ملحمة جلجامش في الأدبيات الغربية

سبقت الإلياذة والأوديسة الإغريقيتين ورامايانا الهندية وشاهنامة الفارسية

جدارية عن ملحمة جلجامش
جدارية عن ملحمة جلجامش
TT

ملحمة جلجامش في الأدبيات الغربية

جدارية عن ملحمة جلجامش
جدارية عن ملحمة جلجامش

تعتبر ملحمة جلجامش السومرية أقدم ملحمة شعرية كتبها الإنسان، ومن أهم الأعمال الأدبية القديمة التي سبقت الملاحم الكبرى، كملحمة الإلياذة والأوديسة لهوميروس الإغريقية، أو رامايانا الهندية، أو شاهنامة الفارسية، وسواها. ويعود تاريخها إلى العهد الأكادي (نحو2800 قبل الميلاد). وقد تم اكتشافها في موقع أثري في نينوى، في العراق، في عام 1853، يعتقد أنه مكتبة الملك آشوربانيبال، من قبل عالمي الآثار أوستن هنري لايارد وهرمز رسام. وقد ترجم الملحمة إلى اللغة الإنجليزية البريطاني جورج سميث George Smith المختص بالآثار الآشورية في عام 1872 (توفي في حلب، في العقد الثالث من عمره، متأثراً بمرضه).
ومنذ ذلك التاريخ، لا تزال «ملحمة جلجامش» تثير اهتمام الباحثين والمؤرخين الأوروبيين والمختصين في الأدب القديم. وقد لقيت اهتماماً خاصاً في الغرب بشكل عام، ولا سيما في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا (تحتفظ بريطانيا بالألواح الطينية المكتشفة في متحف لندن).
وكحجر الرشيد، الذي أماط اللثام عن اللغة الهيروغليفية التي كشفت كل أدبيات وتاريخ الفراعنة، وكان الفضل فيها للفرنسي فرنسوا شامبليون، فإن الفضل الأكبر يعود للبريطاني جورج سميث، الذي كان يدرس اللغة الأكادية في المتحف البريطاني حتى بات بارعاً بها، فنذر عمره لترجمتها للإنجليزية، بعد اكتشافها على ألواح طينية كتبت بالحرف المسماري. وقد بهرت الباحثين بعد نشرها، وعكف كثيرون على تحليلها ودراستها، بل قام آخرون بترجمتها مرات عدة، من أهمها الترجمات المختلفة باللغة الألمانية.
وفي عام 1891، قام ألفريد جيرمواس بأول ترجمة لها بالألمانية، ثم توالت الترجمات الأخرى في الأعوام:
1934، و1966، و2000. لكن قد تكون أفضل ترجمة متكاملة هي تلك التي أنجزها ستيفن مول في عام 2005. وقد اهتم الألمان بها أكثر من غيرهم في أوروبا. وفي فرنسا، تم تأليف مجموعة من الأعمال حول الملحمة، بترجمة فرنسية مع الشرح التاريخي والتحليل الأدبي لها: في عام 1977، أصدر ريموند توني كتاب «ملحمة جلجامش»، ثم تلاه جان بولتيرو في عام 1992، بكتاب «الرجل الذي يرفض الموت». وفي عام 2009، تم إصدار آخر كتاب عن الملحمة، تحت عنوان: «ملحمة جلجامش كما يرويها بيير ماري بود).
