كانط... أكبر فيلسوف في العصور الحديثة؟

المبادئ التي دعا إليها أصبحت مبادئ للشعب الألماني والشعوب الأوروبية

كانط
كانط
TT
20

كانط... أكبر فيلسوف في العصور الحديثة؟

كانط
كانط

نعم السؤال المطروح هو التالي: من هو أكبر فيلسوف في العصور الحديثة؟ قد تقولون بأنه ديكارت. وربما قلتم بأنه نيتشه أو هيدغر. ولكن هناك شبه إجماع على أنه كانط. لماذا كانط وليس هيغل؟ أعتقد أنه يوجد بعض الظلم هنا. لنقل بأنه كانط وهيغل في آنٍ معاً. كلاهما عظيم. كلاهما اكتشف قارة جديدة مختلفة من قارات الفكر البشري. ولكن ماذا عن ديكارت مؤسس الفلسفة الحديثة؟ ماذا عن سبينوزا مؤسس النقد الفلسفي العميق للأصولية اليهودية؟ لكن من هو كانط هذا؟ لقد ولد في مدينة كونيغ سبيرغ بشمال ألمانيا يوم 22 أبريل (نيسان) من عام 1724. وهي الآن روسية ولم تعد ألمانية. وكان ذلك في عائلة فقيرة متواضعة. ولكنهم ربوه على مكارم الأخلاق منذ نعومة أظفاره، الشيء الذي ترك في نفسه أعظم الأثر حتى نهاية حياته. وقد قال فيما بعد: ما كان بالإمكان أن أتلقى تربية أخلاقية أفضل من ذلك. ويعود الفضل في ذلك إلى أمه الغالية التي كانت تقية ورعة وطيبة جداً. وهنيئاً لمن حظي بأم كهذه. وعندما أصبح عمره ستة عشر عاماً سجل نفسه في جامعة المدينة وراح يدرس فلسفة لايبنتز الذي كان أكبر فيلسوف ألماني في ذلك الزمان. وعندما أصبح في الثلاثين من عمره حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة. ثم عينوه أستاذاً في الجامعة نفسها على أثر ذلك. ثم انخرط كانط بعدئذ في مطالعات فكرية واسعة شملت نيوتن وهيوم وبالأخص جان جاك روسو. وقد اعترف لاحقاً بأن قراءة هذا الأخير وضعته على الطريق الصحيح القويم، وأثارت لديه نوعاً من الثورة الفكرية. لماذا؟ لأن روسو وضع الأخلاق فوق العلم وأفهمنا أن العلم من دون أخلاق أو ضمير أو نزعة إنسانية لا يساوي قشرة بصلة. وهذا ما انحرفت عنه الحضارة الغربية لاحقاً للأسف الشديد. ولذلك فقدت بريقها ومصداقيتها في أعين الشعوب الأخرى.
ثم تدرج كانط في المناصب الجامعية حتى وصل إلى أعلى المراتب وأصبح كبير مثقفي الألمان دون منازع. ثم أصبح عميداً للجامعة عام 1786. وفي أثناء ذلك نشر أعظم المؤلفات الفلسفية في عصره كنقد العقل الخالص، ونقد العقل العملي، ونقد ملكة المحاكمة أو التمييز، والدين ضمن حدود العقل فقط... إلخ.
هذا وقد انخرط كانط في مناقشات فلسفية مع كبار مفكري أوروبا. وكانت المسألة المطروحة آنذاك تخص التنوير وكيفية الخروج من الفهم المتزمت والظلامي للدين المسيحي. وهي ذات المشكلة التي تشغل المثقفين العرب اليوم. وعندئذ نشر في جريدة برلين نصه الشهير: ما هو التنوير؟ عام (1784). وكان إيمانه الفلسفي بوجود الله قد حرره من القلق من النهاية القصوى أو الخوف من الموت. ثم ألقى آخر محاضرة جامعية له عام 1796، ومات عام 1804 عن عمر يناهز الثمانين عاماً. وهو عمر كبير جدا بالنسبة لذلك العصر ويساوي المائة عام اليوم وربما أكثر. ومن يُرد أن يعرف همومه الفكرية التي شغلته طيلة حياته كلها فينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار الأسئلة الأربعة التي طرحها عام 1793 بعد أن بلغ السبعين من العمر. هذه الأسئلة هي: ما الذي يمكن أن أعرفه؟ ما الذي ينبغي أن أفعله في هذه الحياة؟ ما الذي هو مسموح لي أن آمله وأرجوه؟ ما هو الإنسان؟
