحت ظل ترمب بالخلافات حيث كانت واشنطن تنأى بنفسها جانباً عن حلفائها التقليديين - بشأن اتفاقية باريس للتغيرات المناخية بصورة خاصة - وتوجيه الانتقادات المستمرة إليهم - بشأن إسهاماتهم في الدفاع المشترك على سبيل المثال.
وبلغت واشنطن مستوى جديداً من الخلاف اتخذت فيه إجراءات لممارسة المزيد من الضغوط على الحلفاء، إن لم يكن لمعاقبتهم: وهذا هو الحال بالنسبة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، حيث يتعين على الجانب الأوروبي دعم أعباء إعادة فرض العقوبات ضد إيران، وبالطبع مواجهة حرب الرسوم الجمركية التي شنَّتها إدارة الرئيس ترمب. وفي هذا السياق الجديد، ازداد تدهور العلاقات، المتضررة بالفعل، مع ألمانيا، في حين دخلت العلاقات مع فرنسا والمملكة المتحدة إلى منطقة خطرة. وهناك مجازفة كبيرة بأن تطغى هذه المشاعر المسمومة على جوهر العلاقات عبر الأطلسي، وعلى تحالف الأطلسي ذاته.
ومن شأن قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) أن تُعقَد في بروكسل في الفترة بين 11 و12 يوليو (تموز) المقبل، ولا يجرؤ أحد على تصور قمة بمثل كارثية قمة مجموعة السبع الأخيرة، ولكن في واقع الأمر، من الممكن للغاية أن تحقق الأحلام السعيدة للقيادة الروسية.
ثالثاً، أحد الدروس المستفادة من الأحداث الأخيرة هو أن السيد ترمب يبدو أنه قد عثر على أسلوبه الخاص في الدبلوماسية: فهو يقول ما يريد، ولا يحترم الحكم التقليدية أو المحرمات، ويشعر بحرية مطلقة في تغيير آرائه وقتما يشاء وبسرعة فائقة، وهو يثمن الخصوم التقليديين بأكثر من تقديره للحلفاء القدامى، ويثق كثيراً في حدسه وغريزته أكثر من ثقته في أي شيء آخر، وهو على استعداد للانخراط في مؤتمرات القمة الشخصية إثر تجهيز وإعداد وجيز للغاية على أساس أنه سوف يعرف أفضل من أي شخص آخر إن كان يمكن الثقة في الزعيم الأجنبي، حتى الديكتاتور المستبد كيم جونغ أون، من عدمه.
والآن، وحيث إننا نتعامل مع دونالد ترمب غير المقيَّد، فمن غير المتصور أن الرئيس الأميركي، بعد قمة «حلف الناتو» الفاشلة، وزيارة العاصمة لندن التي تستلزم فنجاناً من الشاي مع جلالة الملكة، يقرر على نحو مفاجئ الذهاب إلى حفل افتتاح كأس العالم لكرة القدم في موسكو، ويعقد لقاءً كبيراً مع الرئيس فلاديمير بوتين في الكرملين.
وهذا مجرد سيناريو تصوري قد لا يتحول أبداً إلى واقع، ولكن حقيقة أنه في عالم الممكن يظهر المدى الذي ينضبط فيه المشهد الدولي بشكل كبير. وفي مثل هذا السيناريو، ينبغي على دونالد ترمب أن يعارض النفور الكلي للحزب الجمهوري والطبقة السياسية الأميركية من السياسات الحالية للقيادة الروسية. وصحيح أيضاً أنه من شأن هذه الخطوة أن تشكل طريقة شديدة الغرابة للتعامل مع الشكوك التي جسدها تساؤل موللر حول حملة ترمب الانتخابية وضلوع روسيا في مجرياتها. ولكن بعد كل شيء، مَن يدري كيف يكون رد فعل القاعدة الانتخابية للرئيس الأميركي؟ كذلك، أليس هذا هو العامل الوحيد المهم بالنسبة للسيد ترمب؟
على أية حال، في ظل قمة حلف الناتو المعقدة أم لا، ومع زيارة ترمب إلى موسكو من عدمها، فإن حلفاء الولايات المتحدة يواجهون معضلة شديدة القسوة، إثر فشل قمة مجموعة السبع الأخيرة: من ناحية، إن امتثلوا لمطالب ترمب وأذعنوا لتذمره الشديد، فإن يساهمون تلقائياً في إضعاف النظام الذي أكد سيطرة الغرب على النظام الدولي حتى اليوم، وربما هم يحفزون الرئيس الأميركي على ممارسة المزيد من الضغوط رغماً عن مصالحهم، بالنسبة للقضايا التجارية على سبيل المثال.
ومن ناحية أخرى، إن تخيروا الاتحاد فيما بينهم ومقاومة إرادة البيت الأبيض، فإنهم بالتالي يساهمون في تعميق الانقسام الذي يعاني منه الغرب. وعلى أي حال، ومرة أخرى، إنه الوقت المناسب للرئيس فلاديمير بوتين. ويا له من وقت مناسب حيث قد يتناسى أنه في خاتمة المطاف سوف يصب إضعاف الغرب في صالح الصين بصورة أساسية حسن النيات الذي سوف تعتمد روسيا عليه أكثر فأكثر.
- السفير الفرنسي الأسبق في سوريا
خاص بـ«الشرق الأوسط»

