الإرهاب العائلي

البديل الأحدث للجماعات الأصولية... قراءة في الأسباب والدوافع

تأهب امني عقب هجوم إرهابي نفذته عائلة على كنيسة في مدينة سورابايا الإندونيسية الأسبوع الماضي (أ.ب)
تأهب امني عقب هجوم إرهابي نفذته عائلة على كنيسة في مدينة سورابايا الإندونيسية الأسبوع الماضي (أ.ب)
TT

الإرهاب العائلي

تأهب امني عقب هجوم إرهابي نفذته عائلة على كنيسة في مدينة سورابايا الإندونيسية الأسبوع الماضي (أ.ب)
تأهب امني عقب هجوم إرهابي نفذته عائلة على كنيسة في مدينة سورابايا الإندونيسية الأسبوع الماضي (أ.ب)

أحد أهم وأخطر الأسئلة التي طرحت على موائد النقاش البحثية خلال الأيام القليلة الماضية ذاك المتصل ومن جديد بالإرهاب، لكن في نسق مغاير لم نألفه من قبل بالمرة، إنه إرهاب العائلة مكتملة، ذلك أنه وإن كنا قد شهدنا من قبل إرهاب بعض الأخوة معاً، ومشاركتهما في عمليات إرهابية، كما الحال في بعض عمليات فرنسا على سبيل المثال، إلا أن ما جرى في إندونيسيا يستدعي رؤية تحليلية من علماء النفس، والاجتماع، الأمن والإرهاب معاً، فحين تقدم العائلة بأكملها الأب والأم والأبناء على ارتكاب جريمة إرهابية فهذا يعني أن الإرهاب لم يعد فقط قناعات فردية تأتي من وعي مزيف أو تأثيرات آيديولوجية تهب من خارج البيت، بل يضحى إيمان يدخل في قلب الأسرة ذات التركيبة الأبوية التسلطية.
يكاد ما جري في مدينة «سورابايا» الإندونيسية يشبه فيلماً من أفلام الحركة على شاشات هوليوود، فبحسب تصريحات المتحدث باسم شرطة «جاوة الشرقية» بارونغ مانغيرا للصحافيين، فقد قاد رب الأسرة سيارة من طراز أفانزا تحمل متفجرات واقتحم بوابة الكنيسة فيما زوجة الرجل وابنتيه هاجمن كنيسة ثانية، بينما هاجم طفلاه كنيسة ثالثة، وكانا يستقلان دراجة نارية ووضعا قنبلة بينهما.
ولعل ما استدعي الانتباه بشكل كبير هو أنه وبعد أقل من أربع وعشرين ساعة على الحادث الأول كانت أسرة أخرى من المتشددين تهاجم مركزاً للشرطة في المدينة عينها، مما يعني أن الفكر الإرهابي قد استطاع اختراق الأسرة الإندونيسية ليصل إلى هذا المستوى غير المتصور ذهنياً، فكيف لأب أن يضحي بأبنائه وبناته وزوجه على هذا النحو؟
يبدو أن «داعش» قد اخترق إندونيسيا المهيأة بالفعل في جزء كبير منها لمثل هذا التطرف، سيما وأن وكالة المخابرات الإندونيسية، أكدت في تصريحات لاحقة لها أن جماعة أنصار الدولة التي تستوحي أفكارها من تنظيم داعش الإرهابي هي المسؤولة عن سلسلة الهجمات الأخيرة.
عدة أسئلة جذرية تواجه الباحث في شأن الإرهاب العائلي الإندونيسي ولماذا عاد الإرهاب يضرب هناك من جديد على هذا النحو الأسري سيما بعد أن كانت إندونيسيا قد حققت نجاحات كبيرة في التصدي للمتشددين منذ عام 2001؟
يمكننا بداية الإشارة إلى أمرين:
الأول يتمثل في وجود التربة الأصولية الحاضنة للأفكار المتطرفة في البلاد، والثاني التأثير الذي تركته أفكار «داعش» في شرق آسيا، وفي إندونيسيا تحديداً، وقد قدر لها كما تقول الشرطة الإندونيسية النجاح في اختراق مئات الأسر، كانت قد صدرت أبناءها إلى «داعش» في العراق وسوريا، ومؤخراً عاد منها نحو خمسمائة عنصر، بعضهم ظاهر للعيان، والبعض الآخر يقف وراء تلك العمليات الأخيرة.
