للوهلة الأولى، تبدو «خريطة الطريق» الجديدة لإيران التي كشف عنها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أشبه بوصفة لتغيير النظام في طهران. هذه النظرة وجدت صدى اتخذ شكل تعليقات مبدئية صدرت عن الاتحاد الأوروبي على قائمة بومبيو التي تضمّنت 12 مطلباً، والتي عرضها في مؤسسة «هيريتيدج فاونديشن» بواشنطن. فوزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون ومسؤولة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني يزعمان أنه بتخطي حدود الاتفاق النووي الإيراني المثير للجدل، قد ينفذ بومبيو أجندة خفية ضد النظام الإيراني.
هذا الزعم ليس خيالياً، فبومبيو ومستشار الرئيس الأميركي الجديد للأمن القومي جون بولتون مناديان بتغيير النظام منذ أكثر من عقدين من الزمان.
لكن نظرة أقرب على خريطة طريق بومبيو قد تكشف نهجاً أكثر تطوراً.
لقد حاول وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ربط المسألة النووية مع المسألة الأوسع، وهي سلوك إيران الذي يمس مصالح الولايات المتحدة وحلفاءها. وليس من الصعب تخمين السبب وراء ذلك النهج. فإن لم تكن الجمهورية الإسلامية تهدد تلك المصالح، فلن يهم ما إذا كان لديها برنامج نووي أم لا، أو حتى إن كانت تمتلك أسلحة نووية أم لا. فالمطالب الأربعة الأولى التي طرحها بومبيو تتعلق بمشروع إيران النووي، وهي بالفعل تأتي تحت غطاء الاتفاق النووي الذي صاغه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
- مطالب بومبيو
المطلب الأول يلزم إيران بإبلاغ «وكالة الطاقة الذرية» بجميع أوجه النشاطات العسكرية لمشروعها، وهو بالفعل ضمن بنود معاهدة «حظر الانتشار النووي» التي تعد إيران أحد الأطراف الموقعة عليها. وبعدم المطالبة بذلك خلال مرحلة مفاوضات الاتفاق النووي، المعروفة باسم «خطة العمل المشتركة» (JCPOA)، أسهم أوباما في إضعاف اتفاقية «حظر الانتشار النووي». ويريد بومبيو أن يصحح ذلك الخطأ ويعيد الزخم إلى الاتفاقية بعدما فقدته بسبب دبلوماسية أوباما غير الحكيمة.
كذلك فإن مطلب بومبيو الثاني بوضع حد لبرنامج تخصيب اليورانيوم ووقف بناء مفاعل جديد للبلوتونيوم، يجب أن يكون من السهل لإيران قبوله، شريطة ألا تخفي أجندة سرية بهدف إنتاج أسلحة نووية. ويشير الباحث الإيراني همايون نقيبي إلى أنه «ليس لإيران حتى الآن استخدامات لليورانيوم الذي تقوم بتخصيبه بدرجات أقل من 5 في المائة... وأن التوقف عن عمليات التخصيب كلها لن يتسبب في ضرر يذكر لأي من أوجه الاقتصاد الإيراني». وفيما يخص إنتاج البلوتونيوم، فقد أعدت إيران خططاً لإنشاء مفاعل لإنتاج الماء الثقيل ودخلت في مفاوضات مع الصين لإعادة تصميم مفاعل أراك البعيد تماماً عن أي استخدامات عسكرية. ولتأكيد ذلك، طالب بومبيو بتجميد عمل مفاعل أراك على الرغم من أن إيران تعمل على استخدامه في أغراض غير عسكرية. ومع هذا، لا يعد الوصول إلى حل وسط في شأن هذا المفاعل أمراً مستبعداً تماماً.
وبالنسبة لمطلب بومبيو الثالث المتمثل بسماح إيران لمفتشي «وكالة الطاقة الذرية» بالذهاب إلى أي مكان يرونه ضرورياً، تضمنه وتصونه قوانين الوكالة واتفاقية «حظر الانتشار النووي»، فإن بومبيو يريد أن يستعيد الشكل القانوني في التعامل مع إيران. ذلك أن أوباما كان قد خالف قوانين الوكالة ونصوص الاتفاقية، و«اخترع» صيغة رخوة يمكن من خلالها لإيران والوكالة أن توافق على المواقع الواجب تفتيشها.
