العثماني في مواجهة الفرنسي

رحلة محمد جلبي أفندي إلى باريس

العثماني في مواجهة الفرنسي
TT

العثماني في مواجهة الفرنسي

العثماني في مواجهة الفرنسي

«جَنّة النساء والكافرين» لمحمد جلبي، الصادر عن شركة رياض الريّس للكتب والنشر في بيروت بترجمة خالد زيادة، هو أول نص يكتبه عثماني عن رحلته إلى باريس في مهمة رسمية عام 1721، حيث سلّم خلالها رسائل السلطان العثماني والوزير (الصدر الأعظم) إلى ملك فرنسا وكبار رجال الدولة. كتب السفير محمد جلبي، والمعروف أيضاً بلقبه «يرمي ساكيز»، تقريره فور عودته من رحلته التي استغرقت نحو عام واحد، وكان لهذا التقرير أثره البالغ في الطبقة الحاكمة التي شرعت في بناء القصور والدور على نمط العمران الفرنسي، حيث تندرج سفارة محمد جلبي أفندي في إطار الانفتاح على دول أوروبا، كما عبّر عنه الوزير إبراهيم باشا داماد بعد أن تسلّم منصبه عام 1718، واستمر فيه حتى نهاية عهد السلطان أحمد الثالث (1703 - 1730).
الواقع أن مرحلة الحروب خلال ثلاثة عقود سابقة أدت إلى تبدل في إدراك الطبقة الحاكمة في إسطنبول للعالم المحيط بالسلطنة، وللتغيرات التي طرأت في هذا العالم. فلم يكن للدولة العثمانية وقتذاك سفارات ثابتة في أي من عواصم أوروبا، على عكس الدول الأوروبية التي كان لها سفراء دائمون في إسطنبول. وتعود فكرة السفارة إلى عام 1718، حين عرضها الوزير إبراهيم باشا على السفير الفرنسي الذي أبلغ حكومته بالأمر. واستغرقت الترتيبات التي أعدها السفير الفرنسي فترة من الزمن، قام خلالها بتهيئة سفينة فرنسية لنقل السفير والوفد المرافق إلى فرنسا. ولم يمضِ السفير محمد جلبي أفندي والوفد المرافق له أيام عيد الأضحى في ذلك العام في إسطنبول، بل أبحر من مرفأ أزمير قبل العيد بستة أيام. وقد وصلت السفينة إلى ميناء طولون، أول محطات السفير الفرنسية، بعد مضي نحو 55 يوماً، وكان عليه أن ينتقل بعد ذلك براً وفي رحلة مضنية، في وحول فصل الشتاء، حيث لم يصل باريس إلاّ بعد خمسة أشهر من مغادرته أزمير. وكان يرافقه في تلك الرحلة نحو 50 فرداً، ومعهم أربعة أحصنة وحقائب وسيوف وخناجر وهدايا للملك وكبار رجال الدولة الفرنسية. وتعتبر الأوقات التي أمضاها جلبي على الأرض الفرنسية، متنقلاً بين المدن، بمثابة مجابهة بين ثقافتين وحضارتين. وكانت نظراته المتنبهة تلحظ الاختلافات بين فرنسا وبلاده العثمانية.
- لقاء الملك
