تاريخ المخابرات منذ الإسكندر المقدوني حتى عصرنا الراهن

كمية الأرشيفات المتوافرة تسمح بدراسة علمية

تاريخ المخابرات منذ الإسكندر المقدوني حتى عصرنا الراهن
TT

تاريخ المخابرات منذ الإسكندر المقدوني حتى عصرنا الراهن

تاريخ المخابرات منذ الإسكندر المقدوني حتى عصرنا الراهن

أصدرت سلسلة عالم المعرفة شهر أبريل (نيسان) - الماضي، كتابا جديدا بعنوان: «تاريخ المخابرات، من الفراعنة حتى وكالة الأمن القومي الأميركية(NSA)»، وهو من تأليف المؤرخ الألماني وولفغانغ كريغر، ونقله إلى العربية العراقي الدكتور عدنان عباس علي.
جاء هذا الكتاب ليستعرض لنا تاريخ المخابرات وعمليات التجسس منذ العصر القديم وحتى عصرنا الراهن، مرورا بحقبة الحرب الباردة. وهنا يشير المؤلف إلى أنه ورغم كل الاختلاف بين أساليب التجسس في القديم والزمن المعاصر، أي بين إرسال مخبرين إلى عين المكان وخلف خطوط الأعداء، أو زرع جواسيس بين الأسرى والعمل على تجنيدهم... كما كان يفعل الإسكندر المقدوني وبين استخدام الأقمار الاصطناعية وتكنولوجيا الكومبيوتر، فإن أمورا ظلت ثابتة وهي المتعلقة بالعنصر البشري، حيث بقيت المشاعر المتناقضة حيال الجاسوس هي نفسها، فالمرء منا وعبر العصور تتجاذبه حول المخبر الميداني تارة الثقة والاطمئنان وتارة أخرى الريبة والظنون.
يعترف المؤلف بأن هناك صعوبة في قراءة تاريخ التجسس في القديم، نظرا لندرة المصادر من جهة وصعوبة استنطاقها بسهولة من جهة أخرى، فهي لم تكن تتطرق للموضوع بعبارات واضحة، على خلاف زمننا الراهن تماما، إذ إن دراسة المخابرات وطرق اشتغالها بطريقة علمية أصبحت ممكنة نظرا لما أصبحت البشرية تتوفر عليه من ملفات وأرشيفات تسمح بالإلمام بعمل أجهزة المخابرات.
خصص المؤلف حيزا هائلا للحديث عن التجسس في الماضي، حيث وقف عند الإمبراطوريات العريقة (المصرية، البابلية، الأشورية، الفارسية، الإغريقية، الإسلامية...) التي كانت تسعى إلى توسيع مجال سلطانها وهيمنتها وهو الأمر الذي طرح مشكلة الولاء، لأن الاستيلاء على مناطق شاسعة يعني إدماج شعوب أخرى بعقائد ومذاهب ولغات وولاءات... مختلفة تكون سببا في الانقلابات والثورات والخروج عن السيطرة، مما جعل الحصول على المعلومات أمرا ملحا للحيلولة دون تمرد محتمل يهز أركان الإمبراطورية. فالعمل المخابراتي إذن، كان ضروريا، فالحصول على الأخبار والتزود بها، كان يساعد الحاكم على إيقاف ما من شأنه تعكير أمن البلاد. لهذا يمكن القول ودون تردد: لا توجد إمبراطورية بلا شبكة مخابرات.
تطرق المؤلف إلى التجسس في الماضي عند الإمبراطوريات القديمة مبرزا تلاقح بعضها مع بعض، فبدأ بالحديث عن المخابرات عند المصريين والفارسيين، ليقف عند عصر الإسكندر الكبير الذي كان معجبا بالطريقة الفارسية، ثم قادنا إلى المخابرات عند الرومان، وطبعا دون نسيان اللحظة الإسلامية والتي بين فيها تأثر المسلمين بالمناهج العسكرية الرومانية والبيزنطية واستلهامهم فكرة الديوان من البريد الروماني وطبعا مع تطويره. فالمسلمون حسنوا سبل بلوغ المعلومة، بحيث استخدموا جمالا قادرة على قطع مسافات تصل إلى 180 كيلومترا في اليوم الواحد، إضافة إلى خلق مسافة بين بريد وآخر لا تتجاوز 12 كيلومترا وهو ما سهل التواصل السريع، إلى درجة أن صاحب البريد قد أصبح بحق هو «عين الخليفة» على الرعية، فبحسب بعض الروايات، كانت الرسائل الرسمية من دمشق إلى القاهرة تستغرق أربعة أيام في الظروف العادية، ويومين في الظروف الاستثنائية.
