لبنان: «تفضيلي» الانتخابات يهشم التحالفات

«العونيون» ابتعدوا عن «القوات»... و«المستقبل» لاذ باصطفافات العهد

لبنان: «تفضيلي» الانتخابات يهشم التحالفات
TT

لبنان: «تفضيلي» الانتخابات يهشم التحالفات

لبنان: «تفضيلي» الانتخابات يهشم التحالفات

«تحالفات هجينة»، هو المصطلح الأكثر استخداماً في وصف خريطة التحالفات الانتخابية النيابية اللبنانية. وهي انتخابات جمعت الأضداد، وقرّبت بين المتخاصمين، وأبعدت الحلفاء، وفتحت فجوات بين الخطاب السياسي لبعض الأحزاب وخطاب مؤيديها. وهكذا، اتجهت إلى تكريس «المصلحة الانتخابية» وتقديمها على أي مبدأ آخر، حتى لو تحالف اليمين مع اليسار، والمجتمع المدني مع بعض مؤيدي السلطة، والأثرياء مع الأحزاب، بل حتى لو دافع المرشحون لتبرير تحالفاتهم مع خصوم سياسيين، باعتبار «المصلحة الانتخابية تقضي بذلك».
غير أن صدمة التحالفات، ليست إلا جزءاً يسيراً من تعقيدات المشهد الانتخابي الذي يبدأ من قانون الانتخاب - وهو قانون يعتمد للمرة الأولى في لبنان نظام الاقتراع النسبي - ولا ينتهي بالصراع في اللوائح المتحالفة نفسها على الأصوات التفضيلية التي يفرض القانون على المقترعين تسمية إحداها في اقتراع اللائحة. ويقول بعض خبراء، إن القانون «أوجد معادلة الصراع الداخلي»، وفي طليعة تداعياته أنه سيقلص أحجام الكتل النيابية الكبيرة، مثل كتلتي «تيار المستقبل» و«التيار الوطني الحر» (التيار العوني)، ويتيح المجال لكتل سياسية أخرى بأن تزيد مقاعدها، مثل «القوات اللبنانية»، كما يفتح المجال أمام قوى 8 آذار للاقتراب من تحصيل ثلث مقاعد البرلمان.
أما الأمر المؤكد، فهو أن هذه الانتخابات ستنتج مشهداً جديداً للاستقطاب السياسي، يلغي الاصطفافات السابقة التي شهدها لبنان منذ عام 2005؛ ذلك أن التسوية الرئاسية اللبنانية، ستنتج قطبين جديدين، أولهما تحالف «التيار الوطني الحر» و«تيار المستقبل» على ضوء التقارب الموضوعي بين الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس الحكومة سعد الحريري، في مقابل قطب آخر يمثله رئيس البرلمان نبيه برّي ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط.
تنهي الانتخابات النيابية اللبنانية التي انطلقت مرحلتها الأولى أمس (الجمعة) باقتراع المغتربين في 6 بلدان عربية، مراوحة سياسية بين الأقطاب اللبنانيين أنتجها البرلمان السابق في العام 2009. لم يولد قانون الانتخابات اللبناني، الذي توصل إليه الأفرقاء الشهر الماضي، إلا بعد انعقاد عشرات الجولات من اللقاءات، امتدت على مدى خمس سنوات، ودرست خلالها طروحات عدة أنتجت قانوناً يعتمد الاقتراع وفق النظام النسبي، وهو النظام الذي يعتمد لأول مرة في لبنان منذ إعلان دولة «لبنان الكبير» عام 1920. ويشكل إقرار القانون الجديد نقلة نوعية مهمة في مسيرة الحياة السياسية وتحولاً إلى النسبية بعد 91 سنة من أنظمة تقوم على الأكثرية، مع الإشارة إلى أن القانون الأكثري اعتمد منذ عام 1926. ويفرض القانون على المرشحين اختيار لائحة من اللوائح المطبوعة سلفاً، واختيار صوت تفضيلي واحد على أساس القضاء الذي ينتخب فيه، علماً بأن مجموع الأسماء التفضيلية التي حازها كل مرشح يحدد أسماء الفائزين في كلّ لائحة.
رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، اعتبر في رسالة وجهها إلى اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، عشية انطلاق المرحلة الأولى من الانتخابات النيابية في الدول العربية ودول الانتشار، أن «الانتخاب واجب وطني، وهو فعل وجود». وأردف، إنه «الطريق الوحيد للتغيير ضمن الديمقراطية»، معتبراً أن «الحرية مسؤولية، وكذلك الاختيار». وحث عون المواطنين على التحرّر من «وسائل الضغط والأغراء التي تفسد الضمائر»، وإلى رفض الاقتراع «لمن يدفع ويسخو بالمكرمات»؛ لأن «من يشتريكم يبيعكم، ومن يبيع المواطن ليس صعباً عليه أن يبيع الوطن».
عون، الذي التزم منذ وصوله للرئاسة بإجراء انتخابات نيابية جديدة، اعتبر أيضاً أن «صحة التمثيل وفعاليته... يؤمنهما القانون الانتخابي الجديد»، وقال إن «الصراع الذي نشأ بين أعضاء اللائحة الواحدة للحصول على الصوت التفضيلي لا يعود إلى القانون، لكن إلى المرشحين» نتيجة «نقص في التعاون بين أفراد اللائحة الواحدة».
- بيروت... والجنوب
بموجب القانون الجديد، قُسمت الدوائر الانتخابية إلى 15 دائرة. في العاصمة بيروت هناك دائرتان: «دائرة بيروت الأولى» (ذات الغالبية المسيحية في الجزء الشرقي من العاصمة) تضم أحياء المدوّر والرميل والصيفي والمرفأ والأشرفية. وينتخب أبناء بيروت في هذه الدائرة ثمانية نواب: ثلاثة نواب عن الأرمن الأرثوذكس، ونائب واحد عن كل من الأرمن الكاثوليك والموارنة والروم الكاثوليك والأقليات (السريان واللاتين والكلدان والأشوريون واليهود). أما «دائرة بيروت الثانية» ذات الغالبية المسلمة (في الجزء الغربي من العاصمة) فتضم أحياء المزرعة والمصيطبة، ورأس بيروت، وعين المريسة، وميناء الحصن، وزقاق البلاط، والباشورة، وخصّص لهذه الدائرة 11 نائباً، هم ستة نواب عن السنة، واثنان عن الشيعة، ونائب واحد عن كل من الدروز والروم الأرثوذكس والإنجيليين (البروتستانت).
وقُسم الجنوب إلى 3 دوائر انتخابية: أولها دائرة «الجنوب الأولى» التي تضم قضاءي صيدا وجزين، وتتمثل بخمسة نواب: اثنان عن الموارنة، واثنان عن السنة، ونائب واحد عن الروم الكاثوليك، ودائرة «الجنوب الثانية» وتضم صور والزهراني (قرى قضاء صيدا) وتتمثل بسبعة نواب، ستة منهم عن الشيعة ونائب واحد عن الروم الكاثوليك، أما دائرة «الجنوب الثالثة» فتضم أقضية حاصبيا، ومرجعيون، وبنت جبيل، والنبطية، وتتمثل بـ11 نائباً، هم: ثمانية نواب عن الشيعة، ونائب واحد عن كل من الروم الأرثوذكس، والسنة، والدروز.
