محلات قديمة في فلورانس تتحدى الزمن بتاريخها وعراقتها

من صناعة العطور إلى الحرير والجلود

TT

محلات قديمة في فلورانس تتحدى الزمن بتاريخها وعراقتها

يجمع الباحثون في التاريخ الاجتماعي والخبراء الاقتصاديون، على أن الاستهلاك من السمات الأساسية الدّالة على المنحنيات السلوكية عند السكان، والكاشفة لميولهم ومنازعهم في مجالات شتى. والاستهلاك الذي لازم الإنسان منذ القدم، أصبح اليوم الصفة الأبرز لمجتمعاتنا التي تتحرك على وقعه وتتأثر بتقلباته، وتكشف ما يعتمل فيها من اتجاهات وظواهر وأزمات.
من المقايضة في العصور الأولى، إلى الأسواق الشعبية المفتوحة في ساحات المدن، إلى الحوانيت الثابتة في القرون الوسطى، ثم إلى المتاجر المتخصصة والواجهات الزجاجية الأولى في القرن الثامن عشر، وصولاً إلى المخازن الكبرى والمجمّعات التجارية الضخمة التي تحوّلت إلى مدن داخل المدن الكبرى. وأخيرا وليس آخرا التجارة الإلكترونية التي تكاد تشكّل خمس المبادلات التجارية العالمية والمرشّحة إلى ازدياد مضطرد في السنوات المقبلة.
لكن الجموح إلى الاستهلاك المكثّف والسريع في المجمعات الحديثة الضخمة والمناطق الحرة لم يقضِ، كما اعتقدنا وخشينا، على نزعة التمتع بأناقة المتاجر القديمة وعراقتها، والرغبة في ممارسة التسوق الهادئ عبر الحوار وإشباع الفضول.

- العطور
المحطة الأولى في جولاتنا على المدن التي تشتهر بمحلاتها العريقة مدينة فلورانس الإيطالية، حيث توجد أقدم صيدلية في أوروبا يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر. Santa Maria Novella تأسست عام 1381 على يد مجموعة من الرهبان الذين كانوا يصنعون العطور والعقاقير النباتية، كماء الورد الذي كان يستخدم كمطهّر لمعالجة بعض الأمراض الجلدية. في عام 1612، وبعد أن ذاع صيت عطورهم ومساحيقهم التي كان النبلاء يقبلون عليها، افتتحوا أول متجر لهم في عاصمة توسكانة ما زال إلى اليوم من المحطات الرئيسية للسياح، غالباً ما يقصدونه قبل زيارة المتاحف الشهيرة. وقد وصلت شهرة عطور سانتا ماريّا نوفيلّا حتى أقاصي الصين وروسيا في القرن السادس عشر. ويُذكر أن كاترين دي ميديتشي حملت معها إلى البلاط الفرنسي العطر الذي يعرف إلى اليوم بعطر الملكة.
ويستقبل المتجر زواره إلى اليوم في المبنى نفسه الذي كانت تصنع فيه العطور والعقاقير وتباع قديما. يضمّ مكتبة ومتحفاً ومختبراً قديماً يحكي تاريخ أربعة قرون من الصناعات الحرفية الطبيعية. وقد افتتحت سانتا ماريا نوفيلّا لها فروعاً في نيويورك وطوكيو وسيول وهونغ كونغ، وفي عام 2014 اقتنى المتجر قطعة أرض تشرف على فلورانس وحوّلها إلى حديقة لزراعة الأعشاب والنباتات التي كانت تُستخرج منها العطور في العصور الوسيطة. ووصلت شهرة الاسم إلى حد أن هيئة البريد الإيطالي مؤخرا أصدرت طابعا تذكاريّا يحمل رسم المتجر القديم وتاريخ تأسيسه.

- الحرير
من هناك ننتقل إلى Antico Setificio المحترف القديم لغزل الحرير الذي تأسس في عام 1786، حيث تستقبلك روائح ذكيّة تفوح من زهور تزيّن مدخل المبنى الذي يعود إلى القرن الخامس عشر. عند دخول المحترف تزكمك رائحة الخشب والشمع المنبعثة من المناويل العتيقة التي ما زالت تدور بالطقوس نفسها التي كانت تدور بها منذ القرن الرابع عشر عندما بدأت بصناعة الحرير المستوردة مواده الخام من الصين إلى المتوسط، والتي كانت مصدر ثراء الكثير من الأسر النبيلة في المدينة. نفس هذه الأسر قررت في أواخر القرن الثامن عشر التبرّع بالمناويل والتصاميم الكرتونية القديمة التي كانت تحتفظ بها لتأسيس هذا المشغل الذي خرجت منه أفخم الحرائر التي تزيّن اليوم قصر الكرملين والقصور الملكية في السويد والدنمارك. ومن بين المناويل الاثني عشر المستخدمة اليوم في المشغل، واحدة صُنعت استنادا إلى تصميم وضعه عبقري توسكانة ليوناردو دا فينتشي.