وخصص المؤلف، قبل أن يدخل في سرد ملامح العمل المخابراتي عبر الزمن، قد خصص الفصل الأول من كتابه للجوانب المنهجية، فنجده مثلا يطرح أسئلة يحاول الحسم فيها من قبيل: ما هو جهاز المخابرات؟ ما معنى الحلقة المخابراتية؟ من هو الجاسوس؟... ليؤكد على أنها مواضيع بكر ولم تتناول علميا بالقدر الكافي، ولم تكتب بصددها نظرية محكمة واضحة المعالم.
وبنظرة خاطفة حول سؤال ما أجهزة المخابرات؟ فإننا نجد جواب الأميركيين ذا الطابع العملي والوظيفي والقائل: «وظيفة المخابرات تكمن في جمع المعلومات عن العدو» وهنا وبشكل إضافي ومبسط يذكر المؤلف الأغراض الرئيسية لعمل المخابرات وهي: جمع المعلومات من الخصوم والمنافسين بل حتى من عند الأصدقاء وذلك قصد التأثير المستتر في مجريات الأمور، والدفاع عن الوطن وحمايته من هجمات الأجانب، والتسلل إلى أجهزة المخابرات المختلفة والعمل على تسوية النزاعات محليا ودوليا... الأمر الذي يجعل العمل التجسسي ضرورة سياسية، فالتنافس بين الدول والبحث عن الأمن الداخلي والخارجي، يدفع إلى السعي نحو سرقة وسلب ونهب المعلومات وبكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، المباحة وغير المباحة.
إن بلوغ المعلومة إلى أجهزة المخابرات ما هو إلا مرحلة أولى، إذ ينبغي العمل على غربلتها وتمحيصها وتقليبها على وجوهها المتعددة قبل القبول بها وإعلان كونها سليمة ويمكن الاطمئنان إليها، إذ يمكن بسهولة إطلاق معلومة زائفة ومضللة تعمل على «تسميم» عقل الخصم، فالتمويه والخداع أمر يجري به العمل في التنافس المخابراتي. وبعد التغلب على مشكلة صدق المعلومات يأتي في الأخير دور التطبيق العملي. وهذه الدورة الثلاثية يسميها رجال المخابرات بـ«الحلقة المخابراتية» (السعي نحو المعلومة - التأكد من صدقها - العمل على جعلها صالحة للاستثمار).
أما بخصوص سؤال: من الجاسوس؟ فهو العميل الذي يتلصص على أسرار الدول المعادية، والتي تكون صعبة المنال. وهنا يقف المؤلف عند الفروق ما بين الجاسوس والخائن، فالأول يرسل إلى الدولة المستهدفة، أما الثاني فهو يقطن هناك أصلا بالقرب من القيادات العسكرية، أو يوجد بمحيط رجالات الاستخبارات، إضافة إلى أن عمل التلصص يكون بصحبة فرق مساعدة هم بمثابة «خلايا عملاء» يتم تجنيدهم بعناية لتهيئة سبل المعلومة وتيسير بلوغها.
وفي نفس الصدد يضيف المؤلف أن الجاسوس دائما ما يوجد في وضع مفارق يجعل منه كائنا حائرا وتتنازعه مشاعر متضاربة، فبقدر ما هو مخلص إلى أبعد مدى في ضمان مصالح بلده، يكون خائنا متخليا عن الإخلاص تجاه من منحوه الثقة. ناهيك على أنه شخص يعيش والخطر يهدده في كل لحظة، إذ يمكن أن تتكشف أوراقه، أو يفضح أمره بوشاية من طرف مساعديه أو يسقط في كمين غير متوقع.
يبقى الفصل الأخير من الكتاب هو الأهم، نظرا لراهنيته وقد جاء بعنوان «أجهزة المخابرات، الإنترنت والهجمات على الإنترنت» نذكر فيه فقط ما سمي إعلاميا بـ«فضيحة وكالة الأمن القومي الأميركية NSA»، حيث استطاع إدوارد سنودن، وهو خبير نظم المعلومات، عام 2013 الهروب إلى الصين ثم بعدها إلى روسيا، بعد إفشاء أسرار حول التنصت والتجسس الأميركي على الناس، جعلت الرئيس الأميركي السابق أوباما يعترف بأن تسريباته سببت أضرارا غير ضرورية، الأمر الذي يجعلنا نعيد النظر في النموذج الديمقراطي الذي أصبح يسلك نهج الأنظمة الشمولية.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية
TT