- كبرى المحافظات
محافظة جبل لبنان هي المحافظة الأكبر سكاناً في البلاد، وتضم ضواحي كبيرة في شرقي العاصمة بيروت، ولقد قُسمت إلى 4 دوائر انتخابية، هي: «جبل لبنان الأولى» التي تضم قضاءي كسروان وجبيل، وتتمثّل بثمانية نواب هم: سبعة نوّاب عن الموارنة، ونائب واحد عن الشيعة. و«جبل لبنان الثانية» التي تضم قضاء المتن الشمالي، وتتمثل بثمانية نوّاب، هم: أربعة نواب عن الموارنة، ونائبان عن الروم الأرثوذكس، ونائب واحد عن كل من الروم الكاثوليك، والأرمن الأرثوذكس. و«دائرة جبل لبنان الثالثة» التي تضم قضاء بعبدا (المتن الجنوبي أو المتن الأعلى)، وتتمثل بستة نواب، هم: ثلاثة عن الموارنة، واثنان عن الشيعة، ونائب واحد عن الدروز. وأخيراً «دائرة جبل لبنان الرابعة» التي تضم قضاءي عاليه والشوف، وتتمثل بـ13 نائباً، هم: خمسة عن الموارنة، وأربعة عن الدروز، واثنان عن السنة، وواحد عن كل من الروم الكاثوليك، والروم الأرثوذكس.
- الشمال... والبقاع
الشمال اللبناني، بشمال غربي لبنان قُسم إلى 3 دوائر انتخابية، هي: «دائرة الشمال الأولى» التي تضم محافظة عكار بأقصى الشمال، وتتمثل هذه الدائرة بسبعة نواب، هم: ثلاثة نواب عن السنة، ونائبان عن الروم الأرثوذكس، ونائب واحد عن كل من الموارنة والعلويين. و«دائرة الشمال الثانية»، التي تضم طرابلس والمنية والضنّيّة، وتتمثّل بـ11 نائباً، هم: ثمانية عن السنة ونائب واحد عن كل من العلويين والموارنة والروم الأرثوذكس. و«دائرة الشمال الثالثة» التي تضم أقضية البترون، وبشرّي، والكورة، وزغرتا، وتتمثّل بعشرة نوّاب، هم سبعة عن الموارنة، وثلاثة عن الروم الأرثوذكس.
وأخيراً، قُسمت محافظة البقاع – وهي الأكبر مساحة في البلاد، والتي تغطي معظم شرق لبنان – إلى 3 دوائر، هي: «دائرة البقاع الأولى» (بشمال المحافظة) التي تضم قضاءي بعلبك والهرمل، وهي تتمثل بعشرة نواب، هم: ستة نواب عن الشيعة، ونائبان عن السنة، ونائب واحد عن كل من الموارنة والروم الكاثوليك. و«دائرة البقاع الثانية» التي تضم قضاء زحلة، وتتمثل بسبعة نواب هم: نائبان من الروم الكاثوليك، ونائب واحد عن كل من الشيعة والسنة، والموارنة، والروم الأرثوذكس، والأرمن الأرثوذكس. و«دائرة البقاع الثالثة» التي تضم قضاءي البقاع الغربي وراشيا في جنوب البقاع، وتتمثّل بستة نواب، هم: نائبان عن السنة، ونائب واحد عن كل من الدروز، والشيعة، والروم الأرثوذكس، والموارنة.
- انتخابات المغتربين
لقد انطلقت المرحلة الأولى من الانتخابات النيابية أمس (الجمعة)، باقتراع المغتربين اللبنانيين في ست دول عربية، على أن يُستكمل انتخاب المغتربين في 34 دولة أخرى يوم غد (الأحد). وللعلم، يتيح قانون الانتخاب الحالي، للمرة الأولى، للناخبين اللبنانيين في بلاد الاغتراب، الاقتراع في الانتخابات النيابية. ووفق المعلومات الرسمية، تسجّل للمشاركة بالاقتراع 82970 ناخباً يتوزّعون على 40 بلداً في 6 قارات، خُصّص لهم 96 مركزاً تضم 232 قلم اقتراع. وسيشكّل المسجّلون في الخارج 2.22 في المائة من عدد الناخبين الإجمالي البالغ 3.744.245 ناخباً يحق لهم الانتخاب في دورة عام 2018.
عملية انتخاب المغتربين ترافقت بتحدٍ يتمثل بالشفافية، لكن وزير الداخلية نهاد المشنوق أقر بأن تأمين رؤساء الأقلام (المراك) إلى مختلف مناطق العالم: «غير ممكن الآن؛ لأن الداخلية ليس لديها القدرة على إرسال رؤساء الأقلام إلى مختلف مناطق العالم في هذه الفترة الزمنية القصيرة للإشراف على الانتخابات في الخارج».
ومن ثم، أعلنت الداخلية أنها اتخذت «إجراءات جدية بما يتعلق بمراقبة الاقتراع في الخارج لجهة تركيب كاميرات في مراكز الاقتراع»، وأنه «يوجد مندوبون عن هيئة الإشراف ووزارة الداخلية ووزارة الخارجية لمتابعة عملية الانتخاب في الخارج»، وسيكون «من المسموح لمندوبي اللوائح تواجدهم مثل الموجودين داخل قلم اقتراع في لبنان». كذلك، أشارت في وقت سابق إلى أنه سيصار إلى نقل صناديق الاقتراع بالشحن المضمون عبر «دي إتش إل»؛ تمهيداً لفرز الصناديق في بيروت.
هذا، وأحيطت انتخابات المغتربين بجدل واسع، على ضوء الاتهامات الموجّهة لوزير الخارجية جبران باسيل – رئيس «التيار الوطني الحر» وصهر الرئيس عون – بتسريب «داتا» المغتربين للتيار الذي يرأسه، وهو ما نفاه باسيل قائلا إن المعلومات «موجودة لدى كل الماكينات الانتخابية، وكل واحدة منا يملك جزءاً منها».
- عدد اللوائح يعكس حجم التنافس
على صعيد آخر، كان قد أقفل باب تسجيل لوائح المرشحين للانتخابات يوم 26 مارس (آذار) الماضي، ورسا العدد النهائي على 77 لائحة انتخابية، بحسب ما أعلنت المديرية العامة للشؤون السياسية واللاجئين في وزارة الداخلية والبلديات. وسجّل أكبر عدد من اللوائح في «دائرة بيروت الثانية»؛ إذ بلغ عددها 9 لوائح، وكان أقل عدد من اللوائح المسجلة في «دائرة الجنوب الثانية» (صور – الزهراني) وبلغ لائحتين فقط.
وفيما يلي عدد اللوائح، مع الإشارة إلى أنه لا يحق للمرشحين المنفردين خوض الانتخابات، كما لا يحق شطب أسماء من اللوائح، أما الحرية الوحيدة المتاحة فاستخدام صوت تفضيلي يعطى لمرشح واحد من اللائحة المختارة:
«دائرة بيروت الأولى» 5 لوائح
«دائرة بيروت الثانية» 9 لوائح
«دائرة الشمال الأولى» (عكار) 6 لوائح
«دائرة الشمال الثانية» (طرابلس - المنية - الضنّيّة) 8 لوائح
«دائرة الشمال الثالثة» (البترون - بشرّي - الكورة - زغرتا) 4 لوائح
«دائرة البقاع الأولى» (بعلبك - الهرمل) 5 لوائح
«دائرة البقاع الثانية (زحلة) 5 لوائح
«دائرة البقاع الثالثة» (البقاع الغربي - راشيا) 3 لوائح
«دائرة الجنوب الأولى» (صيدا - جزين) 4 لوائح
«دائرة الجنوب الثانية» (صور - الزهراني) لائحتان
«دائرة الجنوب الثالثة» (حاصبيا - مرجعيون - بنت جبيل - النبطية) 6 لوائح
«دائرة جبل لبنان الأولى» (كسروان - جبيل) 5 لوائح
«دائرة جبل لبنان الثانية» (المتن الشمالي) 5 لوائح
«دائرة جبل لبنان الثالثة» (بعبدا أو المتن الجنوبي-الأعلى) 4 لوائح
