رواية تمجد الأنوثة... وتقتل المؤلف

«أنثى غجرية» لرسول محمد رسول

رواية تمجد الأنوثة... وتقتل المؤلف
TT

رواية تمجد الأنوثة... وتقتل المؤلف

رواية تمجد الأنوثة... وتقتل المؤلف

صدرت عن «دار مِداد» بدبي رواية «أنثى غجرية» للكاتب والروائي العراقي رسول محمد رسول، وهي الرواية الثانية في رصيده السردي بعد سلسلة من الكتب الفكرية والنقدية التي أصدرها منذ أوائل التسعينات من القرن الماضي وحتى الآن. وبما أن رسول مشتغل في الحقل الفلسفي، فلا غرابة في أن يتسرب بعض المصطلحات الفكرية إلى نصه السردي مثل النسوية، والأنثوية، والوطن البيولوجي... وما إلى ذلك من أفكار فلسفية مركبّة نتقبّلها لأنها ترتدي حُلّة أدبية قشيبة.
تُعيدنا هذه الرواية إلى إشكالية «موت المؤلف» التي أثارها الناقد الفرنسي رولان بارت عام 1968 حين نفى أن يكون النص الأدبي صادراً عن المؤلف وإنما هو إعادة إنتاج لنصوص سابقة، ويكفي أن نقتبس جزءاً من المدخل الاستهلالي لـ«أسماء يوسُف»؛ الشخصية الرئيسية في الرواية، وهي تقول بثقة كبيرة: «أيها الراوي: توقّف عن الكلام، قل للروائيين أن يرحلوا بعيداً عني؛ ليرحلوا حتى عن غيري، قل لهم، وقبل إشهار موتهم، أن يبحثوا عن حرفة أخرى.. قل لهم بأنّ (أسماء يوسُف) أصبحت روايتها». وعلى الرغم من اختلافنا الجذري مع هذه الفكرة القديمة، فإننا نجد أنفسنا مضطرين للتعاطي معها ضمن سياق اللعبة السردية للمبنى الروائي الذي انحسر فيه دور الراوي العليم وأسند مهمته إلى «أسماء يوسُف»، بطلة النص بلا منازع، كما سمح، في الوقت ذاته، لشخصية روائي كويتي أهدى روايته الجديدة إليها لأن يتقصى أحداث الرواية التي بدأت تكتبها «أسماء» بوصفها بطلة النص، وراويته، وثيمته التي تتمحور على سيرتها الذاتية المُفجعة بعد أن فقدت الأهل والأصدقاء لتجد نفسها في أوطان بديلة مثل الأردن والمغرب والإمارات قبل أن تحزم حقائبها لتستقر في باريس؛ حلمها الوردي الذي كان يغازلها منذ سنوات دراستها الجامعية.
تتأرجح أحداث الرواية بين زمنين، هما المضارع المستمر، والماضي المُستعاد ذهنياً، وثمة فسحة بسيطة للتأمل المستقبلي الذي تتسلل إليه عبر أحلام اليقظة الخاطفة. لا يتأخر الراوي العليم في إحاطتنا علما بأن «أسماء» مُعاقة، وأن ذراعها اليمنى مشلولة الحركة، ولهذا فهي تراجع عيادة الأعصاب عسى أن تتغلب على هذه الإعاقة الوِلادية. لم تكن «أسماء» مجرد مُترجِمة من اللغة الفرنسية إلى العربية، وإنما قارئة للأدب بشكل عام، وقد حفّزتها قراءة كتب رولان بارت والشاعرة المغربية فاتحة مُرشيد على الكتابة شرط «ابتكار الذكريات» بطريقتها الخاصة، فالمرأة بحسب بارت «هي التي تعطي شكلاً للغياب، وهي التي تُتقن روايته» خصوصاً عندما تكتب عن وجودها بوصفها شخصية من ذوي الاحتياجات الخاصة، لكنها تقول: «سأتحداك يا عجزي، أنا ابنة التضحيات، ابنة المعجزات، سأفعل ذلك رغم ضعفي». يشتمل المتن السردي للرواية على لقاءين؛ الأول لقناة تلفزيونية أوروبية حديثة تُعنى بالنسوية والمرأة في حوض المتوسط، والثاني مع إحدى المجلات.
تكشف المقابلة التلفزيونية التي أجراها الصحافي الفرنسي «روني ألان» عن أبرز محاور السيرة الذاتية لـ«أسماء يوسف» منذ ولادتها وحتى الوقت الراهن الذي تتهيأ فيه للسفر إلى باريس والعمل بصفة باحثة لمصلحة القناة التلفزيونية التي أجرت معها الحوار وأُعجبت به أيّما إعجاب، وكان ذريعة تقنية لاسترجاع الماضي منذ ولادتها التي اقترنت بموت الأم البيولوجية نعيمة شيمعون نتيجة التلوّث الشامل الذي اجتاح مدينة البصرة إثر اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية وشيوع الولادات المشوّهة جسمياً وعقلياً.
