المكتبة... آخر حصون الصمت

في رحاب مكتبة
في رحاب مكتبة
TT

المكتبة... آخر حصون الصمت

في رحاب مكتبة
في رحاب مكتبة

في «اسم الوردة» يجعل أومبرتو إيكو من مكتبة الدير مسرحاً لسلسلة من عمليات القتل الغامضة، ثم يأتي زوران جيفكوفيتش بنوفيلا «المكتبة» يحتفي فيها بالسحر والغموض دون الرعب، وبين المؤلفين الإيطالي والصربي يقف البرازيلي ألبرتو مانغويل الذي جعل من المكتبة وفعل القراءة فرعاً معتبراً من التأليف. عشرات من الكتاب كالوا للقراءة عبارات المديح، بوصفها فعلاً لإطالة عمر البشر المحدود، لكن مانغويل يعتبرها «ممارسة للخلود» وإذا كان الأمر كذلك؛ فالطبيعي أن تكون المكتبة مكاناً للصمت وتقاليده، بما يجعل منها داراً للعبادة، بل في الواقع، فإن دور العبادة هي التي تطمح إلى صمت المكتبة الآن.
من الأساس كانت القراءة في دور العبادة علنية، لأنها قراءة للغير في الغالب ولهذا يصعب القول إنها أماكن للصمت. ومع ازدهار السياحة في العصور الحديثة لم تعد دور العبادة قادرة على توزيع وقتها بين صوت العظة وصمت التأمل فحسب.
وضعت البرامج السياحية دور العبادة على جداولها في المدن التي وصلت إليها السياحة؛ وقد وصلت السياحة إلى كل مكان مأهول في العالم، بحكم الرغبة المجنونة في «البكارة» التي تدفع بأفواج السياح إلى الأبعد عاماً بعد عام، حيث تلتهم في طريقها العديد من الأشياء، وبينها حصة الصمت التي تنطوي عليها دور العبادة.
تُبنى المعابد من أجل وظيفتها الإيمانية، عمارتها الفخمة الضخمة تستهدف تمجيد اللامرئي اللامحدود في مقابل الإنسان الضئيل، لكنها غالباً ما تتضمن الرغبة في تمجيد الباني. الفرعون، الملك، أو الرئيس المطلق اليد. وسواء تقدم تعظيم المعبود الباقي أو المعبود الفاني في أسباب بناء المعبد؛ فإن الجمال والضخامة وربما بعض الأساطير المتعلقة بالمكان وبعض الحوادث التاريخية التي جرت فيه هي الأسباب المعتادة لجعل هذا المعبد أو ذاك مقصداً سياحياً.
لا يجد السائح أدنى مشكلة في ممارسة أو تمثيل الورع لبضع دقائق من وقته المنذور للفراغ، لكن الأكثرية تدخل إلى المعابد لتتأمل عظمة العمارة، أي عظمة الإنسان، وربما للتفكر في حجم العناء البشري الذي أوجد هذا الصرح.
في كل الأحوال فقدت المعابد سطوتها. لم تعد أماكن مثل الكاتدرائية الكبيرة في غرناطة أو كنيسة نوتردام في باريس أو حتى كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان مكاناً للورع، بل لتمثيل الورع. العظة التي تلقى تحت وميض فلاشات الكاميرات تبدو فقرة في البرنامج السياحي، حيث الغرباء أغلبية.
باختصار؛ فقدت دور العبادة قدرتها على الصمت، ولحسن الحظ لم يزل هناك مكان يغفله السياح هو المكتبة!
لم تصبح المكتبة طموحاً سياحياً بعد، باستثناء المكتبات الشخصية لكبار المبدعين، وهذه مقصد سائح نوعي نادر يرغب في مزيد من التعرف على كاتبه من خلال معرفة ما كان يقرؤه. في غير هذه الحالة أفلتت المكتبة من نهم الفرجة، ونجت من الدفع بها إلى زاوية الأثر لتصبح شيئاً من الماضي، مثلما يتنبأ الكثير من المتحمسين للعصر الرقمي والخائفين منه على السواء.
لم تزل المكتبات نشطة تؤدي دورها، وعلى الأرجح سيستمر هذا الدور قياساً إلى ما يوفره الذهاب إلى السينما من متعة، على الرغم من النمو المتلاحق لمساحة شاشة التلفزيون المنزلي.
في رحلة قمت بها إلى إيطاليا مؤخراً، زرت أربع جامعات: نابولي، روما، ميلانو، وتورينو. ولأنني أُساق إلى المنصة كالمسوق إلى المقصلة، وأعتقد جازماً أن ما يمكن أن أقوله حول الكتابة قاله عشرات من قبل وبوضوح أفضل؛ فإنني أختصر من زمن لقاءاتي حول الكتابة، ويصبح لدي الكثير من الوقت الذي يمكن إنفاقه في القراءة والتلصص على أحوال القراء. هكذا تيسرت لي رؤية مكتبات الجامعات التي زرتها، بالإضافة إلى مكتبة بلدية تورينو.
هل دخول مكتبة تضم كتباً في لغة لا أعرفها يجعل مني ضرباً من سائح؟ ربما كان الأمر كذلك، لكنني أزعم قدرة الحب على الإفهام. حب الكتب جعل من رجل أمي هو محمد مدبولي ناشراً ناجحاً، يعرف الكتاب الجيد من التربيت على المخطوط. وأنا أحب الكتب، ويمكن أن أفهمهما بقلبي في أي لغة كانت، من خلال هدهدة كتاب في يدي أو قراءة السعادة على وجه قارئه المتوحد معه. لكن الفهم والقدرة على الوصول إلى الجوهر ليس السبب الذي ينزع الوجه السياحي عن المكتبة كمكان وعني كزائر. الفضل يرجع للصمت.
