الجزائر... مخاوف من اختراق مذهبي إيراني

وسط تضارب الاعتبارات الأمنية والمصالح السياسية

متطرفون نيجيريون يحملون صوراً للخميني وخامنئي ونصر الله في كانو (أ.ف.ب)
متطرفون نيجيريون يحملون صوراً للخميني وخامنئي ونصر الله في كانو (أ.ف.ب)
TT

الجزائر... مخاوف من اختراق مذهبي إيراني

متطرفون نيجيريون يحملون صوراً للخميني وخامنئي ونصر الله في كانو (أ.ف.ب)
متطرفون نيجيريون يحملون صوراً للخميني وخامنئي ونصر الله في كانو (أ.ف.ب)

تزداد المخاوف الشعبية والرسمية بشمال أفريقيا من السياسة الدينية الإيرانية بالمنطقة؛ ففي يوم 4 مايو (أيار) 2018 دعا المستشار السابق لوزير الشؤون الدينية والأوقاف الجزائري عدة فلاحي، صديقه أمير موسوي المستشار الثقافي للسفارة الإيرانية بالجزائر «أن يبادر شخصياً ويطلب إعفاءه من مهامه ومنصبه حفاظا على المصلحة العليا والعامة».
وتوضيحا لأسباب هذه الدعوة، أضاف فلاحي: «أعتقد أنه - حفاظا على المصلحة العليا والعامة - أصبح ضروريا للملحق الثقافي بالسفارة الإيرانية... أن يبادر شخصيا ويطلب إعفاءه من مهامه ومنصبه... نشاطاته وتحركاته عبر التراب الوطني واتصالاته المكثفة والمتشعبة بفعاليات المجتمع المدني، والتي ذهب إلى استعراضها وبشكل مفرط عبر الفضاء الأزرق من خلال صفحته بفيسبوك، أضحت تثير القلق، وتطرح الكثير من الأسئلة الحرجة والمحرجة حتى بالنسبة للمصالح الأمنية».

غضب شعبي
تأتي هذه المخاوف من شبكات التشيع، بعد غضب شعبي ورصد رسمي لتحركاتها المهددة للأمن بالمنطقة؛ في الوقت الذي يشهد المسرح الإقليمي لشمال أفريقيا والشرق الأوسط مزيدا من الاختراقات، والصراعات الآيديولوجية الدينية، عبر إثارة نزعات مذهبية وبناء أنوية طائفية شيعية في بلدان شمال أفريقيا السنية المالكية المذهب. ويبدو أن مسار التحالفات بين القوى الدولية والإقليمية، جعلت من الجزائر من الناحية السياسية والاقتصادية في صف المحور الإيراني؛ مما ساهم بشكل حاسم في «تفجير» موجة جديدة من التشيع في البلاد منذ 2012.
ومن المؤشرات الدالة على خطورة شبكة التشيع التي انتشرت في السنوات الأخيرة بالجزائر؛ مشاركة الشيعة الجزائريين باحتفالات كربلاء ورفعهم علم بلادهم لأول مرة عام 2016 أما في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 فقد كان مؤشرا صادما، يكشف خطورة التغلغل الشعبي للتشيع بالجزائر؛ حين تمكنت السلطات الأمنية في مطار هواري بومدين، من ضبط أكثر من 400 فرد جزائري متشيع، عائدين من كربلاء بعد حضورهم احتفالات عاشوراء، وما يسمى أربعينية الحسين؛ وبحوزتهم كتب ومنشورات، ورايات، تستعمل في التبشير الشيعي. ولقد علق وزير الشؤون الدينية الجزائري في تصريحات لوسائل الإعلام المحلية، عن هذا الحدث بالقول إن «توقيف مروّجي التشيع دليل قاطع على قدرة السلطات على مراقبة كل الفرق الدينية التي تعمل على اختراق المرجعية الدينية الموحدة للجزائريين، وهي المذهب المالكي السني».

تهديد النسيج الاجتماعي
وتذهب عدة تقارير رسمية وغير رسمية، إلى أن تحركات المتشيعين، أصبحت تهدد معها النسيج الاجتماعي والديني للمنطقة المغاربية عامة، وقد تفتح عليها أبواب الفتن الدينية المسلحة مستقبلا، خصوصا بعد تشبيك إيران لعلاقات المتشيعين بكل من الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا عام 2016، وربط هذه الشبكة بالمشيعين بكل من ألمانيا وبلجيكا.
ورغم أن السلطات الجزائرية تحركت في نفس السنة، ضد هذه الموجة من التبشير الذي تقوده السفارة الإيرانية، وبدعم من نظيرتها العراقية؛ إلا أن الأوساط الدينية الرسمية والمدنية بالبلاد، ما زالت تعتبر أن هذه الخطوات الجزائرية جاءت متأخرة، وغير كافية للحد من التغلغل الشيعي في البلاد، والذي وصل إلى حدود سنة 2017 وفقا لتقارير متعددة ما بين 3 آلاف و5 آلاف شيعي جزائري.