> قمتان وسياستان... ورئيسان
فيتالي نعومكين

تزامُن قمة مجموعة السبع مع قمة منظمة شنغهاي للتعاون كان رمزياً. ليس هناك ما يثير الاستغراب بأن يكون للقاء قادة الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون معنى خاص بالنسبة لروسيا التي لا تزال تحت تأثير الضغط المتنامي من قبل دول الغرب.
لأول مرة تعقد هذه القمة بتشكيلتها الموسعة بمشاركة الهند وباكستان بصفتهما عضوين كاملَيْ الصلاحية في المنظمة. نتائج قمة «تشينغداو» استُقبِلت بحماس؛ فهي فاقت كل التوقعات رغم الإدراك تماماً في موسكو وجود مشكلات جدية بين بعض أعضاء المنظمة تفرق فيما بينهم وليس لدى أحد وَهْم بإمكانية حلها بسرعة. فهي بالدرجة الأولى تمس العضوين الجديدين في المنظمة.
أما نتائج القمة الأخرى التي عقدت في كندا فهي من جهة فاجأت بالتشدد الذي أبداه الرئيس دونالد ترمب في دفاعه عن مواقفه بالضغط غير المسبوق على حلفائه المقربين، وكذلك بعدم خوفه من عرض حجم الخلافات الموجودة بين أعضاء هذه المجموعة أمام العالم. في تعليقه على الأزمة في المجتمع العابر للأطلسي كتب الصحافي والمحلل السياسي الروسي المشهور والمقرب من الكرملين فيودور لوكيانوف في مقالته بمجلة «بروفيل»: «من الصعب التذكر متى كان قد تم تحدي الاتحاد الأوروبي بهذا الشكل الصارخ بأن رأيه لا قيمة له».
أما من جهة أخرى، فإن نتائج قمة مجموعة السبع أثارت حفيظة الكرملين، بحسب رد الفعل الرسمي الروسي، ذلك لأن الإعلان المشترك لـ«مجموعة السبع»، وكما يرون هنا، كعادته مبني على الكراهية لروسيا (فلقد تم التوافق على نصه من قبل الجميع بمن فيهم الولايات المتحدة رغم أن ترمب في نهاية المطاف لم يوقع عليه). مرة أخرى الدعوات لروسيا بـ«وقف التصرفات غير البناءة ونسف الأنظمة الديمقراطية ومساندة النظام في سوريا». مرة أخرى التهديدات بفرض عقوبات جديدة. الشروخ العميقة في التضامن بين أعضاء «مجموعة السبع» لم تمنعهم من تكرار الاتهامات التي لا أساس لها ومن دون أدلة تجاه روسيا بخصوص ضلوعها في محاولة تسميم المواطنين الروسيين في سالزبوري.
رغم أن بعض وسائل الإعلام الروسية المناهضة في توجهاتها للغرب لم تبخل في الكلام عن القمة في كندا بحديثها عن «الفضيحة» التي وقعت، وهنا المقصود مغادرة ترمب للقمة قبل اختتامها و«الانقسام» في المجتمع العابر للأطلسي، وحتى عن احتمال أن تكون هذه القمة هي الأخيرة، فإن رد الفعل الرسمي الروسي كان متزناً ولم يحمل في طياته أي نوع من الشماتة رغم وجود دافع للشعور بذلك.
هنا على ما يبدو ينطلقون من أن واشنطن بشكل أو بآخر ستتمكن من ترويض الأوروبيين ممن لا يتفقون معها حول عدد من القضايا. هذا بدا واضحاً من خلال تصرفات الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون الذي بدأ في تغيير موقفه تجاه الصفقة النووية مع إيران. لا تؤخذ هنا في الحسبان تصريحات بعض السياسيين الفرنسيين الحادة مع أن مثل هذا المزاج لا يزال موجوداً.
قبل عدة أيام قال بيار لولوش، الرئيس السابق للجمعية البرلمانية لحلف شمال الأطلسي (ناتو) والمحارب القديم في الحزب الديغولي، في خطابه من على منصة المنتدى الدولي «قراءات بريماكوف» في موسكو: «أنا لا أريد أن أعيش في عالم تملي فيه وزارة المالية للولايات المتحدة على الفرنسيين أين بإمكانهم أن يستثمروا أموالهم وأين لا يمكنهم فعل ذلك». وفي مسائل «الحرب التجارية» فسيضطر الأوروبيون بالإضافة إلى كندا والمكسيك إلى ابتلاع حبة الدواء الأميركية المُرَّة. فالشركات الأوروبية لا تريد أن تواجه العقوبات الأميركية نتيجة مواصلة تعاونها مع إيران (ترمب كان قد استعرض استعداده إلى عدم الاكتراث بآراء حلفائه). فتكلفتها أكبر. حتى إن بعض ممثلي الطبقة السياسية الروسية خلال الأحاديث الخاصة يعبرون عن إعجابهم بقدرة ترمب على الدفاع عن مصالح بلده «أميركا أولاً»، بما فيه باستخدام الأساليب الخشنة في بعض الأحيان، وفي التزامه بما تعهَّد به من وعود خلال حملته الانتخابية، ما عدا تعهداً واحداً: تسوية العلاقات مع روسيا.
جملة ترمب حول الرغبة في عودة روسيا جاءت مفاجئة بعض الشيء. لكن رد فعل موسكو على ذلك كان بارداً للغاية. ذلك أنه في موسكو، أولاً: يدركون تماماً أن هذا لن يحصل في المستقبل القريب، وثانياً: لقد غير الكرملين توجهه إلى صيغ أخرى يراها واعدة وذات أهمية أكبر، وهي بالدرجة الأولى مجموعة العشرين ومنظمة شنغهاي للتعاون.
