كانط... أكبر فيلسوف في العصور الحديثة؟

المبادئ التي دعا إليها أصبحت مبادئ للشعب الألماني والشعوب الأوروبية

كانط
كانط
TT

كانط... أكبر فيلسوف في العصور الحديثة؟

كانط
كانط

نعم السؤال المطروح هو التالي: من هو أكبر فيلسوف في العصور الحديثة؟ قد تقولون بأنه ديكارت. وربما قلتم بأنه نيتشه أو هيدغر. ولكن هناك شبه إجماع على أنه كانط. لماذا كانط وليس هيغل؟ أعتقد أنه يوجد بعض الظلم هنا. لنقل بأنه كانط وهيغل في آنٍ معاً. كلاهما عظيم. كلاهما اكتشف قارة جديدة مختلفة من قارات الفكر البشري. ولكن ماذا عن ديكارت مؤسس الفلسفة الحديثة؟ ماذا عن سبينوزا مؤسس النقد الفلسفي العميق للأصولية اليهودية؟ لكن من هو كانط هذا؟ لقد ولد في مدينة كونيغ سبيرغ بشمال ألمانيا يوم 22 أبريل (نيسان) من عام 1724. وهي الآن روسية ولم تعد ألمانية. وكان ذلك في عائلة فقيرة متواضعة. ولكنهم ربوه على مكارم الأخلاق منذ نعومة أظفاره، الشيء الذي ترك في نفسه أعظم الأثر حتى نهاية حياته. وقد قال فيما بعد: ما كان بالإمكان أن أتلقى تربية أخلاقية أفضل من ذلك. ويعود الفضل في ذلك إلى أمه الغالية التي كانت تقية ورعة وطيبة جداً. وهنيئاً لمن حظي بأم كهذه. وعندما أصبح عمره ستة عشر عاماً سجل نفسه في جامعة المدينة وراح يدرس فلسفة لايبنتز الذي كان أكبر فيلسوف ألماني في ذلك الزمان. وعندما أصبح في الثلاثين من عمره حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة. ثم عينوه أستاذاً في الجامعة نفسها على أثر ذلك. ثم انخرط كانط بعدئذ في مطالعات فكرية واسعة شملت نيوتن وهيوم وبالأخص جان جاك روسو. وقد اعترف لاحقاً بأن قراءة هذا الأخير وضعته على الطريق الصحيح القويم، وأثارت لديه نوعاً من الثورة الفكرية. لماذا؟ لأن روسو وضع الأخلاق فوق العلم وأفهمنا أن العلم من دون أخلاق أو ضمير أو نزعة إنسانية لا يساوي قشرة بصلة. وهذا ما انحرفت عنه الحضارة الغربية لاحقاً للأسف الشديد. ولذلك فقدت بريقها ومصداقيتها في أعين الشعوب الأخرى.
ثم تدرج كانط في المناصب الجامعية حتى وصل إلى أعلى المراتب وأصبح كبير مثقفي الألمان دون منازع. ثم أصبح عميداً للجامعة عام 1786. وفي أثناء ذلك نشر أعظم المؤلفات الفلسفية في عصره كنقد العقل الخالص، ونقد العقل العملي، ونقد ملكة المحاكمة أو التمييز، والدين ضمن حدود العقل فقط... إلخ.
هذا وقد انخرط كانط في مناقشات فلسفية مع كبار مفكري أوروبا. وكانت المسألة المطروحة آنذاك تخص التنوير وكيفية الخروج من الفهم المتزمت والظلامي للدين المسيحي. وهي ذات المشكلة التي تشغل المثقفين العرب اليوم. وعندئذ نشر في جريدة برلين نصه الشهير: ما هو التنوير؟ عام (1784). وكان إيمانه الفلسفي بوجود الله قد حرره من القلق من النهاية القصوى أو الخوف من الموت. ثم ألقى آخر محاضرة جامعية له عام 1796، ومات عام 1804 عن عمر يناهز الثمانين عاماً. وهو عمر كبير جدا بالنسبة لذلك العصر ويساوي المائة عام اليوم وربما أكثر. ومن يُرد أن يعرف همومه الفكرية التي شغلته طيلة حياته كلها فينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار الأسئلة الأربعة التي طرحها عام 1793 بعد أن بلغ السبعين من العمر. هذه الأسئلة هي: ما الذي يمكن أن أعرفه؟ ما الذي ينبغي أن أفعله في هذه الحياة؟ ما الذي هو مسموح لي أن آمله وأرجوه؟ ما هو الإنسان؟
