«مناورات عكسية» لـ«داعش» بعد فقد الأرض

دعوة العدناني «رمضان شهر الجهاد» تلقى طريقاً

«داعش» تبنى سلسلة اعتداءات انتحارية على ثلاث كنائس في إندونيسيا (رويترز)
«داعش» تبنى سلسلة اعتداءات انتحارية على ثلاث كنائس في إندونيسيا (رويترز)
TT

«مناورات عكسية» لـ«داعش» بعد فقد الأرض

«داعش» تبنى سلسلة اعتداءات انتحارية على ثلاث كنائس في إندونيسيا (رويترز)
«داعش» تبنى سلسلة اعتداءات انتحارية على ثلاث كنائس في إندونيسيا (رويترز)

بهجمات انتحارية فردية وأسرية كانت تفاصيلها في فرنسا وإندونيسيا وأفغانستان وليبيا أخيراً، ظهر تنظيم «داعش» الإرهابي بقوة من جديد على المشهد، بعد أشهر من «الخفوت» عقب الهزائم التي مُني بها في الأراضي التي كانت تحت سيطرته في سوريا والعراق. الهجمات الداعشية تؤكد أن التنظيم يحاول لفت النظر إليه عقب فرار كثير من عناصره وفقدانه القدرة على السيطرة بعد سنوات من تصدر المشهد الدموي.

