قراءة في تجديد الخطاب الديني وتفكيك الخطاب الأصولي

حتى لا تتكرر ظاهرة «داعش»

عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)
عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)
TT

قراءة في تجديد الخطاب الديني وتفكيك الخطاب الأصولي

عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)
عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)

مع الاندحار والهزائم اللوجيستية التي تعرض لها «داعش» في العراق وسوريا، بدا التنظيم كأنه إلى زوال مرة أخيرة وإلى الأبد، غير أن الحقيقة تخبرنا بأن المشهد على هذا النحو لا يتجاوز أمنية عقلية، ذلك أن «داعش»، ومن قبله «القاعدة»، كان ولا يزال فكرة، أي أن حاضنته الأساسية هي الأفكار، والروئ والكلمات، والسياقات الذهنية، والخطابات الدينية.
المعروف أن للأفكار أجنحة تطير بها، كما أنها لا تموت، ولهذا فإن إعلان الحرب على الإرهاب عبر الوسائل المسلحة، وبالقوة الخشنة فقط، أمر يشبه «هش الذباب بالمطرقة»، ولهذا يبقى السؤال عن أكثر الطرق فاعلية لمواجهة الخطاب الأصولي، وهل هناك على الأرض ما يجب السعي في طريقه قبل المواجهات الأمنية؟
الشاهد أن التطرف مرض فكري، والمتطرف مريض، مصاب بحالة من الغلوّ، تسربت إلى نفسه عبر وسائل عديدة منها ما هو ديني ومنها ما هو إعلامي، فيها العنصر الثقافي وفيها الجانبان الاجتماعي والاقتصادي دفعة واحدة. ولهذا يبقى القضاء على الإرهاب، وبالضرورة، في حاجة إلى صراع العقول والألسنة، وعبر تغيير الأنماط الذهنية التي سادت عالمنا العربي والإسلامي من جهة، وبقية العوالم والعواصم الغربية من جهة ثانية، سيما وأن هناك معطيات فكرية دينية غير إسلامية عرفت طريقها إلى أوروبا وأميركا، أفرزت أصوليات يمينية خطرها لا يقل عن خطر الجماعات والمنظمات التي وُلدت ونشأت في الشرق الأوسط، وفي أجواء إسلامية الهوية والهوى.
في قراءة أخيرة للخبير الكندي «أيلوي غان» نشرتها مجلة «ميلتري جورنال» الكندية، هناك حديث عن الخطاب الديني الأصولي الذي يأخذ وقتاً طويلاً، وفي غفلة من القائمين على الأمر، حكومةً أو مجتمعاً مدنياً، قبل أن يؤثر على الأفراد أو المجموعات كي يجذبهم إلى التطرف، والفرد المتطرف، حسب باحثي العلوم الإنسانية «هو الفرد الذي يستخدم الدين لإبعاد نفسه عن المجتمع، أو لاستبعاد الآخرين».
تبدأ مسيرة التطرف من عند الخطاب الديني الذي يدخل من الآذان ليبلغ القلب. وقبل بضعة عقود لم تكن هناك من وسيلة سوى المنابر التقليدية، سواء تمثلت في الهيئات والمؤسسات التعليمية أو المساجد، والقليل جداً من المطبوعات، حيث كانت الرقابة قادرة على فرض سيطرتها على المثلث المتقدم.
غير أن التحدي والتصدي للتطرف في زمن العولمة بات قضية صعبة، سيما مع انفجار وسائط التواصل الاجتماعي، تلك التي وصفناها غير مرة بأنها قادرة على أن تضع صيفاً أو شتاء.