هذه هي الأسئلة الأربعة الكبرى التي وجهت كل أعماله الفلسفية. والسؤال الأول أجاب عنه من خلال كتابه الشهير: نقد العقل الخالص. وفيه بيَّن الحدود التي يمكن للعقل أن يذهب إليها أو لا يذهب. وقال ما معناه: ينبغي العلم بأن العقل البشري ليس قادراً على كل شيء على عكس ما نتوهم. ولكنه قادر على أشياء كثيرة. وينبغي أن نعرف ما الذي يمكن أن يكتشفه العقل بإمكاناته الخاصة وما لا يمكن أن يكتشفه. والشيء الذي يمكن للعقل أن يفهمه هو ظواهر العالم المادي والقوانين التي تتحكم بالكون. وهذا ليس بالشيء القليل. ولكن لا يمكن للعقل أن يفهم العالم الموجود خلف الظواهر المادية المحسوسة: أي العالم الماورائي أو ما يدعى اصطلاحاً بالعالم الميتافيزيقي. وذلك على عكس ما توهم الفلاسفة السابقون. ولذلك دعا كانط كتابه: نقد العقل الخالص، أي نقد العقل الميتافيزيقي في الواقع. وهو العقل المتوهم بأنه قادر على فهم كل شيء بما في ذلك العالم الآخر. هذا الوهم الجبار هو الذي حطمه كانط في كتابه الشهير.
وقال للبشر: اهتموا بما تستطيعون فهمه والبرهنة عليه بشكل منطقي أو علمي واتركوا ما تبقى. لا تضيعوا وقتكم فيما لا طائل تحته. ولا تهيموا في متاهات الغيب والميتافيزيقا. يكفيكم أن تفهموا ظواهر هذا العالم المادي المحسوس. ويكفي العقل فخراً أنه اكتشف القوانين التي تمسك الكون على يد نيوتن، وبالأخص قانون الجاذبية الكونية. ولولا هذه الاكتشافات العلمية لما توصلنا إلى اختراع الآلات التكنولوجية الحديثة التي ساعدت الإنسان على تحقيق كل أمانيه في تذليل الطبيعة والسيطرة عليها. وبالتالي فالعقل البشري قادر على فعل أشياء كثيرة، بل وتأسيس حضارة كبيرة. وهو ما فعله في أوروبا على مدار القرون الأربعة الماضية. ولكن العقل لا يستطيع الإجابة على الأسئلة الميتافيزيقية الأساسية من نوع: ما الذي سيحصل بعد الموت؟ هل تفنى الروح مع الجسد أم لا؟ هنا تتوقف حدود العقل وتبتدئ حدود الإيمان. الدين وحده قادر على الإجابة على هذه الأسئلة.
وأما على السؤال الثاني: ما الذي ينبغي أن أفعله؟ فقد أجاب عليه كانط من خلال كتاب ضخم أيضاً هو: نقد العقل العملي. وفيه بلور الأخلاق بالمعنى الحديث للكلمة. وقال بما معناه: لا تفعل للآخرين الشيء الذي لا تحب أن يفعلوه لك. بمعنى آخر: هل هناك من شخص على وجه الأرض يحب أن يضربه الآخرون أو يسرقوه أو يقتلوه أو يعتدوا عليه أو يحتقروه؟ بالطبع لا. ولذا فلا ينبغي عليك أن تفعل هذه الأشياء البغيضة للآخرين. بمعنى آخر: افعل للآخرين ما تحب أن يفعلوه لنفسك. وعلى هذا النحو تنتظم أمور المجتمع ويصبح أخلاقياً، متقدماً، راقياً. وهذا ما تحقق لاحقاً في المجتمعات الأوروبية المتقدمة حيث أصبح الناس حضاريين يتعاملون مع بعضهم بعضا باحترام. ولم يعودوا يحلون خصوماتهم بالقوة العضلية أو بالضرب كما يفعل الناس البدائيون الهمجيون وإنما من خلال الاحتكام إلى الدولة وسلطة القانون.
وبالتالي فالمبادئ التي نص عليها كانط لم تبقَ حبراً على ورق وإنما تجسدت أمراً واقعاً وأصبحت بمثابة المبادئ شبه المقدسة التي يسير على هداها الشعب الألماني وبقية الشعوب الأوروبية المتطورة.. وهذا يعني أن فكره طُبق عملياً على أرض الواقع وساهم في تشكيل الحضارة الحديثة كلها. بهذا المعنى فإن كانط هو أستاذ الحضارة الأوروبية كلها بعد ديكارت وجان جاك روسو. وأما على السؤال الثالث: ما الذي يمكن أن آمله أو أرجوه في هذه الحياة؟ فقد أجاب عليه كانط من خلال كتابه الشهير: الدين ضمن حدود العقل فقط. وفيه ينتقد الأصولية المسيحية المتزمتة ويبلور الفهم العقلاني للدين، أي الفهم المناسب لمجتمعات الحداثة.