- الجلود
من صناعة الحرير إلى صناعة الجلود التي قامت عليها أيضا شهرة فلورانس وكانت أحد المصادر الأساسية لثرائها. على ضفة النهر الذي ينساب بين ضلوع المدينة الجميلة تقوم La Scuola del Cuoio مدرسة صناعة الجلود التي أسسها مارتشيلّو غوري مطلع القرن الماضي ويُشرف عليها اليوم حفيده توماسّو. كان هدف المؤسس تعليم الأطفال اليتامى حرفة يرتزقون منها، فراح يختار المؤهلين لتعليمهم أسرار الحرفة وإنتاج السلع الجلدية التي اشتهرت بها فلورانس وما زالت إلى اليوم. وتقوم المدرسة في وسط حي الدبّاغين الذي تدرجه السلطات على برنامج زيارات رؤساء الدول والملوك إلى المدينة.
نغادر المحترف الأنيق ونعبر على الجسر القديم إلى ضفة النهر المقابلة التي يرتفع وسطها متحف بيتزي الضخم، وبجانبه متجر The Blue Shop المتخصص في صناعة الحِرَفيات الخشبية المكسوة بالجلود المزخرفة التي اشتهرت بها فلورانس. وقد درج هذا المحترف منذ تأسيسه عام 1903 على استخدام أفخر أصناف الخشب والجلود، مستنداً إلى التصاميم القديمة التي وضعها فنّانو عصر النهضة، والأدوات النفيسة التي يزخر بها المتحف المقابل. من زبائن هذا المحترف الرؤساء الأميركيون منذ أن كلّفه دايت آيزنهاور صناعة مكتب له. يشتهر المتجر الأزرق أيضا بالتجليد اليدوي الفاخر للكتب متّبعاً نفس الطرق والطقوس القديمة. وقد سُمّي بالأزرق لأن العمال فيه كانوا يرتدون أثوابا زرقاء، وكانت تُغطّى واجهاته ليلاً بقماش أزرق.


مقالات ذات صلة

5 قطع لن تخسري إذا استثمرتِ فيها حالياً

لمسات الموضة الجينز لا يزال يتصدر منصات الموضة العالمية مثل عرض «ليبرتين» خلال أسبوع نيويورك الأخير (إ.ب.أ)

5 قطع لن تخسري إذا استثمرتِ فيها حالياً

مهما تغيرت المواسم والأذواق، هناك قطع من الموضة تتحدى الزمن وتعتبر بمثابة استثمار سعره فيه.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة اعتمد المصمم على التفاصيل الجريئة حتى يمنح كل زي ديناميكية خاصة (خاص)

فؤاد سركيس يرسم لوحة ملونة بالالوان والتفاصيل في مجموعته لـ 2025

في أحدث مجموعاته لموسم خريف وشتاء 2025، يعيد المصمم فؤاد سركيس رسم هوية جديدة لمعنى الجرأة في الموضة. جرأة اعتمد فيها على تفاصيل الجسم وتضاريسه. تتبعها من دون…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة مصممة الأزياء التراثية علياء السالمي (الشرق الأوسط)

علياء السالمي... تحمل تقاليد الماضي إلى الحاضر

من قلب المملكة العربية السعودية؛ حيث تتلاقى الأصالة والحداثة، تبرز مصممة الأزياء التراثية علياء السالمي واحدةً من ألمع الأسماء في عالم تصميم الأزياء.

أسماء الغابري (جدة)
لمسات الموضة كانت روح ماريا تحوم في قصر غارنييه بكل تجلياتها (ستيفان رولان)

من عاشقة موضة إلى مُلهمة

كل مصمم رآها بإحساس وعيون مختلفة، لكن أغلبهم افتُتنوا بالجانب الدرامي، وذلك التجاذب بين «الشخصية والشخص» الذي أثَّر على حياتها.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة لم تحتج الدار يوماً إلى مدير إبداعي يرسم معالمها... لأن «نجمها الأول وعملتها الذهبية» هي أنسجتها (لورو بيانا)

«لورو بيانا»... تحتفل بمئويتها بفخامة تستهدف أصحاب الذوق الرفيع

لم تحتج الدار يوماً إلى مدير إبداعي يقودها ويحدد اتجاهاتها... فشخصيتها واضحة، كما أنها تمتلك نجماً ساطعاً يتمثل في أليافها وصوفها الملكي.