«الأصولية» صناعة شبة يسيرة
باتت صناعة الأصولية في حاضرات أيامنا عملية شبة يسيرة، إذ سهّلت «الإنترنت» والفضائيات صعوبات التواصل الجغرافي، فأصبح من يمتلك موقعاً على الشبكة العنكبوتية، أو موضعاً أمام كاميرا في أقصى الأرض، قادراً وفاعلاً، بل ومؤثراً سلبياً أو إيجابياً على جماهير تبعد عنه آلاف الكيلومترات، وبهذا استطاع الخطاب الأصولي الجهادي العنيف اختراق والتحايل على أشكال المواجهة التقليدية، ما يدعو إلى التفكير الهادئ والمعمق في طرق وآليات جديدة لمكافحة طاعون القرن الحادي العشرين، أي العنف الفكري والأصولية الذهنية، التي تُنتج للعالم أبناء الإرهاب غير الشرعيين.
تشخيص ظاهرة التطرف والأصولية في حقيقة الحال يحتاج إلى كتب قائمة بذاتها، وكذا أنواع وأساليب العلاج والمواجهة. غير أن نقاطاً بعينها يمكن أن تساعدنا في الطريق، وفي المقدمة منها قضية تجديد الخطاب الديني، والتي كثر الحديث عنها في شرقنا الأوسط خلال العقدين الماضيين، وبنوع خاص منذ الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) من عام 2001 وبعد ما أطلق عليه «القاعدة»، «غزوتي واشنطن ونيويورك».
وللرد على الجماعات المتطرفة بدايةً، نشير إلى أن التجديد الذي نتحدث عنه لا يقترب من ثوابت الدين، سيما القسم الثابت من الأحكام الشرعية، التي لا تتغير ولا تتبدل، بينما المراد هو القسم الثاني المتغير الذي يبني على حسب تغير الزمان والمكان والشخص والحادثة، وهذا النوع من الأحكام المرجع فيه إلى الفقهاء في كل عصر ومصر، يجتهدون في اختيار ما يناسب حال الناس وظروفهم، وبيئتهم، مثلما فعل الإمام الشافعي عندما غيّر مذهبه القديم بالعراق إلى الجديد بمصر، بسبب تغيُّر أعراف الناس وعوائدهم، ولهذا يقول الشاعر: «والعرف في الشرع له اعتبار، لذا عليه الحكم قد يُدار».
على أن اللبنة الأولى في تقدير الكثيرين من علماء الاجتماع والنفس، عطفاً على الخبراء الأمنيين في ما خص مراجعة الخطاب الأصولي، تتصل بمؤسسات التنشئة وما يمكن أن نطلق عليه عملية «الضبط الاجتماعي»، فقد ولَّد الانفجار العشوائي للعملية التلقينية أجيالاً تراجعت كثيراً جداً عن إعمال العقل في النقل، وتوقفت عند تفسير النصوص منذ أزمنة غابرة، دون مواءمة أو ملاءمة للتنزيل مع الأزمنة المعاصرة.
الخطوة الأولى لإعادة الاعتبار لعملية المواجهة للخطاب الأصولي المتجمد تبدأ من عند النظام التعليمي؛ من دور الحضانة، وما يُعرف بـ«الكتاتيب»، ثم المدارس والجامعات، مروراً بالأندية والنقابات والتجمعات المهنية والجمعيات الأهلية.
والشاهد أن الرؤى الدينية تبقى شرقاً وغرباً المشكل الرئيس للقاعدة الثقافية، وعليه فإن أي خلل في تقديم تلك المنظومة حكماً سيصيب القيم المشتقة من الروحانيات الإيمانية ومن الفهم الواسع المرن للأديان في مقتل، ما يُنتِج لنا لاحقاً روايات يعتنقها البعض تنظر إلى المجتمعات المعاصرة على كونها فاسدة ومخترَقة من قبل تيارات تحمل عداءً تقليدياً للإسلام والمسلمين، بما في الأمر من هواجس وتزيد، وإن كانت هناك بالفعل صراعات ثقافية وفكرية طبيعية تدخل في باب «التدافع» الإنسان الطبيعي.
