الجزائر... مخاوف من اختراق مذهبي إيراني

وسط تضارب الاعتبارات الأمنية والمصالح السياسية

متطرفون نيجيريون يحملون صوراً للخميني وخامنئي ونصر الله في كانو (أ.ف.ب)
متطرفون نيجيريون يحملون صوراً للخميني وخامنئي ونصر الله في كانو (أ.ف.ب)
TT

الجزائر... مخاوف من اختراق مذهبي إيراني

متطرفون نيجيريون يحملون صوراً للخميني وخامنئي ونصر الله في كانو (أ.ف.ب)
متطرفون نيجيريون يحملون صوراً للخميني وخامنئي ونصر الله في كانو (أ.ف.ب)

تزداد المخاوف الشعبية والرسمية بشمال أفريقيا من السياسة الدينية الإيرانية بالمنطقة؛ ففي يوم 4 مايو (أيار) 2018 دعا المستشار السابق لوزير الشؤون الدينية والأوقاف الجزائري عدة فلاحي، صديقه أمير موسوي المستشار الثقافي للسفارة الإيرانية بالجزائر «أن يبادر شخصياً ويطلب إعفاءه من مهامه ومنصبه حفاظا على المصلحة العليا والعامة».
وتوضيحا لأسباب هذه الدعوة، أضاف فلاحي: «أعتقد أنه - حفاظا على المصلحة العليا والعامة - أصبح ضروريا للملحق الثقافي بالسفارة الإيرانية... أن يبادر شخصيا ويطلب إعفاءه من مهامه ومنصبه... نشاطاته وتحركاته عبر التراب الوطني واتصالاته المكثفة والمتشعبة بفعاليات المجتمع المدني، والتي ذهب إلى استعراضها وبشكل مفرط عبر الفضاء الأزرق من خلال صفحته بفيسبوك، أضحت تثير القلق، وتطرح الكثير من الأسئلة الحرجة والمحرجة حتى بالنسبة للمصالح الأمنية».

غضب شعبي
تأتي هذه المخاوف من شبكات التشيع، بعد غضب شعبي ورصد رسمي لتحركاتها المهددة للأمن بالمنطقة؛ في الوقت الذي يشهد المسرح الإقليمي لشمال أفريقيا والشرق الأوسط مزيدا من الاختراقات، والصراعات الآيديولوجية الدينية، عبر إثارة نزعات مذهبية وبناء أنوية طائفية شيعية في بلدان شمال أفريقيا السنية المالكية المذهب. ويبدو أن مسار التحالفات بين القوى الدولية والإقليمية، جعلت من الجزائر من الناحية السياسية والاقتصادية في صف المحور الإيراني؛ مما ساهم بشكل حاسم في «تفجير» موجة جديدة من التشيع في البلاد منذ 2012.
ومن المؤشرات الدالة على خطورة شبكة التشيع التي انتشرت في السنوات الأخيرة بالجزائر؛ مشاركة الشيعة الجزائريين باحتفالات كربلاء ورفعهم علم بلادهم لأول مرة عام 2016 أما في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 فقد كان مؤشرا صادما، يكشف خطورة التغلغل الشعبي للتشيع بالجزائر؛ حين تمكنت السلطات الأمنية في مطار هواري بومدين، من ضبط أكثر من 400 فرد جزائري متشيع، عائدين من كربلاء بعد حضورهم احتفالات عاشوراء، وما يسمى أربعينية الحسين؛ وبحوزتهم كتب ومنشورات، ورايات، تستعمل في التبشير الشيعي. ولقد علق وزير الشؤون الدينية الجزائري في تصريحات لوسائل الإعلام المحلية، عن هذا الحدث بالقول إن «توقيف مروّجي التشيع دليل قاطع على قدرة السلطات على مراقبة كل الفرق الدينية التي تعمل على اختراق المرجعية الدينية الموحدة للجزائريين، وهي المذهب المالكي السني».

تهديد النسيج الاجتماعي
وتذهب عدة تقارير رسمية وغير رسمية، إلى أن تحركات المتشيعين، أصبحت تهدد معها النسيج الاجتماعي والديني للمنطقة المغاربية عامة، وقد تفتح عليها أبواب الفتن الدينية المسلحة مستقبلا، خصوصا بعد تشبيك إيران لعلاقات المتشيعين بكل من الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا عام 2016، وربط هذه الشبكة بالمشيعين بكل من ألمانيا وبلجيكا.
ورغم أن السلطات الجزائرية تحركت في نفس السنة، ضد هذه الموجة من التبشير الذي تقوده السفارة الإيرانية، وبدعم من نظيرتها العراقية؛ إلا أن الأوساط الدينية الرسمية والمدنية بالبلاد، ما زالت تعتبر أن هذه الخطوات الجزائرية جاءت متأخرة، وغير كافية للحد من التغلغل الشيعي في البلاد، والذي وصل إلى حدود سنة 2017 وفقا لتقارير متعددة ما بين 3 آلاف و5 آلاف شيعي جزائري.