هذه هي الأسئلة الأربعة الكبرى التي وجهت كل أعماله الفلسفية. والسؤال الأول أجاب عنه من خلال كتابه الشهير: نقد العقل الخالص. وفيه بيَّن الحدود التي يمكن للعقل أن يذهب إليها أو لا يذهب. وقال ما معناه: ينبغي العلم بأن العقل البشري ليس قادراً على كل شيء على عكس ما نتوهم. ولكنه قادر على أشياء كثيرة. وينبغي أن نعرف ما الذي يمكن أن يكتشفه العقل بإمكاناته الخاصة وما لا يمكن أن يكتشفه. والشيء الذي يمكن للعقل أن يفهمه هو ظواهر العالم المادي والقوانين التي تتحكم بالكون. وهذا ليس بالشيء القليل. ولكن لا يمكن للعقل أن يفهم العالم الموجود خلف الظواهر المادية المحسوسة: أي العالم الماورائي أو ما يدعى اصطلاحاً بالعالم الميتافيزيقي. وذلك على عكس ما توهم الفلاسفة السابقون. ولذلك دعا كانط كتابه: نقد العقل الخالص، أي نقد العقل الميتافيزيقي في الواقع. وهو العقل المتوهم بأنه قادر على فهم كل شيء بما في ذلك العالم الآخر. هذا الوهم الجبار هو الذي حطمه كانط في كتابه الشهير.
وقال للبشر: اهتموا بما تستطيعون فهمه والبرهنة عليه بشكل منطقي أو علمي واتركوا ما تبقى. لا تضيعوا وقتكم فيما لا طائل تحته. ولا تهيموا في متاهات الغيب والميتافيزيقا. يكفيكم أن تفهموا ظواهر هذا العالم المادي المحسوس. ويكفي العقل فخراً أنه اكتشف القوانين التي تمسك الكون على يد نيوتن، وبالأخص قانون الجاذبية الكونية. ولولا هذه الاكتشافات العلمية لما توصلنا إلى اختراع الآلات التكنولوجية الحديثة التي ساعدت الإنسان على تحقيق كل أمانيه في تذليل الطبيعة والسيطرة عليها. وبالتالي فالعقل البشري قادر على فعل أشياء كثيرة، بل وتأسيس حضارة كبيرة. وهو ما فعله في أوروبا على مدار القرون الأربعة الماضية. ولكن العقل لا يستطيع الإجابة على الأسئلة الميتافيزيقية الأساسية من نوع: ما الذي سيحصل بعد الموت؟ هل تفنى الروح مع الجسد أم لا؟ هنا تتوقف حدود العقل وتبتدئ حدود الإيمان. الدين وحده قادر على الإجابة على هذه الأسئلة.
وأما على السؤال الثاني: ما الذي ينبغي أن أفعله؟ فقد أجاب عليه كانط من خلال كتاب ضخم أيضاً هو: نقد العقل العملي. وفيه بلور الأخلاق بالمعنى الحديث للكلمة. وقال بما معناه: لا تفعل للآخرين الشيء الذي لا تحب أن يفعلوه لك. بمعنى آخر: هل هناك من شخص على وجه الأرض يحب أن يضربه الآخرون أو يسرقوه أو يقتلوه أو يعتدوا عليه أو يحتقروه؟ بالطبع لا. ولذا فلا ينبغي عليك أن تفعل هذه الأشياء البغيضة للآخرين. بمعنى آخر: افعل للآخرين ما تحب أن يفعلوه لنفسك. وعلى هذا النحو تنتظم أمور المجتمع ويصبح أخلاقياً، متقدماً، راقياً. وهذا ما تحقق لاحقاً في المجتمعات الأوروبية المتقدمة حيث أصبح الناس حضاريين يتعاملون مع بعضهم بعضا باحترام. ولم يعودوا يحلون خصوماتهم بالقوة العضلية أو بالضرب كما يفعل الناس البدائيون الهمجيون وإنما من خلال الاحتكام إلى الدولة وسلطة القانون.
وبالتالي فالمبادئ التي نص عليها كانط لم تبقَ حبراً على ورق وإنما تجسدت أمراً واقعاً وأصبحت بمثابة المبادئ شبه المقدسة التي يسير على هداها الشعب الألماني وبقية الشعوب الأوروبية المتطورة.. وهذا يعني أن فكره طُبق عملياً على أرض الواقع وساهم في تشكيل الحضارة الحديثة كلها. بهذا المعنى فإن كانط هو أستاذ الحضارة الأوروبية كلها بعد ديكارت وجان جاك روسو. وأما على السؤال الثالث: ما الذي يمكن أن آمله أو أرجوه في هذه الحياة؟ فقد أجاب عليه كانط من خلال كتابه الشهير: الدين ضمن حدود العقل فقط. وفيه ينتقد الأصولية المسيحية المتزمتة ويبلور الفهم العقلاني للدين، أي الفهم المناسب لمجتمعات الحداثة.