هل وجد «داعش» طريقه إلى إندونيسيا انطلاقاً من أن عقليات كثيرة كانت مبطنة بجدار الأفكار المخترقة والمغلوطة منذ وقت مبكر جداً؟
من المقطوع به أن هناك ما يعرف بمدارس «بسانترن» التي تقوم على تدريس الأطفال منذ الصغر وتلقينهم مبادئ التطرف والتشدد، وهذه تاريخها يعود إلى مئات السنين في هذا البلد الآسيوي، الذي يضم أكبر عدد من المسلمين في العالم، وهناك صلة وثيقة بين تلك المدارس، والتي تشابه بدرجة أو أخرى طالبان في أفغانستان، وبين كثير من العمليات الإرهابية التي عرفتها البلاد في العقود الأخيرة، لا سيما تفجيرات بالي عام 2000 والتي قتلت أكثر من مائتي شخص.
والمثير أيضاً في شأن إندونيسيا أن الاختراق لا يقف عند مثل هذه النوعية من المدارس والتي عادة ما يذهب إليها أبناء الأسرة الواحدة في سن الطفولة، مما يعزز لاحقاً الطريق إلى الإرهاب العائلي، ذلك أنه هناك مصدر آخر يعمل كحاضنة أخرى للإرهاب، والأكثر غرابة أنه ينتشر في السياقات التعليمية العلمانية لا الدينية، فعلى سبيل المثال فإن مجموعة الدراسة القرآنية الراديكالية السرية، المعروفة بـ«بينجاجيان ترتوتوب» تنتشر بشكل كبير في الجامعات والمدارس ذات الطابع التعليمي المدني، لا الديني بخلاف مدارس «بسانترن».
أما إشكالية تلك الكيانات التعليمية والمؤسسات التربوية التي يطلق عليها العلمانية، فإن مرتاديها لا صلة جذرية لهم بدقائق العلوم التقليدية الإسلامية، الأمر الذي يجعلهم عرضة بسهولة للتفاعل مع الدعاية الأصولية التي تقدمها تلك المجموعات، نظراً لكونهم مسلمين في نهاية المطاف.
من أي رحم جاءت «العائلة الإرهابية» الإندونيسية... هل من رحم مدارس التشدد أم من الأطر المغايرة لها كالجامعات وبقية المعاهد التعليمية ذات الطبيعة المدنية؟
مؤكد أن كلاهما أسوأ من صاحبة، فمدارس الـ«بسانترن» تؤجج نيران الأصولية عبر الالتحام العائلي، ذلك أن خريجيها، عادة ما تجدهم أكثر التصاقاً بالبيئة التي يعيشون فيها، ويتواصلون بشكل إنساني وثيق للغاية، ومن هنا تبدو قناعاتهم واحدة ومتشابهة، ويكون ساعتها لديهم التوافق على أي فعل إرهابي يسير ولا يحتاج إلى مجهود كبير لإقناع الآخرين به.
بينما قاطنو المجال المدني - الحضري، تكون روابطهم أقل، ومدى انتظامهم في سلك اجتماعي يصون من الانحراف والتطرف قصير جداً، ولذلك يضحون لقمة سائغة ينجذبون بسهولة ويسر لأي خطاب آيديولوجي متمركز حول الهوية، ويسهل للدواعش وغيرهم تجنيدهم، ففي أجواء العزلة والشعور بالغربة التي يعيشون فيها يضحي الإحساس - ولو زائفاً - بالجماعة قوي وجاذب ومن هنا تبدأ دوائر الشر تدور.
إحدى علامات الاستفهام التي تشغل تفكير القائمين على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في شرق آسيا والتي ينظر إليها اليوم بوصفها المعين البشري الأكبر لـ«داعش»: «هل ظاهرة الأسرة الإرهابية هي البديل المتاح في ظل تكثيف القوى الأمنية جهودها في دول المنطقة عامة وإندونيسيا خاصة، مما يمنع ظهور جماعات منظمة ذات تراتبية هيراركية، أو نظام عنقودي؟
قد يكون ذلك صحيحا، سيما وأن هناك عدة خبرات سابقة في هذا المجال، فأمام التضييق الأوروبي على أصحاب الفكر المتشدد، ولأن الإرهابيين لا يثقون في الغرباء، فقد شهدنا حالة الشقيقين بكري الانتحاريين البلجيكيين اللذين نفذا هجوماً زلزل قلب بروكسل وقتل ما لا يقل عن 34 شخصاً.