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

فضاءات ومحاور بحث معمق، متخصصة في عوالم التعايش والتناغم المتأصلة والمؤتلِقة ضمن مجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة، يناقشها ويقاربها كتاب «التسامح في الإمارات... سيرة جديدة وضّاءة للأخوة الإنسانية (شهادات وقصص بطلها الآخر)»، للصحافي والباحث السوري رفعت إسماعيل بوعساف، الصادر، أخيراً، عن دار «ميتافيرس برس» للنشر. ويعرض المؤلِّف أبرز شواهد تآلف وتقارب حضارات وأديان وثقافات، موضحاً أهم المقومات التي امتازت بها وعلى رأسها: تجذّر التواصل والانفتاح في المجتمع، وتمسك قادة الإمارات بالقيم الإنسانية، وسماحة أهلها واتسامهم بالوسطية والاعتدال، والمشروعات والمبادرات النوعية الكفيلة بترسيخ التسامح محلياً وعالمياً (مثل: وثيقة الأخوة الإنسانية، وبيت العائلة الإبراهيمية، ووزارة التسامح، والمعهد الدولي للتسامح، والأعمال والمبادرات الخيرية المتنوعة).

يتضمن الكتاب، الواقع في 411 صفحة، على أربعة أبواب رئيسية، وخاتمة تضم مقترحات وتوصيات. وتناقش فصوله جوانب كثيرة شاملة يُجمل فيها بوعساف، وعبر سير مشاهداته ومعايشاته في الإمارات طوال أكثر من 20 عاماً، وكذا في ضوء خلاصات أبحاثه الخاصة بالدراسة، مصادر وينابيع جدارة وتميز مجتمع الإمارات في مدارات التّسامح، مبيناً في مستهلّ إضاءاته الأبعاد والجذور التاريخية لحكاية التسامح في هذه الأرض، في المحطات والأزمان كافّة، طبقاً لأسانيد وتدوينات تاريخية جليّة، فأهلها لطالما تميزوا بكونهم يحتفون بالآخر المختلف عنهم ويرحبون به ولا يرفضونه أو يعزلون أنفسهم عنه، وهكذا ضمّوا وحضنوا بين ظهرانيهم أفراداً من أعراق ومذاهب شتّى بقوا يبادلونهم الحب ويتأثرون ويؤثّرون بهم، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. ويستعرض المؤلف عقبها، حقائق فاعلية وإثمار مساعي وبرامج دولة الإمارات العربية المتحدة، الرامية إلى تعزيز التقارب بين الأديان وأطياف الإنسانية... وكذا إطفاء ألهبة أزمات الهُويات، واستئصال أسباب الصراعات المذهبية وقطع دابر التعصب. ثم يدرس ويحلل ماهيات أعمدة وتجليات التسامح والتعايش في ميادين الحياة بالإمارات: المجتمعية والصحية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والقانونية والإعلامية. ويقدم، أيضاً، جملة شهادات وإشادات لأبرز السياسيين ورجالات الدين والبحاثة والكتّاب الأجانب حول ثراء الإمارات بقيم الانفتاح والتعايش والتواصل، ومنهم: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومسؤولون أمريكيون، ونجم الكرة الأرجنتيني الراحل دييغو مارادونا، والروائي البرازيلي باولو كويلو، ونجم بوليوود شاروخان، وعالم النفس والباحث الكندي البروفسور إدوارد دينر. كما يُفرد الكتاب محطات موسَّعة لشرح طبيعة وقيمة حصاد جهود الدولة ومبادراتها ورؤى قادتها، الضامنة تمكين وتقوية هياكل ومرتكزات التسامح والتآخي الإنساني في مجتمع الإمارات والعالم أجمع، التي تكللها أعمال ومشروعات عمل خيري وإنساني ترصد لها الإمارات ميزانيات ضخمة، تطول أصقاع الأرض قاطبةً ولا تميز فيها بين دين أو إثنية أو طائفة.

ويحفل الباب الرابع في الكتاب، الموسوم «حوارات وسيمفونية»، بحوارات وأحاديث مع رجال دين ومسؤولين ومثقفين وأطباء وإعلاميين ومهندسين ومبدعين، بعضهم يقيم في الدولة منذ أكثر من 60 عاماً، يروون فيها حقائق ومواقف كثيرة، بشأن التسامح وواقع انفتاح المجتمع وقبوله الآخر المختلف ورسوخ التعايش والمحبة فيه. وتضم قائمة هؤلاء المحاورين: أحمد الحَدَّاد، مفتي دبي وعضو «مجلس الإمارات للإفتاء»، وبول هيندر، أسقف الكنيسة الكاثوليكية في جنوب شبه الجزيرة العربية (2004-2022م)، وراجو شروف، رئيس معبد «سندي غورو دربار» الهندوسي، وحمّود الحناوي، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في سوريا، وسوريندر سينغ كاندهاري، رئيس معبد «غورو ناناك دربار السيخي»، وعشيش بروا، مسؤول «المركز الاجتماعي البوذي» في الشارقة، وإيان فيرسرفيس، الشريك المؤسس ورئيس تحرير «موتيڤيت ميديا غروب»، وزليخة داود، أول طبيبة نسائية في الإمارات (1964م)، وبيتر هارادين، الرئيس السابق لـ«مجلس العمل السويسري»، وراميش شوكلا، أحد أقدم المصورين في الإمارات.