ونصل إلى مطلب بومبيو الرابع، وهذا المطلب هو أن تتوقف إيران عن تطوير الصواريخ الباليستية وإنتاج صواريخ قادرة على حمل رؤوس حربية نووية. هنا يجب أيضاً ألا يكون الالتزام صعباً. إذ أعلنت إيران على الملأ تجميد مشروع الصواريخ التي يتخطى مداها 2400 كلم. والواقع أنه سيكون لتلك الصواريخ معنى إن كان هذا الحمل نووياً أو كيماوياً، ذلك أن حمل 675 كيلوغراماً من مادة «تي إن تي» العادية لما هو أبعد من أرض المعركة لن يكون ذا معنى من الناحية العسكرية. هنا أيضاً قرر أوباما أن ينظر في الاتجاه الآخر بأن يترك الباب مفتوحاً لكل التكهنات فيما يتعلق بنيات إيران النووية لتطوير صواريخ لها معنى فقط إذا كانت ضمن إطار الاستراتيجية النووية. وبالتالي، سيزيل مطلب بومبيو كل الغموض لما فيه صالح جميع الأطراف.
أيضاً مطلب بومبيو الخامس، الداعي للإفراج عن الرهائن الأميركيين وحلفائهم، ليس بالمطلب الغريب ولا هو صعب التنفيذ. حتى الآن هناك 32 رهينة قيد الاعتقال، لم يصدر بحق أي منهم أي اتهام ولم يدن أحدهم. و10 منهم على الأقل مواطنون أميركيون وبريطانيون كانوا من أنشط المتحمسين لإيران الخمينية في أميركا وبريطانيا. بل ومن بين هؤلاء مؤسسو «المجلس الوطني الإيراني - الأميركي» (ناياك)، وهو جماعة ضغط أسستها إيران وتمولها وهدفها الالتفاف على العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وبحسب منوشهر رضائي، وهو رجل أعمال ساعد جماعات الضغط الإيراني في الولايات المتحدة وبريطانيا، فإن «بومبيو يطالب طهران بالإفراج عن جماعات ضغطها الخاصة».
- وقف دعم حزب الله
يتعلق مطلب بومبيو السادس «بوقف الدعم الإيراني للجماعات الإرهابية» مثل الفرع اللبناني لـ«حزب الله»، وجماعة «الجهاد الإسلامي» في فلسطين و«حماس». وهنا أيضاً فإن اتهام الولايات المتحدة بانتهاج سلوك «إمبريالي» ليس في محله، فبومبيو يطالب ما سبق أن طالب به مجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوروبي مراراً وتكراراً بعدما حددوا الجماعات سالفة الذكر بالاسم «جماعات إرهابية». وحتى لو لم يقل بومبيو أي شيء في هذا الصدد، فإيران، بوصفها عضواً في الأمم المتحدة، كان من الواجب عليها التوقف عن دعم تلك الجماعات.
أما بالنسبة لمطلب بومبيو السابع فقد يكون ماضياً في سبيله للتنفيذ بفضل التطورات نفسها في العراق، وهي تطورات خارجة عن سيطرة إيران. ففي الانتخابات العامة الأخيرة، صوّت العراقيون للاستقلال، بأن ألحقوا هزيمة نكراء بالأحزاب والجماعات والشخصيات المنصاعة لإيران. وبحسب المراسل الصحافي علي جوانمردي، هرب الجنرال قاسم سليماني، الرجل المسؤول عن «تصدير الثورة» من بغداد تحت جنح الظلام بعدما فشلت مهمته في تشكيل تحالف مساند لطهران. ولخوفه على سلامته، آثر الفرار إلى السليمانية، حيث ثمة جماعة كردية مؤيدة لطهران وجد عندها الملاذ الآمن. لقد تراجعت طهران عن نهجها العدائي القديم تجاه نتائج الانتخابات العراقية التي وضعت التيار الذي يقوده مقتدى الصدر على رأس قائمة الفائزين. وفي غضون 24 ساعة، توقف الهجوم الإعلامي على الصدر، ويوم الثلاثاء قدم إيرج مسجدي، السفير الإيراني في بغداد، التحية للصدر بوصفه قائداً عظيماً يستحق الاحترام.
ومن ثم، مهما حدث لفرصة الأزمة التي خلقها بومبيو، فهناك شيء واحد مؤكد، هو أن العد التنازلي لتلاشي النفوذ الإيراني في العراق بدأ بالفعل. أما فيما يتصل بنزع أسلحة الميليشيات العراقية، فهذه ستكون إحدى المهام الأساسية للحكومة المقبلة في بغداد، لا سيما أن كل المكونات المطلوبة للتحالف المستقبلي أعلنت التزامها بها.
