«داعش» واستغلال البريق الدعائي

«ولايات» إرهابية متناثرة يتم التحكم فيها عن بُعد

آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
TT

«داعش» واستغلال البريق الدعائي

آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)

كل الحيثيات التي تحاك حول تنظيم داعش لا تعكس إلا مدى براغماتيته، واستغلاله لكل ما حوله من أجل إثبات استمرارية وجوده ومدى قوته، وإن أثبت ذلك مدى تناقض توجهاته الأخيرة مع الرسالة المحورية أو الأهداف الرئيسة التي بُني عليها التنظيم. إذ إن تكثيف الهجمات الإرهابية في دول أخرى بعيداً عن مناطق الصراع التي بات استهداف التنظيم فيها علنياً من قبل القوات الدولية، والانتقال إلى ما سمّاه التنظيم «ولايات» تتضمن ولاية خراسان التي تشمل أفغانستان والمناطق الحدودية في باكستان وآسيا الوسطى، إضافة إلى مناطق أخرى مثل ولاية سيناء وليبيا والقوقاز والجزائر، يعد هدفاً من أجل الابتعاد عن المركزية والمخطط الأوّلي لتأسيس ما يسمى دولة الخلافة، ومحاولة لتعويض الخسائر التي تكبّدها تنظيم داعش، لا سيما من خلال استهداف دول تحوي أقليات ممن يشتكون من تهميشهم واختلافهم عن بقية المجتمع، الأمر الذي يؤدي إلى سهولة تجييشهم وحثهم على الانضمام للتنظيم، والاستفادة من تسترهم خلف جنسياتهم الأوروبية كما يحدث في الآونة الأخيرة في كل من فرنسا وبريطانيا ودول أخرى. الأمر الذي يظل كما هو دون تغيير هو تحوُّل تنظيم داعش الجديد من خلافته الواقعية في سوريا والعراق إلى ما سماه التنظيم «ولايات» متناثرة يتم التحكم فيها عن بُعد.

استمرارية «المد الداعشي»
يظل الأمر الأدهى والأصعب في معالجته من قبل المجتمع الدولي هو محاولة إيقاف المد الداعشي ومدى تأثيرهم على الآخرين من خلال استحواذهم على العالم الإلكتروني واستمرارهم في بث رسائلهم ليس فقط المشفَّرة منها وإنما كذلك عبر برامج مثل «يوتيوب» و«تويتر» وكذلك موقع «غوغل»، حيث لا يزال أعضاء التنظيم يتواصلون مع الآخرين ويسهمون في استقطاب الذئاب المنفردة أو الجماعات الإرهابية في المناطق التي يسهل التغلغل فيها مما ينعدم فيها الأمن أو يضعف. ويبقى الهم الإرهابي الأعمق هو كيفية إثارة الرأي العام وتخويف الآخرين سواء عبر حملات تهديدية مثل ما يحدث مؤخراً من تهديد للاعبي كرة القدم مثل الصور الدموية التي انتشرت في المواقع الإلكترونية والتي يظهر فيها كل من اللاعبين ميسي ورونالدو، أو حتى تهديد تنظيم داعش لمقر كأس العالم القادم في روسيا واختصارهم لتهديداتهم بمقولتهم المتداولة في الآونة الأخيرة: «نحن في روسيا». وصورة الاستاد الرياضي «لوجنيكي» في روسيا مع عبارة: «ستمتلئ الأرض بدمائكم». مثل هذه الحملات الدعائية التي بات التنظيم الداعشي ينثرها في أرجاء العالم السيبراني ليست فحسب بدافع إثارة الرعب وإنما استغلال عامل الإثارة والتشويق من أجل دفع من تمده مثل هذه الرسائل الإعلامية المتطرفة للانضمام إليهم والقيام بهجمات إرهابية وإن كانت من خلال ذئاب منفردة أو عبر الحصول على دعم معنوي أو لوجيستي عن بُعد، وهو ما يرتكز عليه التنظيم في الآونة الأخيرة من استعراض مسرحي يبحث عن المتهافتين عليه.
وتستمر هذه الحملات في الازدهار على الرغم من تضافر الجهود الدولية من أجل التخلص منها، على سبيل المثال جهدت السلطات البريطانية في هجماتها على وكالة «الأعماق» الداعشية، إضافة إلى اكتشافها أماكن وجود بعض المتطرفين من خلال أنشطتهم الإلكترونية مثل ما حدث في كل من بلغاريا وفرنسا ورومانيا. وفي الوقت ذاته يظهر استغلال المناسبات الدينية مثل شهر رمضان الذي يشن فيه تنظيم داعش حملات مكثفة من أجل تحريض الآخرين على القيام بهجمات إرهابية، وإن كانت عشوائية دون تقنين مثل التحريض على طعن الآخرين في أماكن اكتظاظ الناس، بما انحرف عن المسار التقليدي للتنظيمات الإرهابية ليستحيل بشكلٍ أو بآخر إلى ما هو أشبه بعصابات إجرامية بفروع متناثرة.

