الجزائر... مخاوف من اختراق مذهبي إيراني

وسط تضارب الاعتبارات الأمنية والمصالح السياسية

متطرفون نيجيريون يحملون صوراً للخميني وخامنئي ونصر الله في كانو (أ.ف.ب)
متطرفون نيجيريون يحملون صوراً للخميني وخامنئي ونصر الله في كانو (أ.ف.ب)
TT

الجزائر... مخاوف من اختراق مذهبي إيراني

متطرفون نيجيريون يحملون صوراً للخميني وخامنئي ونصر الله في كانو (أ.ف.ب)
متطرفون نيجيريون يحملون صوراً للخميني وخامنئي ونصر الله في كانو (أ.ف.ب)

تزداد المخاوف الشعبية والرسمية بشمال أفريقيا من السياسة الدينية الإيرانية بالمنطقة؛ ففي يوم 4 مايو (أيار) 2018 دعا المستشار السابق لوزير الشؤون الدينية والأوقاف الجزائري عدة فلاحي، صديقه أمير موسوي المستشار الثقافي للسفارة الإيرانية بالجزائر «أن يبادر شخصياً ويطلب إعفاءه من مهامه ومنصبه حفاظا على المصلحة العليا والعامة».
وتوضيحا لأسباب هذه الدعوة، أضاف فلاحي: «أعتقد أنه - حفاظا على المصلحة العليا والعامة - أصبح ضروريا للملحق الثقافي بالسفارة الإيرانية... أن يبادر شخصيا ويطلب إعفاءه من مهامه ومنصبه... نشاطاته وتحركاته عبر التراب الوطني واتصالاته المكثفة والمتشعبة بفعاليات المجتمع المدني، والتي ذهب إلى استعراضها وبشكل مفرط عبر الفضاء الأزرق من خلال صفحته بفيسبوك، أضحت تثير القلق، وتطرح الكثير من الأسئلة الحرجة والمحرجة حتى بالنسبة للمصالح الأمنية».

غضب شعبي
تأتي هذه المخاوف من شبكات التشيع، بعد غضب شعبي ورصد رسمي لتحركاتها المهددة للأمن بالمنطقة؛ في الوقت الذي يشهد المسرح الإقليمي لشمال أفريقيا والشرق الأوسط مزيدا من الاختراقات، والصراعات الآيديولوجية الدينية، عبر إثارة نزعات مذهبية وبناء أنوية طائفية شيعية في بلدان شمال أفريقيا السنية المالكية المذهب. ويبدو أن مسار التحالفات بين القوى الدولية والإقليمية، جعلت من الجزائر من الناحية السياسية والاقتصادية في صف المحور الإيراني؛ مما ساهم بشكل حاسم في «تفجير» موجة جديدة من التشيع في البلاد منذ 2012.
ومن المؤشرات الدالة على خطورة شبكة التشيع التي انتشرت في السنوات الأخيرة بالجزائر؛ مشاركة الشيعة الجزائريين باحتفالات كربلاء ورفعهم علم بلادهم لأول مرة عام 2016 أما في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 فقد كان مؤشرا صادما، يكشف خطورة التغلغل الشعبي للتشيع بالجزائر؛ حين تمكنت السلطات الأمنية في مطار هواري بومدين، من ضبط أكثر من 400 فرد جزائري متشيع، عائدين من كربلاء بعد حضورهم احتفالات عاشوراء، وما يسمى أربعينية الحسين؛ وبحوزتهم كتب ومنشورات، ورايات، تستعمل في التبشير الشيعي. ولقد علق وزير الشؤون الدينية الجزائري في تصريحات لوسائل الإعلام المحلية، عن هذا الحدث بالقول إن «توقيف مروّجي التشيع دليل قاطع على قدرة السلطات على مراقبة كل الفرق الدينية التي تعمل على اختراق المرجعية الدينية الموحدة للجزائريين، وهي المذهب المالكي السني».

تهديد النسيج الاجتماعي
وتذهب عدة تقارير رسمية وغير رسمية، إلى أن تحركات المتشيعين، أصبحت تهدد معها النسيج الاجتماعي والديني للمنطقة المغاربية عامة، وقد تفتح عليها أبواب الفتن الدينية المسلحة مستقبلا، خصوصا بعد تشبيك إيران لعلاقات المتشيعين بكل من الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا عام 2016، وربط هذه الشبكة بالمشيعين بكل من ألمانيا وبلجيكا.
ورغم أن السلطات الجزائرية تحركت في نفس السنة، ضد هذه الموجة من التبشير الذي تقوده السفارة الإيرانية، وبدعم من نظيرتها العراقية؛ إلا أن الأوساط الدينية الرسمية والمدنية بالبلاد، ما زالت تعتبر أن هذه الخطوات الجزائرية جاءت متأخرة، وغير كافية للحد من التغلغل الشيعي في البلاد، والذي وصل إلى حدود سنة 2017 وفقا لتقارير متعددة ما بين 3 آلاف و5 آلاف شيعي جزائري.