وكان هناك كذلك الشقيقان عبد السلام اللذان نفذا مجزرة باريس، وكذا الشقيقان مراح اللذان قاما بعملية «ميدي بيرنية» في فرنسا عام 2012.
في قراءة معمقة له عبر مجلة «الفورين أفيرز» الأميركية ذائعة الصيت في عدد فبراير (شباط) 2016، يقدم لنا البروفسور «جوزيف شينيوليو» عميد كلية «إس راجاراتنام» للدراسات الدولية بجامعة نانيانج التكنولوجية في سنغافورة رؤية قد تتيح لنا فهم ظاهرة العائلة الإرهابية في إندونيسيا، إذ يشير إلى أن «داعش» في جنوب شرقي آسيا وإن وجد مناصرين له، إلا أن القليل منهم مستعد لإنشاء فرع حقيقي للتنظيم، ورغم أن «داعش» قد قطع بالفعل شوطاً طويلاً في طريق اجتذاب المتطوعين عبر الإنترنت، فقد عمل المسؤولون الأمنيون الإقليميون، ومنظمات المجتمع المدني بشكل فعال لاستباق وصد الخطاب الداعشي، من هنا يمكن للمرء أن يتفهم لماذا تزداد فرص الإرهاب العائلي في الظهور».
إحدى الدراسات الأميركية التي أجريت على بضع مئات من المقاتلين الأجانب، أكدت مؤخراً على أنهم وإن كانوا ينتمون إلى نحو خمسة وعشرين دولة مختلفة، إلا أن ثلثهم تقريباً لديه صلات عائلية مع أحد الإرهابيين سواء كان هؤلاء يقاتلون الآن إلى جانب التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق، أو من خلال الزواج، أو من خلال مشاركة أحد أقاربهم في عمليات جهادية في مناطق صراعية خلال فترات سابقة.
أما البيانات فنأخذ منها على سبيل المثال ما أوردته تقارير صادرة عن الاستخبارات الألمانية والتي تشير إلى أن 69 من أصل 378 من المقاتلين الألمان الذين سافروا إلى سوريا للانضمام للجماعات الإرهابية، كانوا بصحبة أحد أقاربهم، وهو ما يعادل نسبة 18 في المائة.
هل وجدت «داعش» في ظاهرة الإرهاب العائلي طريقها المؤكد والمضمون للولوج إلى الداخل الإندونيسي وبقوة؟
الجواب يقودنا بداية للاعتراف الإيجابي بأن الشعب الإندونيسي في إسلامه متدين بالفطرة، مستمسك بروح الدين ومفاهيمه بشكل متسامح ومتصالح مع الآخر، الأمر الذي اعتبره الدواعش مفتاحاً يسمح لهم بالترويج لنموذجهم الصدامي الإحلالي، وتوظيف تعلق الناس بالدين وانشغالهم بقضايا أمتهم، بزعم أنه الأكثر قدرة على نصرة تلك القضايا من الأنظمة القائمة.
ولعله من نافلة القول إن دور الأسرة كبير وضروري في تعزيز الأمن الفكري كما يؤكد متخصصون في العلوم الاجتماعية والنفسية، فكلما زاد وعي الأبناء وحماية عقولهم من الانحرافات الفكرية، تقلصت المسافات المتاحة لشغل الأدمغة بأفكار الإرهاب الأسود، والعكس بالعكس بمعنى أنه حال أفسحت الأسرة مساحة للأفكار المنحرفة، كان من اليسير لاحقاً تجنيد لا بعض أفراد الأسرة، بل كلها، وهذا ما حدث في جرائم إرهاب إندونيسيا الأخيرة.