استغلال توقيت رمضان
ويأتي توقيت الهجمات التي تكثفت مؤخراً متزامناً مع شهر رمضان، كعادة التنظيم في تركيزه على الهجمات في هذا التوقيت واستغلاله له من أجل تجييش مشاعر المتعاطفين معهم من التخريبيين ممن يؤمنون بزيادة مكاسبهم الدينية في حال قتلهم «الكفار» في مثل هذا التوقيت، وتأليب الآخرين وحثهم على اقتراف المزيد من الهجمات الإرهابية. من جهة أخرى يظهر سعي تنظيم داعش لإثبات وجودهم في القارة الأوروبية، من خلال الهجمات التي تم اقترافها عبر «الذئاب المنفردة» أو الخلايا الصغيرة، ويتجلى ذلك من خلال حادثة الطعن في باريس مؤخراً، والتي ارتكبها الفرنسي من أصل شيشاني حمزة عظيموف فأسفر عن قتل شخص وإصابة أربعة آخرين، الأمر الذي يجسد زيادة نشاط التنظيم في القارة الأوروبية. وقد كشفت السلطات الفرنسية عن 416 متبرعاً شاركوا في تمويل تنظيم داعش من خلال مبالغ زهيدة تظهر أشبه بتبرعات خيرية وإن كانت بغرض تمويل التنظيم الإرهابي. الأمر الذي يثبت استمرارية وجود أرض خصبة متقبلة للتطرف في أماكن عديدة من العالم.

توجه عشوائي نحو قارّة آسيا
لم يكن من قبل هناك أي دلائل تشير إلى توجه تنظيم داعش إلى توسعة نطاق دائرته إلى منطقة جنوب شرقي آسيا. إلا أنه مؤخراً يمعن في استغلال المناطق التي تتسع لتلقِّي التنظير وأدلجة تنظيم داعش مثل ما حدث مؤخراً في إندونيسيا التي يصعب التحكم بالأعداد المفاجئة من المتطرفين فيها مؤخراً، بالأخص وأن ذلك لم يقتصر على شبان أو رجال شرسين، وإنما تضمن أسراً انتحارية بأكملها. فما حدث في سورابايا من هجمات انتحارية استهدفت عدة كنائس بالإضافة إلى مركز شرطة شنتها عدة أسر تضمنت أطفالاً تتراوح أعمارهم ما بين التاسعة والثامنة عشرة. إحدى هذه الأسر مكونة من 5 أشخاص نفّذت هجوماً انتحارياً في سورابايا على مركز للشرطة، وقد قام رب الأسرة ديتا أوبريارتو وهو زعيم في إندونيسيا لجماعة أنصار الدولة، بإنزال زوجته وابنتيه في عمر 9 و12 عاماً، قرب كنيسة لتفجرن أنفسهن بأحزمة ناسفة. الأمر الذي يعكس استغلال التنظيم أي شخص حي يمكنهم الاستفادة منه، بما في ذلك أطفال ونساء كتوجُّه جديد، قد لا يدل إلا على مبلغ إفلاس التنظيم وبحثه عن أي شخص يمكنه القيام بالهجوم الانتحاري أو أعمال العنف. مثل ما حدث من استغلال لأسر إندونيسية انضمت إلى تنظيم داعش وتجييش أطفال بأعمار مختلفة فيما يثير التعجب والدهشة في مدى أدلجتهم إلى الأمر الذي يعطي عائلة كاملة القناعة بالانتحار وقتل الآخرين.
مثل هذا الالتفات إلى منطقة جنوب شرقي آسيا لا يبدو من استراتيجيات تنظيم داعش الأولوية، وقد يعود ذلك إلى صعوبة التغلغل إلى دول مثل سنغافورة وماليزيا. تظل إندونيسيا من الدول الأكثر سهولة في التأثر، وحسب السلطات الإندونيسية فإن ما يزيد على 930 إندونيسياً قد توجه إلى جبهات القتال مع تنظيم داعش في كل من العراق وسوريا. ويصعب نسيان ما تعرضت له بالي في عام 2002 من تفجيرات أودت بحياة ما وصل إلى مئتي سائح. التفجيرات الأخيرة التي استهدفت كنائس في إندونيسيا تبعتها حملة دعائية قوية من قبل تنظيم داعش محملة بصور الهجمات من أجل حث المتطرفين فيها على القيام بالمزيد من الهجمات وذلك عبر منشورات بلغة البهاسا الإندونيسية «اقتلوا عابدي الأصنام أينما كانوا». الأمر الذي يؤكد انغماس تنظيم داعش في براغماتية مستفحلة، وأخذه منحًى متطرفاً في تحقيق أسرع وأعظم النتائج أينما كان الموقع الجغرافي، بغض النظر عن إن كانت منطقة جنوب شرقي آسيا ليست ضمن التخطيط الأولي لتنظيم داعش.

