هل يستطيع «داعش» تهديد المونديال الروسي؟

جبهة أصولية جديدة في آسيا الشرقية

دعاية داعشية موجهة ضد المونديال الروسي («الشرق الأوسط»)
دعاية داعشية موجهة ضد المونديال الروسي («الشرق الأوسط»)
TT

هل يستطيع «داعش» تهديد المونديال الروسي؟

دعاية داعشية موجهة ضد المونديال الروسي («الشرق الأوسط»)
دعاية داعشية موجهة ضد المونديال الروسي («الشرق الأوسط»)

من المؤكد أن فصول المسرحية الإرهابية «داعش وأعوانه» لم تنته، ولا يبدو في الأفق أنها سوف تسدل الستار عن فصلها الأخير عما قريب، ذلك أنه كلما انتهى أحد مشاهدها الطوال، طفا على السطح مشهد آخر أطول وأخطر، وكأنها نوع من الكائنات الطفيلية، تلك القادرة على تغيير شكلها ونوعها بها يلائم البيئة الجديدة التي تعيش فيها.
آخر فصول «داعش» تتصل بالمونديال الكروي المقرر إقامته في شهر يونيو (حزيران) المقبل في روسيا، حيث كل الشواهد تشير إلى أن التنظيم ينتوي بالفعل القيام بعمليات إرهابية على الأرض هناك، الأمر الذي يستدعي أسئلة كثيرة عن جدية تلك التهديدات، والأسباب التي تدفع الدواعش لنقل معركتهم إلى الأراضي الروسية، عطفاً على حتمية النظر إلى الماضي القريب، وهل كان للدواعش بالفعل يد ما في حوادث إرهابية شهدتها روسيا أو بعض الجمهوريات القريبة منها، والكثير من الأسئلة المشابهة.
آخر صيحات وإنذارات «داعش» فيما يخص كأس العالم الذي سينطلق في 14 يونيو (حزيران) المقبل، ويستمر حتى 15 يوليو (تموز)، في نحو 11 مدينة روسية، كان عبارة عن ملصق للمجموعة الإرهابية الداعشية يحمل تهديداً مباشراً للرئيس فلاديمير بوتين بأنه «سيدفع ثمن قتل المسلمين».
الملصق يبين مسلحا داعشياً، في وسط انفجار كبير حاملاً سلاحاً آلياً من نوعية «الكلاشنيكوف»، في ساحة كرة قدم مكتظة في الخلفية، بينما يظهر بوتين على يسار الصورة، مع هدف أسود وبرتقالي يستهدفه مباشرة، ووسط الملصق مكتوب بخط عريض: «روسيا 2018... بوتين أنت كافر... ستدفع ثمن قتل المسلمين».
يعن لنا التساؤل لماذا بوتين على نحو خاص يوجه له هذا التهديد، وهل هو التهديد الأول من نوعه؟
يمكن القطع بأن «داعش» ينظر لبوتين بوصفه العدو الأكبر له، فقد كان تدخله في المواجهة المسلحة الدائرة على الأراضي السورية مع أفراده عاملاً حاسماً ومؤثراً في اختلال ميزان القوى لصالح الأسد، كما أن الأسلحة الروسية المتقدمة التي استخدمت هناك سببت خسائر بالغة في صفوف الدواعش، مقارنة بخسائر أخرى أحدثتها قوات أخرى مثل القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، عطفاً على قوات الأسد، مما أوقع بالدواعش خسائر بشرية ولوجيستية هائلة، فهل يكون الانتقام في روسيا صيف 2018؟
لم يكن الملصق الأخير هو أول تهديد من الدواعش لروسيا، عبر سلسلة المنشورات التي أطلقتها ولا تزال مؤسسة «الوفاء» الإعلامية، ذراع «داعش» الإعلامية، ففي شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي استطاع الدواعش تسخير صورة للنجم الأرجنتيني ولاعب فريق برشلونة «ليونيل ميسي» للترويج لدعاية دموية ضد روسيا، فقد ظهر اللاعب الشهير في بوستر وكأنه سجين خلف القضبان ويبكي دماً، ومرفق بالملصق عبارة ذات دلالات آيديولوجية خطيرة ومثيرة تقول: «الإرهاب العادل... إنكم تقاتلون دولة لا تعرف الخسارة في ميزانها».
ملصق آخر ظهر في التوقيت نفسه ومكتوب باللغتين الروسية والعربية يقول: «انتظرونا»، وفيه مسلح يطل على ملعب المونديال في موسكو، وهو يقرأ عبارة «انتظروا».
وقد يتساءل البعض أليست روسيا وما حولها من جمهوريات سوفياتية سابقة متاحة للدواعش من قبل ومن بعد المونديال حتى يركزوا جهودهم على تلك المناسبة العالمية الكبرى، حيث الضحايا المحتملون من كل شعوب العالم وليسوا من الروس فحسب؟