قال مختصون في الحركات الأصولية، وخبراء أمنيون، إن التنظيم نشط بقوة الأيام الماضية وقام بـ«مناورات عكسية» لتهديد دول العالم، بعد أن فقد أرض «الخلافة المزعومة». وأضاف الخبراء لـ«الشرق الأوسط»، إن استهداف «داعش» لعدد من الدول قبل شهر رمضان محاولة منه لإحياء دعوة عمرها 3 سنوات بأن رمضان «شهر الجهاد»... والتنظيم يعمل الآن من خلال ثلاثة مستويات: «الخلايا النائمة»، و«الذئاب المنفردة»، و«الأسرة الإرهابية الكاملة».
وشهدت الأشهر الماضية نجاحاً كبيراً في محاربة التطرف على المستوى العسكري، حيث نجح التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية في السيطرة على الأراضي التي كان يسيطر عليها «داعش»... وقد أسفر هذا عن تراجع كبير في قدرات التنظيم العسكرية والميدانية، ورغم أنه يحاول مواصلة نشاطه عبر شن هجمات خاطفة على بعض الدول، فإنه لم يحقق نتائج تذكر حتى الآن.
وتبنى «داعش» أخيراً اعتداءً إرهابيّاً بالسكين في ميدان «الأوبرا» بباريس أوقع قتيلاً و5 جرحى، وهو الحادث رقم 79 في مسلسل الهجمات الإرهابية التي ضربت العاصمة الفرنسية منذ وقوع حادث تولوز الذي عده خبراء نقطة الانطلاق لموجة الهجمات الإرهابية... ووفق معلومات من مصادر مقربة من التحقيقات، فإن «النيابة العامة في فرنسا كانت قد أدرجت منفذ الاعتداء الإرهابي من قبل على قائمة المتهمين بالتطرف».
وفي إندونيسيا، نفذت عائلة من 6 أفراد بينهم طفلتان سلسلة اعتداءات انتحارية استهدفت 3 كنائس في سورابايا ثاني أكبر المدن، ما أدى لمقتل 9 وإصابة 40 آخرين، وأعلن «داعش» مسؤوليته عن الاعتداءات... وتعد التفجيرات التي استهدفت الثلاث كنائس الأكثر دموية منذ سنوات.
وفي أفغانستان، تبنى تنظيم «داعش» قبل أيام الهجوم الذي استهدف مبنى حكوميّاً بمدينة جلال آباد شرق البلاد، وراح ضحيته 15 شخصاً، وخلّف عشرات الجرحى.
كما أعلن «داعش» مسؤوليته عن تفجيرين انتحاريين استهدفا مكاتب المفوضية العليا للانتخابات الليبية في طرابلس، وقتلا ما لا يقل عن 12 شخصاً عندما اقتحم مهاجمون المبنى وأضرموا فيه النار.
وقال أحمد بان، الخبير المتخصص في الحركات الأصولية بمصر، إن اعتداءات «داعش» الأخيرة على فرنسا وإندونيسيا وأفغانستان وليبيا عبارة عن «مناورات عكسية» نتيجة لتراجع سيطرة التنظيم في سوريا والعراق، فالتنظيم يسعى لمفهوم «الخلافة الافتراضية» على الإنترنت لجذب المزيد من الأتباع للقيام بأي عمليات في الدول دون الرجوع له، من خلال ثلاثة مستويات؛ الأول «الخلايا النائمة»، والثاني «الذئاب المنفردة»، والثالث هو مفهوم «الأسرة الإرهابية»، مثلما حدث في إندونيسيا، فضلاً عن تهديداته بتفجير كأس العالم واستهداف لاعبين بأسمائهم، وجميعها محاولة للظهور على المشهد من جديد بعد «خفوت» دام لأشهر.
ونشر «داعش» قبل 3 أيام صورة مرعبة تظهر «إرهابيين» وهم يقطعون رأسي نجمين كرويين ممددَيْن على أرضية ملعب كرة قدم، قبل أسابيع من انطلاق نهائيات كأس العالم في روسيا... وتعد هذه المرة الثانية التي يهدد «داعش» فيها بمهاجمة المونديال، بعد أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حين نشر صورة لميسي، والنجم البرازيلي نيمار مقتولين من قبل «إرهابيين».
وقال مراقبون إنه قبل عامين اعتمد «داعش» من خلال منشوراته تطبيق فكرة «الذئاب المنفردة» التي يدعو من خلالها أتباعه في أي مكان بالعالم إلى تنفيذ عمليات إرهابية بأي شكل وبأي طريقة، دون الاعتماد على تخطيطات موسعة.
وأضاف المراقبون أن خطر «الذئاب المنفردة» بدأ يظهر الآن بعد سقوط التنظيم فعلياً، وذلك بسبب عوامل ثلاثة وهي: الأولى الخطورة الذاتية لفكرة «الذئاب المنفردة» نفسها. والثانية أنه مع سقوط التنظيم فإننا الآن أمام مشكلة «الفارين» من «داعش»، خصوصاً هؤلاء الذين خرجوا من بلدانهم دون أن تتمكن أجهزة الاستخبارات من التعرف عليهم وتحديد هوياتهم. والثالثة الوجود الإلكتروني الحقيقي للتنظيم، وقدرته على استقطاب أتباع جُدد.
وسبق أن حذر مسؤولون دوليون من أن تنظيم «داعش» سيعمل على إقامة «خلافة افتراضية» في الفضاء الإلكتروني يواصل من خلالها التواصل مع أنصاره وتجنيد الناشطين... ولم تتوقف وكالة «أعماق» ذراع التنظيم الإعلامية عن البث وتبني الاعتداءات والحض على تنفيذ هجمات، فيما لا يزال من الممكن الاطلاع بسهولة على نشرات التنظيم المتوافرة بلغات عدة، وهي تدعو مؤيدي «الخلافة»، أياً كانوا، وأكثر من أي وقت مضى إلى التحرك، وتمدهم بنصائح وشروح لتنفيذ اعتداءات قاتلة.