في طريقه لمقابلة الملك، مخترقاً باريس في موكب رسمي يحيط به الجنود والفرسان، اصطف أهل المدينة كافة في شوارعها لرؤية موكب جلبي. بل إن كبار رجال الدولة والأعيان، بمن فيهم الملك لويس الخامس عشر، الذي لم يكن قد تجاوز الخامسة عشرة، دفعهم الفضول إلى التمعن بهذا «الكائن» العثماني، حتى أن الملك نفسه كان يتحين الفرص للقائه والنظر إلى ملابسه وقيافته.
- بين إسطنبول وباريس
استغرقت زيارة جلبي للقصور الجزء الأكبر من فترة إقامته في باريس، كما أنها شغلت الحيّز الأوسع في تقريره. وأبرز تلك القصور فونتان بلو، ومارلي، وسان كلو، وفرساي، فضلاً عن قصور أخرى زارها خلال رحلة الإياب. ويظهر لنا في كل ما يصفه، من قصور ومشاغل ومسارح واستعراضات عسكرية ورحلات صيد، فضلاً عن المرصد، كأنه يرى أشياء لم يعهدها من قبل، تشكّل الفارق بين إسطنبول ومدينة باريس. لقد ظهر له أنَّ هذا العالم مختلف عن عالمه إلى حد الانقلاب. فالعثماني يسير والمرأة وراءه، والفرنسي يسير تتقدمه المرأة، وإذا دخل العثماني إلى منزل يخلع حذاءه، بينما يخلع الفرنسي قبعته. العثماني يحلق شعر رأسه ويرخي لحيته، أمّا الفرنسي فيحلق ذقنه ويرخي شعر رأسه. تلك فروق تميّز بين عالمين متناقضين ومختلفين. هذا التعارض بين عالمين، عثماني وأوروبي، لم يمنع السفير من إبداء إعجابه بمظاهر العمران والنظام والعلوم.
- المطبعة
لم يتطرق محمد جلبي في تقريره إلى الطباعة في فرنسا، إذ أُحضرت المطبعة إلى جبل لبنان في نهاية القرن السابع عشر، لكن الطباعة بالتركية وبالحرف العربي لم تُعرف ولم تسمح بها السلطات الدينية. وقد استغرقت محاولات إقناع السلطات الحاكمة بإدخال وسيلة الطباعة أعواماً عدة، حتى سُمح بفتح مطبعة في إسطنبول، عهد بها إلى إبراهيم متفرقة ذي الأصول المسيحية، والمولود في ترانسلفانيا. وقد دخل الإسلام وأصبح عضواً في الإدارة العثمانية، وكان يعرف عدداً من اللغات.
بدأت المطبعة عملها في عام 1727، وطبعت كثيراً من الكتب، بينها: قاموس عربي - تركي من جزأين (1422 صفحة)؛ ويقول المؤرخ التركي جودت: «وقد ظهر في ذلك العصر ميل الدولة إلى السير في طريق المدنية، ورغبتها في تريب عسكر منظم، غير أنها تركت الرؤوس وتمسكت بالأذناب».
ويسجل تقرير السفير محمد جلبي أفندي التعبيرات الأولى التي عُنيت بالصدع الذي أصاب الأنموذج العثماني، والشعور بالحاجة إلى التعرف إلى أنموذج أكثر تقدماً.
وتكمن أهمية هذا النص في تعبيره عن روح الانفتاح في عاصمة الدولة العثمانية في بداية القرن الثامن عشر، وعن الرغبة في التعرف إلى مظاهر الحياة الفرنسية.