تقييم موسكو لنتائج قمة منظمة شنغهاي للتعاون كان إيجابياً للغاية. القمة عُقِدت من دون خلافات. على أقل ما يمكن في تشينغداو لم يغادر أحد القمة قبل اختتامها. أما الوثيقة الختامية (بيان تشينغداو)، فلقد وَقَّع عليها جميع المشاركين. وبشكل عام تم التوقيع على 17 وثيقة حول نتائج المحادثات. في الوقت نفسه، كما قال أحد الصحافيين، فإن المشاركين في القمة حاولوا أن يتفقوا «قبل أن ينتقلوا من الكلام إلى الفعل». على الأغلب هذا كان مهماً بالنسبة للأعضاء الجدد في منظمة شنغهاي للتعاون، من الذين تربطهم علاقات معقدة أي الهند وباكستان.
في هذا السياق أشار المحلل السياسي ديمتري كوسيريف إلى «النشاط الماهر لرئيس الوزراء الهندي مودي في بناء علاقات متكافئة مع جميع مراكز القوى في العالم». اللقاءات الثنائية بين القادة على هامش القمة هي أيضاً كانت ذات أهمية، خصوصاً اللقاء بين الرئيس بوتين والرئيس شي جينبينغ. لقد تم توقيع عدد غير مسبوق من الاتفاقيات والعقود بين روسيا والصين بما في ذلك في مجال الطاقة النووية. الرئيس بوتين وعد، خلال حديثه مع الرئيس الإيراني حسن روحاني، بمساندته «في سعيه للتعاون في إطار منظمة شنغهاي».
في موسكو كالعادة يولون الاهتمام الأكبر لتصريحات الرئيس الصيني. رغم أن شي جينبينغ دائماً لبق وحذر في أقواله، عندما يتحدث عن الولايات المتحدة، فلقد كان واضحاً مَن يقصد حين قال: «رغم أن الهيمنة وسياسة القوة لا تزالان تجدان مكاناً لهما في العالم المعاصر، فإن دعوتي إلى نظام عالمي عقلاني وعادل تجذب الاهتمام».
وتحدث أيضاً عن القوى الهدامة في العالم قاصداً فيها بعض الدول من تلك التي وقعت على البيان الختامي لقمة «مجموعة السبع»، وليس تلك الدول التي تحدث عنها هذا البيان.
الرئيس الروسي أولى اهتماماً خاصاً بالمشروع الجديد الذي يتم تحضيره من قبل موسكو وبكين - الشراكة الاقتصادية الأوروآسيوية، التي، وكما أكد الرئيس بوتين «ستكون منفتحة لانضمام جميع دول منظمة شنغهاي». لا تزال تفاصيل هذا المشروع غير معلنة. لكن ما هو معروف أنه في إطار الاتحاد المصرفي للمنظمة ستطلق الصين برنامج اقتراض لهذا الغرض بـ30 مليار يوان (4.7 مليار دولار).
من بين فقرات البيان الختامي التي حازت على اهتمام كبير في روسيا هي تلك التي تتحدث عن التغيرات الخطيرة في الهيكلة العالمية، عن ازدياد عوامل عدم الاستقرار والضبابية في مستقبل العلاقات الاقتصادية الدولية، وعن تحديات التجارة العالمية من جهة الحمائية ونمو مخاطر تفاقم الأزمات الإقليمية، وعن نمو خطر التهديدات الإرهابية والتداول غير الشرعي للمخدرات والجريمة المنظمة... إلخ. لقد برز مصطلح جديد (روح شنغهاي)، الذي كان مخالفاً تماماً لتلك الأجواء التي خيمت على لقاء «مجموعة السبع».
فما هو المقصود بهذا المصطلح أو هذه الروح؟ هي «الثقة المتبادلة والمساواة والمنفعة المتبادلة والمساواة في الحقوق والمشاورات المتبادلة، واحترام التنوع الثقافي والسعي للتطور المشترك».
إجماع المشاركين على الدعوة لزيادة الكفاح ضد الإرهاب والفساد وتداول المخدرات والتمسك بالحرص على الفضاء السلمي وعدم انتشار الأسلحة النووية والتسوية السريعة للأزمات في أفغانستان وسوريا وشبه الجزيرة الكورية، حمل أهمية خاصة بالنسبة لموسكو. وتمت أيضاً الإشارة إلى أهمية تطبيق خطة العمل الشاملة المشتركة بشأن البرنامج النووي الإيراني. من الممكن أن الإجماع حول هذه المشكلة الأخيرة لن يرضي جميع اللاعبين الفاعلين.
أظهرت القمة نمو دور «صيغة شنغهاي» في السياسة العالمية والنظام الاقتصادي. فليس من الضروري وضعها في مواجهة مباشرة أمام الصيغ الأخرى أو أن ينظر إلى مشاريعها الطموحة (التي لا تزال مشاريع) كتحدٍّ موجَّه من قبل المحركين الأساسيين فيها (الصين وروسيا) ضد اللاعبين الدوليين الأكثر نفوذاً. لكن مما لا شك فيه هو أن هذه المنظمة ستستمر في تأثيرها في عملية تشكيل نظام عالمي جديد بصورة صحيحة.
- رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية - موسكو
خاص بـ«الشرق الأوسط»


