دعوة لقراءة جديدة لإرث لويس المثير للجدل

ترجمة كل مؤلفاته إلى العربية قد تزيل سوء الفهم

برنارد لويس
برنارد لويس
TT

دعوة لقراءة جديدة لإرث لويس المثير للجدل

برنارد لويس
برنارد لويس

لويس: «لقد كان الإسلام أكثر تسامحا من سواه إبان العصور الوسطى. فلم يفرض المسلمون الإسلام بالقوة على الآخرين، بل عن طريق الحجة والإقناع أو عن طريق الحث والحض وليس عن طريق القوة والعنف».
ماذا يمكن أن نقول عن برنارد لويس؟
أولا صححوا معلوماتكم عن الرجل. فهو لم يكن معاديا للإسلام على عكس ما نتصور. وما لا يقل عن ذلك أهمية هو أنه كان من أعظم المتبحرين في تراثنا العربي الإسلامي الكبير. وكان يعرفه أكثر مما نعرفه نحن. لقد أمضى حياته المديدة في دراسة الإسلام والمجتمعات الإسلامية من مشرق الأرض إلى مغاربها. وأصبحت كتبه مراجع كبرى لجميع الباحثين في شتى أنحاء العالم. نذكر من بينها: العرب في التاريخ، الإسلام والعلمانية: ولادة تركيا الحديثة، كيف اكتشف الإسلام أوروبا، اليهود في أرض الإسلام، عودة الإسلام، الإسلام والغرب، ثم نشر، بعد ضربة 11 سبتمبر (أيلول) الإجرامية الكبرى، كتابين متلاحقين هما: لماذا حصل ما حصل؟ أين يكمن الخلل؟ الصدام بين الإسلام والحداثة في الشرق الأوسط (عام 2002). ثم الإسلام في أزمة (عام 2003). يقول لنا برنارد لويس ما معناه: لقد كان الإسلام أكثر تسامحا من سواه إبان العصور الوسطى. بل ويفاجئنا بفكرة أخرى وهي أن الإسلام لم ينتشر عن طريق السيف والعنف كما يتوهم البابا السابق وسواه. يقول المستشرق الشهير في كتابه: اليهود في أرض الإسلام ما معناه:
«إبان القرون الأولى للهيمنة الإسلامية لم يفرض المسلمون الإسلام بالقوة على الآخرين. ربما حصلت بعض حالات الاعتناق القسرية القليلة أو لم تحصل بالمرة. لقد نشروا الإسلام عن طريق الحجة والإقناع أو عن طريق الحث والحض وليس عن طريق القوة والعنف».
فمن أين جاءت إذن هذه الفكرة التي تقول بأن الإسلام دين عنف أو انتشر عن طريق السيف والعنف؟ وكيف ترسخت حتى أصبحت حقيقة مطلقة في الغرب والشرق؟
في الواقع أنه ينبغي التمييز هنا بين إسلامين: إسلام العصر الذهبي حيث انتشر الإسلام عن طريق الإشعاع والإقناع، وإسلام عصر الانحطاط حيث أصبح ميالا إلى القمع والعنف والتعصب. وبالتالي فالخلط بين هاتين الفترتين هو الذي خلق التشويش والبلبلة في العقول. وهو الذي شوه صورة الإسلام عن طريق إسقاط فترة الانحطاط على كل تاريخه. والمتطرفون المعاصرون كجماعة القاعدة و«داعش» وسواهما ليسوا إلا النتاج المباشر لعصور الانحطاط الظلامية ولا علاقة لهم بالعصر الذهبي للإسلام. ويرى برنارد لويس أن النصوص الأساسية للإسلام لا تأمر أبدا بالإرهاب والاغتيالات. بل ولا يخطر على بالها إطلاقا إحداث المجازر بالمدنيين الأبرياء.
وبالتالي فليس صحيحا أن الإسلام يخلع المشروعية الدينية أو الإلهية على التفجيرات الإجرامية العمياء. إن الدين الحق من ذلك براء. هل تفجير الإنسان لنفسه ضد المباني العامة للدولة أو ضد حشد من المدنيين العزل المتواجدين بالصدفة في الأسواق والشوارع والمقاهي يشكل جهادا ومرضاة عند الله؟ يرى برنارد لويس أن كل تعاليم الإسلام تقف ضد ذلك من القرآن الكريم إلى الحديث النبوي الشريف. كلها تدين الانتحار أو قتل النفس. جاء في الذكر الحكيم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا». ثم تليها مباشرة هذه الآية: «وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا» (سورة النساء: 29-30).
وبالتالي فالمنتحر الذي يقتل نفسه هو بمنزلة الكافر بحسب النص الصريح للقرآن الكريم. ولكنهم الآن يريدون أن يقدموه لنا وكأنه شهيد عظيم حتى ولو قتل آلاف المدنيين العزل وبشكل عشوائي كيفما اتفق! فهل يعقل ذلك؟ ويضيف برنارد لويس قائلا:
