قراءة لنتائج «حزب الله» في الانتخابات اللبنانية

بحصرية السلاح وقوة المال عزز الحزب تمثيله للطائفة الشيعية

أنصار «حزب الله» يعربون عن تأييدهم في بعلبك لزعيم الحزب حسن نصر الله خلال ظهوره في جولة الانتخابات اللبنانية بداية الشهر الحالي (رويترز)
أنصار «حزب الله» يعربون عن تأييدهم في بعلبك لزعيم الحزب حسن نصر الله خلال ظهوره في جولة الانتخابات اللبنانية بداية الشهر الحالي (رويترز)
TT

قراءة لنتائج «حزب الله» في الانتخابات اللبنانية

أنصار «حزب الله» يعربون عن تأييدهم في بعلبك لزعيم الحزب حسن نصر الله خلال ظهوره في جولة الانتخابات اللبنانية بداية الشهر الحالي (رويترز)
أنصار «حزب الله» يعربون عن تأييدهم في بعلبك لزعيم الحزب حسن نصر الله خلال ظهوره في جولة الانتخابات اللبنانية بداية الشهر الحالي (رويترز)

أظهرت نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية التي أجريت أوائل شهر مايو (أيار) الحالي تقدما مهماً لـ«حزب الله»، وأعادت تثبيت موقعه بوصفه أحد أبرز الفصائل على الساحة اللبنانية، كما سلّطت النتيجة الضوء من جديد على مواصلة إطباق الحزب الميليشياوي على قاعدته الشعبية على الرغم من الصعوبات غير القليلة التي يواجهها داخلياً. ويرى مراقبون أن المكاسب الانتخابية المرتقبة التي حققها تشير من ناحية إلى سطوة حصرية السلاح، ومن ناحية أخرى إلى أن قطاعاً من الناخبين الشيعة لا يزال متجاوباً مع الخطاب الطائفي المتصاعد للحزب، وهو يقدِّم الشأن الأمني على الشأن الاقتصادي.