مقالات ذات صلة

القطب الشمالي يسجّل أعلى معدل حرارة سنوي بتاريخ السجلات

بيئة قِطع جليد عائمة في المحيط المتجمد الشمالي (رويترز-أرشيفية)

القطب الشمالي يسجّل أعلى معدل حرارة سنوي بتاريخ السجلات

سجّل العام المنصرم أكثر السنوات حرارة على الإطلاق في المنطقة القطبية الشمالية، وفق تقرير صادر عن وكالة أميركية مرجعية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم بحلول نهاية القرن لن يتبقى سوى 9 في المائة من الأنهار الجليدية (رويترز)

باحثون يتوقعون ذوبان آلاف الأنهر الجليدية سنوياً بحلول منتصف القرن

أظهرت دراسة حديثة أن آلاف الأنهر الجليدية ستختفي سنوياً خلال العقود المقبلة، ولن يتبقى منها سوى جزء ضئيل.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق درجات الحرارة المرتفعة سجلت أرقاماً قياسية (أرشيفية- رويترز)

2025 قد يكون ضمن أكثر 3 أعوام حرارة في التاريخ

أعلنت خدمة «كوبرنيكوس» لتغير المناخ -وهي وكالة تابعة للاتحاد الأوروبي- أن عام 2025 يسير في اتجاه أن يصبح واحداً من أكثر 3 أعوام حرارة منذ بدء تسجيل القياسات.

«الشرق الأوسط» (برلين)
يوميات الشرق المريخ أكثر دفئاً من الأرض ليوم واحد (ناسا)

مدينة أميركية تتجمّد... وحرارتها تهبط إلى ما دون المريخ!

شهدت مدينة منيابوليس، كبرى مدن ولاية مينيسوتا الأميركية، انخفاضاً لافتاً في درجات الحرارة الشهر الماضي، حتى باتت، لبرهة، أبرد من كوكب المريخ نفسه.

«الشرق الأوسط» (مينيسوتا (الولايات المتحدة))
بيئة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يلقي كلمة خلال الجلسة العامة للقادة في إطار مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ «كوب 30» في بيليم بولاية بارا بالبرازيل 6 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

غوتيريش للدول في قمة المناخ: إما أن نقود أو نُساق إلى الدمار

رأى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الخميس، أن العالم فشل في الوفاء بالتزاماته للحد من ارتفاع حرارة الأرض عند مستوى 1.5 درجة.

«الشرق الأوسط» (بيليم (البرازيل))

معارك الظل في سوريا... محاربة «داعش» وإعادة بناء الدولة

سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
TT

معارك الظل في سوريا... محاربة «داعش» وإعادة بناء الدولة

سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)

عند مداخل دمشق المتفرعة من جهة أوتوستراد المزة، وقبيل الوصول إلى ساحة الأمويين يتوزع شبان بمظهر شبه عسكري على جانبي الطريق يبيعون أعلاماً ورايات احتفال بـ«يوم التحرير»، يقابلهم في الشوارع الأضيق والنواصي المؤدية إلى أحشاء المدينة نساء بأثواب طويلة وحجاب يغطي نصف الوجه أحياناً، يجرجرن طفلاً او اثنين، ويحملن أرغفة خبز للبيع. تكدس النسوة الأرغفة فوق بعضها بعضاً وتدفع بها إلى المارة ونوافذ السيارات بلا غطاء أو كيس يحميها من الأدخنة العابقة برائحة المازوت والأتربة المتطايرة من أحزمة البؤس والدمار المطبقة على العاصمة.

منذ بعض الوقت تحول بيع الخبز بهذه الطريقة «مهنة»، نسائية إلى حد بعيد، انتعشت أكثر مع ازدياد الفقر والعوز؛ فتذهب النساء للانتظار في طوابير الأفران لشراء حصة من الخبز يعدن لبيعها مقابل مبلغ إضافي صغير، ويعاودن الاصطفاف في الطوابير، وهكذا دواليك حتى ساعات متقدمة من الليل. المشهد لا يقتصر على دمشق ومحيطها، بل يتكرر على امتداد المدن والمناطق السورية التي زرتها من حمص وإدلب وحلب، وكأن المشهد النسائي هذا أصبح جزءاً من نسيج الأزمة المستمر وأحد مقومات الصمود اليومي للسوريين.