جميلة حلفيشي (لندن)

الرياض تشهد عناق النجوم ببريق الترتر واللؤلؤ

سيلين ديون وإيلي صعب وعلاقة عمرها 25 عاماً (رويترز)
سيلين ديون وإيلي صعب وعلاقة عمرها 25 عاماً (رويترز)
TT

الرياض تشهد عناق النجوم ببريق الترتر واللؤلؤ

سيلين ديون وإيلي صعب وعلاقة عمرها 25 عاماً (رويترز)
سيلين ديون وإيلي صعب وعلاقة عمرها 25 عاماً (رويترز)

بعد عام تقريباً من التحضيرات، حلت ليلة 13 نوفمبر (تشرين الثاني). ليلة وعد إيلي صعب أن تكون استثنائية ووفى بالوعد. كانت ليلة التقى فيها الإبداع بكل وفنونه، وتنافس فيها بريق النجوم من أمثال مونيكا بيلوتشي، وسيلين ديون، وجينفر لوبيز، وهالي بيري ويسرا، وغيرهن مع لمعان الترتر والخرز واللؤلؤ. 300 قطعة مطرزة أو مرصعة بالأحجار، يبدو أن المصمم تعمد اختيارها ليرسل رسالة إلى عالم الموضة أن ما بدأه منذ 45 عاماً وكان صادماً لهم، أصبح مدرسة ومنهجاً يقلدونه لينالوا رضا النساء في الشرق الأوسط.

من عرض إيلي صعب في الرياض (رويترز)

لقاء الموضة بالموسيقى

كان من المتوقع أن تكون ليلة خاصة بالموضة، فهذه أولاً وأخيراً ليلة خاصة بإيلي صعب، لكنها تعدت ذلك بكثير، أبهجت الأرواح وغذَّت الحواس وأشبعت الفضول، حيث تخللتها عروض فنية ووصلات موسيقية راقصة لسيلين ديون، وجينفر لوبيز، ونانسي عجرم، وعمرو دياب وكاميلا كابيلو. غنت لوبيز ورقصت وكأنها شابة في العشرينات، ثم نانسي عجرم وعمرو دياب، واختتمت سيلين ديون الفعالية بثلاث أغنيات من أشهر أغانيها وهي تتفاعل مع الحضور بحماس. لم تقف وعكتها الصحية التي لا تزال آثارها ظاهرة عليها مبرراً لعدم المشاركة في الاحتفال بمصمم تُكنّ له كل الحب والاحترام. فإيلي صعب صديق قبل أن يكون مصمم أزياء تتعامل معه، كما قالت. يؤكد إيلي الأمر في لقاء جانبي، قائلاً: «إنها علاقة عمرها 25 عاماً».

وهذا ما جعل الحفل أشبه بأغنية حب.

هالي بيري وهي تلبس فستان الأوسكار الأيقوني نفسه الذي ارتدته عام 2002 (خاص)

هالي بيري التي ظهرت في أول العرض بالفستان الأيقوني الذي ظهرت به في عام 2002 وهي تتسلم جائزة الأوسكار بوصفها أول ممثلة سمراء، دمعت عيناها قبل العرض، وهي تعترف بأن هذه أول مرة لها في الرياض وأول مرة تقابل فيها المصمم، رغم أنها تتعامل معه منذ عقود. وأضافت أنه لم يكن من الممكن ألا تحضر المناسبة؛ نظراً للعلاقة التي تربطهما ببعض ولو عن بُعد.

يؤكد إيلي عمق هذه العلاقة الإنسانية قائلاً: «علاقتي بهالي بيري لم تبدأ في عام 2002، بل في عام 1994، حين كانت ممثلة صاعدة لا يعرفها المصممون». وأضاف ضاحكاً: «لا أنكر أن ظهورها بذلك الفستان شكَّل نقلة مهمة في مسيرتي. ويمكنني القول إنه كان فستاناً جلب الحظ لنا نحن الاثنين. فيما يخصني، فإن ظهورها به وسَّع قاعدة جمهوري لتشمل الإنسان العادي؛ إذ إنها أدخلتني ثقافة الشارع بعد أن كنت معروفاً بين النخبة أكثر». غني عن القول أن كل النجمات المشاركات من سيلين وجينفر لوبيز إلى نانسي عجرم من زبوناته المخلصات. 80 في المائة من الأزياء التي كانت تظهر بها سيلين ديون مثلاً في حفلات لاس فيغاس من تصميمه.