ويرى كانط أن التعصب الديني هو سبب الشرور والحروب المذهبية التي مزقت ألمانيا وعموم أوروبا من خلال حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). وقد جرت بين المذهبين الأساسيين، الكاثوليكي والبروتستانتي، وذهب ضحيتها ملايين الأشخاص من كلا الطرفين.
وبالتالي فينبغي التخلي عن المفهوم القديم والظلامي للدين وتبني مفهوم يندرج ضمن إطار العقل. وعندئذ تحصل المصالحة التاريخية بين العلم والإيمان، أو بين الفلسفة والدين. وقد ساهم كانط من خلال مؤلفاته في تحقيق هذه المصالحة الكبرى. نضيف بأن كانط كان مؤسساً للفلسفة المثالية الألمانية أي الفلسفة التي تؤمن بأهمية الأفكار والمثل العليا وأنها قادرة على تغيير الحياة وتحسينها نحو الأفضل. وبالتالي فكونوا مثاليين أيها الأصدقاء ولا تخافوا من المثالية. ولكن كونوا واقعيين أيضاً.
وكان يؤمن بقدرة العقل البشري على تحقيق المعجزات على هذه الأرض عن طريق العلم الفيزيائي والرياضي الذي نبغ فيه إسحاق نيوتن. وقد استفاد كثيراً من نظريات هذا العالم إلى درجة أن بعضهم قال: لولا نيوتن لما كان كانط! فنيوتن أعطاه الثقة بنفسه وبمقدرة العلم الحديث على حل ألغاز الكون وفهم أسراره. ينبغي العلم بأن كانط ولد وعاش في القرن الثامن عشر أي في عصر التنوير الكبير. وبالتالي فقد ساهم في تبديد غياهب الظلام المحيطة بالعقول. وحارب التعصب الديني وتأطير العقول بالقوة أو تدجينها. كما حارب الكسل العقلي والتواكل والاستسلام للمقدور. وقد عرَّف التنوير على النحو التالي:
إنه خروج الإنسان من مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد. وعرَّف القصور العقلي على أساس أنه التبعية للآخرين وعدم القدرة على تكوين التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار من دون استشارة الشخص الوصي علينا والذي يقف فوق رأسنا كالأب والشيخ والكاهن... إلخ. وهذا يعني أننا نظل في مرحلة الطفولة العقلية حتى بعد أن نصبح رجالاً كباراً.
ولذلك صرخ كانط قائلاً: استخدموا عقولكم أيها الناس! لتكن لكم الجرأة على استخدام عقولكم! فالله زودكم بالعقل لكي تستخدموه لا لكي تلغوه. لا تتواكلوا بعد اليوم ولا تستسلموا للكسل والمقدور والمكتوب. ولا تقبلوا شيئا قبل إخضاعه لمحكمة العقل والتمييز والغربلة والتمحيص.
ولكن كانط لم يفهم التنوير على أساس أنه مضاد للإيمان أو للاعتقاد الديني. وإنما قال عبارته الشهيرة: حيث تنتهي حدود العقل، تبتدئ حدود الإيمان. ولم يدعُ كانط الناس إلى تقديم الطاعة العمياء للقادة أو لرجال الدين كما حصل في بروسيا لاحقاً. وحارب التدجين الفكري أو التلقين الإجباري للفكر كما رأيناه. ولكن للأسف الشديد فإن ألمانيا خرجت على مبادئه أكثر من مرة وبخاصة إبان المرحلة النازية أو الهتلرية. فقد أصبح مبدأ الطاعة العمياء هو السائد. وأصبح الألماني ينفذ الأوامر حتى ولو كانت مضادة لقناعاته العميقة تطبيقاً لمبدأ نفذ ثم لا تعترض!
أما كانط فقد بنى كل فلسفته التربوية على المبدأ الأساسي التالي: ينبغي عدم اتخاذ الإنسان كوسيلة وإنما دائماً كغاية. بمعنى آخر: ينبغي عدم احتقار الكرامة الإنسانية لدى الشخص الآخر بأي شكل كان حتى ولو كان هذا الآخر خادمة بسيطة في المنزل.



لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».