مشهد لمدينة دمشق (الشرق الأوسط)

دمار مديد

ولئن كانت النساء بوجوههن المنهكة وأيديهن المخشوشنة خير شاهد على نكبة عصفت بالبلاد لنحو 15 عاماً، فإن الدمار المديد الذي لا يحدّه نظر، يشهد هو الآخر على هول ما كان. أحياء وضواحٍ كاملة سويت بالأرض تطوّق دمشق وتكاد تخنقها بأتربتها وبقايا الردم فيها، كما وتسود الحواضر الكبرى وأريافها، حيث الركام واللون الرمادي الأغبر يمتد على مساحات شاسعة من البلاد. فأن تقود سيارتك لأكثر من 350 كلم عبر الأراضي السورية ولا ترى شجرة أو حيّاً أو بيتاً ناجياً، يعني أنك تعاين عملياً ما خلفته لأكثر من عقد من الزمن، آلة قتل وتدمير وانتقام أقرب ما يكون إلى الثأر الشخصي. فحجم الخراب وشكله لا يعكسان مجرد معارك بين أطراف متنازعة وتفوق عسكري لجهة على أخرى، وإنما يكشف عن نية واضحة بتصفية الناس وأرزاقهم، ودفن أي حلم أو بصيص أمل لديهم بالعودة إلى الديار. فما لم يقضِ عليه القصف بشكل مباشر، حُرق ونُهب وتصحّر عن عمد. لكن العودة تتم وإن ببطء شديد ودفع ذاتي.

وحدها فقاعات قليلة نجت في دمشق وأسواقها، أو خارجها من المناطق والمدن، وازدهر بعضها، لحسابات طائفية أو مصالح سياسية أو تجارية تتعلق بشكل أساسي بتصنيع الكبتاغون وترويجه.

دمار من جرَّاء المعارك بين قوات الأسد وفصائل المعارضة السابقة في مخيم اليرموك بضواحي دمشق (إ.ب.أ)

دمشق... الواجهة البراقة

كانت المدينة على موعد مع احتفالات استثنائية بالذكرى السنوية الأولى لهروب بشار الأسد، والاستعدادات تسير على قدم وساق. منصات ومكبرات للصوت وتنظيم للسير ولافتات تشدد على الوحدة الوطنية «شعب واحد... وطن واحد» وأن «الحقبة السوداء انتهت». برنامج الحفل يصل إلى الهواتف النقالة عبر رسائل قصيرة تشجع على المشاركة وحضور الفعاليات «للاحتفال بالحرية والأمل... وإكمال الحكاية». لكن أي حكاية؟ سؤال يتردّد في الشوارع ذاتها التي تُباع فيها الأرغفة على الأسفلت وتشهد احتفالات النصر.

فهنا، تكثر الحكايات وتتشعب حتى تكاد تتناقض كمثل فقاعات الأمكنة التي تتجاور ولا تلتقي. ثمة انقسام عمودي حاد في وجهات النظر وتراشق يشبه إلى حد بعيد مرحلة 2011 حين انقسم السوريون إلى حد القطيعة بين مؤيد ومعارض، مقابل إصرار رسمي واضح على تصدير صورة مصقولة عن المرحلة.

بهو فندق على الطراز الدمشقي القديم في منطقة باب توما (الشرق الأوسط)

معركة الأمن الصامتة

خلف الواجهة الاحتفالية، تُدار معركة أخرى أقل صخباً وأكثر تعقيداً. «يشكل (داعش) والمهاجرون (المقاتلون الأجانب) تحديداً التحدي الأبرز بالنسبة لنا» يقول مصدر أمني سوري رفيع مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، لافتاً إلى أن الاعتقال و«التحييد» يتمّان بشكل دوري. أما كيف يتم ذلك (وهو مصطلح شائع في تركيا يستخدم ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني)، فتتقاطع المعلومات مع مصدر آخر يفيد بأن «العمل الأمني يجري بدقة وحرفية وإن لوائح المنتمين إلى تنظيمات متطرفة تحت مظلة عريضة هي (داعش)، موجودة لدى الأجهزة الأمنية وهي تقوم بتعقبها». وأضاف: «نعرفهم واحداً واحداً ونقوم برصدهم ووضعهم تحت المراقبة. كما أن النظام السابق ترك آلية عمل وتعقب دقيقة جداً نعتمد عليها حتى الآن إلى درجة كبيرة».

رجال أمن سوريون في ساحة سعد الله الجابري في حلب ليلة الاحتفال بسقوط نظام الأسد في 7 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)

التقيت المصدرين قبل أيام قليلة على حادثة تدمر الأخيرة، لكنها حين وقعت، لم تبدُ خارج السياق العام للقاءات وما كشفت عنه المعلومات المتقاطعة. ذاك أن المسؤولين والأشخاص في مواقع أمنية دقيقة بدوا مدركين مسبقاً لهذا الاحتمال بصفته واحداً من المخاطر الأمنية المتعددة، لا سيما بعد انضمام سوريا رسمياً إلى تحالف «محاربة الإرهاب».