«دائرة جبل لبنان الرابعة» (الشوف - عاليه) 6 لوائح
وحملت هذه الأرقام مؤشرات على طبيعة المنافسة بين اللوائح الانتخابية؛ إذ تتراجع حظوظ منافسة لائحة «الثنائي الشيعي» في «الجنوب الثانية» (صور - الزهراني)، بينما تتصاعد شدة المنافسة في بيروت، حيث تتواجه الأحزاب، ولا سيما في بيروت الغربية ذات الثقل السنّي، كما تتواجه فيها قوى المجتمع المدني. ويتوقّع خبراء أن تكون المنافسة على أشدها في «الشمال الثانية» (طرابلس - المنية - الضنّيّة) أيضاً بثقلها السنّي و«الشمال الثالثة» (بشري - الكورة - البترون – زغرتا) ومعركتها مسيحية بالكامل، وأيضاً في «جبل لبنان الثانية» (كل المقاعد مسيحية) و«الجنوب الأولى» (صيدا وجزين)، حيث ينقسم الثقل بين صيدا السنّية وجزين المسيحية.
ثم هناك دوائر حساسة يتوقع أن يحدث التمثيل النسبي فيها خروقاً للوائح الكبرى، وأهمها: «جبل لبنان الرابعة» (الشوف - عاليه) ذات الرمزية الدرزية الكبرى، و«بيروت الثانية»، حيث يخوض رئيس الحكومة سعد الحريري معركة الزعامة السنّية، و«البقاع الأولى» (بعلبك - الهرمل)، حيث الخزان الشيعي الكبير. ويتوقع حدوث خروق أيضاً في دوائر أخرى جبلية وبقاعية وشمالية.
- 111 امرأة يخضن انتخابات التحالفات الهجينة
> أطلق الاتفاق على قانون انتخابات جديد في صيف 2017، صافرة الانطلاق لانتخابات جديدة، بدأت تداعياتها تظهر مطلع العام الحالي إثر المناقشات الحامية لتشكيل تحالفات انتخابية. فالتقديرات السابقة بأن «الثنائية المسيحية» التي أفضت إلى إيصال عون إلى رئاسة الجمهورية، وتتمثل في «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، خالفتها الوقائع بعد انفصال الحليفين انتخابياً، حيث لم يرصد أي تحالف بينهما، بينما وازن «المستقبل» في تحالفاته بين الطرفين؛ إذ تحالف مع «القوات» في الأطراف والمناطق النائية، ومع «العونيين» في المدن.
وعلى غرار «الوطني الحر»، لم يتحالف «المستقبل» مع شخصيات سنّية وازنة؛ إذ خاض الانتخابات في جميع المناطق السنّية بلوائح مكتملة، منافساً أقطاباً لهم حيثيات شعبية، وخصوصاً في طرابلس (إحدى أهم دوائر السنة مع بيروت الثانية)، بينما عوض عنها بتأييد من شخصيات لها حيثيات شعبية أيضاً مثل الوزير الأسبق محمد الصفدي، وسجل تحالفاً مع رئيس الحكومة السابق تمام سلام في بيروت. وبينما كان منتظراً أن تدخل «القوات» مع «المستقبل» في أوسع تحالف بعد فشل تحالف «العونيين» مع «القوات لم تفضِ الأمور إلى اتفاق. وإذ لم يسجل أي تحالف بين «تيار المستقبل» مع «الثنائي الشيعي» الذي يمثله «حزب الله» و«حركة أمل»، لم يسجل في المقابل أي تحالف بين «القوات» و«الثنائي الشيعي». وقالت مصادرها لـ«الشرق الأوسط» إنها في كل تحالفاتها أحجمت عن التحالف مع شخصيات تتموضع في قوى «8 آذار» أو قريبة من النظام السوري.