هناك في واقع الأمر أكثر من جواب، فالبعض يرى أن نجاح الدواعش في تنفيذ تهديداتهم سوف يعطي دفعة دعائية هائلة للتنظيم ومقاتليه، ويعزز من الحضور الإعلامي للجماعة التي انحسرت الأضواء عنها بعد هزيمتها في الأراضي التي سيطرت عليها سواء كان ذلك في العراق أو سوريا.
أحد التقارير الغربية الصادر عن مؤسسة «آي إتش إس» البريطانية للتحليلات، يذهب أيضاً إلى أن مشاركة منتخبي السعودية وإيران في البطولة المقبلة، قد يعطي حافزاً أكبر للتنظيم لاستهداف روسيا.
وربما فات القائمين على المؤسسة البريطانية أن مصر عضو مشارك في كأس العالم وهناك عشرات الآلاف من المصريين الذين سيذهبون لدعم فريقهم في المونديال، ومعروف أن مصر تعيش معركة شديدة الوقع مع الجماعات الإرهابية المختلفة أسماؤها وأشكالها على أرض سيناء، وفي الأيام القليلة الماضية استطاعت قوات الجيش والشرطة في مصر القضاء على الرجل الثاني في تلك المجموعات «ناصر أبو زقوم»، مما يجعل محاولة الانتقام من مصر والمصريين عبر كأس العالم، أمراً واجب الوجود كما يقول الفلاسفة بالنسبة لـ«داعش».
ولعل المتابع المحقق والمدقق للعلاقة بين روسيا والدواعش يدرك أن هناك عمليات إرهابية عدة تبناها التنظيم في روسيا خلال السنوات الماضية وكان آخرها في شهر فبراير (شباط) الماضي، حين تبنى التنظيم الهجوم الذي استهدف كنيسة في داغستان الواقعة جنوب روسيا وأدى إلى مقتل خمسة أشخاص.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2017 أعلن التنظيم عينه مسؤوليته عن الهجوم الذي وقع في مركز تجاري في مدينة سان بطرسبرج بروسيا، وأسفر عن إصابة ثلاثة عشر متسوقاً، والعهدة على وكالة أنباء أعماق الناطقة باسم «داعش».
قبلها بنحو 4 أشهر، أي في أغسطس (آب) كان «الدواعش» يتحملون مسؤولية عملية طعن حدثت في «سورجوت» الروسية، حين قام أحد عناصر «داعش» بمهاجمة المارة بسلاح أبيض، مما أدى إلى إصابة 8 أشخاص، قبل أن تتمكن الشرطة من قتله.
ولعل المزعج للجهات الأمنية الروسية هو المستوى العالي من الرصد والمتابعة الذي يتمتع به أفراد التنظيم على الأراضي الروسية، مما مكنهم على سبيل المثال من القيام بعملية نوعية خطيرة في أبريل (نيسان) من العام الماضي، وذلك حين نجحوا في الاعتداء على مقر للاستخبارات الروسية في مدينة «خابروفك» الروسية شرقاً، مما أدى إلى مقتل شخصين.
قبل ذلك طالت يد «داعش» قاعدة روسية في الشيشان، جرى ذلك في مارس (آذار)، مما أسفر عن مقتل ستة أفراد من صفوف قوات الأمن الروسية، بحسب مركز «سايت» الأميركي والمتخصص في رصد ومتابعة التنظيمات الإرهابية حول العالم.
ويبدو أن «داعش» ومنذ عام 2015 وهو يضع روسيا في مقدمة أهدافه، ففي ديسمبر من ذلك العام أعلن التنظيم عن مسؤوليته بشأن الهجوم الذي استهدف مجموعة من الأشخاص كانوا يزورون قلعة تاريخية في منطقة داجستان بجنوب روسيا، وما بين 2015 و2017، شهر أغسطس 2016 هجوماً داعشياً على موقع للشرطة الروسية قرب موسكو، أسفر عن إصابة شرطيين، بعد أن هاجم رجلان دورية للداخلية الروسية على بعد 20 كيلومتراً شمال شرقي موسكو.
الثابت وفي ظل الحقيقة المتقدمة هو أن المونديال قد يكون بالفعل في خطر، والأمن الروسي بأجهزته المختلفة يأخذ تهديدات الدواعش على محمل الجد، هذا ما حدث منذ بضعة أيام عندما أعلن جهاز الأمن الفيدرالي الروسي القبض على خلية نشطة من مؤيدي الدواعش، كانت تخطط لارتكاب أعمال إرهابية على أراضي منطقة «روستوف» باستخدام الأسلحة النارية والمتفجرات، التي ضبطت جاهزة ومعدة بالفعل للاستخدام، بالإضافة إلى وسائل اتصالات ووسائط رقمية تحتوي على مواد دعائية لصالح الأنشطة الإرهابية لـ«داعش»، والمثير أن التعليمات التي وردت لتلك الخلية قد جاءت من أميرهم الموجود على الأراضي السورية، فيما تم إلقاء القبض على ثلاثة من أعضاء تلك الخلية، وهؤلاء بالضرورة سوف يعتبرون كنزاً معلوماتياً في توقيت حساس وكبير الفاعلية للأجهزة الاستخباراتية والشرطية الروسية.