ولخّص مصدر هذه المخاطر بثلاثة أنواع من المواجهات «أولاً المواجهة مع (داعش) ومتفرعاته، وهي تجري بحذر شديد؛ لأنها تهدد الرئيس أحمد الشرع بشكل شخصي، وثانياً المواجهة مع (قسد) وهي تهدد الدولة الناشئة وهويتها على المدى البعيد، وثالثاً مواجهة باردة وأقل حدة مع إسرائيل بسبب أحداث السويداء».

وفي رواية شبه رسمية، لم يستبعد المصدر الأمني أن يشكل المفرج عنهم من مخيم الهول «قنابل موقوتة» يتم استغلالها لزعزعة الأمن داخلياً وتلبية رغبات المتطرفين الرافضين التحول الحاصل في شكل السلطة من جهة، ولإطلاق رسالة للخارج مفادها أن سحب ملف «محاربة الإرهاب» من يد «قسد» لن يجدي؛ إذ يمكن أن «يفتح الباب أمام قطعان من الذئاب المنفردة» من جهة ثانية.

هل تكفي المقاربة الأمنية؟

تحدي الدولة ليس أمنياً فقط، وهذه المقاربة الصرفة لا تحظى بإجماع داخل دوائر السلطة نفسها. فبعكس من يرى في «داعش» والتطرف «عقدة تقنية» يمكن حلها بمقاربة أحادية، يرى مسؤول مقرب من «الهيئة السياسية» أن «المشكلة الفعلية تكمن في استيعاب تلك الكتلة البشرية الهائلة التي نشأت خارج أي سياق اجتماعي طبيعي لسنوات عدّة، خارج منظومة التعليم أو الأسرة أو أي شكل ناظم للحياة».

طلاب يحضرون الفصول الدراسية داخل مدرسة معر شمارين الابتدائية وتبدو جدرانها مليئة بثقوب الرصاص من القتال بين القوات الموالية للرئيس السابق بشار الأسد والمعارضة بقرية معر شمارين في ريف إدلب بسوريا 19 أكتوبر 2025 (أ.ب)

وأضاف: «التحدي الكبير هو في استيعاب هؤلاء ودمجهم ضمن مفهوم الدولة وإعادة تأهيلهم لهذا الغرض». وقال: «كما تم استقطاب هؤلاء المراهقين إلى طيف معيّن من التشدد، يجب اليوم العمل على نقلهم إلى مكان وسطي. فإذا كان الرئيس نفسه يقول إننا اليوم نغادر الحالة الفصائلية وننتقل إلى مفهوم الدولة، فكيف يكون هذا الانتقال على مستوى القاعدة؟ هل بشكل فردي وأمني فحسب أم مجتمعي أيضاً؟».

وفي السياق، ذهب أحدهم لتفسير عبارة «أطيعوني ما أطعت الله بكم» التي أطلقها الشرع من الجامع الأموي ليلة الاحتفال الكبير, وأثارت غضب الشرائح المدنية والعلمانية المعارضة، إنها رسالة لشريحة أخرى هي التي تضعها الدولة اليوم نصب أعينها وتسعى لاحتواء غضبها عبر دعوة «دينية» صريحة لـ«إطاعة الحاكم وعدم الخروج عنه».

صورة نشرتها وزارة الداخلية السورية لجانب من عملية ضد «داعش» في ريف إدلب الاثنين 1 ديسمبر 2025 (الداخلية السورية)

ولئن يبدو الكلام أسهل من الفعل، إلا أن الواقع المعاش أصعب بأشواط.

فإذا كان الأمن مضبوطاً إلى حد بعيد في المدن الرئيسية كدمشق وحلب عبر الانتشار الأمني الكثيف وبـ«استخدام تقنيات حديثة منها المسيَّرات»، وذلك في فترة حساسة شهدت تجمعات هائلة تزامناً مع الاحتفالات بالذكرى السنوية الأولى لسقوط النظام السابق، فإن المساحات الشاسعة في الأرياف، حيث الدمار الهائل والفقر المدقع والبطالة المستشرية، متروكة لحالها إلى حد بعيد. وبينما تتوزع حواجز الأمن العام على الطرقات الرئيسية بين المحافظات، فإن الحواضر الجانبية وأزقة البلدات متروكة لحالها. ولعل الاستثناء الذي تمتعت به «إدلب» المدينة لفترة من الزمن، وكثر الحديث عنه من خدمات ورعاية وإدارة، لم يسحب منها فقط بعد التحرير وإنما جاء هذا الانفتاح على بقية المناطق السورية ليضعها أمام استحقاقات الحياة الفعلية، لتدرك المدينة وريفها المهمل والمدمّر أن الوضع كان أقرب إلى «إدارة أزمة»، لا يزال إرثها حاضراً حتى في اللغة اليومية، كأن يتخاطب العسكريون فيما بينهم ومع المدنيين العابرين على الحواجز بتسمية «شيخ» و«استعن بالله» للقول امض في سبيلك.