وفي السياق ذاته، نتعرف على مُرضعتها وأمها الفيزيائية «طاهرة» التي علّمتها كيف تقف على قدمين ناعمتين وتمسك الأشياء بأصابع كفها اليسرى، أما «ميري شيمعون» فهي الأم الثقافية التي كانت تحثها على الاندماج في المجتمع والتفاعل معه بوصفها إنسانة غير مُعاقة، لكنها ستفقد الأم الثانية، وتُفجَع بموت أبيها الغامض الذي اقتيد لمعالجة جرحى الجيش العراقي المهزوم الذي انسحب من الكويت عام 1991 ودفنوه في مكان مجهول على مقربة من الحدود الكويتية. وحينما تموت أمها الثقافية تلوذ بعائلة صديقتها الجامعية زينب التي لم تتخلَ عنها حتى في أثناء سفرها إلى الأردن حيث رافقها الحاج مُراد إلى عمّان وعاد بعد أسبوع ليتركها منهمكة في السفر إلى المغرب؛ إذ تعرّفت على «آسيا» التي تعمل في السفارة المغربية في عمّان وأعطتها عنوان شقيقتها «جميلة» التي تعمل في ملهى ليلي وسوف تبذل هذه الأخيرة قصارى جهدها لتجد لها مُهرِّباً يوصلها إلى الشواطئ الإسبانية، لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن؛ حيث يغتصبها المهرِّب في عرض البحر، لكنها تدفعه من الزورق وتضربه بالمجداف 3 ضربات قوية على رأسه فيغوص في القاع بينما تأخذها الأمواج المتلاطمة إلى الشاطئ، حيث تحرق الزورق وتعود إلى صديقها «جميلة» التي تعرِّفها إلى «منال» الآتية من «أبوظبي» وسوف تجد لها هذه الأخيرة عملاً في مكتب للترجمة يضمن لها تأمين متطلبات السكن والعيش الكريم في بلد عربي مزدهر.
يُعدّ العنوان مفتاحاً للنص الروائي، وفي هذه المقابلة نتعرف على الفرق الكبير بين الأنثى والمرأة، فالأولى لها رؤية ثقافية وحضارية ووجودية للحياة، بينما تفتقر الثانية إلى هذه الرؤية. أما الغجرية فهي بعيدة تماماً عن المعنى السلبي الراسخ في الذاكرة الجمعية للناس، وقد انتقى منها المؤلف مفهوم التنقل والترحال من الوطن البيولوجي إلى الأوطان البديلة، ولهذا تقول الراوية وبطلة النص: «يصح أن تصفني بأنني أنثى بدوية أو غجرية لكوني في ارتحال مُستمر كغيري من إناث هذا الذي نسمّيه وطناً محلياً عربياً». وقد حاول المؤلف تعميم هذه الظاهرة المحلية التي تخص العراق وجعلها ظاهرة عربية تخص الشام وبلدان المغرب العربي.
يمكن اعتبار «أنثى غجرية» رواية ثقافية بامتياز، تقوم على التسامح بين الأديان، فلا فرق بين مسلم ومسيحي ويهودي، ويكفي أن أسماء يوسُف المسيحية قد لاذت بعائلة مسلمة وعاشت مع صديقتها زينب حتى تخرجت في الجامعة، وشاءت الظروف أن تلجأ إلى جميلة أزولاي التي تبيّن أنها يهودية وتحب أغاني المطربة العراقية سليمة مراد، وسوف تحتضنها منال الأمازيغية لتجد لها عملاً في مكتب للترجمة في أبوظبي وتحقق من خلاله الشهرة وبعض العلاقات الاجتماعية التي تخفِّف عنها وطأة الشعور بالوحدة بعد موت أبيها. ولأنها تعمّدت إماتة المؤلف والرواة فقد أخذت على عاتقها كتابة الرواية من خلال الرسائل الموجهة لأبيها وأمهاتها الثلاث؛ البيولوجية والفيزيائية والثقافية، من دون أن نهمل تخيلاتها، وشطحاتها، وأحلام يقظتها التي قالت فيها كل شيء تقريباً.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