وفي كل الأحوال يبقى الخطر الداعشي بالنسبة لروسيا بالفعل قائماً، فلم تكن خلية الأيام الماضية هي الوحيدة من نوعها، ففي 13 و14 ديسمبر الماضي اعتقل جهاز الأمن الروسي 7 أعضاء في خلية تابعة لتنظيم داعش، كانت تخطط لتنفيذ هجمات في أماكن عامة بحسب بيان وكالة «إنترفاكس» للأنباء التي أشارت إلى أنه القي القبض على أعضاء الخلية في مدينة سان بطرسبرج التاريخية الروسية.
ولعل سياق اكتشاف مثل هذه الخلايا «الداعشية» في الداخل الروسي يلقى بالأضواء على محاولات انتقام التنظيم من الدولة التي شكلت ودربت واحداً من أخطر المجموعات المسلحة، والتي أذاقت الدواعش على الأرض في سوريا المرار والعذاب، ونحن نتحدث عما عرف باسم «صائدو الدواعش»، تلك الفرقة التي دربتها وجهزتها ومولتها روسياً، وفتحت أبواب التطوع فيها بأجور تفوق عشرات الأضعاف مما تحصل عليه عناصر قوات نظام الأسد، وقد اعتبرت رديفا لقواته، وبدأت عملها فعلياً في معركة استعادة تدمر فكان أول ظهور لها هناك.
هل من فرصة لإنقاذ المونديال من براثن «الدواعش»، والذين خططوا بلا شك منذ وقت طويل لملاقاة الروس وبقية شعوب العالم على الأراضي الروسية؟
يبدو أن واقع الحال مزعج إن لم يكن مخيفاً بالفعل، فقد حذر رئيس جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، رئيس لجنة مكافحة الإرهاب، ألكسندر بوتنيكوف» من أن الإرهابيين الدواعش سيسعون إلى استهداف المونديال، سيما بعد أن اتجه العائدون المهزومون منهم إلى الجمهوريات السوفياتية السابقة، بهدف اخترق روسيا واستهداف بطولة كأس العالم.
مسألة الأعداد تؤرق الروس بالفعل، فقد انضم إلى «داعش» نحو 4500 مواطن، أي تسعة أضعاف البريطانيين المنضمين للتنظيم، في حين أن هناك 20 ألف مواطن على الحدود الروسية يشتبه في تورطهم بمنظمات دينية و«جهادية» متطرفة.
ويبدو أن قضية أمن وآمان المونديال لم تعد تشغل بال الروس فقط، بل بقية الدول الأوروبية التي اعتراها القلق والخوف على مواطنيها الساعين للمشاركة في كأس العالم، ولهذا جاءت تصريحات وتحذيرات الاستخبارات الروسية قبل يوم واحد من سفر «بوريس جونسون» وزير الخارجية البريطاني إلى موسكو، للقاء نظيره الروسي سيرجي لافروف من أجل إجراء محادثات تتعلق بموضوعات عدة من بينها تأمين بطولة كأس العالم.
في هذا الإطار أيضاً تفيد وكالة «تاس» للأنباء الروسية بأن وزارة الداخلية ستحاول فرض مزيد من السيطرة على مدن كأس العالم، من خلال إنشاء وحدات شرطية جديدة تكون بجانب الشرطة العادية لتأمين جماهير الحدث الرياضي الأهم في 2018 وتعتبر أبرز مهام الشرطة السياحية القيام بدوريات في أماكن إقامة الجماهير الأجنبية خلال كأس العالم.
يبقى المشهد الأخير، وهو ذاك الذي تتداخل فيه التهديدات الإرهابية مع تصفية الحسابات السياسية، والأمر باختصار غير مخل يدور حول محاولة الدوائر الغربية وفق ما يرونه نفوذا روسيا متصاعدا حول العالم، وهناك من يذهب، ربما ضمن سياق نظرية المؤامرة إلى القول بأن بعض القوى الدولية التقليدية النافذة تريد الانتقام من بوتين، وفي المقدمة منها الأميركيون والبريطانيون، غير أنه من غير الممكن تصور الانتقام على جثث الآلاف من الأبرياء، وإن كانت هناك قصص مثيرة ومخيفة مشابهة في أضابير أجهزة الاستخبارات الدولية، وتنتظر إجابات تاريخية عليها. غير أنه وفي كل الأحوال يمكننا الإشارة إلى أن الدواعش باتوا يلعبون الآن خنجراً في الخاصرة الروسية، والتعبير لـ«أندريه نوفيكوف» رئيس مركز مكافحة الإرهاب التابع لرابطة الدول المستقلة، وعنده أنه بعد تفكيك معظم نواة (داعش) القتالية، انتشرت شظاياها في مناطق أخرى، أفغانستان وباكستان، على سبيل المثال، وهناك يتم تشكيل قاعدة جديدة».
التصريحات المتقدمة تثير هواجس عدة بشأن إعادة استخدام «داعش» تجاه روسيا، كما كانت طالبان في ثمانينات القرن الماضي ضد الاتحاد السوفياتي.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.