وجود «داعشي» في خراسان
من جهة أخرى يظهر انتقال تنظيم داعش إلى منطقة خراسان والتي تشمل كلاً من أفغانستان وباكستان وآسيا الوسطى منذ عام 2014، والتي يسعى فيها لمد نفوذه وإقامة خلافة في منطقة أخرى قد يسهل إرساء قواعده فيها نتيجة وعورة تضاريسها وضعف الأمن فيها، وذلك بعد أن استحال على التنظيم أن يقيم «الخلافة الداعشية» في كل من سوريا والعراق، وإن كان ذلك في معقل تنظيم القاعدة، بالأخص بعد انسحاب قوات حلف الشمال الأطلسي من أفغانستان. وكشف الرئيس الأفغاني أشرف غني أن عدد مسلحي تنظيم داعش في أفغانستان يصل إلى ألفي مسلح. فيما سعى التنظيم لإثبات وجوده ومدى قوته من خلال استهداف الأقليات مثل الشيعة إضافة إلى القوات الأفغانية سعياً في إبادتهم. إضافة إلى الاحتذاء باستراتيجية «القاعدة» في أفغانستان من حيث التحريض على مهاجمة القوات الأميركية الدخيلة على المنطقة والانتقام منهم نتيجة تهجمهم على الأفغان. ولا يظهر تخوف التنظيم من استحواذ حكومة «طالبان» على السلطة في أفغانستان، وإن ظهر العديد من المواجهات العنيفة بين الجهتين تكررت مراراً. وقد شن تنظيم داعش حملة إعلامية من أجل استقطاب مؤيدين والمزيد من المنضمين إليهم في منطقة خراسان. مثل التسجيل المرئي في مارس (آذار) 2018 بعنوان: «أرض الله الواسعة»، والذي وجه التنظيم من خلاله رسالة إلى مؤيديه للانضمام إليه في معاقله في أفغانستان سواء في شمالها في ولاية جوزجان وفي شرقها في ولاية ننغرهار، وقد ظهر في التسجيل المرئي مقاتلون داعشيون في جبال تورا بورا، أيْ معقل أسامة بن لادن وأتباعه، فيما شدد التسجيل على استنكار الوعيد الذي قام به الرئيس الأميركي تجاه التنظيم المتطرف. وعلى الرغم من مدى سيطرة حركة طالبان في منطقة أفغانستان فإن التسجيل المرئي أشار إلى مدى استبداد «طالبان» في فرضها الضرائب على الأفغان وتجارة الهيروين هناك، وذلك في سعي لتأليب المواطنين الأفغان على حكومة طالبان. كل ذلك لا يدل إلا على استمرارية وجود التنظيم في الساحة الدولية على الرغم من تضافر الجهود الدولية للتخلص منه عسكرياً واستخباراتياً. ويظل مأزق التغلغل الإلكتروني وتأليب المستضعفين اجتماعياً ونفسياً من أجل تحويلهم إلى أشخاص تدميريين لا يكترثون إن أدى حقدهم وغضبهم إلى انتحارهم وحصد أرواح الآخرين معهم.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