- صحّافي وكاتب سوري


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية
TT

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

صدر حديثاً عن «محترف أوكسجين للنشر» في أونتاريو كتابٌ جديد بعنوان: «العودة إلى متوشالح - معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» للكاتب المسرحي الآيرلندي جورج برنارد شو، وقد نقله إلى العربية المترجم السوري أسامة منزلجي. ويأتي الكتاب ضمن سلسلة «أوكلاسيك»، (أوكسجين + كلاسيك = أوكلاسيك) التي يسعى من خلالها المحترف إلى «تقديم الكلاسيكيات بنهج جديد ومغاير عماده الاكتشاف وإعادة الاكتشاف»، وجاء الكتاب في 352 صفحة.

من التقديم:

«نحن هنا أمام كتابٍ يتخذ فيه برنارد شو من المسرحية والحوار والنقد السياسي طريقاً نحو البشرية وهي تعيش إحدى لحظاتها التاريخية الأكثر دماراً، ولنَكُن بعد قراءة الاستهلال حيالَ نظرياتٍ فلسفية وسياسية وأدبية تدفعنا للتفكير في طريقة تفاعلنا مع العالم وقد أمسى نموذج الحضارة على المحك، اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، فلا محيد عن الكوارث التي يُلحقها الإنسان بنفسه وبالطبيعة. فما الذي يحتاج إليه ليصبح أكثر نضجاً وحكمةً؟ يفترض شو أن ثلاثة قرون أو أكثر من عمر الإنسان كفيلة بأن تجعله يبلغ كماله العقلي في مسار تطوّرهِ وتحقيقه غايات وجوده السامية، فهل الامتداد الأفقي للزمن يحقق ذلك؟ من أين نبدأ؟ وأين ننتهي؟ هذا ما يقدمه لنا كتاب (العودة إلى متوشالح) كونه كتاباً يتحدّى الفناء! منطلقُه الأزل ومنتهاه الأبد. يبدأ من آدم وحواء في جنة عدن، وينتهي في عام 31920 ميلادي وقد أمسى بمقدور الإنسان العيش لما يتجاوز الثلاثمائة عام، وصولاً إلى ولادته من بيضة! إنه كتاب عصيٌّ على التصنيف، له أن يجسد تماماً ماهية (الخيال العلمي)، بوصف الخيال مع جورج برنارد شو (1856 - 1950)، يستدعي العلم والفلسفة والفكر بحق، مقدّماً هجائية كبرى لداروين والانتقاء الظرفي، مفضلاً تسميته الانتقاء التصادفي، فإذا استطعنا أن نُثبت أنَّ الكون بأكمله خُلِقَ عبر ذلك الانتقاء، فلن يطيق عيش الحياة إلّا الأغبياء والأوغاد.

يتخذ الكتاب معبره إلى الخيال من حقيقة أن البشر لا يعيشون مدةً كافية، وعندما يموتون يكونون مجرد أطفال، واجداً في لامارك والنشوء الخلّاق سنده، لنكون حيال عملٍ خالدٍ، لا هو مسرحية ولا رواية، بل مزيج بينهما، مسرحية تُقرأ ولا تُجسّد، ورواية يتسيّدها الحوار...

حملت المسرحيات الخمس العناوين التالية: (في البدء)، و(مزمور الأخوان بارناباس)، و(الأمر يحدث)، و(مأساة رجل عجوز)، و(أقصى حدود الفكرة)، وعبر حوارات عميقة حول مكانة العلم والتطور والفن والإبداع يسافر بنا برنارد شو عبر الأزمنة ليناقش الأفكار التي يطرحها أبطاله منذ آدم وحواء مروراً بالزمن الحاضر، ومضيّاً نحو المستقبل البعيد وقد وصلت البشرية إلى ذروتها، وتخلَّص الناس من الحب والجنس والعاطفة، وأصبحوا كائنات منطقية خالصة! لكن عبقرية برنارد شو في هذا الكتاب تكمن في تعامله مع فكرة الخلود، بحيوية وسخرية، مستكشفاً العواقب النفسية لطبيعة العقل البشري الذي يحتاج إليه الإنسان ليعيش ألف عام ويحكم نفسه بنفسه، ويتخلّص من الصراع والحروب والآفات التي تبدأ به وتنتهي بإفنائه»

جورج برنارد شو، كم هو معروف، كاتب مسرحي وروائي ومفكّر وناشط سياسي آيرلندي، وُلد في دبلن عام 1856 وتوفي عام 1950. عُرف بآرائه الساخرة المثيرة للجدل، ونزوعه التقدمي والرؤيوي، واشتراكيته الفابية. ألّف 5 روايات، و60 مسرحية، ضمّنها أفكاره ومقارباته السياسية والتاريخية والفلسفية، عدا عن مئات المقالات والمقدمات الفكرية لأعماله. من مسرحياته: «السلاح والإنسان»، 1894، و«الإنسان والسوبرمان»، 1903، و«بجماليون»، 1913. حين فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1925 رفضها، قائلاً: «أستطيع أن أسامح نوبل على اختراعه الديناميت، لكنْ وحده شيطان بهيئة إنسان من كان بمقدوره اختراع جائزة نوبل»، لكنه عاد وقبل الجائزة بشرط ألا يتلقى قيمتها المالية.

أما أسامة منزلجي فهو مترجم سوري له كثير من الترجمات مثل رواية «ربيع أسود»، 1980، و«مدار السرطان» و«مدار الجدي» وثلاثية «الصلب الوردي»، لهنري ميللر، و«أهالي دبلن» لجيمس جويس، و«غاتسبي العظيم» و«الليل رقيق» و«هذا الجانب من الجنة» لسكوت فيتزجيرالد، ومسرحيات وروايات لتينسي وليامز وبول أوستر وفيليب روث وتيري إيغلتون وآلي سميث وإريكا يونغ.