والثابت كذلك أن اختلال العملية التعليمية الدينية يقود إلى خطاب ديني قلق ومضطرب الملامح والمعالم، وبنوع خاص تجاه التراث الثقافي المتدفق من الماضي وقيمه، فبينما ينظر المجددون إلى أن الماضي لا ينبغي بالضرورة أن يكون كله نافعاً أو ضاراً، أيْ رفض حالة الأحادية الفكرية في الاختيار، تنزع التيارات الأصولية إلى تقديس الموروث دون مقدرة حقيقية على مساءلة الأيقونات، أو قدرة على الفرز والتمييز بين ما هو قديم يصلح لأن يكون عصرانياً، وجديد تمتد جذوره إلى ما هو خارج الأطر الثقافية المحلية والإقليمية ولا يخدم طرحاً إنسانياً أو تعايشاً إيجابياً، بل يولّد فتناً ويقود إلى كوارث مجتمعية.
يمكن القطع هنا بأن الأديان هي الركيزة الأولى لعناصر الهوية والثقافة المجتمعية، ومن هنا تتجلى أهمية أن يكون الخطاب الديني عاملاً فاعلاً في تماسك المجتمع واستقراره. وبناءً عليه فإنه لا مناص من أن تضطلع مؤسسات الضبط الاجتماعي والتي تبدأ من عند الأسرة ومنظومة التعليم وكذا منظومة الإعلام والثقافة بقضية إعادة ضبط هذا الخطاب.
في هذا الإطار الساعي لمحاربة الخطاب الأصولي، يحق لنا أن نتساءل عن الدور الخطير للمعلم، والواعظ، والإعلامي، المؤدلج بالآيديولوجيا الأصولية على اختلاف هوياتها، وعن حتمية التحقق من هويته الفكرية والحركية، وعلاقته بالمجاميع البشرية، تلاميذ وطلاباً ومريدين ومتابعين وراء الشاشات، فجميع هؤلاء يتلقون شفاهة ما يرسخ في عقولهم ولا يبرح أو يغادر أذهانهم إلى نهاية العمر، سيما أنه ليس لهم دالة من قريب أو بعيد على القراءة الواعية الناقدة، والقادرة على تخليص الثمين من الغث.
كارثة العقدين أو العقود الثلاثة الماضية لم تكن متصلة بكتاب أو موسوعة، حتى وإن كان ينتمي إلى الفكر المتشدد والمتعصب، وإنما وضحت من خلال قيادات تعليمية وإعلامية مخترَقة بالأصوليات القاتلة، وبأصوات إعلامية درجت على تقديم السم في العسل كما يقال، ما خرّج أجيالاً لا تعرف غير الاتِّباع ولا تجيد فنون الإبداع، وجماعات شعبوية بالملايين تمضي وراء «دعاة» يجيدون فنون «التجييش والحشد»، التي تجري عبر وسائل الإعلام المتلفزة، والتي يتعاملون معها بعواطفهم لا بعقولهم.
على أن هناك قضية موصولة بنوع خاص بما يمكن أن نطلق عليه «فقه النوازل أو المستجدات» تلك المتصلة بالخطاب الأصولي الواصل إلى الناس عبر وسائط التواصل الاجتماعي، تلك التي عرف «داعش» بنوع خاص تسخيرها لخدمة عملياته الإرهابية حول العالم. وعليه تبقى علامة الاستفهام الحصرية: كيف الطريق إلى التعاطي معها حتى نقطع حبل الوصل مع «داعش» جديد يُولد من رحم القديم؟
هنا وباختصار غير مخلٍّ يمكننا القول إنه إذا كان أصحاب الفكر الأصولي من مستخدمي تلك الوسائط الحديثة يحملون لأشياعهم وأتباعهم ديناً وفكراً، ثقافةً ومنهجاً للحياة، وإن كانت ثقافة موت لا حياة، تعبّر عن أفكارهم وشهوتهم للنار والدمار، فإن أضعف الإيمان أن يقابَل هذا الفكر بفكر، وأن تُقارَع الحجة بالحجة. وهنا يبقى على التربويين في عالمنا العربي دور كبير في مجال حماية الشباب وتربيتهم بطريقة حديثة تتوافق مع المستحدثات وكذا التحديات.