للأسف فإن جهل معظم المسلمين بتعاليم دينهم الحقيقية تدفعهم إلى قبول ذلك والتعاطف الضمني مع هذه الأعمال الإجرامية أو السكوت عنها على الأقل... هذه حقيقة ينبغي على المثقفين العلمانيين ورجال الدين العقلاء أن يواجهوها صراحة وجها لوجه. فلم تعد تكفي الإدانة من رؤوس الشفاه ثم إيجاد التخريجات أو التبريرات بعد ذلك للتكفيريين الظلاميين الذين عاثوا فسادا في الأرض وشوهوا صورة الإسلام والمسلمين في شتى أنحاء العالم. وأما الحديث النبوي الشريف فهو ينهى أيضا عن الانتحار نهيا قاطعا ويقول: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا».
وبالتالي فهناك كره شديد للانتحار في الإسلام. إنه يعادل الكفر المحض! هكذا تلاحظون أن الباحث الكبير الراحل دحض مشروعية هذه الأعمال الحمقاء والإجرامية من داخل التراث الإسلامي نفسه وليس من خارجه لكي تكون للإدانة مصداقية أكبر ووقع أعظم في نفس الإنسان المسلم. ولكن بالطبع فإن الفلسفة الإنسانية الحديثة، أي فلسفة حقوق الإنسان والمواطن، تدين هذه الأعمال بنفس القوة.
والواقع أن كلام برنارد لويس صحيح ولكنه لا ينطبق إلا على العصور الإسلامية الأولى عندما كان الإسلام واثقا من نفسه وحقيقته وبالتالي فهم الذين يأتون إليه أفواجا أفواجا وليس هو الذي يفرض نفسه عليهم أو يتوسل إليهم لكي يقبلوا باعتناقه. كان المسلمون الأوائل يخشون الله ويقدمون النموذج الأخلاقي والقدوة المثلى للآخرين، كل الآخرين. وأكبر مثال على ذلك خليفة رسول الله الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وهنا نحب أن نشير إلى البون الشاسع الذي يفصل بين مفهوم الجهاد في العصر الأول للإسلام، والمفهوم المشوه الذي ساد مؤخرا على يد هذه الحركات العشوائية المتطرفة. يكفي أن نلقي نظرة على الوصية التي وجهها أبو بكر الصديق إلى المجاهدين السائرين لفتح بلاد الشام سنة 12 للهجرة، وبين التصريحات النارية اللامسؤولة للمتطرفين الحاليين لكي ندرك الفرق واضحا جليا. يقول بالحرف الواحد:
«يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكله. وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له». إلخ...
لاحظ مدى الشفقة والرحمة وخشية الله في هذا الكلام الرائع! لاحظ المستوى الأخلاقي الرفيع! وقارن بينه وبين فظائع المتطرفين الحاليين وتصريحاتهم النارية... هل يفرقون بين رجل وامرأة أو شيخ وطفل عندما يرتكبون تفجيراتهم الإجرامية التي تحصد المدنيين العزل بشكل عشوائي كيفما اتفق؟
هل خطر على بالهم أن يفكروا ولو للحظة واحدة بعائلات الضحايا في نيويورك أو مدريد أو لندن أو شرم الشيخ أو الجزائر أو سوريا أو مصر أو الرياض أو الدار البيضاء أو العراق الجريح على وجه الخصوص؟
ثم من هم هؤلاء الذين فرغوا أنفسهم في الصوامع للتقشف والنسك وذكر الله؟ إنهم الرهبان المسيحيون الذين كانوا يعيشون في الأديرة والكنائس التي كانت تمتلئ بها سوريا وفلسطين آنذاك. لقد حرم أبو بكر الصديق على الفاتحين المسلمين أن يمسوهم بأذى. ولكن ماذا فعل المتطرفون الجزائريون بقيادة جمال زيتوني بالرهبان الفرنسيين السبعة عام 1996؟
هل اتبعوا وصية الصديق أم خانوها صراحة وخرجوا عليها عندما خطفوا الرهبان المسالمين وذبحوهم؟ هذه التساؤلات وكثير غيرها ما عاد بالإمكان السكوت عنها. نعم لقد حان وقت المراجعات الكبرى والمصارحات القاسية والمريرة. لقد آن أوان الجهاد الأكبر: أي محاسبة الذات وتقويم الاعوجاج والانحراف الذي أصاب عقول بعض المسلمين. وهذا شيء لا يخطر علي بال الجهلة المتطرفين أبدا. وأخيرا ماذا سأقول عن رحيل برنارد لويس؟ شيئا واحدا: ترجمة كل مؤلفاته إلى اللغة العربية ودراستها ومناقشتها ونقدها بكل حرية. فهو بحر العلوم وفيها كنوز من الاكتشافات والإضاءات والمعلومات.