ملصق لدائرة الهجرة والجوازات السورية عند المعبر الحدودي مع لبنان في جديدة يابوس (الشرق الأوسط)

وهناك بين ريفي إدلب وحلب على سبيل المثال قرى ومدن صغيرة معروفة بتوجه الأهالي فيها وانتمائهم، وليست كلها على ذاك الاعتدال وتلك الوسطية التي تعتلي منصات دمشق. توجهات تجعل السائقين يسلكون طرقاً أطول لقطع المسافات، لكن «أقل خطورة» بظنهم.

وفي ذلك الشريط يشكل الشبان، لا سيما الأصغر سناً، وقود الفصائل المسلحة التي لم يبق منها في الميدان في السنوات الأخيرة إلا «هيئة تحرير الشام» بشكل أساسي، وانضم الآلاف منهم بعد سقوط النظام السابق إلى الأمن العام أو الجيش وليس لهم اليوم مورد رزق آخر. فحتى منازل أهلهم المدمرة أو أرزاقهم المنهوبة لا يملكون ثمن ترميمها، ويجد كثيرون منهم في المنامة والمأكل في الثكنات العسكرية عوضاً عن سوء حالهم خارجها.

نسيج هويات مقاتلة

والحال، إن تلك هويات تبلورت في سنوات التسلح، وتحديداً ما بعد 2013، ولكن جذورها الاجتماعية تعود إلى ما قبل ذلك بزمن. فإذا كان اليوم يطلق على كل من هو مرتبط بالسلطة الجديدة وصف «إدلبي» نسبة إلى إدلب معقل حكم «هيئة تحرير الشام» خلال الأعوام التسعة الأخيرة، وهو وصف يحمل تعالياً في دمشق وحلب، فإن فهم التباينات الاجتماعية والاقتصادية بين بلدات تلك الأرياف نفسها يعين على فهم الخيارات السياسية والعسكرية اللاحقة لأبنائها. فالبلدات المعروفة تقليدياً برابطة العائلة كوحدة اجتماعية متعاضدة، وامتلاك أراضٍ زراعية ثم الاعتماد على الهجرة في منتصف الثمانينات، آثرت تعليم الأبناء والبنات وتوجيههم نحو المهن الحرة والوظيفة مع الحفاظ على سلوك ديني اجتماعي تقليدي يوصف بـ«التدين الفطري»، وهم ممن اختبروا التيارات القومية والعروبية قبيل صعود «البعث» بقبضته الأسدية.

صورة ملتقطة يوم 28 نوفمبر 2024 في إدلب تظهِر مقاتلين من الفصائل السورية المسلحة خلال المعركة (د.ب.أ)

يقابل هذا النموذج بلدات صغيرة تقوم على العائلات الفرعية التي اعتمدت على العمل الزراعي الموسمي وسلك الشرطة والأمن في النظام السابق، وفرحت لانضمام أبنائها إلى «جبهة النصرة» حين بدأت بالاستقطاب؛ لما شكّله ذلك من انتظام في مسلك عسكري معارض لنظام الأسد، ولكنه أيضاً ذو بعد ديني واضح كان ممنوعاً اعتناقه. وإلى هذا، تأتي مناطق شاسعة لجهة البادية تحكمها القبيلة والعشيرة ونظام «الفزعة» الذي يعلو ويخبو حسب الظروف والمصلحة.

وهؤلاء كلهم، وإن تشاركوا في كونهم من العرب السنة، تباينوا في سلوكياتهم وانحيازاتهم واصطفافاتهم؛ ما انعكس لاحقاً في قدرة الفصائل المتشددة والأكثر تشدداً على اختراقهم وتجنيدهم مقابل من بقي عصياً عليها، فعملت على تسليط الطرف على المتن.

إدلب ومفاتيح دمشق

وإذ يقول الأمنيون اليوم إنهم يعرفون المتشددين «واحداً واحداً»، فلأنهم يعتمدون أيضاً على معرفة الجهاز الأمني في «الهيئة» بالفصائل المتشددة والمنتسبين إليها في تلك البلدات ممن حاربتهم خلال السنوات الأخيرة كـ«جند الأقصى» و«حراس الدين» الموالي لـ«القاعدة»، كما ويعتمدون كثيراً على المخبرين. ولا تزال إدلب إلى حد بعيد أشبه بـ«المعقل الآمن» الذي يملك مفاتيح دمشق ومفاصلها ولا يزال يعمل بوتيرته السابقة. يكفي مثلاً أن المحاكم والسجلات الإدارية والمدنية لا تزال تخضع لـ«المحاكم الشرعية» التي حكمتها منذ منتصف 2013، بعكس بقية المناطق السورية ولا سيما العاصمة، حيث تصب المعاملات كافة.

عملية أمنية في مدينة تدمر عقب الهجوم الإرهابي على وفد سوري - أميركي مشترك (الداخلية السورية)

ويميّز محدثي بين أنواع من التجنيد قد تعتمدها «داعش» أو المجموعات المتفرعة منها لضرب الأمن بالاعتماد على تلك البنى الاجتماعية المختلفة؛ التجنيد الآيديولوجي، وهو الأسرع والأكثر فاعلية، خصوصاً بين الأصغر سناً الذين قطعوا شوطاً بتبني الأفكار المتطرفة ولم يستوعبوا بعد التحولات الجذرية التي شهدتها سوريا في عام واحد. والتجنيد بالمال وعنصر «الانتقام» بالاعتماد على حالة الفقر المستشرية بين من فقدوا مصدر دخلهم وسلطاتهم المعنوية، ومن ثم التجنيد ضمن بيئة «المهاجرين» أو المقاتلين الأجانب الغاضبين على ما حل بهم من تخلٍ ولم يعد لديهم عملياً ما يخسرونه.