عرض مطرَّز بالحب والترتر

بدأ عرض الأزياء بدخول هالي بيري وهي تلبس فستان الأوسكار الأيقوني نفسه. لم يتغير تأثيره. لا يزال أنيقاً ومبتكراً وكأنه من الموسم الحالي. تلته مجموعة تقدر بـ300 قطعة، أكثر من 70 في المائة منها جديدة لخريف وشتاء 2025 ونسبة أخرى من الأرشيف، لكنها كلها كانت تلمع تطريزاً وترصيعاً إما بالترتر والخرز أو اللؤلؤ. فالتطريز لغة أتقنها جيداً وباعها للعالم. استهجنها المصممون في البداية، وهو ما كان يمكن أن يُحبط أي مصمم صاعد يحلم بأن يحفر لنفسه مكانة بين الكبار، إلا أنه ظل صامداً ومتحدياً. هذا التحدي كان واضحاً في اختياراته لليلته «1001 موسم من إيلي صعب» أيضاً بالنظر إلى كمية البريق فيها.

ساهمت في تنسيق العرض كارين روتفيلد، رئيسة تحرير مجلة «فوغ» النسخة الفرنسية سابقاً، والمعروفة بنظرتها الفنية الجريئة. كان واضحاً أنها تُقدّر أهمية ما كان مطلوباً منها. فهذه احتفالية يجب أن تعكس نجاحات مسيرة عمرها 45 عاماً لمصمم وضع صناعة الموضة العربية على الخريطة العالمية. اختير لها عنوان «1001 موسم من إيلي صعب» لتستعرض قوة المصمم الإبداعية والسردية. قال إنه استوحى تفاصيلها من عالم ألف ليلة وليلة. لكن حرص أن تكون اندماجاً بين التراث العربي والابتكار العصري. فكل تصميم كانت له قصة أو يسجل لمرحلة كان لها أثر على مسيرته، وبالتالي فإن تقسيم العرض إلى مجموعات متنوعة لم يكن لمجرد إعطاء كل نجمة مساحة للغناء والأداء. كل واحدة منهم عبَّرت عن امرأة تصورها إيلي في مرحلة من المراحل.

جينفر لوبيز أضفت الشباب والحيوية على العرض (خاص)

جينفر لوبيز التي ظهرت بمجموعة من أزيائه وهي ترقص وتقفز وكأنها شابة في العشرينات، كانت تمثل اهتمامه بمنح المرأة حرية الحركة، بينما كانت نانسي عجرم بفستانها الكلاسيكي المرصع بالكامل، تعبّر عن جذور المصمم اللبناني وفهمه لذوق المرأة العربية ككل، ورغبتها في أزياء مبهرة.

أما المغنية كاميلا كابيلو فجسدت شابة في مقتبل العمر ونجح في استقطابها بتقديمه أزياء مطعَّمة ببعض الجرأة تعكس ذوق بنات جيلها من دون أن تخرج عن النص الذي كتبه لوالدتها. كانت سيلين ديون، مسك الختام، وجسَّدت الأيقونة التي تمثل جانبه الإبداعي وتلك الأزياء التي لا تعترف بزمان أو مكان.

حب للرياض

بعد انتهاء العرض، وركض الضيوف إلى الكواليس لتقديم التحية والتبريكات، تتوقع أن يبدو منهكاً، لكنه كان عكس ذلك تماماً. يوزع الابتسامات على الجميع، يكرر لكل من يسأله أن أكثر ما أسعده، إلى جانب ما شعر به من حب الحضور والنجوم له، أنه أثبت للعالم «أن المنطقة العربية قادرة على التميز والإبداع، وأن ما تم تقديمه كان في المستوى الذي نحلم به جميعاً ونستحقه».

وأضاف: «أنا ممتن لهذه الفرصة التي أتاحت لي أن أبرهن للعالم أن منطقتنا خصبة ومعطاءة، وفي الوقت ذاته أن أعبّر عن حبي للرياض. فأنا لم أنس أبداً فضل زبونات السعودية عليّ عندما كنت مصمماً مبتدئاً لا يعرفني أحد. كان إمكانهن التعامل مع أي مصمم عالمي، لكن ثقتهن في كانت دافعاً قوياً لاستمراري».

سيلين ديون أداء مبهر وأناقة متألقة (خاص)

أسأله إن كان يخطر بباله وهو في البدايات، في عام 1982، أن يصبح هو نفسه أيقونة وقدوة، أو يحلم بأنه سيدخل كتب الموضة بوصفه أول مصمم من المنطقة يضع صناعة الموضة العربية على خريطة الموضة العالمية؟ لا يجيب بالكلام، لكن نظرة السعادة التي كانت تزغرد في عيونه كانت أبلغ من أي جواب، وعندما أقول له إنه مصمم محظوظ بالنظر إلى حب الناس له، يضحك ويقول من دون تردد نعم أشعر فعلاً أني محظوظ.