- الموضوع اليمني
مطلب بومبيو الثامن، هو وضع حد نهاية لدعم المتمردين الحوثيين في اليمن. ويلقى هذا المطلب الدعم في إيران نفسها. وبحسب مصادر في إيران وفي الاتحاد الأوروبي، فإن تقليص الدعم للحوثيين كان أحد المغريات التي قدمها وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف إلى نظرائه في الاتحاد الأوروبي خلال الاجتماع الذي عقد بداية الشهر الحالي في بروكسل. فـ«الخطة» الإيرانية المقترحة تعتمد جزئياً على خطة أعدها وزير الخارجية البريطاني السير آلان دانكان والكويت على مدار عام مضى.
- الانسحاب من سوريا
مطلب بومبيو التاسع هو أن تبادر إيران إلى سحب قواتها من سوريا، وهو المطلب الذي يلقى حالياً الدعم من روسيا - على الأقل ضمنياً - وستجد دول الاتحاد الأوروبي صعوبة في معارضته. وقد تعترف إيران في مرحلة ما بأن «مشروعها الكبير» لسوريا لن يتحقق، وأن لا فائدة ترجى من الإبقاء على تلك القوات، حيث الهيمنة دون غطاء جوي، وإلا ستكون صيداً سهلاً لأي هجوم جوي. لقد كان مطلب الانسحاب من سوريا أحد أكثر الشعارات شعبية التي تغنى بها ملايين المحتجين المناهضين للنظام في أكثر من 150 مدينة إيرانية منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وبالتالي، بالرحيل عن سوريا، فإن المؤسسة الخمينية ستتمكن من نزع سلاح بعض المنتقدين داخل إيران. ثم إن نقص المال عنصر متنامي الأهمية في هذا الشأن، إذ تجد إيران مصاعب متزايدة بتحمل أكلاف الإبقاء على 80 ألف مقاتل ميليشياوي ومرتزق من لبنان وأفغانستان وباكستان في لعبة تتحكم فيها روسيا والولايات المتحدة.
- المطلبان الأخيران
المطلبان الأخيران اللذان قدمهما بومبيو غامضان وعموميان، وليس من الصعب الالتفاف حولهما. فإن مساندة إيران لطالبان في أفغانستان كانت مؤقتة ومتقطعة. وآخر عملياتها في منطقة فراه الأفغانية المتاخمة لإيران هدفت إلى إثارة القلاقل رداً على قرار كابل تقليص حصة إيران من الماء الوارد إليها من نهر هلمند. وهناك أيضاً مطلب توقف إيران عن تهديد إسرائيل بالإبادة والكف عن شن الهجمات الصاروخية (عبر الحوثيين) على المملكة العربية السعودية. وأيضاً مطلب تهدئة الهجوم الإعلامي على إسرائيل، وهو ليس بالمطلب الصعب، وتكرر في كثير من المناسبات في الماضي. أما بخصوص الهجمات الصاروخية على السعودية، فإن قرار وقف مساندة الحوثيين سيحقق ذلك الهدف.
- الموقف من إيران نفسها
ولكن، الأخبار السارة بالنسبة للمؤسسة الخمينية والسيئة لخصومهم داخل إيران هي أن قائمة أمنيات بومبيو لم تذكر شيئاً عن حقوق الإنسان، أو حتى نهاية للقمع داخل إيران. ويظهر هذا، على النقيض من كل المزاعم، أن بومبيو حقاً يسعى إلى تغيير سلوك طهران فيما يخص عدداً من قضايا السياسة الخارجية، ولا يهدف إلى تغيير النظام. وهو بتنفيذ ذلك، فإنه ينهي سياسة أوباما الداعمة بقوة للنظام في إيران ولكن من دون أن يعد بتدخل أميركي مباشر في صراع القوى في إيران. ومع بعض الفوارق، فإن هذا بالضبط ما قدّمه الرئيس دونالد ترمب إلى الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون. ولقد كان كيم حكيماً، أو على الأقل حسن الصرف، في قبوله العرض. ولذلك دعونا ننتظر لنرى ما سيفعله المرشد الأعلى علي خامنئي، المعجب بكوريا الشمالية، بعد تلقيه العرض نفسه.
التخمين الأفضل للوضع الراهن هو أن يحاول علي خامنئي تهدئة خاطر الأميركيين وتبريد الأمور هذه الفترة بدلاً من اللجوء إلى الاستفزاز ودفعهم باتجاه اتخاذ خطوة أشد ضد نظامه. وهذا ما يلوح لدى مراجعة عدد من البيانات والتعليقات الرسمية رداً على تحدي بومبيو ونقاطه الـ12.