حشد ايديولوجي
ورغم أن الدراسات المتوفرة اليوم بالجزائر، تؤكد على أن هناك تضخيما متعمدا من بعض المؤسسات الشيعية العراقية والإيرانية لعدد المتشيعين الجزائريين؛ إذ تزعم بعض الإحصاءات أن العدد بلغ لحدود 2017 نحو 20 ألف متشيع جزائري. إلا أن هذه الادعاءات الكاذبة تهدف إلى الحشد الآيديولوجي الطائفي، وإلى محاولة خلق حالة تطبيعية شعبية، مع التمزيق المذهبي للشعب الجزائري الذي تمارسه إيران بالبلاد. كما أن هذه المزاعم، تتوخى إخراج القلة المتشيعة من السرية، ودفعها للعمل العلني والمطالبة بحقوق الأقليات الدينية، في المجالين المدني والسياسي.

بؤر ومناطق بعينها
من الناحية الواقعية، تركز التشيع في مناطق بعينها، مثل الجزائر العاصمة، ومدن باتنة، وتبسة، وسيدي بلعباس، وتيارت، وخنشلة؛ إلا أن الأبحاث الميدانية، تؤكد أن مدينة سيدي خالد بجنوب الجزائر، هي المركز الروحي للمتشيعين بالبلاد. أما فيما يتصل بالأنشطة والممارسات الطقوسية، تشير هذه الدراسات، إلى نحو 150 نشاطا علنيا، يمارس سنويا، في بعض الأضرحة والبيوتات، في مختلف المدن الجزائرية.
كما أن المتشيعين الجزائريين استطاعوا تشبيك عملهم الديني مع الشيعة التونسيين والمغاربة منذ عام 2016؛ ويبدو أن هذا التنسيق سيتطور، بشكل يمس من الأمن الروحي للمنطقة المغاربية، خاصة مع غياب التنسيق الأمني بين الدول الثلاث فيما يتعلق بتحركات الشيعة الأوروبيين من أصول مغاربية، ودورهم في زرع خلايا نائمة داخل شمال أفريقيا.
وفي هذا السياق نشير إلى ما كشفه البرلماني عن «حركة مجتمع السلم» ونائب رئيسها، عبد الرحمن سعيدي لـ«الشرق الأوسط» عن تكوين تنظيم جديد يدعى «حزب الله المغاربي»، ويتزعمه أحد الشيعة المغاربة المقيمين بألمانيا. وقال إن «جماعة فكرية خارج الجزائر، تتحرك لإرساء قواعد حزب مغاربي بمنطقة المغرب العربي»، كما أضاف أنه يتزعمه: «شخص يقيم بشرق الجزائر متزوج من لبنانية، وله نفوذ في الأوساط الشيعية خارج الجزائر ويدعي أنه من كبار الشيعة في المنطقة المغاربية». كما أوضح البرلماني الجزائري، عبد الرحمن سعيدي، أنه «يتم التحضير في بلاد غربية وفي بلاد الشام لمشروع حزب الله المغاربي».

اختراق نوعي
عمدت السلطات الجزائرية إلى حدود 2016 إلى التقليل من خطر التشيع، وكانت تعتبر الجماعات السنية المتشددة الخطر الحقيقي المحدق بالبلاد؛ وهذا الأمر جعلها تتبنى نفس الموقف الآيديولوجي للدعاية الشيعية بالجزائر. غير أن الضغط الشعبي والمدني، الذي استعمل وسائل التواصل الاجتماعي؛ ووصل للحقل الديني والسياسي، حيث دخل على خط التنديد بالتهديد الشيعي للجزائر، شخصيات دينية وسياسية وطنية، أرغم السلطات على إثارة الموضوع رسميا مع الطرف الإيراني.
غير أنه ولأسباب سياسية، فإن الجزائر لا تبدي مقاومة كبيرة للاختراق المذهبي الإيراني. فالنشاط الديني الطائفي، تحول في البلاد إلى مرحلة الهيكلة، والتشبيك مع الخارج، وفتح بيوتات وأماكن للعبادة الشيعية داخليا؛ ووصل الأمر إلى غرس خلايا التبشير الشيعي في مناطق شعبية مختلفة من البلاد. ويلاحظ لحدود 2018م، أن اختراقه للنسيج الاجتماعي الجزائري، مس بشكل أساسي رجال التعليم، والإعلام؛ مما يطرح إشكالية حصانة النخبة الجزائرية، وقدرتها على الدفاع عن الوحدة المذهبية المالكية للبلاد.

طرق الانتشار
وإذا رجعنا للدراسات الميدانية، فنجد أن نشر التشيع، يعتمد على طرق مختلفة؛ منها القنوات الإعلامية التي تبث من العراق، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة. كما أن الاختراق الشيعي للجزائر، يستغل وجود بعض الشركات الإيرانية في جهات معينة من البلاد، لبناء حاضنة اجتماعية، للطائفة الشيعية؛ ومثال ذلك مدينة الشريعة على الحدود الشرقية مع تونس، والتي ظهرت فيها بعض المقرات غير القانونية للتشيع منذ 2015.
ورغم أن هذه الأنشطة والأماكن المعلنة وشبه المعلنة، لا تحوز الصفة القانونية، فإن السلطات الجزائرية، تترك للمتشيعين الجزائريين حرية الاجتماعات وممارسة الطقوس المذهبية؛ أكثر من ذلك، توفر الأجهزة الأمنية نوعا من الحماية، لبعض الأنشطة ومقراتها غير الرسمية، وتمنع وسائل الإعلام من تصويرها، مما يعتبر تضييقا لحرية الصحافة في تناول هذه القضية.
ومع أن هذا التوجه الرسمي، يمكن تفسيره بالثقة المفرطة للدولة في حصانة أمنها الروحي؛ فإن الواقع العملي فند «حصانة» الجزائر، وصمودها ضد الاختراقات الطائفية الإيرانية. وفي هذا السياق، كشف وزير الشؤون الدينية الجزائري في منتصف مايو 2016 على أن البلاد تتعرض لهجمة خارجية تستهدف تقسيم الجزائر؛ وأن هناك «مخططات طائفية لزرع الفتنة في المجتمع الجزائري». وأنها تنشط، في الثانويات والجامعات. وأضاف أن هذا الخطر بمثابة استعمار حديث، وجب على الدولة الجزائرية مواجهته بصرامة. وفي هذا الصدد، أكد محمد عيسى وزير الشؤون الدينية، أن حكومة بلاده عاكفة على إخراج قانون جديد يتضمن مواد تجرم الفكر الطائفي. ورغم مرور سنتين على هذا التصريح للوزير محمد عيسى، فإن هذا القانون لم يصدره؛ غير أن ذلك لا يعني عدم اتخاذ، بعض الإجراءات العملية للحد من الاختراق الشيعي للبلاد.
فقد أقدمت الدولة على إنشاء هيئة مكافحة التشيع، للحد من انتشار الطائفية؛ وتجدر الإشارة إلى أن هذه المبادرة جاءت سنة 2016، بعد تقارير أمنية رسمية، تؤكد أن الأساتذة بالجامعات والمثقفين بالجزائر، هم في صدارة المتشيعين، وتليهم فئات الطلبة بالجامعات، ورجال الإعلام. ويبدو أن هذا الوضع الخطر، دفع الوزير الأول الجزائري الحال، أحمد أويحيى، للحديث عن هذا الموضوع في حملته الانتخابية عام 2017، حيث أكد أن «الشعب الجزائري سني مالكي ونرفض الشيعة والأحمدية في الجزائر».
عموما، يمكن القول إن التشيع بالجزائر حقق اختراقا مهما للنسيج الاجتماعي للبلاد، وخاصة في صفوف النخب الجزائرية. وقد ساهمت عدة عوامل متداخلة في هذا الاختراق، أهمها وجود بنية ثقافية منذ الثمانينات من القرن العشرين مناصرة سياسيا لإيران وحزب الله، وما يطلق عليه «محور المقاومة». أما من الناحية الشعبية، فإن المواجهة الشرسة للدولة مع تيارات السلفية والسلفية الجهادية، والتضييق على المؤسسات الدينية غير الرسمية، مكن التشيع من النفاذ واختراق المجتمع الحضري والقروي الجزائري.

بين التخوف والتحالف
وتدرك الدولة الجزائرية اليوم، أنها تواجه خطر التعدد المذهبي، وتحويل البلاد من سنية مالكية إلى دولة ممزقة بين السنة والشيعة والأحمدية والإباضية. غير أنها في الوقت نفسه، تعمل جاهدة على الإبقاء على التحالف السياسي مع إيران؛ خصوصا أن العلاقات بين البلدين تطورت بشكل لافت منذ 2011 وأصبحت الجزائر مساندة بشكل قوي لبرنامج إيران النووي، ولتدخل طهران في سوريا، كما تتحفظ على «عاصفة الحزم» باليمن؛ وهناك تنسيق أمني وتعاون بين الطرفين في المجالين: العسكري، الطاقة.
ويبدو، أن تنامي التعاون السياسي والاقتصادي بين الجزائر وطهران، دفع الجزائر لرفض بعض القرارات العربية، خاصة تلك التي تعتبر «حزب الله» اللبناني منظمة إرهابية؛ حيث دعا عبد القادر مساهل وزير خارجية الجزائر جامعة الدول العربية سنة 2016 إلى ضرورة «الالتزام بقواعد الشرعية الدولية... واللوائح والقوائم الأممية في تصنيف الجماعات الإرهابية، لا تشمل الأحزاب المعترف بها، والمساهمة في المشهد السياسي والاجتماعي الوطني».
* أستاذ زائر العلوم السياسية جامعة محمد الخامس - الرباط



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.