من جهة ثانية، جمعت الائتلافات الانتخابية في اللوائح، الأضداد في السياسة، في حين فرقت حلفاء اجتمعوا في دوائر محددة، وتفرقوا في أخرى. فغياب الكيمياء السياسية بين «التيار الوطني الحر» و«حركة أمل»، لم تمنع تحالفهما عبر «حزب الله» في دائرتي بعبدا (جبل لبنان الثالثة) و«بيروت الثانية». وخاض العونيون معركة ضد الحزب في بعلبك - الهرمل، وهي دائرة يعتبرها الحزب مصيرية، كما تحالف الحزب مع منافسي التيار في دائرة جبيل.
ورغم أن العونيين يخوضون المعركة مع «تيار المستقبل» في بيروت الأولى وفي زحلة والمتن، فهم يخوضونها ضده في صيدا، حيث تترشح النائب بهية الحريري، كما يتنافسان في دائرة عكار، حيث يتحالف «المستقبل» مع «القوات اللبنانية»، كما يتحالف الطرفان في بعلبك - الهرمل، وفي البقاع الغربي - راشيا.
وينظر إلى بعض التحالفات على أنها هجينة، وتخالف الخطاب السياسي الذي تنطلق منه بعض القوى، إذا ما تم النظر إلى تحالف «التيار الوطني الحر» مع «الجماعة الإسلامية» في صيدا مثلاً أو «جمعية المشاريع» في بيروت، وتحالف النائب بطرس حرب مع «الحزب السوري القومي الاجتماعي» في «الشمال الثالثة»، وتحالف مقربون من «تيار المستقبل» مع «الحزب الشيوعي» في «الجنوب الثالثة».
وفي حين ينظر البعض إلى أن التحالفات قضت على فرص التغيير، حيث قلصت التكتلات بين القوى السياسية التقليدية حظوظ الوجوه الجديدة من خارج الاصطفافات الحزبية - وتحديداً من المجتمع المدني - ينظر آخرون إلى أن النظام السياسي اللبناني القائم، يفرض تكتلات مشابهة تمنع التغيير «حفاظاً على التوازنات السياسية التي تخط طريقة الحكم». وهو النظام المعمول به منذ برلمان 1992. وعادة ما تنتج الانتخابات 4 أو 5 قوى أساسية، تتفق فيما بينها على تسيير ملفات، وتكون هناك قوى وسطية ترجح كفة فريق على آخر في حال الاختلاف، مثل كتلة «اللقاء الديمقراطي» بزعامة النائب وليد جنبلاط في السنوات التي تلت التوترات السياسية في 2005.
ومع خوض «حزب الله» معاركة لإيصال مرشحيه في بعلبك - الهرمل وزحلة وجبيل إلى الندوة البرلمانية، يشير الخبراء إلى أن القانون الانتخابي بصيغته النسبية يعود بالمنفعة على «الثنائي الشيعي» وحلفائهم في 8 آذار الذين يتوقع حجم كتلتهم إلى 40 نائباً في البرلمان. أيضاً، يتوقع البعض استفادة «القوات اللبنانية» أولاً و«التيار الوطني الحر» ثانياً، مقابل تراجع حصتي «المستقبل» و«اللقاء الديمقراطي - الحزب التقدمي الاشتراكي»، ويُرجّح وصول 58 نائباً مسيحياً من أصل 64 بأصوات مقترعين مسيحيين.
وأخيراً، أقفلت مهلة تقديم الترشيحات على 976 مرشحاً، بينهم 111 امرأة، وهذا رقم قياسي للمرشحين للانتخابات النيابية منذ الاستقلال؛ إذ إن آخر رقم قياسي كان في انتخابات عام 2009 وبلغ 702. وقبله، بلغ الرقم 484 مرشحاً في انتخابات عام 2005، و545 مرشحاً عام 2000، و599 مرشحاً عام 1996، و408 مرشحين عام 1992.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.