ويرى كانط أن التعصب الديني هو سبب الشرور والحروب المذهبية التي مزقت ألمانيا وعموم أوروبا من خلال حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). وقد جرت بين المذهبين الأساسيين، الكاثوليكي والبروتستانتي، وذهب ضحيتها ملايين الأشخاص من كلا الطرفين.
وبالتالي فينبغي التخلي عن المفهوم القديم والظلامي للدين وتبني مفهوم يندرج ضمن إطار العقل. وعندئذ تحصل المصالحة التاريخية بين العلم والإيمان، أو بين الفلسفة والدين. وقد ساهم كانط من خلال مؤلفاته في تحقيق هذه المصالحة الكبرى. نضيف بأن كانط كان مؤسساً للفلسفة المثالية الألمانية أي الفلسفة التي تؤمن بأهمية الأفكار والمثل العليا وأنها قادرة على تغيير الحياة وتحسينها نحو الأفضل. وبالتالي فكونوا مثاليين أيها الأصدقاء ولا تخافوا من المثالية. ولكن كونوا واقعيين أيضاً.
وكان يؤمن بقدرة العقل البشري على تحقيق المعجزات على هذه الأرض عن طريق العلم الفيزيائي والرياضي الذي نبغ فيه إسحاق نيوتن. وقد استفاد كثيراً من نظريات هذا العالم إلى درجة أن بعضهم قال: لولا نيوتن لما كان كانط! فنيوتن أعطاه الثقة بنفسه وبمقدرة العلم الحديث على حل ألغاز الكون وفهم أسراره. ينبغي العلم بأن كانط ولد وعاش في القرن الثامن عشر أي في عصر التنوير الكبير. وبالتالي فقد ساهم في تبديد غياهب الظلام المحيطة بالعقول. وحارب التعصب الديني وتأطير العقول بالقوة أو تدجينها. كما حارب الكسل العقلي والتواكل والاستسلام للمقدور. وقد عرَّف التنوير على النحو التالي:
إنه خروج الإنسان من مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد. وعرَّف القصور العقلي على أساس أنه التبعية للآخرين وعدم القدرة على تكوين التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار من دون استشارة الشخص الوصي علينا والذي يقف فوق رأسنا كالأب والشيخ والكاهن... إلخ. وهذا يعني أننا نظل في مرحلة الطفولة العقلية حتى بعد أن نصبح رجالاً كباراً.
ولذلك صرخ كانط قائلاً: استخدموا عقولكم أيها الناس! لتكن لكم الجرأة على استخدام عقولكم! فالله زودكم بالعقل لكي تستخدموه لا لكي تلغوه. لا تتواكلوا بعد اليوم ولا تستسلموا للكسل والمقدور والمكتوب. ولا تقبلوا شيئا قبل إخضاعه لمحكمة العقل والتمييز والغربلة والتمحيص.
ولكن كانط لم يفهم التنوير على أساس أنه مضاد للإيمان أو للاعتقاد الديني. وإنما قال عبارته الشهيرة: حيث تنتهي حدود العقل، تبتدئ حدود الإيمان. ولم يدعُ كانط الناس إلى تقديم الطاعة العمياء للقادة أو لرجال الدين كما حصل في بروسيا لاحقاً. وحارب التدجين الفكري أو التلقين الإجباري للفكر كما رأيناه. ولكن للأسف الشديد فإن ألمانيا خرجت على مبادئه أكثر من مرة وبخاصة إبان المرحلة النازية أو الهتلرية. فقد أصبح مبدأ الطاعة العمياء هو السائد. وأصبح الألماني ينفذ الأوامر حتى ولو كانت مضادة لقناعاته العميقة تطبيقاً لمبدأ نفذ ثم لا تعترض!
أما كانط فقد بنى كل فلسفته التربوية على المبدأ الأساسي التالي: ينبغي عدم اتخاذ الإنسان كوسيلة وإنما دائماً كغاية. بمعنى آخر: ينبغي عدم احتقار الكرامة الإنسانية لدى الشخص الآخر بأي شكل كان حتى ولو كان هذا الآخر خادمة بسيطة في المنزل.