إذ سعت افتتاحية نشرتها وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إرنا) يوم الأربعاء، إلى طمأنة كل من الولايات المتحدة وإسرائيل بأن القوات الإيرانية الموجودة في سوريا ولبنان، بما فيها ميليشيا حزب الله «لن تتحرك ضد أيٍ كان، ما لم تتعرض لهجوم يشن عليها». بكلام آخر، فإن اتفاق وقف إطلاق النار الذي عقد مع إسرائيل بوساطة فرنسية عام 2006 ما زال ساري المفعول بما يخص إيران والميليشيات التابعة لها. ولكن من أجل تسويغ وقف إطلاق النار هذا، زعمت الافتتاحية «أن النظام الصهيوني ينزلق نحو الانهيار» وهو «زائل لا محالة في المستقبل»، وعليه لا حاجة لإيران أن تأخذ أي إجراء عسكري.
المعزوفة نفسها عزفها الجنرال يحيى رحيم صفوي، القائد السابق للحرس الثوري وكبير مستشاري خامنئي العسكريين حالياً، إذ قال في كلمة ألقاها في مدينة خرّمشهر (المحمّرة) يوم الثلاثاء الماضي: «نحن موجودون في العراق وسوريا فقط كمستشارين، ولا نشارك في أي نوع من النشاط الميداني»، وأردف: «لا تشمل مهامنا الاستراتيجية أي تحرك عدواني».
وفي الاتجاه نفسه، ولكن إزاء اليمن وأفغانستان هذه المرة، تسير صحيفة «كيهان»، المعبّرة عن مواقف خامنئي. إذ جاء في افتتاحية الصحيفة يوم الأربعاء الماضي قولها: «لقد قلنا وكررنا دائماً أن الحل في اليمن لا يمكن إلا أن يكون سياسياً. والادعاء أن إيران تدعم حركة طالبان مثير للسخرية... بكل بساطة».
ولكن من جانب آخر، هناك أصوات تحث القيادة في طهران بصورة أكثر مباشرة وصراحة على إيجاد صيغة تفاهم مع الولايات المتحدة «بدلاً من السير باتجاه فخ المواجهة». من هذه الأصوات علي رضا علوي بناه، المحلل السياسي، الذي حث خلال مقابلة أبرزتها وكالة «إرنا» على صفحتها الأولى، الرئيس روحاني، على «مراجعة جوانب من سياساتنا». ومن دون أن يسمي خامنئي بالاسم لمّح علوي بناه إلى إمكانية تجاوز المرشد الأعلى بقوله: «ليس على الرئيس طلب إذن أحد لتعديل السياسة (الإيرانية)». وفي الوقت ذاته، حذّر سعيد حجّاريان، وهو أحد كبار المنظّرين «الإصلاحيين»، من أنه إذا لم ينتهز روحاني الفرصة لإظهار وجود خيارات بديلة، فإنه سيخسر الدعم المتبقي لـ«الحركة الإصلاحية» في المجتمع. والمغزى هنا هو أنه إذا أدرك الناس تماماً حجم كلفة السياسات الحالية، بما فيها التدخل في شؤون الدول الأخرى، فإنهم سيمتنعون عن تأييد استراتيجية «تصدير الثورة» التي يرمز إليها الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري.
وبالتالي، قد تكون ثمة ملامح لتشكُّل تفاهم عريض على الحاجة لحماية النظام حتى لو كان الثمن تجرّع كأس مرة وتقبل خيبة الأمل. وهذا، في الواقع، ما عناه آية الله جعفر سبحاني عندما أكد أن «الأولوية تكمن في حماية النظام الإسلامي، وعلينا ألا نركن لوقوف الكفرة الأوروبيين مع نظامنا، ولا خوض لمعركة غير متكافئة لا نستطيع كسبها في الوقت الراهن».
وهكذا، بالنظر إلى ما تقدّم يبدو أن إحجام بومبيو عن التطرق مباشرة إلى «تغيير النظام» ساعد «العمليين» داخل النظام الإيراني، الذين يريدون اعتماد تراجع تكتيكي بانتظار إما اهتزاز رئاسة دونالد ترمب أو نهايتها. ولكن في المقابل، ما زال هناك في طهران جماعات متعطشة إلى مواجهة مع واشنطن، ما يوحي بأن الجدل المحتدم في العاصمة الإيرانية ما زال بعيداً عن الحسم.
انقسام في إيران حول قائمة أمنيات بومبيو
المواجهة غير محسومة بين «صقور» تحدي واشنطن و«عمليي» التراجع التكتيكي
انقسام في إيران حول قائمة أمنيات بومبيو
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة