الإرهاب العائلي

البديل الأحدث للجماعات الأصولية... قراءة في الأسباب والدوافع

تأهب امني عقب هجوم إرهابي نفذته عائلة على كنيسة في مدينة سورابايا الإندونيسية الأسبوع الماضي (أ.ب)
تأهب امني عقب هجوم إرهابي نفذته عائلة على كنيسة في مدينة سورابايا الإندونيسية الأسبوع الماضي (أ.ب)
TT

الإرهاب العائلي

تأهب امني عقب هجوم إرهابي نفذته عائلة على كنيسة في مدينة سورابايا الإندونيسية الأسبوع الماضي (أ.ب)
تأهب امني عقب هجوم إرهابي نفذته عائلة على كنيسة في مدينة سورابايا الإندونيسية الأسبوع الماضي (أ.ب)

أحد أهم وأخطر الأسئلة التي طرحت على موائد النقاش البحثية خلال الأيام القليلة الماضية ذاك المتصل ومن جديد بالإرهاب، لكن في نسق مغاير لم نألفه من قبل بالمرة، إنه إرهاب العائلة مكتملة، ذلك أنه وإن كنا قد شهدنا من قبل إرهاب بعض الأخوة معاً، ومشاركتهما في عمليات إرهابية، كما الحال في بعض عمليات فرنسا على سبيل المثال، إلا أن ما جرى في إندونيسيا يستدعي رؤية تحليلية من علماء النفس، والاجتماع، الأمن والإرهاب معاً، فحين تقدم العائلة بأكملها الأب والأم والأبناء على ارتكاب جريمة إرهابية فهذا يعني أن الإرهاب لم يعد فقط قناعات فردية تأتي من وعي مزيف أو تأثيرات آيديولوجية تهب من خارج البيت، بل يضحى إيمان يدخل في قلب الأسرة ذات التركيبة الأبوية التسلطية.
يكاد ما جري في مدينة «سورابايا» الإندونيسية يشبه فيلماً من أفلام الحركة على شاشات هوليوود، فبحسب تصريحات المتحدث باسم شرطة «جاوة الشرقية» بارونغ مانغيرا للصحافيين، فقد قاد رب الأسرة سيارة من طراز أفانزا تحمل متفجرات واقتحم بوابة الكنيسة فيما زوجة الرجل وابنتيه هاجمن كنيسة ثانية، بينما هاجم طفلاه كنيسة ثالثة، وكانا يستقلان دراجة نارية ووضعا قنبلة بينهما.
ولعل ما استدعي الانتباه بشكل كبير هو أنه وبعد أقل من أربع وعشرين ساعة على الحادث الأول كانت أسرة أخرى من المتشددين تهاجم مركزاً للشرطة في المدينة عينها، مما يعني أن الفكر الإرهابي قد استطاع اختراق الأسرة الإندونيسية ليصل إلى هذا المستوى غير المتصور ذهنياً، فكيف لأب أن يضحي بأبنائه وبناته وزوجه على هذا النحو؟
يبدو أن «داعش» قد اخترق إندونيسيا المهيأة بالفعل في جزء كبير منها لمثل هذا التطرف، سيما وأن وكالة المخابرات الإندونيسية، أكدت في تصريحات لاحقة لها أن جماعة أنصار الدولة التي تستوحي أفكارها من تنظيم داعش الإرهابي هي المسؤولة عن سلسلة الهجمات الأخيرة.
عدة أسئلة جذرية تواجه الباحث في شأن الإرهاب العائلي الإندونيسي ولماذا عاد الإرهاب يضرب هناك من جديد على هذا النحو الأسري سيما بعد أن كانت إندونيسيا قد حققت نجاحات كبيرة في التصدي للمتشددين منذ عام 2001؟
يمكننا بداية الإشارة إلى أمرين:
الأول يتمثل في وجود التربة الأصولية الحاضنة للأفكار المتطرفة في البلاد، والثاني التأثير الذي تركته أفكار «داعش» في شرق آسيا، وفي إندونيسيا تحديداً، وقد قدر لها كما تقول الشرطة الإندونيسية النجاح في اختراق مئات الأسر، كانت قد صدرت أبناءها إلى «داعش» في العراق وسوريا، ومؤخراً عاد منها نحو خمسمائة عنصر، بعضهم ظاهر للعيان، والبعض الآخر يقف وراء تلك العمليات الأخيرة.
هل وجد «داعش» طريقه إلى إندونيسيا انطلاقاً من أن عقليات كثيرة كانت مبطنة بجدار الأفكار المخترقة والمغلوطة منذ وقت مبكر جداً؟
من المقطوع به أن هناك ما يعرف بمدارس «بسانترن» التي تقوم على تدريس الأطفال منذ الصغر وتلقينهم مبادئ التطرف والتشدد، وهذه تاريخها يعود إلى مئات السنين في هذا البلد الآسيوي، الذي يضم أكبر عدد من المسلمين في العالم، وهناك صلة وثيقة بين تلك المدارس، والتي تشابه بدرجة أو أخرى طالبان في أفغانستان، وبين كثير من العمليات الإرهابية التي عرفتها البلاد في العقود الأخيرة، لا سيما تفجيرات بالي عام 2000 والتي قتلت أكثر من مائتي شخص.
والمثير أيضاً في شأن إندونيسيا أن الاختراق لا يقف عند مثل هذه النوعية من المدارس والتي عادة ما يذهب إليها أبناء الأسرة الواحدة في سن الطفولة، مما يعزز لاحقاً الطريق إلى الإرهاب العائلي، ذلك أنه هناك مصدر آخر يعمل كحاضنة أخرى للإرهاب، والأكثر غرابة أنه ينتشر في السياقات التعليمية العلمانية لا الدينية، فعلى سبيل المثال فإن مجموعة الدراسة القرآنية الراديكالية السرية، المعروفة بـ«بينجاجيان ترتوتوب» تنتشر بشكل كبير في الجامعات والمدارس ذات الطابع التعليمي المدني، لا الديني بخلاف مدارس «بسانترن».
أما إشكالية تلك الكيانات التعليمية والمؤسسات التربوية التي يطلق عليها العلمانية، فإن مرتاديها لا صلة جذرية لهم بدقائق العلوم التقليدية الإسلامية، الأمر الذي يجعلهم عرضة بسهولة للتفاعل مع الدعاية الأصولية التي تقدمها تلك المجموعات، نظراً لكونهم مسلمين في نهاية المطاف.
من أي رحم جاءت «العائلة الإرهابية» الإندونيسية... هل من رحم مدارس التشدد أم من الأطر المغايرة لها كالجامعات وبقية المعاهد التعليمية ذات الطبيعة المدنية؟
مؤكد أن كلاهما أسوأ من صاحبة، فمدارس الـ«بسانترن» تؤجج نيران الأصولية عبر الالتحام العائلي، ذلك أن خريجيها، عادة ما تجدهم أكثر التصاقاً بالبيئة التي يعيشون فيها، ويتواصلون بشكل إنساني وثيق للغاية، ومن هنا تبدو قناعاتهم واحدة ومتشابهة، ويكون ساعتها لديهم التوافق على أي فعل إرهابي يسير ولا يحتاج إلى مجهود كبير لإقناع الآخرين به.
بينما قاطنو المجال المدني - الحضري، تكون روابطهم أقل، ومدى انتظامهم في سلك اجتماعي يصون من الانحراف والتطرف قصير جداً، ولذلك يضحون لقمة سائغة ينجذبون بسهولة ويسر لأي خطاب آيديولوجي متمركز حول الهوية، ويسهل للدواعش وغيرهم تجنيدهم، ففي أجواء العزلة والشعور بالغربة التي يعيشون فيها يضحي الإحساس - ولو زائفاً - بالجماعة قوي وجاذب ومن هنا تبدأ دوائر الشر تدور.
إحدى علامات الاستفهام التي تشغل تفكير القائمين على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في شرق آسيا والتي ينظر إليها اليوم بوصفها المعين البشري الأكبر لـ«داعش»: «هل ظاهرة الأسرة الإرهابية هي البديل المتاح في ظل تكثيف القوى الأمنية جهودها في دول المنطقة عامة وإندونيسيا خاصة، مما يمنع ظهور جماعات منظمة ذات تراتبية هيراركية، أو نظام عنقودي؟
قد يكون ذلك صحيحا، سيما وأن هناك عدة خبرات سابقة في هذا المجال، فأمام التضييق الأوروبي على أصحاب الفكر المتشدد، ولأن الإرهابيين لا يثقون في الغرباء، فقد شهدنا حالة الشقيقين بكري الانتحاريين البلجيكيين اللذين نفذا هجوماً زلزل قلب بروكسل وقتل ما لا يقل عن 34 شخصاً.
وكان هناك كذلك الشقيقان عبد السلام اللذان نفذا مجزرة باريس، وكذا الشقيقان مراح اللذان قاما بعملية «ميدي بيرنية» في فرنسا عام 2012.
في قراءة معمقة له عبر مجلة «الفورين أفيرز» الأميركية ذائعة الصيت في عدد فبراير (شباط) 2016، يقدم لنا البروفسور «جوزيف شينيوليو» عميد كلية «إس راجاراتنام» للدراسات الدولية بجامعة نانيانج التكنولوجية في سنغافورة رؤية قد تتيح لنا فهم ظاهرة العائلة الإرهابية في إندونيسيا، إذ يشير إلى أن «داعش» في جنوب شرقي آسيا وإن وجد مناصرين له، إلا أن القليل منهم مستعد لإنشاء فرع حقيقي للتنظيم، ورغم أن «داعش» قد قطع بالفعل شوطاً طويلاً في طريق اجتذاب المتطوعين عبر الإنترنت، فقد عمل المسؤولون الأمنيون الإقليميون، ومنظمات المجتمع المدني بشكل فعال لاستباق وصد الخطاب الداعشي، من هنا يمكن للمرء أن يتفهم لماذا تزداد فرص الإرهاب العائلي في الظهور».
إحدى الدراسات الأميركية التي أجريت على بضع مئات من المقاتلين الأجانب، أكدت مؤخراً على أنهم وإن كانوا ينتمون إلى نحو خمسة وعشرين دولة مختلفة، إلا أن ثلثهم تقريباً لديه صلات عائلية مع أحد الإرهابيين سواء كان هؤلاء يقاتلون الآن إلى جانب التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق، أو من خلال الزواج، أو من خلال مشاركة أحد أقاربهم في عمليات جهادية في مناطق صراعية خلال فترات سابقة.
أما البيانات فنأخذ منها على سبيل المثال ما أوردته تقارير صادرة عن الاستخبارات الألمانية والتي تشير إلى أن 69 من أصل 378 من المقاتلين الألمان الذين سافروا إلى سوريا للانضمام للجماعات الإرهابية، كانوا بصحبة أحد أقاربهم، وهو ما يعادل نسبة 18 في المائة.
هل وجدت «داعش» في ظاهرة الإرهاب العائلي طريقها المؤكد والمضمون للولوج إلى الداخل الإندونيسي وبقوة؟
الجواب يقودنا بداية للاعتراف الإيجابي بأن الشعب الإندونيسي في إسلامه متدين بالفطرة، مستمسك بروح الدين ومفاهيمه بشكل متسامح ومتصالح مع الآخر، الأمر الذي اعتبره الدواعش مفتاحاً يسمح لهم بالترويج لنموذجهم الصدامي الإحلالي، وتوظيف تعلق الناس بالدين وانشغالهم بقضايا أمتهم، بزعم أنه الأكثر قدرة على نصرة تلك القضايا من الأنظمة القائمة.
ولعله من نافلة القول إن دور الأسرة كبير وضروري في تعزيز الأمن الفكري كما يؤكد متخصصون في العلوم الاجتماعية والنفسية، فكلما زاد وعي الأبناء وحماية عقولهم من الانحرافات الفكرية، تقلصت المسافات المتاحة لشغل الأدمغة بأفكار الإرهاب الأسود، والعكس بالعكس بمعنى أنه حال أفسحت الأسرة مساحة للأفكار المنحرفة، كان من اليسير لاحقاً تجنيد لا بعض أفراد الأسرة، بل كلها، وهذا ما حدث في جرائم إرهاب إندونيسيا الأخيرة.