أما بالإنجليزية، فقد ألفت فيها كتب كثيرة، نذكر منها: كتاب «ملحمة جلجامش» لداني جاكسون (1997)، وكتاب «الكتاب المدفون: فقدان وإعادة اكتشاف ملحمة جلجامش العظيمة»، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الكتب الأخرى في إيطاليا، وإسبانيا، وأميركا. لكن لم يقتصر الأمر فقط على إصدار الكتب، بل تم أيضاً اعتماد صيغ أخرى، ومنها إصدار مجلات مصورة (Bande déssinée) لتكون في متناول الجيل الجديد للتعرف على ثقافة وأساطير حضارات ما بين النهرين. وقام الرسام الألماني جينس هاردر بتصميم مجلة مصورة برسوم لشخصيات الملحمة ومدينة أورك، مقدماً الملحمة برسوم متخيلة لشخصياتها، مع سيناريو وحوار يجعل منها شريطاً مصوراً قريباً لفهم الأطفال والناشئين. وقد قامت الفرنسية ستيفيني لوك بترجمتها للفرنسية، فصدرت في ألبوم ضخم في بداية هذا العام، بطباعة أنيقة، لقي استحساناً كبيراً من قبل الناقدين ورواجاً تجارياً لافتاً.
ومن المعروف أن ملحمة جلجامش قد كتبت في عصر البطولة السومري، منذ بداية ملوك أوروك (2800) قبل الميلاد، وهم خمسة ملوك: مسكي كاشر، إينمر كار، لوجال بندا (والد جلجامش)، دوموزي، وجلجامش (2700 ق.م)، الذي ولد من أم آلهة (بيسون) ومن إنسان (الملك لوجال بندا). هؤلاء الملوك الخمسة يشكلون ملحمة البطولة السومرية - الأوروكية، ولكل ملك قصة بطولية وملحمة مؤلفة من مجموعة قصصية، وتبقى ملحمة جلجامش الأهم والأشهر، وهي ست قصص:
> جلجامش وأرض الأحياء
> جلجامش وثور السماء
> جلجامش وإنانا وشجرة الحلبو
> جلجامش وأنكيدو والعالم الأسفل
> موت جلجامش
والملحمة تقدم جلجامش كشخصية فريدة من نوعها كونه نصف إنسان من طرف والده، ونصف إله من طرف والدته، على عكس الملوك السومريين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أبناء الآلهة، ويتباهون بأنهم استمدوا الحكم والسلطات منهم، بينما تعتبر الأساطير السومرية أن الإنسان خلق من قبل الآلهة لكي يقوم بالأعمال الشاقة، ويخدمها ويكون عبداً لها، ولا يتمتع بالخلود الذي كان يبحث عنه جلجامش، الذي كان نصفه كإنسان، أي قابل للفناء، ونصفه كإله قابل للخلود. والإنسان بالنسبة للسومريين يتكون من عنصرين: الأول مادي، وهو الجسد الذي يتحول إلى تراب بعد الموت، ومن روح (جدم) التي تذهب بعد الموت إلى القبر وتنحدر إلى العالم السفلي إلى الأبد. جلجامش الذي كان يبحث عن الخلود بقوته الخارقة وانتصاره على أعدائه وبنصفه «الإلهي»، كان يرفض الموت بنصفه «الإنساني»، لكنه يتيقن في نهاية الأمر أن الخلود لا يمكن تحقيقه، بينما يمكن أن يخلد ذكراه في العمل الخارق.
وقد اختلف الباحثون في شخصية جلجامش، أهي شخصية حقيقية أم حقيقة متخيلة أسطورية تصورها الشاعر كاتب الملحمة التي كانت تقرأ على الناس في ساحة أورك، ويرجح معظمهم أنه كان شخصية حقيقية، وحكم في الفترة التاريخية (الأكادية) وارثاً الحكم عن أبيه. وهو الذي بنى سور أوروك، الذي اعتبر في حينه من الأعمال الكبرى للإنسان في حضارة ما بين النهرين، التي كانت بداية الحضارات الإنسانية، ومنها عرف الإنسان سن القوانين مع حمورابي، والفن المعماري في بابل، وبداية الأدب في ملاحم أدبية رائعة (منها ما لم يكتشف بعد، ولكنها ذكرت في كتابات مختلفة)، ومنها ملحمة جلجامش التي ستبقى حجر الأساس في الملاحم الشعرية الكبرى في التراث الإنساني.



مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.