حين طلب مني الأمن أن أرسم صورة «المعلم»

عتاب حريب
عتاب حريب
TT

حين طلب مني الأمن أن أرسم صورة «المعلم»

عتاب حريب
عتاب حريب

في عام 2011 كنت على موعد للحصول على فيزا لإقامة معرض في نورث كارولينا بدعوة من جامعة دافيدسون وحصلت على الفيزا في آخر يوم قبل إغلاق السفارة بدمشق.

سافرت عام 2012 ورجعت إلى دمشق، وكانت المظاهرات والاحتجاجات تعم المدن السورية والقرى وأنا أعيش في دمشق أحاول أن أساعد بجهد شخصي أبناء الريف المتضرر والمحاصر، فهناك الكثير من المهنيين والمعارف الذين تضرروا وبحاجة لكثير من الطعام والمستلزمات. كنت أحملها بسيارتي وأحمل معها روحي وأمضي وفي رأسي سيناريوهات العالم كلها. أحضر أجوبة على كل احتمالات الحواجز والشبيحة وعناصر الأمن، عما كنت أكتب بحس ساخر على فيس بوك وأناهض الفساد والقتل. أنا امرأة متمردة بطبعي على الظلم وأمشي عكس التيار، أعشق الحرية والسفر لأعود إلى بلدي بشوق أكثر. هناك تحديات كثيرة كانت أمامنا في بلد كل زاوية فيها حاجز أمني وشبيحة. كانت رعاية ملائكية تنقذني دوماً من رش للرصاص على سيارتي في حاجز حرستا ووضع عبوة ناسفة قرب سيارتي أمام بيتي بعد أن نزلت منها، وتصويب البندقية عليَّ في تأبين باسل شحادة. هربت بأعجوبة. هذه ليست بطولات أرويها ولكن كان حماساً وواجباً علي. ويوماً كنت على حدود لبنان للسفر إلى المغرب لإقامة معرض. أخذوني من الحدود وبدأت التحقيقات معي عن كتاباتي على صفحتي بفيسبوك. وانتهى التحقيق بالتوقيع على ورقة بعدم كتابة أي شيء. وفي اليوم التالي أُلغي منع السفر. وعندما عدت استدعوني مرة أخرى. قلت للمحقق ضاحكة لم أكتب شي مثل ماوعدتكم، فقال لي: رسمتِ. لقد شاهد لوحة فيها قطعة ممزقة من كلمة الثورة التي على الجريدة، فأجبته باستغباء: هذه الجريدة الوطنية ليش ممنوع نحطها، فقال لي: أعرف ما تريدين أن تقولي مع هذه الشخبرة. يصف لوحاتي بـ«الشخابير».