ويبقى السؤال الجوهري... لماذا تحرص «داعش» وكل الجماعات الأصولية على نشوء وارتقاء ظاهرة الإرهاب الأصولي العائلي؟
يمكن أن تذهب الآراء في الإجابة مذاهب شتى، في المقدمة منها أن فكرة تجنيد عائلات بكامل أفرادها تأتي لضمان ولاء العدد الأكبر من هذه العائلات، ثم تفاضل بينهم عند تنفيذ العمليات الإرهابية أو تتخذ قرارها بـ«تفخيخ العائلة» بأكملها كما فعلت في إندونيسيا.
يتبدى لنا من خلال تحليل ظاهرة الإرهاب العائلي أن القائمين على تجنيد عناصر جديدة على دراية كبيرة بعلم الاجتماع، ذلك أنهم يعمدون إلى فكرة التمسك بالهوية التي تنسجها تلك الجماعات لهم، سيما وأن الإرهاب يعتبر كأي نشاط أمراً اجتماعياً للغاية وإن كانت عواقبه كارثية استثنائية، فبمجرد اهتمام أشخاص بالأفكار والآيديولوجيات الإرهابية يمكن أن يقود ذلك أشخاصا آخرين إلى الاهتمام بهذه الأفكار عينها، وحال راجت تلك الأفكار في سياق العائلة، فإن ذلك يضمن للتنظيم الأم سهولة التجنيد هذا في بداية الأمر، وثانياً وهو الأهم والأكثر هولاً يوفر الإرهاب العائلي فسحة واسعة للفرار من المتابعات والقيود الأمنية، فحين يكون التنظيم لعملية إرهابية لا يتجاوز أفراد العائلة، فإن فرص رصده ومتابعته، وصولاً إلى إبطال العملية الإرهابية قليل جداً، وعلى العكس حال وجود عناصر مختلفة، يمكن لها أن تختلف لأسباب ونوازع إنسانية أو مادية، مما يفشل الأمر بالكلية. في دراسة حديثة أجرتها جامعة بنسلفانيا، جاءت النتيجة لتؤكد على أن 64 في المائة من العائلات أو الأصدقاء يدركون ما كان ينوي عليه أفرادهم من المزاولين لنشاط يتعلق بالإرهاب، وأكدوا أن الفاعل قال لهم «حرفياً» ما كان سيقدم عليه، وعليه توضح الدراسة أن العلاقات العائلية هي الطريقة المثلى لتجنيد هؤلاء وتطرفهم.
على أنه في متابعتنا لقضية الإرهاب العائلي تتبقي جزئية مهمة وفاعلة وهي قضية العائدين من «داعش»، والتي تختلف بصورة مؤكدة عن العائدين من أفغانستان، فالأولون أكثر أدلجة إرهابية إن صح التعبير، هؤلاء يراهن عليهم «داعش» التي لحقت بها الجراح العميقة في سوريا والعراق، كي يضحوا عناصر فاعلة في تجنيد أطراف وأطياف أخرى في مجتمعاتهم، تبدأ من عند الأسر التي يعيشون في أكنافها مما يجعلهم قنابل موقوتة جاهزة للانفجار في كل لحظة وأي لحظة.
يفيد تحليل ظاهرة «الإرهاب العائلي» في التوصل إلى نتيجة قطعية، مفادها أن داعش بدأ يفقد قدراته البشرية بشكل كبير نتيجة للضربات الكثيرة التي وجهت إلى قياداته وكوادره في الفترة الماضية، وعليه فإنه يعمد إلى هذا النمط الإرهابي الجديد، لضمان «التعويض الآمن»، حتى وإن كلف ذلك اللجوء إلى الأطفال الأبرياء لاستخدامهم في الإرهاب الأعمى.
ويبقى أبداً ودوماً سؤال النهاية... كيف للجميع مواجهة هذا الإرهاب الأحدث؟ الجواب بالمطلق هذه المرة يتصل بفكر الوقاية، فيما هامش القمع يتضاءل إلى حد الاختباء والاختفاء، الوقاية داخل الأسرة، والتي هي نواة المجتمع، وقاية فكرية عبر وسائل عدة تعليمية وإعلامية، دينية واجتماعية، لمواجهة طروحات الإرهاب خوفاً من الأسوأ الذي لم يأت بعد.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.