ويبقى السؤال الجوهري... لماذا تحرص «داعش» وكل الجماعات الأصولية على نشوء وارتقاء ظاهرة الإرهاب الأصولي العائلي؟
يمكن أن تذهب الآراء في الإجابة مذاهب شتى، في المقدمة منها أن فكرة تجنيد عائلات بكامل أفرادها تأتي لضمان ولاء العدد الأكبر من هذه العائلات، ثم تفاضل بينهم عند تنفيذ العمليات الإرهابية أو تتخذ قرارها بـ«تفخيخ العائلة» بأكملها كما فعلت في إندونيسيا.
يتبدى لنا من خلال تحليل ظاهرة الإرهاب العائلي أن القائمين على تجنيد عناصر جديدة على دراية كبيرة بعلم الاجتماع، ذلك أنهم يعمدون إلى فكرة التمسك بالهوية التي تنسجها تلك الجماعات لهم، سيما وأن الإرهاب يعتبر كأي نشاط أمراً اجتماعياً للغاية وإن كانت عواقبه كارثية استثنائية، فبمجرد اهتمام أشخاص بالأفكار والآيديولوجيات الإرهابية يمكن أن يقود ذلك أشخاصا آخرين إلى الاهتمام بهذه الأفكار عينها، وحال راجت تلك الأفكار في سياق العائلة، فإن ذلك يضمن للتنظيم الأم سهولة التجنيد هذا في بداية الأمر، وثانياً وهو الأهم والأكثر هولاً يوفر الإرهاب العائلي فسحة واسعة للفرار من المتابعات والقيود الأمنية، فحين يكون التنظيم لعملية إرهابية لا يتجاوز أفراد العائلة، فإن فرص رصده ومتابعته، وصولاً إلى إبطال العملية الإرهابية قليل جداً، وعلى العكس حال وجود عناصر مختلفة، يمكن لها أن تختلف لأسباب ونوازع إنسانية أو مادية، مما يفشل الأمر بالكلية. في دراسة حديثة أجرتها جامعة بنسلفانيا، جاءت النتيجة لتؤكد على أن 64 في المائة من العائلات أو الأصدقاء يدركون ما كان ينوي عليه أفرادهم من المزاولين لنشاط يتعلق بالإرهاب، وأكدوا أن الفاعل قال لهم «حرفياً» ما كان سيقدم عليه، وعليه توضح الدراسة أن العلاقات العائلية هي الطريقة المثلى لتجنيد هؤلاء وتطرفهم.
على أنه في متابعتنا لقضية الإرهاب العائلي تتبقي جزئية مهمة وفاعلة وهي قضية العائدين من «داعش»، والتي تختلف بصورة مؤكدة عن العائدين من أفغانستان، فالأولون أكثر أدلجة إرهابية إن صح التعبير، هؤلاء يراهن عليهم «داعش» التي لحقت بها الجراح العميقة في سوريا والعراق، كي يضحوا عناصر فاعلة في تجنيد أطراف وأطياف أخرى في مجتمعاتهم، تبدأ من عند الأسر التي يعيشون في أكنافها مما يجعلهم قنابل موقوتة جاهزة للانفجار في كل لحظة وأي لحظة.
يفيد تحليل ظاهرة «الإرهاب العائلي» في التوصل إلى نتيجة قطعية، مفادها أن داعش بدأ يفقد قدراته البشرية بشكل كبير نتيجة للضربات الكثيرة التي وجهت إلى قياداته وكوادره في الفترة الماضية، وعليه فإنه يعمد إلى هذا النمط الإرهابي الجديد، لضمان «التعويض الآمن»، حتى وإن كلف ذلك اللجوء إلى الأطفال الأبرياء لاستخدامهم في الإرهاب الأعمى.
ويبقى أبداً ودوماً سؤال النهاية... كيف للجميع مواجهة هذا الإرهاب الأحدث؟ الجواب بالمطلق هذه المرة يتصل بفكر الوقاية، فيما هامش القمع يتضاءل إلى حد الاختباء والاختفاء، الوقاية داخل الأسرة، والتي هي نواة المجتمع، وقاية فكرية عبر وسائل عدة تعليمية وإعلامية، دينية واجتماعية، لمواجهة طروحات الإرهاب خوفاً من الأسوأ الذي لم يأت بعد.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.