الدولة الناشئة ونموذج «الصحوات»

حين عاد الرئيس السوري أحمد الشرع من زيارته الأخيرة إلى واشنطن كان محملاً بمهمة عسيرة؛ «مواجهة وتفكيك الشبكات الإرهابية» من بقايا تنظيم «داعش» و«الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله» و«حماس»، حسب ما قال حرفياً المبعوث الأميركي إلى سوريا توم براك. وفي حين تولت إسرائيل ضرب «حزب الله» في لبنان و«حماس» في غزة، بقي على سوريا مواجهة ذيولهما لديها بينما الأصعب يبقى مقارعة «داعش» ومتفرعاته ممن كانوا حتى أمس قريب «رفاق سلاح» لـ«هيئة تحرير الشام». وفي حين يترقب كثيرون شكل هذه المواجهة وسبل ذلك التفكيك على الساحة السورية، سيما في غياب جيش متماسك ذي عقيدة قتالية واضحة، فإن واشنطن من جهتها سبق واختبرت صيغة مشابهة من المواجهة السنية - السنية في عراق ما بعد صدّام، تحت مسمّى «الصحوات».

الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة يلوّحان للسوريين خلال عرض عسكري في دمشق (وزارة الدفاع السورية)

وقام نموذج الصحوات بشكل أساسي على من وصفهم مصدر عراقي مطلع بـ«تحالف المتضررين» من تنظيم «القاعدة» وبالاعتماد على حيّز جغرافي محدد هو محافظة الأنبار، ذات الانتماء العربي السني والتدين الاجتماعي - التقليدي. وعليه، فإن نموذجاً مشابهاً قد يقوم اليوم في سوريا على تحالف متضررين من «داعش» في الشمال والشمال الشرقي وبقيادة رسمية هي الدولة الناشئة المطلوب منها محاربة التطرف.

وأوضح المصدر العراقي الذي واكب من كثب مرحلة تأسيس الصحوات واندثارها لاحقاً مع حكومة نوري المالكي، إن العشائر في منطقة الرمادي (تحديداً البوريشة والبوعلوان والبوفهد، وبدرجة أقل الدليم) كانت عماد تلك الحرب؛ لما ألحقته «القاعدة» من ضرر بتجارتهم ومصالحهم ونسيجهم الاجتماعي.

وإذ كان بعضهم أُرغم على المبايعة في مرحلة ما، فإن التصادم لم يتوقف يوماً، ومثال عليه مقتلة قبيلة البونمر التي أعدم التنظيم منها نحو ألفي رجل. يقابل ذلك المثال في الحالة السورية قبيلة الشعيطات التي وقفت في وجه «داعش» ورفضت مبايعته؛ فارتكب فيها إحدى أكبر المجازر وقتل نحو 1800 من شبانها دفعة واحدة.

وفي تقاطع آخر يشبه تحديات المرحلة الدقيقة التي تمر بها سوريا، حيث التوازن الهش بين تحديات الأمن وبناء الدولة المرجوة، كان يطلب من كل من يريد الانضواء تحت لواء الصحوات «إعلان البراءة من (القاعدة) والانخراط في قوات الأمن ضمن الصحوات». وتم ذلك بتنسيق مع القوات الأميركية على أمل «تحويل تلك الكتلة السكانية (سنية عشائرية) رافعةً سياسية من ضمن مجموعة روافع سياسية أخرى».

شعارات في دمشق مع اقتراب ذكرى سقوط الأسد (د.ب.أ)

من السلاح إلى السياسة

ويلفت المصدر العراقي إلى نقطة أساسية في تحول مسار الصحوات من دورها الأمني إلى السياسي، فيقول: «على الرغم من القيمة الأمنية الكبيرة لتلك الصحوات في مرحلة ما، وما أنجزته على الأرض، فإنها لم تنجح في الانتقال من الدور الأمني/ العسكري إلى العمل السياسي. فعندما انخرط قادتهم في السياسة والانتخابات لم يحققوا تمثيلاً فعلياً ولم يخترقوا القواعد الشعبية».

وذلك تحديداً هو بيت القصيد في الحالة السورية، أي «التحول الجمعي من الحالة العسكرية الفصائلية في حيز جغرافي محدد، إلى حالة الدولة بمفهومها السياسي والإداري الأوسع والأشمل، والعسكري لجهة (احتكار العنف) ضمن مؤسسة جيش وطني واحد».

وبين امرأة تبيع الخبز على ناصية شارع، وشاب يتراقص في الساحات، وأجهزة تعمل على تثبيت الأمن وشكل الدولة، تبدو سوريا اليوم كبلد بفقاعات كثيرة. واجهة براقة تُعدّ للاحتفال كبطاقة بريد منمقة، وعمق اجتماعي وأمني هشّ لم تُحسم معاركه بعد.


«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.