وقال الباحث عمرو عبد المنعم، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن التنظيم يُجند عناصر جُدداً عبر الإنترنت، ويعرِّفهم طرق صناعة المتفجرات واستخدام الأسلحة وكيفية الهروب من مراقبة السلطات في الدول، وهؤلاء الأشخاص المجهولون هم «الذئاب المنفردة» أو «الخلايا النائمة»، ويتم التواصل مع هؤلاء المجندين الجُدد عبر حسابات وهمية وأسماء حركية وعبارات وألفاظ لا يعرفها إلا هم.
ويقول الخبراء إن الغرب واجه مأزقاً خطيراً تمثل في عودة مُقاتلي «داعش» إلى دولهم عقب خسائره في سوريا والعراق. وأكدوا أن «الخطورة الأكبر التي تُسبب لأوروبا فزعاً ليست في العمليات التي قد يقوم بها عناصر التنظيم، لكن في التمدد الداعشي والدعوة لمبادئ التنظيم واكتسابه أنصاراً ومتعاطفين جُدداً، حينها قد يكون من الصعب السيطرة على زحفهم وانتشارهم».
وعن هدف «داعش» من تنفيذ هذه الهجمات قبل أيام من حلول شهر رمضان، قال بان، إن «داعش» يُكثف من دعايته في شهر رمضان لأنه من وجهة نظره «هو شهر الجهاد»، وهذا ما يريد توصيله لعناصره المقاتلة للقيام بعمليات إرهابية خلال رمضان لنيل الثواب - على حد زعمهم - لافتاً إلى أن التنظيم يحاول أن يستغل أي ثغرة في أي دولة لينفذ من خلالها لتنفيذ أي من عملياته.
ودعا «داعش» في يونيو (حزيران) عام 2015 أن يكون رمضان هو شهر «الجهاد» و«التعرض للشهادة»، وذلك في تسجيل صوتي منسوب إلى المتحدث باسمه أبو محمد العدناني. وطالب العدناني في التسجيل الذي بثته مواقع وحسابات إلكترونية متطرفة حينها، عناصره بالحرص على «الغزو في هذا الشهر الفضيل والتعرض للشهادة فيه».
كما دعا «داعش» في تسجيل صوتي آخر في يونيو 2017 إلى شن هجمات في الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا وأستراليا والعراق وسوريا وإيران والفلبين وفرنسا خلال شهر رمضان، ونشر التسجيل الصوتي على قناة التنظيم بتطبيق «تليغرام» ونسب إلى أبو الحسن المهاجر.
وقال الأكاديمي المصري، الدكتور محمد أحمد الدش، إن «التطورات الأخيرة في المواجهة مع تنظيم (داعش) وهزائمه المتلاحقة كشفت عن ترك بعض جنوده مناطق النزاع المسلح في سوريا والعراق، والتوجه إلى دول غربية، تلك التي ينتمي إليها بعض هؤلاء الجنود، وأول ما يتبادر إلى الأذهان هو قيام العائدين إلى بلادهم بعمليات إرهابية داخل هذه الدول على غرار ما حدث قبل ذلك من عمليات تفجيرية منفردة»، مشيراً إلى أن الخطورة الأكبر التي تسبب للغرب فزعاً ورعباً ليست في تلك العمليات وحدها، لكن في التمدد الداعشي داخل بلدانهم نتيجة الدعوة إلى مبادئ التنظيم واكتسابه أعواناً وأنصاراً ومؤيدين ومتعاطفين، حينها قد يكون من العسير السيطرة على زحفهم وانتشارهم، فتصبح تلك البلاد في وقت من الأوقات منطقة نزاع مُسلح.
ويتوعد «داعش» الغربيين دائماً بهجمات «تنسيهم» - على حد زعمه - هجمات نيويورك في 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001، كما توعَّد في تسجيلات الدول المُنضمة للتحالف الدولي ضده من بينهما أميركا وروسيا وبعض الدول العربية، بتنفيذ هجمات عنيفة، إذا لم يتوقفوا عن دعم أميركا في هجومها على التنظيم.
وقال مراقبون إن «داعش» بالفعل نفذ تهديداته في فرنسا، وهناك تهديدات كثيرة لم تتحقق بعد، قد تكون قيد التخطيط وقد تدخل فقط ضمن الحرب النفسية من التنظيم لتسهم في رسم الصورة التي يسعى من خلالها لإظهار قدرته على الوصول لجميع أنحاء العالم واكتساب صيت أو نفوذ عالمي.
وسبق أن بث العدناني تسجيلاً صوتيّاً عام 2014 وقال للمتعاطفين مع التنظيم: «إذا لم تنجح في إلقاء قنبلة، أو فشلت في فتح النار على مشرك (على حد قوله) فيمكنك طعنه بسكين أو ضربه بالحجر أو سحقه بسيارة»... وفي ديسمبر (كانون الأول) 2016 بث «داعش» إصداراً مرئياً، شرح خلاله طريقة استخدام السكاكين في القتل، والإصدار تناول طريقة استخدام السكاكين، والمواضع التي يجب تركيز الطعن فيها، وأفضل أنواع السكاكين ومواصفاتها.
من جانبه، قال اللواء عماد عبد المحسن، المستشار بأكاديمية ناصر العسكرية في مصر، إن الموقف على الأرض بالنسبة لتنظيم «داعش» الإرهابي صعب للغاية بسبب المقاومة العنيفة ضد التنظيم، لذا فهو يلجأ إلى استراتيجية التخويف بعمليات هنا وهناك عبر أشخاص غير معروفين، وهذه دلالة على الوضع الصعب وخسائره المتعددة، وانحسار نفوذه في المناطق التي يستولى عليها، وهروب الكثير من عناصره من أرض «الخلافة المزعومة».
وعن هجمات متوقعة أخرى لـ«داعش» في رمضان، قال أحمد بان، إن «التنظيم أصبح الآن أكثر حرية لأنه تخلص من أعباء القيادة في الأراضي التي كان يسيطر عليها في سوريا والعراق، وأصبح الآن شغله الشاغل تهديد العالم».


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