ولعله من نافلة القول: إن المطالبة بتجديد الخطاب الديني، دون تفكيك للخطاب الأصولي المتطرف، أمر يترك فجوات وثغرات واسعة، تجعل مجابهة الطروحات والشروحات الإرهابية أمراً لا فائدة منه ولا طائل من ورائه.
ارتبط الخطاب الأصولي عضوياً بظاهرة الإرهاب، وكلاهما خرج من أحشاء ثقافة كراهية الآخر، وهذه بدورها لم تكن نبتاً شيطانياً ظهر على حين غفلة، بل أسهمت عوامل عدة في تخليقها، وفي أولها وآخرها إشكالية الخطاب غير الإنساني وغير الحضاري الذي يحتكر الحق والصواب، وينصّب من نفسه حَكماً وقاضياً على سلوك الآخرين، أولئك الذين يمتلكون أبواب الجنة وربما مفاتيحها أيضاً.
هذا الخطاب، ومن أسف شديد، كائن وقائم في الكثير من التراث الفكري الذي يحتاج إلى مراجعة، ولا نغالي إنْ قلنا «غربلة»، ومراجعة جريئة وشاملة.
وإذا كان الحديد لا يفلّه إلا الحديد، فإن الخطاب الأصولي المتطرف ربما لا ينفع معه إلا خطاب إنساني إيجابي خلّاق، يعمل على نشر قيم التسامح والتعايش بين بني البشر، وبحيث تُعطى الفرصة الجيدة لإحياء خطاب القيم الحقيقية الحاكمة للعلاقات بين بني البشر، عبر الأخوة الإنسانية الجامعة لهم، دون أدني التفاتة أو اعتبار للفروقات الطبيعية في ما بينهم مثل اختلاف الدين أو العرق أو الثقافة أو اللغة.
أفضل مَن قدّم رؤية علمية للخطاب الأصولي مؤخراً كان البروفسور الفرنسي «برنار شوفييه» الأستاذ في معهد علم النفس المرضي في جامعة ليون الفرنسية، وذلك عبر صفحات كتابه المفيد للغاية «المتعصبون... جنون الإيمان».
وعنده أن هناك أجواء بعينها تخلق فرصاً تشجع على بروز جماعة أو جماعات من الساخطين المتعصبين والمتشددين، بقدر ما يمكن للمجتمعات من تضييق نوافذ تلك الفرص، بقدر المقدرة على الانتصار في مواجهة العنف والإرهاب، حتى وإن كان المتعصبون موجودين منذ عتمة الزمان.
ونلاحظ أن البروفسور الفرنسي يضع الوقاية قبل القمع، من منطلق الوقاية خير من العلاج، سيما وأن القمع من دون الوقاية يعزز التعصب لأنه يخلق في المقابل تعصباً أسوأ بكثير –كما بيّن لنا التاريخ– من حيث شراسته واتساعه، من العنف الذي كان ينبغي علينا القضاء عليه في البداية... على أنه تتبقى هناك ملاحظة أخيرة تتصل بحتمية وجود إرادة دولية لمحاربة الأصولية، إرادة صادقة، لا تتلاعب على الأصوليين واستخدامهم من ثمّ كخناجر في خواصر يراد بها أهداف سياسية، تخدم الاستراتيجيات الكبرى للأقطاب الدولية.
الخلاصة... التطرف لا يفيد، وأمام الخطاب الكاره للآخر لا بد من خطاب إيجابي بملامح ومعالم تعيد أنسنة الحياة البشرية.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.