حشد ايديولوجي
ورغم أن الدراسات المتوفرة اليوم بالجزائر، تؤكد على أن هناك تضخيما متعمدا من بعض المؤسسات الشيعية العراقية والإيرانية لعدد المتشيعين الجزائريين؛ إذ تزعم بعض الإحصاءات أن العدد بلغ لحدود 2017 نحو 20 ألف متشيع جزائري. إلا أن هذه الادعاءات الكاذبة تهدف إلى الحشد الآيديولوجي الطائفي، وإلى محاولة خلق حالة تطبيعية شعبية، مع التمزيق المذهبي للشعب الجزائري الذي تمارسه إيران بالبلاد. كما أن هذه المزاعم، تتوخى إخراج القلة المتشيعة من السرية، ودفعها للعمل العلني والمطالبة بحقوق الأقليات الدينية، في المجالين المدني والسياسي.

بؤر ومناطق بعينها
من الناحية الواقعية، تركز التشيع في مناطق بعينها، مثل الجزائر العاصمة، ومدن باتنة، وتبسة، وسيدي بلعباس، وتيارت، وخنشلة؛ إلا أن الأبحاث الميدانية، تؤكد أن مدينة سيدي خالد بجنوب الجزائر، هي المركز الروحي للمتشيعين بالبلاد. أما فيما يتصل بالأنشطة والممارسات الطقوسية، تشير هذه الدراسات، إلى نحو 150 نشاطا علنيا، يمارس سنويا، في بعض الأضرحة والبيوتات، في مختلف المدن الجزائرية.
كما أن المتشيعين الجزائريين استطاعوا تشبيك عملهم الديني مع الشيعة التونسيين والمغاربة منذ عام 2016؛ ويبدو أن هذا التنسيق سيتطور، بشكل يمس من الأمن الروحي للمنطقة المغاربية، خاصة مع غياب التنسيق الأمني بين الدول الثلاث فيما يتعلق بتحركات الشيعة الأوروبيين من أصول مغاربية، ودورهم في زرع خلايا نائمة داخل شمال أفريقيا.
وفي هذا السياق نشير إلى ما كشفه البرلماني عن «حركة مجتمع السلم» ونائب رئيسها، عبد الرحمن سعيدي لـ«الشرق الأوسط» عن تكوين تنظيم جديد يدعى «حزب الله المغاربي»، ويتزعمه أحد الشيعة المغاربة المقيمين بألمانيا. وقال إن «جماعة فكرية خارج الجزائر، تتحرك لإرساء قواعد حزب مغاربي بمنطقة المغرب العربي»، كما أضاف أنه يتزعمه: «شخص يقيم بشرق الجزائر متزوج من لبنانية، وله نفوذ في الأوساط الشيعية خارج الجزائر ويدعي أنه من كبار الشيعة في المنطقة المغاربية». كما أوضح البرلماني الجزائري، عبد الرحمن سعيدي، أنه «يتم التحضير في بلاد غربية وفي بلاد الشام لمشروع حزب الله المغاربي».

اختراق نوعي
عمدت السلطات الجزائرية إلى حدود 2016 إلى التقليل من خطر التشيع، وكانت تعتبر الجماعات السنية المتشددة الخطر الحقيقي المحدق بالبلاد؛ وهذا الأمر جعلها تتبنى نفس الموقف الآيديولوجي للدعاية الشيعية بالجزائر. غير أن الضغط الشعبي والمدني، الذي استعمل وسائل التواصل الاجتماعي؛ ووصل للحقل الديني والسياسي، حيث دخل على خط التنديد بالتهديد الشيعي للجزائر، شخصيات دينية وسياسية وطنية، أرغم السلطات على إثارة الموضوع رسميا مع الطرف الإيراني.
غير أنه ولأسباب سياسية، فإن الجزائر لا تبدي مقاومة كبيرة للاختراق المذهبي الإيراني. فالنشاط الديني الطائفي، تحول في البلاد إلى مرحلة الهيكلة، والتشبيك مع الخارج، وفتح بيوتات وأماكن للعبادة الشيعية داخليا؛ ووصل الأمر إلى غرس خلايا التبشير الشيعي في مناطق شعبية مختلفة من البلاد. ويلاحظ لحدود 2018م، أن اختراقه للنسيج الاجتماعي الجزائري، مس بشكل أساسي رجال التعليم، والإعلام؛ مما يطرح إشكالية حصانة النخبة الجزائرية، وقدرتها على الدفاع عن الوحدة المذهبية المالكية للبلاد.

