شعور جميل دغدغ أحاسيسي وأنا أتلقى الدعوة الكريمة لكتابة مقال في «الشرق الأوسط» القريبة من قلبي والمحملة بذكريات ما زالت نابضة مع احتفالها بذكرى مرور 40 عاماً على تأسيسها في الرابع من يوليو (تموز) 1978. أربعون عاماً كأنها البارحة أتذكر فيها التفاصيل الدقيقة لأيام التأسيس وما بعدها بالجهد والإنجازات المتواصلة. قد يظن البعض أن «الشرق الأوسط» ولدت وملاعق الذهب في أفواهنا نحن أبناء جيل الرواد الذين أسهموا في الانطلاقة عانينا الكثير قبل المخاض العسير وبعده.
ذكريات عبرت لتضاف إلى ما سبق ولحق من مسيرتي الإعلامية الغنية وتجاربي المتعددة في الإعلام المقروء والمرئي والمسموع. توقفت للحظات أمام طلب بالدعوة التي تلقيتها من الزميلة رنيم حنوش وهو الحديث عن تجربتي في مقال صغير لا أستطيع فيه سرد تفاصيل 50 عاماً من الكفاح والنجاح والمتاعب.
المحطة الأولى كانت في مقتبل العمر عندما كنت مدمناً على القراءة والسياسة وتطوراتها وأتطلع إلى مهنة الصحافة كهدف لي وهواية ولهذا تخصصت في العلوم السياسية. بعد تخرجي أدركت الصعوبات ولكني لم أيأس وفي أحد الأيام توجهت إلى مبنى الحياة وطلبت موعداً كنت أظنه مستحيلاً مع الأستاذ كامل مروة لكنه رحب بي وسألني: هل تحب الصحافة؟ أجبت نعم ولهذا قصدتك. فقال إن أهم مبدأ على الإنسان الذي يعمل في الصحافة أن يلتزم به الاحترام والإخلاص لمهنته ويكرس كل وقته لها.
هكذا دخلت باب الصحافة العريق وتعلمت على يد أهم وأشهر صحافي عربي كنا نطلق عليه لقب المعلم الذي كان يشرف على كل صغيرة وكبيرة. كانت الحياة مدرستي المؤسسة لشخصيتي وأصول المهنة وتحولت فيها إلى مندوب اقتصادي ثم إلى رئيس الشؤون العربية ثم سكرتير للتحرير ورئيس للتحرير بالوكالة وتعلمت الكثير من المبادئ وأهمها المتابعة والمثابرة حتى ولو كنت حاملاً لشهادات عالية وكما قال لي كامل مروة ضع شهادتك في البيت وتعال لنبدأ، وأن الخبر مقدس والرأي حر وأن من أراد أن يصل إلى القمة عليه أن يبدأ من القاع. كما تعلمت الصبر وبذل الجهد والتدرج في سلم النجاح، إلى جانب التأكد من صحة الخبر وعدم التسرع في نشره والحصول على المصدر الموثوق فالكذب والخطأ ممنوعان في الصحافة.
تعلمت من الدروس والأخطاء ولا سيما خطأ ارتكبته في بداياتي فقد كنت مشرفاً على الصفحة الأولى إذ تم إحباط محاولة انقلاب في السودان اتهم فيها الحزب الشيوعي وتم اعتقال قادته ومنهم رئيس الحزب عبد الخالق محجوب وصدر الحكم بإعدامهم وصدق عليه الرئيس الراحل جعفر نميري. وبقينا ساهرين حتى الفجر ننتظر التنفيذ وبعدها أعددت الصحيفة للطبع ووضعت عنواناً لها: إعدام محجوب فجر اليوم وعندما غادرت ساورني قلق شديد وأنا أتساءل: ماذا لو لم يتم تنفيذ الحكم. وانتظرت موعد الأخبار حتى سمعت العنوان فغبت عن وعيي وأنا أقسم بأني لن أعيدها بعد اليوم. أما الدرس المؤلم فكان في فاجعة اغتيال كامل مروة في مكتبه. عرفت يومها أن للحرية الحمراء ثمنا كبيرا محملا بالأخطار.
تعرضت في حياتي إلى جميع أنواع التهديد والترهيب والترغيب ونجوت من محاولة اغتيال في لندن.
بعد وقوع الحرب اللبنانية توقفت الحياة عن الطبع في عام 1976 وبعدها جاءني عرض العمل في «الشرق الأوسط» فسافرت إلى لندن وبدأنا العمل لانطلاقتها وإثبات وجودها كصحيفة العرب الأولى التي توليت بعد سنتين رئاسة تحريرها. كان من أهم إنجازات الصحيفة استخدام الأوفيست للطبع في عشر عواصم والتأكيد على المصداقية والتعاون مع كبار كتاب العالم العربي. إضافة إلى مقابلات كثيرة مع الملوك والقادة العرب والأجانب تحولت إلى كتاب «حوارات على مستوى القمة».
ولا بد من الإشارة إلى درس يتعلق باهتمامات القراء عندما نشرت على الصفحة الأولى خبر فوز العداءين المغربيين نوال المتوكل ومحمد عويطة ووضعت له عنوان: شكرا المغرب. في اليوم التالي اتصل بي المرحوم محمد بن سودة مستشار الملك الحسن الثاني وأبلغني أن الملك مسرور جداً ويشكرني ويدعوني للقائه فأجريت معه مقابلة بنت علاقة ود أنجزت أربعة أحاديث صحافية وتلفزيونية.
عندما غادرت «الشرق الأوسط» عملت في جريدة الحياة كاتبا لمقال أسبوعي للرأي ويومي بعنوان من الحياة أختمه بزاوية صغيرة بعنوان خلجة كنت قد بدأتها في «الشرق الأوسط» ففوجئت بمدى التعطش إلى الرومانسية.
المحطة الأهم كانت في انتقالي إلى العمل مستشارا عاماً في «إم بي سي» التي كانت بالنسبة إلى نقطة تحول في حياتي الإعلامية ولا سيما في برنامج حوار المواجهة الذي حاورت فيه الكثير من الملوك والقادة وكان في مقدمتهم الملك الراحل فهد بن عبد العزيز. كنت أتمنى التوسع بالحديث عن تجربتي لكن ضيق المجال جعلني أكتفي بالتأكيد على أن الإعلام العربي قد تقدم في مجالات عدة لكنه تأخر كثيراً في الحفاظ على المبادئ والقيم والمصداقية.
* صحافي وكاتب
رئيس تحرير «الشرق الأوسط» (1982 - 1987)