حشد ايديولوجي
ورغم أن الدراسات المتوفرة اليوم بالجزائر، تؤكد على أن هناك تضخيما متعمدا من بعض المؤسسات الشيعية العراقية والإيرانية لعدد المتشيعين الجزائريين؛ إذ تزعم بعض الإحصاءات أن العدد بلغ لحدود 2017 نحو 20 ألف متشيع جزائري. إلا أن هذه الادعاءات الكاذبة تهدف إلى الحشد الآيديولوجي الطائفي، وإلى محاولة خلق حالة تطبيعية شعبية، مع التمزيق المذهبي للشعب الجزائري الذي تمارسه إيران بالبلاد. كما أن هذه المزاعم، تتوخى إخراج القلة المتشيعة من السرية، ودفعها للعمل العلني والمطالبة بحقوق الأقليات الدينية، في المجالين المدني والسياسي.

بؤر ومناطق بعينها
من الناحية الواقعية، تركز التشيع في مناطق بعينها، مثل الجزائر العاصمة، ومدن باتنة، وتبسة، وسيدي بلعباس، وتيارت، وخنشلة؛ إلا أن الأبحاث الميدانية، تؤكد أن مدينة سيدي خالد بجنوب الجزائر، هي المركز الروحي للمتشيعين بالبلاد. أما فيما يتصل بالأنشطة والممارسات الطقوسية، تشير هذه الدراسات، إلى نحو 150 نشاطا علنيا، يمارس سنويا، في بعض الأضرحة والبيوتات، في مختلف المدن الجزائرية.
كما أن المتشيعين الجزائريين استطاعوا تشبيك عملهم الديني مع الشيعة التونسيين والمغاربة منذ عام 2016؛ ويبدو أن هذا التنسيق سيتطور، بشكل يمس من الأمن الروحي للمنطقة المغاربية، خاصة مع غياب التنسيق الأمني بين الدول الثلاث فيما يتعلق بتحركات الشيعة الأوروبيين من أصول مغاربية، ودورهم في زرع خلايا نائمة داخل شمال أفريقيا.
وفي هذا السياق نشير إلى ما كشفه البرلماني عن «حركة مجتمع السلم» ونائب رئيسها، عبد الرحمن سعيدي لـ«الشرق الأوسط» عن تكوين تنظيم جديد يدعى «حزب الله المغاربي»، ويتزعمه أحد الشيعة المغاربة المقيمين بألمانيا. وقال إن «جماعة فكرية خارج الجزائر، تتحرك لإرساء قواعد حزب مغاربي بمنطقة المغرب العربي»، كما أضاف أنه يتزعمه: «شخص يقيم بشرق الجزائر متزوج من لبنانية، وله نفوذ في الأوساط الشيعية خارج الجزائر ويدعي أنه من كبار الشيعة في المنطقة المغاربية». كما أوضح البرلماني الجزائري، عبد الرحمن سعيدي، أنه «يتم التحضير في بلاد غربية وفي بلاد الشام لمشروع حزب الله المغاربي».

اختراق نوعي
عمدت السلطات الجزائرية إلى حدود 2016 إلى التقليل من خطر التشيع، وكانت تعتبر الجماعات السنية المتشددة الخطر الحقيقي المحدق بالبلاد؛ وهذا الأمر جعلها تتبنى نفس الموقف الآيديولوجي للدعاية الشيعية بالجزائر. غير أن الضغط الشعبي والمدني، الذي استعمل وسائل التواصل الاجتماعي؛ ووصل للحقل الديني والسياسي، حيث دخل على خط التنديد بالتهديد الشيعي للجزائر، شخصيات دينية وسياسية وطنية، أرغم السلطات على إثارة الموضوع رسميا مع الطرف الإيراني.
غير أنه ولأسباب سياسية، فإن الجزائر لا تبدي مقاومة كبيرة للاختراق المذهبي الإيراني. فالنشاط الديني الطائفي، تحول في البلاد إلى مرحلة الهيكلة، والتشبيك مع الخارج، وفتح بيوتات وأماكن للعبادة الشيعية داخليا؛ ووصل الأمر إلى غرس خلايا التبشير الشيعي في مناطق شعبية مختلفة من البلاد. ويلاحظ لحدود 2018م، أن اختراقه للنسيج الاجتماعي الجزائري، مس بشكل أساسي رجال التعليم، والإعلام؛ مما يطرح إشكالية حصانة النخبة الجزائرية، وقدرتها على الدفاع عن الوحدة المذهبية المالكية للبلاد.