بعض المراقبين ركز على أن الأصوات التي صبّت لصالح «حزب الله» وحليفه الشيعي «حركة أمل»، اللذين حصلا معا على 26 من أصل 27 مقعداً شيعياً في البرلمان اللبناني، أكدت أن الطائفة الشيعية في لبنان، على عكس الطوائف الأخرى، ما زالت تعطي الأولوية للاعتبارات الأمنية على حساب الشأن الاقتصادي. وهذا الأمر تجلى بشكل واضح في مناطق نفوذ الميليشيا المدعومة من إيران في جنوب لبنان والبقاع على الرغم من ازدياد نسبة الفقر في المنطقة الأخيرة، وفقاً لتقرير «التقييم السريع للفقر في لبنان» الذي نشرته الأمم المتحدة، ويعد البقاع من أفقر المناطق في لبنان؛ حيث يعيش 38 في المائة من السكان تحت خط الفقر.
من ناحية أخرى، يشدد مراقبون لبنانيون على أنه يستحيل الفصل بين احتفاظ «حزب الله» بسلاحه حصراً - بخلاف سائر الأحزاب اللبنانية - وتمتعه بقوة تمويلية ضخمة مصدرها بصفة أساسية إيران، وهيمنته على الصوت الشيعي في مناطق نفوذه، وإغلاقه مناطق سيطرته في وجه القوة المنافسة.
- تفاوت جنوبي - بقاعي
إزاء هذا الواقع، بدأ في الفترة الأخيرة كثير من أفراد الطائفة الشيعية من منطقة البقاع، المتاخمة لسوريا في شرق لبنان، يعبِّرون عن امتعاضهم من الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعانيها المنطقة. وهؤلاء يشكون بالخصوص من التهميش الذي يطالهم، في حين يصب السواد الأعظم من أموال الحزب وتقام المشروعات التنموية في الجنوب اللبناني. وحسب هؤلاء، فإن الميليشيا المدعومة من إيران تخص باهتمام خاص منطقة الجنوب بحجة قربها الجغرافي من إسرائيل، التي أنهت احتلالها للبنان عام 2000 ومن ثم خاضت حرباً دمرت جزءاً لا بأس به من بنية لبنان التحتية بذريعة الرد على عملية لـ«حزب الله» عام 2006.
- نسبة الإقبال
في المقابل، على الرغم من أن «حزب الله» قاد حملة كبيرة داخل معاقل بيئته الطائفية لإقناعها بالاقتراع خلال انتخابات مايو الأخيرة، فلقد لوحظ أن نسبة الإقبال على التصويت لم تتعدّ 49 في المائة في جميع أنحاء لبنان.
ووفق الخبير المختص في شؤون «حزب الله»، علي فضل الله، الذي أشار إلى «تبدّل ولو بنسبة محدودة»، لدى جمهور «حزب الله» الذي بات مهتماً أكثر بالقضايا الخدماتية والتنموية، فالشعب لديه مطالب كثيرة ويشعر بأن الحزب لا يعطي أولوية للمسائل المعيشية. و«بغض النظر عن تأييد البيئة الشيعية المطلق للحزب في صراعه مع إسرائيل، فإنه عندما يتعلق الأمر بإدارة الملفات الاجتماعية والتنموية، فليس الكل راضياً عن أدائه في الدولة» حسب فضل الله. ومن ناحية أخرى، يرى مراقبون للحالة الشيعية في لبنان أن التململ الجماهيري ازداد بعد ظهور «قضايا فساد ارتبطت بها شخصيات تابعة للحزب في البقاع، في انتهاك واضح للمبادئ التي رفعها الحزب ورددها قادته، وسط غياب شبه تام للمشروعات التنموية في المنطقة خلال السنوات الأخيرة»، والكلام هنا لأحد أبناء منطقة البقاع من الطائفة الشيعية.
- حجم ما تحقق
مع ذلك، وفق الصحافي المخضرم بول خليفة، لم تؤثر جميع هذه الانتقادات سلباً على النتائج التي حققها الحزب الذي عزز عدد مقاعده البرلمانية في الانتخابات؛ إذ سمح قانون التمثيل النسبي الجديد للائتلاف الشيعي بتحقيق نتائج مهمة؛ إذ صبَّ أكثر من 85 في المائة من أصوات الطائفة الشيعية لصالح «حزب الله» و«حركة أمل»، وأغلق عملياً مناطق بوجه منافسيه، في حين مكّنه هذا القانون من اختراق معاقل الطوائف الأخرى.
وبحسب الخبير الإحصائي كمال فغالي، فإن كتلة «حزب الله» ستضم 45 مقعداً برلمانياً؛ أي ثلث البرلمان، إذا جرى احتساب مقاعد حلفائه مثل الحزب القومي السوري الاجتماعي وحزب المردة المسيحي.
يذكر أن الحزب؛ مستقوياً بحصرية السلاح، كان فعلياً فرض اعتماد هذا القانون.
وفي السياق نفسه، كان أمين عام الحزب حسن نصر الله قد تعمَّد في خطاباته الانتخابية حضّ الناخبين على الاقتراع قائلا إنه سيذهب إلى مدن وقرى بعلبك - الهرمل (البقاع الشمالي) إذا وجد الإقبال على الانتخابات متدنياً. كذلك قال في حديث ما قبل 6 مايو؛ أي يوم الانتخابات: «على الجميع أن ينتخب، من دون التذرع بزيارة السيدة زينب أو الإمام الرضا أو الإمام الحسين لأنهم هم سيقولون لكم: اذهبوا وانتخبوا ومن ثم عودوا لزيارتنا». وفي خطاب آخر، اتهم نصر الله كل مَن ينتقد اللائحة الانتخابية لـ«حزب الله» في منطقة بعلبك - الهرمل بأنهم «حلفاء الجماعات المتطرفة»؛ أي «داعش» و«جبهة النصرة»، حسبما ذكرت وكالة الأنباء الوطنية، متعهداً: «لن نسمح لحلفاء (النصرة) و(داعش) بتمثيل سكان بعلبك – الهرمل».
بناءً عليه، ثمة من يرى أن الطائفة الشيعية اللبنانية ما زالت ترى في «حزب الله» الحامي الأول للبلاد في حال نشوب الحرب مع إسرائيل، وكذلك ضد «الإرهاب» (بمعنى قوى الإسلام السنّي المتشدد). ويقول بول خليفة في هذا الصدد: «لذلك ليس من معارضة جدية تُذكر للحزب ضمن قاعدته الشعبية، بل على العكس يتمتع الحزب بشرعية قوية عندما يتعلق الأمر بالنضال ضد إسرائيل والتكفيريين»، على حد تعبيره.
في المقابل، هناك من يقول إن ما قدَّمته الميليشيا المحسوبة على إيران لقاعدتها الطائفية يتعدى الشعور بالأمان في حال الحرب، بل يتمثل أساساً في زرع الشعور بالزهو والثقة والغلبة في المجتمع الشيعي، ودفعه إلى اعتبار أنه بات قوة رئيسية داخل الدولة اللبنانية. ذلك أنه حتى نهاية الحرب الأهلية (1975 - 1990) كان الاعتقاد الشاسع أن المجتمع الشيعي بمعظمه ينتمي إلى الفئات الاجتماعية المحرومة مثل الفلاحين والعمال اليدويين، ويعيش في المناطق الريفية والضواحي الفقيرة. وانعكس هذا الشعور بالتهميش أيضاً على الحكومات اللبنانية حتى بدايات التسعينات. وتُظهر الدراسات حول البيروقراطية اللبنانية التي سبقت الحرب الأهلية أن الطائفة الشيعية كانت - نسبياً - الأقل تمثيلاً في الإدارة. ووفق أحد المواطنين الشيعة - فضَّل عدم الكشف عن هويته - «قبل ظهور (حزب الله)، كانت النظرة إلينا نظرة تعالٍ، وكانت لدينا وظائف بسيطة، وكنا نشغل أدنى المناصب في الإدارات اللبنانية»... أضف أن الطائفة الشيعية كانت غير راضية عن قلة اكتراث الحكومة اللبنانية باحتلال إسرائيل أراضي واسعة من جنوب لبنان الذي يعد معقلاً للطائفة الشيعية، أو تحكُّم الفدائيين الفلسطينيين بالمنطقة هناك، أو الاحتلال العسكري الذي بدأ في الثمانينات.
ولكن، لاحقاً شهدت فترة أواخر الثمانينات - وبالتحديد عام 1989 - تغييرات كبيرة لصالح الطائفة الشيعية اللبنانية؛ إذ رفع «اتفاق الطائف» حجم التمثيل البرلماني الشيعي (من 19 مقعداً إلى 27 مقعداً، من إجمالي 128 مقعداً)، كما وضعها على قدم المساواة مع السنّة، والأهم من ذلك أنه سمح لـ«حزب الله» بالاحتفاظ بترسانته العسكرية بذريعة المقاومة ضد إسرائيل، في حين حُلت جميع الميليشيات الحزبية اللبنانية الأخرى.


مقالات ذات صلة

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.