طرق الانتشار
وإذا رجعنا للدراسات الميدانية، فنجد أن نشر التشيع، يعتمد على طرق مختلفة؛ منها القنوات الإعلامية التي تبث من العراق، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة. كما أن الاختراق الشيعي للجزائر، يستغل وجود بعض الشركات الإيرانية في جهات معينة من البلاد، لبناء حاضنة اجتماعية، للطائفة الشيعية؛ ومثال ذلك مدينة الشريعة على الحدود الشرقية مع تونس، والتي ظهرت فيها بعض المقرات غير القانونية للتشيع منذ 2015.
ورغم أن هذه الأنشطة والأماكن المعلنة وشبه المعلنة، لا تحوز الصفة القانونية، فإن السلطات الجزائرية، تترك للمتشيعين الجزائريين حرية الاجتماعات وممارسة الطقوس المذهبية؛ أكثر من ذلك، توفر الأجهزة الأمنية نوعا من الحماية، لبعض الأنشطة ومقراتها غير الرسمية، وتمنع وسائل الإعلام من تصويرها، مما يعتبر تضييقا لحرية الصحافة في تناول هذه القضية.
ومع أن هذا التوجه الرسمي، يمكن تفسيره بالثقة المفرطة للدولة في حصانة أمنها الروحي؛ فإن الواقع العملي فند «حصانة» الجزائر، وصمودها ضد الاختراقات الطائفية الإيرانية. وفي هذا السياق، كشف وزير الشؤون الدينية الجزائري في منتصف مايو 2016 على أن البلاد تتعرض لهجمة خارجية تستهدف تقسيم الجزائر؛ وأن هناك «مخططات طائفية لزرع الفتنة في المجتمع الجزائري». وأنها تنشط، في الثانويات والجامعات. وأضاف أن هذا الخطر بمثابة استعمار حديث، وجب على الدولة الجزائرية مواجهته بصرامة. وفي هذا الصدد، أكد محمد عيسى وزير الشؤون الدينية، أن حكومة بلاده عاكفة على إخراج قانون جديد يتضمن مواد تجرم الفكر الطائفي. ورغم مرور سنتين على هذا التصريح للوزير محمد عيسى، فإن هذا القانون لم يصدره؛ غير أن ذلك لا يعني عدم اتخاذ، بعض الإجراءات العملية للحد من الاختراق الشيعي للبلاد.
فقد أقدمت الدولة على إنشاء هيئة مكافحة التشيع، للحد من انتشار الطائفية؛ وتجدر الإشارة إلى أن هذه المبادرة جاءت سنة 2016، بعد تقارير أمنية رسمية، تؤكد أن الأساتذة بالجامعات والمثقفين بالجزائر، هم في صدارة المتشيعين، وتليهم فئات الطلبة بالجامعات، ورجال الإعلام. ويبدو أن هذا الوضع الخطر، دفع الوزير الأول الجزائري الحال، أحمد أويحيى، للحديث عن هذا الموضوع في حملته الانتخابية عام 2017، حيث أكد أن «الشعب الجزائري سني مالكي ونرفض الشيعة والأحمدية في الجزائر».
عموما، يمكن القول إن التشيع بالجزائر حقق اختراقا مهما للنسيج الاجتماعي للبلاد، وخاصة في صفوف النخب الجزائرية. وقد ساهمت عدة عوامل متداخلة في هذا الاختراق، أهمها وجود بنية ثقافية منذ الثمانينات من القرن العشرين مناصرة سياسيا لإيران وحزب الله، وما يطلق عليه «محور المقاومة». أما من الناحية الشعبية، فإن المواجهة الشرسة للدولة مع تيارات السلفية والسلفية الجهادية، والتضييق على المؤسسات الدينية غير الرسمية، مكن التشيع من النفاذ واختراق المجتمع الحضري والقروي الجزائري.

بين التخوف والتحالف
وتدرك الدولة الجزائرية اليوم، أنها تواجه خطر التعدد المذهبي، وتحويل البلاد من سنية مالكية إلى دولة ممزقة بين السنة والشيعة والأحمدية والإباضية. غير أنها في الوقت نفسه، تعمل جاهدة على الإبقاء على التحالف السياسي مع إيران؛ خصوصا أن العلاقات بين البلدين تطورت بشكل لافت منذ 2011 وأصبحت الجزائر مساندة بشكل قوي لبرنامج إيران النووي، ولتدخل طهران في سوريا، كما تتحفظ على «عاصفة الحزم» باليمن؛ وهناك تنسيق أمني وتعاون بين الطرفين في المجالين: العسكري، الطاقة.
ويبدو، أن تنامي التعاون السياسي والاقتصادي بين الجزائر وطهران، دفع الجزائر لرفض بعض القرارات العربية، خاصة تلك التي تعتبر «حزب الله» اللبناني منظمة إرهابية؛ حيث دعا عبد القادر مساهل وزير خارجية الجزائر جامعة الدول العربية سنة 2016 إلى ضرورة «الالتزام بقواعد الشرعية الدولية... واللوائح والقوائم الأممية في تصنيف الجماعات الإرهابية، لا تشمل الأحزاب المعترف بها، والمساهمة في المشهد السياسي والاجتماعي الوطني».
* أستاذ زائر العلوم السياسية جامعة محمد الخامس - الرباط



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.