المسكونون بشغف الأسئلة

ديفيد دويتش
ديفيد دويتش
TT
20

المسكونون بشغف الأسئلة

ديفيد دويتش
ديفيد دويتش

كتبتُ غير مرّة أنّني أعشق كتب السيرة الذاتية التي يكتبها شخوصٌ نعرف حجم تأثيرهم في العالم. السببُ واضحٌ وليس في إعادته ضيرٌ: السيرة الذاتية تتيحُ للكاتب أن يبوح بتفاصيل أو جزئيات ما كان متاحاً له البوحُ بها في غير سيرته الذاتية، وهذه التفاصيل أبعدُ من محض حياته العاطفية أو علاقاته مع الجنس الآخر أو مغامراته أو طيشه أو عنفوانه أو حتى جنونه.

أحْدَثُ كتابٍ في السيرة الذاتية قرأتُهُ كتبه الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل الذي يُنسبُ إليه ابتداعُ مفاهيم الليبرالية والحرية والنظم السياسية الحديثة، كما عضّد مفهوم المنفعة الذي ابتدعه جيريمي بنثام. هذه كلها ثورات هائلة في التفكير البشري، لكنّ المثير في السيرة الذاتية هو الإسهاب في عرض تفاصيل مسيرته التعليمية، وتلك خصيصة يتشارك بها معه كلّ من كتبوا سِيَرَهم الذاتية وهم أعلامٌ فلسفية أو علمية أو تقنية. ثمّة الكثيرُ من الخواص المشتركة بين هؤلاء، منها مثلاً: أنهم ذاتيو التعليم Self-Educated، والكثير منهم لم ينالوا تعليماً مدرسياً تقليدياً على الشاكلة التي نعرف، كما أنّهم نشأوا في بيئات أسرية تعلي شأن الانضباط والصرامة والجدية المفرطة والحساسية تجاه الزمن إلى الحدّ الذي جعل هؤلاء في أعمارهم المتقدّمة يرون أنّهم لم يعيشوا أطوار طفولتهم الأولى بطريقة طبيعية. هل ندموا على تلك الطفولة؟ ربما. يجب ألا ننسى أنّ كلّ شيء بثمن، وليس مِنْ منحة مجانية في هذه الحياة. هل كانوا سيصبحون سعداء لو عاشوا في كنف عائلات أقلّ انضباطاً؟ ربما. نحن في النهاية نميل لتقدير الحياة التي لم نَعِشْها أكثر من تلك التي عشناها، وتلك حكاية أخرى غير حكايتنا هذه.

غلاف «نسيج الواقع»
غلاف «نسيج الواقع»

تخبرُنا السير الذاتية لتلك الأسماء الذائعة أنّها تشاركت هوساً غير طبيعي في التفكّر بالأسئلة الوجودية الأولى، وأنّها سعت إلى بلوغ إجابات لها عن طريق التفكّر الذاتي وليس كجعبة معرفية جاهزة مثلما تفعل المدارس والجامعات. أولى تلك الأسئلة هي أسئلة البدايات: كيف بدأ الكون؟ وكيف بدأ الوعي؟ وكيف بدأت الحياة؟ هذه الأسئلة تستمرّ مع الحياة، ويعمل المرء المتفكّر حثيثاً لتعديلها تبعاً للمستحدثات المعرفية التي تحصل في حياته، لكنّه لن يقبل أبداً بالمعرفة الجاهزة. إنّه كمن يسعى للتنقيب في الأعماق سعياً لبلوغ نمط تفكير واضعي النظريات أو مبتدعي الفرضيات أو راسمي المقاربات التطوّرية. يبدو المرء من هؤلاء وكأنّه يتشارك تجربة من يقرأ له ولا يكتفي بالإمساك بالإجابات الناجزة.