ثم قال لي: نريدك أن ترسمي لنا صورة المعلم، فقلت له: أنا أرسم مناظر وزهوراً لا أرسم حيوانات ولا بشراً واسأل عني مرة باسل الأسد فقد طلب مني ومن مجموعة من الفنانين رسم أحصنته فرفضت لأني لا أعرف، فأجابني: لا أنت فنانة قديرة رح ترسميها فقلت له سأحاول سأطلب من أحد يجيد رسم البورتريه، فقال لي: لا أنت يجب أن ترسميها وتوقعي عليها اسمك.

بقيت أشهراً أماطل ويسألني دائماً على الهاتف: ما خلصتِ، ألاقي الأعذار كل مرة بالكهرباء والتدفئة وعدم جفاف الألوان بالبرد. كنت أنام وأصحو في رعب وسخرية أيضاً. أحياناً أفكر أن أرسم حماراً وفوقه أرسم صورته بألوان تزال بالماء وأرسلها بعد أن أخرج من البلد مع رسالة «امسح الصورة تجد المعلم». المهم كان هذا مسلياً لي في أوقات القلق والتوتر إلى أن قدمت استقالتي من عملي وطلبت من الأمن موافقة أمنية للسفر لمرة واحدة قبل انتهاء الفيزا، وحصلت عليها.

قبل يومين من تحرير حلب كنت في حالة شوق مكبوت لسوريا، وأتمنى بشدةٍ العودة. وكنت أحاول أن أقنع نفسي بأن وضعي في أميركا جيد وصرت مواطنة أميركية وعندي جواز سفر مثل جناحين أطير به بين البلدان بكل سلاسة. وأقنعت نفسي من أول يوم أتيت إلى شيكاغو أنني سأبدأ حياة جديدة وتناسيت بيتي بالشام ومرسمي ولوحاتي وذكرياتي وأصدقائي الذين لم يبق منهم إلا القليل في دمشق. أخوتي قاطعتهم لاختلافي معهم في المبدأ فقد كانوا يقفون مع النظام.

وزاد فقداني لابني الذي قُتل عام 2014 كرهاً لتلك البلاد التي لفظتنا ولم تقدم لنا إلا العنف والنبذ والقتل والتهميش. أنا قدمت الكثير لسوريا، وكنت أقوم بأعمال تطوعية مع الأطفال والشباب لتأجيج روح الفن والحب والحياة والحرية. كنت أعيش مع أجيال متتابعة في عملي معلمة فنون في مدارس سوريا ومعاهدها وجامعاتها.

تحرير حلب كان فرحاً مشوباً بالخوف... أتابع ليل نهار كل وسائل التواصل. لم أعد أنام. عاد الأدرنالين للصعود مثل بدايات الثورة عام 2011 والترقب والحماس، وكنت أقول لنفسي إن لم يصلوا إلى دمشق لن أفرح. كنت ذلك اليوم أبكي، ولم أخرج إلى الشارع لأن دموعي كانت لا تتوقف.

فجأة الحلم عاد، واليأس اختفى، وصار عنا مستقبل مختلف. صار عندي وطن أعود إليه مع أبنائي وأحفادي. صار عندي أمل أعود لأعرف أين قتل ابني وأين رفاته، أعود لأقبل بناته حفيداتي اللاتي لم أرهن منذ سافرت.

* فنانة تشكيلية