طرق الانتشار
وإذا رجعنا للدراسات الميدانية، فنجد أن نشر التشيع، يعتمد على طرق مختلفة؛ منها القنوات الإعلامية التي تبث من العراق، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة. كما أن الاختراق الشيعي للجزائر، يستغل وجود بعض الشركات الإيرانية في جهات معينة من البلاد، لبناء حاضنة اجتماعية، للطائفة الشيعية؛ ومثال ذلك مدينة الشريعة على الحدود الشرقية مع تونس، والتي ظهرت فيها بعض المقرات غير القانونية للتشيع منذ 2015.
ورغم أن هذه الأنشطة والأماكن المعلنة وشبه المعلنة، لا تحوز الصفة القانونية، فإن السلطات الجزائرية، تترك للمتشيعين الجزائريين حرية الاجتماعات وممارسة الطقوس المذهبية؛ أكثر من ذلك، توفر الأجهزة الأمنية نوعا من الحماية، لبعض الأنشطة ومقراتها غير الرسمية، وتمنع وسائل الإعلام من تصويرها، مما يعتبر تضييقا لحرية الصحافة في تناول هذه القضية.
ومع أن هذا التوجه الرسمي، يمكن تفسيره بالثقة المفرطة للدولة في حصانة أمنها الروحي؛ فإن الواقع العملي فند «حصانة» الجزائر، وصمودها ضد الاختراقات الطائفية الإيرانية. وفي هذا السياق، كشف وزير الشؤون الدينية الجزائري في منتصف مايو 2016 على أن البلاد تتعرض لهجمة خارجية تستهدف تقسيم الجزائر؛ وأن هناك «مخططات طائفية لزرع الفتنة في المجتمع الجزائري». وأنها تنشط، في الثانويات والجامعات. وأضاف أن هذا الخطر بمثابة استعمار حديث، وجب على الدولة الجزائرية مواجهته بصرامة. وفي هذا الصدد، أكد محمد عيسى وزير الشؤون الدينية، أن حكومة بلاده عاكفة على إخراج قانون جديد يتضمن مواد تجرم الفكر الطائفي. ورغم مرور سنتين على هذا التصريح للوزير محمد عيسى، فإن هذا القانون لم يصدره؛ غير أن ذلك لا يعني عدم اتخاذ، بعض الإجراءات العملية للحد من الاختراق الشيعي للبلاد.
فقد أقدمت الدولة على إنشاء هيئة مكافحة التشيع، للحد من انتشار الطائفية؛ وتجدر الإشارة إلى أن هذه المبادرة جاءت سنة 2016، بعد تقارير أمنية رسمية، تؤكد أن الأساتذة بالجامعات والمثقفين بالجزائر، هم في صدارة المتشيعين، وتليهم فئات الطلبة بالجامعات، ورجال الإعلام. ويبدو أن هذا الوضع الخطر، دفع الوزير الأول الجزائري الحال، أحمد أويحيى، للحديث عن هذا الموضوع في حملته الانتخابية عام 2017، حيث أكد أن «الشعب الجزائري سني مالكي ونرفض الشيعة والأحمدية في الجزائر».
عموما، يمكن القول إن التشيع بالجزائر حقق اختراقا مهما للنسيج الاجتماعي للبلاد، وخاصة في صفوف النخب الجزائرية. وقد ساهمت عدة عوامل متداخلة في هذا الاختراق، أهمها وجود بنية ثقافية منذ الثمانينات من القرن العشرين مناصرة سياسيا لإيران وحزب الله، وما يطلق عليه «محور المقاومة». أما من الناحية الشعبية، فإن المواجهة الشرسة للدولة مع تيارات السلفية والسلفية الجهادية، والتضييق على المؤسسات الدينية غير الرسمية، مكن التشيع من النفاذ واختراق المجتمع الحضري والقروي الجزائري.

بين التخوف والتحالف
وتدرك الدولة الجزائرية اليوم، أنها تواجه خطر التعدد المذهبي، وتحويل البلاد من سنية مالكية إلى دولة ممزقة بين السنة والشيعة والأحمدية والإباضية. غير أنها في الوقت نفسه، تعمل جاهدة على الإبقاء على التحالف السياسي مع إيران؛ خصوصا أن العلاقات بين البلدين تطورت بشكل لافت منذ 2011 وأصبحت الجزائر مساندة بشكل قوي لبرنامج إيران النووي، ولتدخل طهران في سوريا، كما تتحفظ على «عاصفة الحزم» باليمن؛ وهناك تنسيق أمني وتعاون بين الطرفين في المجالين: العسكري، الطاقة.
ويبدو، أن تنامي التعاون السياسي والاقتصادي بين الجزائر وطهران، دفع الجزائر لرفض بعض القرارات العربية، خاصة تلك التي تعتبر «حزب الله» اللبناني منظمة إرهابية؛ حيث دعا عبد القادر مساهل وزير خارجية الجزائر جامعة الدول العربية سنة 2016 إلى ضرورة «الالتزام بقواعد الشرعية الدولية... واللوائح والقوائم الأممية في تصنيف الجماعات الإرهابية، لا تشمل الأحزاب المعترف بها، والمساهمة في المشهد السياسي والاجتماعي الوطني».
* أستاذ زائر العلوم السياسية جامعة محمد الخامس - الرباط



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.