في الفلسفة مثلاً يشرع المرء من هؤلاء منذ بواكير طفولته الأولى يتساءل: كيف لي أن أتيقّن من أنّ ما أراه أمامي وأحسّه بأعضاء حسّي هو ذاته ما يراه ويحسّه سواي من الذين يختبرون ذات الظروف التي أخضع لها؟ هذا التفكّر بشأن معضلة اليقين الوجودي هو بوّابة الولوج إلى التفكّر الفلسفي الحقيقي، ومن البديهي أنّ من يقرأ المصنّفات الفلسفية ابتداءً من أفلاطون وأرسطو وسائر الفلاسفة وهو مهجوس بهذا النمط من الأسئلة هو كائن يختلف جوهرياً عمّن يبتغي المعرفة المجرّدة. إنّه فرق جوهري بلا شك أن تكتفي بمعرفة التواريخ والشخوص والأمكنة والأزمنة. رجلٌ على شاكلة جون ستيوارت مل لن يقبل بهذا الدور غير الفعّال. يريد أن يكون جزءاً فاعلاً في صناعة تاريخه المعرفي.

خذ معضلة الوعي. هي الأخرى معضلة شديدة التعقيد لا تنفع معها مقاربةُ القراءة غير المهجوسة بدافعية الأسئلة الأولى. تبدأ معضلة الوعي بالاختمار في العقل الشغوف عندما يتساءل: من أين ينشأ الوعي؟ من الدماغ. وما هو الدماغ؟ أليس كتلة عضوية تتكوّن من الكاربون والفسفور و...؟ ما الذي يدعو تشكيلاً عضوياً متشكّلاً من ذرّات مشخّصة إلى امتلاك خاصية الوعي؟ عندما سيقرأ من يفكّرُ بمثل هذه الأسئلة لاحقاً في كتابات فلاسفة العقل والباحثين في العلوم العصبية ستكون قراءته مدفوعة ومحفّزة بشغف أسئلة الطفولة الأولى والأطوار الزمنية اللاحقة لها وليست محض واجب أكاديمي أو قراءة عابرة أو استزادة للخزين المعرفي.

ليست الأسئلة الأولى قرينة - بالضرورة - بالطفولة، بل هي في الغالب خصيصة عقلية ونفسية تتقدّم وتتطوّر مع ارتقاء صاحبها معرفياً وخبرةً في المعيش اليومي، كما أنّها لا تقتصر على أسئلة البدايات كما يحصل مع الطفولة. مسألة الدولار الأميركي مثلاً تصلح مثالاً ممتازاً. هل تساءلت يوماً: لماذا صار الدولار الأميركي عملة عالمية عقب اتفاقية (بريتون وودز) بعد الحرب العالمية الثانية؟ أو كيف نشأت فكرة النقود والعناصر المرتبطة بها من بنوك وقروض وتأمين ممّا يُشكّلُ التاريخ المالي للعالم؟ أؤكّدُ أنّ مَنْ يشرعُ في دراسة الاقتصاد بادئاً بأسئلة من هذا النوع سيتحصّلُ على معرفة بآليات عمل الاقتصاد العالمي أفضل بكثير ممّن يكتفي بقراءة الكلاسيكيات الاقتصادية العالمية. من يكتفي بهذه الكلاسيكيات ستجابهه معضلاتٌ سيعجز عن تفسيرها أو تسويغها بالرجوع إلى خزين قراءاته.