ما إن دخلنا إلى مكتبة قسم اللغات الشرقية بجامعة تورينو ماورو توسكو رئيس قسم اللغات الشرقية وأنا حتى لامستُ الصمت. همس البروفسور باسمي وصفتي لرجل وامرأتين على طاولة الاستقبال في مواجهة الباب، ومضينا بخطو خفيف على الأرضية الكاوتشوك التي لا يمكن أن تقص عليها أثراً لضجيج. أشار إلى المكان الذي سأترك فيه حقيبتي. وأخذ يعرفني همساً بالمكتبة ومحتوياتها، حيث تتوالى الكتب العربية والفارسية والتركية والعبرية. نحن عالقون في نزيف الدم في الشرق الأوسط، بينما تتعايش كتبنا في سلام بمكتبة في تورينو!
الكثير من الكتب والدوريات العربية عراقية تعكس مستوى من التواصل مع هذه الجامعة العريقة، كان موجوداً في ظل عراق ليبرالي مثقف قبل أن يحكمه جهل السلاح.
هناك طاولتان فقط للمطالعة بعرض المكتبة، في مواجهة نافذة في منتصف القاعة، تبدو الطاولتان مثل منخفض بين جبلين من صفوف الرفوف العالية، على الطاولتين عدد قليل من قراء وقارئات يبدون من طلاب الدراسات العليا، بينهم من يمسك كتاباً ومن يكتب على الكومبيوتر أو يطالع نصاً على شاشة.
في مكتبة البلدية بهو استقبال يضم شاشات يستخدمها المترددون للتأكد من وجود الكتاب الذي يطلبون استعارته أو مطالعته قبل أن يتقدموا إلى طاولة استقبال ضخمة باتساعها وعدد موظفيها كما في فندق كبير. يتسلم موظفو الاستقبال الطلبات من رواد المكتبة ويطلبونها بدورهم من السعاة الذين سيذهبون لجلبها من قاعة المخزن الضخمة.
قاعة المطالعة كبيرة ومزدحمة، مع ذلك لا خروج على قانون الصمت. البعض يقرأون من أجهزتهم اللوحية كما في الجامعة. نقلت ملحوظتي للصديقة نجلاء والي أستاذة اللغة والترجمة بجامعة تورينو، قالت: «المكتبة مطعم يمكن أن تزوره بساندويتشك في يدك» قالت إنها تأتي أحياناً للقراءة في هذه المكتبة من حاسوبها الخاص، حيث لم تزل قاعة المطالعة المكان الذي يشترط التخلي عن الهاتف، ويضعك داخل هذا الحماس الجماعي الصامت للقراءة.
لقائي في جامعة سابيينزا الذي نظمته المستعربة الكبيرة إيزابيلا كاميرا دو فليتو حضره الروائي فابيو ستاسي، الذي لاحظ فيما يبدو نزوعي إلى الاختصار، فأطلق نحوي عدداً من الأسئلة من قراءته لروايتي «مدينة اللذة» المترجمة إلى الإيطالية، ثم وقف إلى جانبي مؤازراً وتشعب حديثنا ليشمل غريب ألبير كامو، وغير ذلك من روايات. كنت قرأت لفابيو روايته «رقصة شابلن الأخيرة» وكان رائعاً أن أتلقى العون من كاتب أحببت عمله. وعقب المحاضرة، اصطحبنا فابيو إلى مكتبة الجامعة، التي يعمل أميناً لها.
وكانت فرصة لرؤية مكتبة مختلفة؛ فهي لا تنتمي لمخيال الغموض الذي يلف المكتبات من كليلة ودمنة إلى اسم الوردة إلى هاري بوتر (الرواية ذات المخيلة اللصة). قاعة المطالعة مهتوكة السر بنور النهار الذي يدخلها عبر واجهة زجاجية بالكامل، تمتد من الأرض إلى السقف. تحت ذات الإضاءة، في الجهة الأخرى من المساحة الكبيرة المفتوحة تقف الرفوف المعدنية متلاصقة تماماً مثل آلة عملاقة أو حاويات متراصة على سطح سفينة. الفراغ المعتاد بين كل صفين من صفوف الأرفف المتحركة لا يوجد في هذه القاعة إلا مرة واحدة. يعرف أمين المكتبة الرف الذي يقف عليه كتاب يريده. يدير عجلات قيادة الرفوف تباعاً لتتحرك على قضبان وتتجمع يميناً ويساراً بما يجعل الفسحة الوحيدة بالقاعة أمام الصف المطلوب فينطلق إلى مكان الكتاب. بهذه الطريقة تحمل القاعة أضعاف ما تحمله قاعة الرفوف الثابتة.
إلغاء الفراغات في التصميم المضغوط يتيح إخفاء قتيل في هذه المكتبة بأسهل مما يمكن في مكتبة الدير البنديكتي في «اسم الوردة» لكن النور يمنع احتمالية وقوع الجرائم، وغني عن القول أن العشاق في روما لا يحتاجون إلى الاختباء وراء رف كتب لاستراق قبلة. مكتبة من عصر الشفافية، ومع ذلك تحتفظ بتقاليد الصمت!

- كاتب مصري


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».