الأمثلة في العلم الحديث كثيرة، غير أنّني سأختارُ مثالاً متفرّداً هو ديفيد دويتش David Deutsch. يعرفُ عن هذا الفيزيائي الأكسفوردي أنّه من أوائل من تفكّروا في موضوع الحوسبة الكمومية Quantum Computing ووضع خوارزميات صالحة لها. يبدو الأمر عادياً؛ إذ إنّ كثيراً من العلماء والمهندسين يعملون اليوم في حقل الحوسبة الكمومية لكونها قرينة الذكاء الاصطناعي لجهة ثوريتها المفاهيمية ومفاعيلها التطبيقية. الأمر سيختلف تماماً لو قرأنا كتابيْن نشرهما دويتش: الأوّل عنوانه «نسيج الواقع» والثاني عنوانه «بداية اللانهاية»، والكتابان مترجمان إلى العربية. يرى دويتش أبعد من مشهد المفاهيم والتطبيقات المجرّدة. هو يطمحُ لبلوغ نظرية كلّ شيء في المعرفة، وكتب كثيراً كيف أنّ طموحه الخارق هذا ظلّ مدفوعاً بشغف الأسئلة الأولى التي تشكّلت في طفولته وشبابه. في كتابه الأوّل «نسيج الواقع» - الذي ارتأى المترجم العربي عبارة «نسيج الحقيقة» عنواناً له - يطمح دويتش إلى تأسيس نظرية في المعرفة تقوم على أربعة أعمدة: تفسير العوالم المتعدّدة المستمدّة من نظرية الكم، نظرية كارل بوبر في المعرفة، النظرية الاحتسابية الخاصة بِآلان تورنغ، نظرية التطوّر الدارويني الحديثة. في كتابه الثاني «بداية اللانهاية»، يتناولُ دويتش موضوع التنوير Enlightenment ابتداءً من القرن الثامن عشر، ويعلنُ عن رؤية مبشّرة بقرب بداية تفاعل تسلسلي لا نهائي محتمل من المعرفة الخلاقة. الكتاب بأكمله ذو نكهة فلسفية رائعة ويسعى لمقاربة سؤال جوهري: كيف ولماذا تطوّر الإبداع في البشر؟ أهمّ ما نتعلّمه من دويتش ونظرائه هو: الجرأة الفكرية في مقاربة الموضوعات وعدم الركون إلى المواضعات الجاهزة أو الشعور بالتثاقل من وعورة المسعى الفكري غير المطروق من قبلُ، أمّا الدرس الثاني فهو أنّ القيمة الفلسفية للموضوعات المطروقة تبدو نتاجاً لسنوات طويلة من التفكّر الذي بدأ منذ سنوات الطفولة الأولى ولم يكن محض تطوّر تقني أو رغبة في الارتقاء الأكاديمي.

معظمُ البشر لا يريدون إقلاق عقولهم بشيطان الأسئلة الجوهرية أو المسكوت عنها سواء كان هذا في بواكير حياتهم أو في أطوارها اللاحقة. هم يريدون معرفةً على قدر ما يخدمهم ويوفّرُ لهم عملاً يعتاشون منه ويقضون بقية حياتهم في سكينة الهدوء ومنطقة الراحة Comfort Zone. ليس على هؤلاء مثلبة؛ فَهُمْ يعيشون بالكيفية التي يرتاحون لها. في مقابلهم هناك من لا يستطيع العيش سوى بإدامة التفكّر الحثيث في أسئلة تلحّ عليه بشأن موضوعات جوهرية وجودية أزلية أو مستجدّة. إنّها مسألة تكوين ذهني وأنماط نفسية تختلف كثيراً بين البشر.

أفكّرُ أحياناً لو أنّ بشراً من طراز جون ستيوارت مل وُجِدوا في عصرنا هذا حيث التفجّر المعلوماتي والبيانات الكبيرة ووسائل المعرفة متاحةٌ مجاناً لمن يشاء، ما الذي كانوا سيفعلونه؟ هل كان شغفهم سيتعاظم بطريقة لا نهائية أم كان سيخفت لأنّ ما يصبح سهل المنال يفقدُ خاصية الجذب السحرية الكامنة في كلّ أمر نادر وغير متاح بالمجان. لستُ أعرف على وجه الدقّة جواباً لهذا السؤال؛ لكنّ أمراً واحداً أجدُني متيقّنة غاية التيقُّن منه: الأسئلة الذاتية المستديمة تقود إلى معرفة جوهرية حقيقية متى ما تابعها سائلُها ولم يكتفِ بالوقوع في فخّ المعرفة (أو الإجابات) الجاهزة.