أشرف غني.. خليفة كرزاي المحتمل

الخبير الاقتصادي الأفغاني يتحدر من كبرى قبائل البشتون ويعرف بين مناصريه بـ«العقل المفكر»

أشرف غني
أشرف غني
TT

أشرف غني.. خليفة كرزاي المحتمل

أشرف غني
أشرف غني

العملية السياسية في أفغانستان والتي تشكلت بعد رحيل نظام طالبان نهاية سنة 2001، عقب هجوم قوات التحالف الدولي على نظام الحركة المتشددة، دخلت مرحلة جديدة من فقدان الثقة بين الفرقاء السياسيين الأفغان الذين خاضوا حروبا تسببت في تدمير البنى التحتية للبلاد ونجمت عن مقتل مئات الآلاف من المدنيين ونزوح الملايين الآخرين إلى دول الجوار خاصة باكستان وإيران.
فالانتخابات الرئاسية، التي جرت أخيرا لم تسلم من انتقادات وتحديات كادت أن تعصف بها.. فبعد أن تصدر المشهد مرشحان للرئاسة هما عبد الله عبد الله وزير الخارجية السابق وأشرف غني أحمد زاي وزير المالية السابق، أعلن عبد الله عبد الله وهو أحد أقطاب تحالف شمال السابق المناهض لطالبان في تسعينات القرن الماضي بأنه لا يثق في اللجان الانتخابية واتهمها بالتزوير لصالح منافسه الوحيد أشرف غني. وعلق التعاون مع اللجان الانتخابية وسحب مراقبيه من عمليات الفرز بعد أن وجه اتهامات مباشرة لأمين اللجنة المستقلة للانتخابات ضياء الحق عمر خيل، الذي استقال يوم الاثنين الماضي، متهما إياه بالتزوير لمصلحة غني في جولة الإعادة.

على الرغم من أن نتائج جولة الإعادة لم تظهر بعد، فإن التسريبات الصحافية تتحدث بأن أشرف غني يتقدم على منافسه بأكثر من مليون صوت وهو ما يرجح فوزه في الجولة الثانية من الانتخابات الأفغانية المثيرة للجدل.
وأشرف غني الذي يتطلع إلى أن يكون الرئيس الثاني للبلاد بعد الرئيس الحالي حميد كرزاي، سياسي أفغاني وأكاديمي يعرف بين مناصريه بـ«مغز متفكر جهان»، ويعني العقل المفكر على المستوى العالمي. وينحدر من قبيلة بشتونية (مثل كرزاي) وهي قبيلة أحمدزاي كبرى قبائل البشتون القاطنة بمناطق الشرق الأفغاني. وتنتمي القبيلة إلى قبائل البدو الرحل حيث لا تستقر في مكان محدد وإنما تنتقل من محافظة أفغانية إلى أخرى وفقا لتطورات مناخية.
ولد أشرف غني أحمدزاي عام 1949 بولاية «لوجر» الواقعة جنوب شرقي العاصمة كابل، درس التعليم الابتدائي والثانوي في ثانوية «حبيبية» في كابل وهي الثانوية التي تخرج فيها معظم أبناء الطبقة الحاكمة وأثرياء العاصمة. وفي نهاية الستينات حصل على منحة دراسية ليلتحق بالجامعة الأميركية ببيروت. تخرج فيها عام 1973، وهناك تعرف على لبنانية وهي رولا سعادة مسيحية الديانة ولهما ولدان مريم وطارق، يعيشان في الولايات المتحدة حاليا. عاد أشرف غني إلى أفغانستان بعد إكمال دراسته الجامعية في لبنان عام 1977 ليلتحق بجامعة كابل العريقة آنذاك أستاذا للعلوم الإنسانية، ثم حصل على منحة حكومية للمرة الثانية هذه المرة إلى جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة في مجال علوم الإنسان ليكمل درجة الماجستير هناك. وعمل غني بعدد من الجامعات في أفغانستان والغرب، فقد انضم إلى هيئة التدريس في جامعة كابل، ثم جامعة آرهوس في الدنمارك عام 1977، وجامعة كاليفورنيا عام 1983، وجامعة جونز هوبكنز في الفترة بين عامي 1983-1991.
وحصل غني على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الثقافية من جامعة كولومبيا، وكانت أبحاثه الأكاديمية تتمحور حول بناء الدولة والتحول الاجتماعي. وفي سنة 1985 أكمل سنة من العمل الميداني والبحث في المدارس الدينية الباكستانية، كما درس أيضا مقارنة الأديان.
وبعد الإطاحة بحكومة طالبان برزت شخصية أشرف غني مجددا في الساحة الأفغانية كونه رجل اقتصاد، وعمل موظفا خبيرا في البنك الدولي، وكانت أفغانستان بأشد الحاجة إلى خبراته في الهيئات الأممية كونه عمل في مجال الارتقاء بمؤسسات الدول الفاشلة في القارة الأفريقية وآسيا ومجال التحول الاجتماعي في الدول النامية ودول ما بعد الحرب.
وكان باكورة الظهور العلني لأشرف غني في اجتماع «بن» بألمانيا عام 2002، الذي عقد بإشراف مباشر من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لوضع لبنة جديدة للنظام الحالي في أفغانستان ما بعد التخلص من نظام طالبان. وشغل في حكومة الرئيس الأفغاني حميد كرزاي الانتقالية منصب وزير المالية.
استطاع غني إقناع الدول المانحة بشأن احتياجات أفغانستان المالية العاجلة، وتمكن من جمع مليارات الدولارات صرفت في بناء مؤسسات حيوية ومؤسسات رسمية كالقوات الأمنية وتطوير الأرياف، كما تمكن من تأسيس نظام جديد للجمارك في منافذ أفغانستان المنتهية إلى الدول المجاورة والتي كانت تخضع لأمراء الحرب الذين كانوا يجمعون أموال التجار في الجمارك لمصلحتهم الشخصية.
وتعد شخصية أشرف غني صارمة في اتخاذ القرارات المهمة وهو رجل صريح لا يجامل السياسيين وزعماء القبائل على غرار باقي الشخصيات السياسية الأفغانية، لهذا السبب له أعداء كثر من بينهم أمراء الحرب الذين يبحثون دوما عن مصالح شخصية في الأزمات الأفغانية المتلاحقة.
ترشح أشرف غني لمنصب الرئاسة في الانتخابات الرئاسية عام 2009 ضمن قائمة طويلة من المرشحين لهذا المنصب كان أبرزهم الرئيس الحالي حميد كرزاي المنحدر من قبيلة بشتوية أيضا. ولم يحالفه الحظ في تلك الانتخابات فحل في المرتبة الرابعة بعد كرزاي وعبد الله وبشردوست، لكن الرجل ظل يتواصل مع القبائل والشخصيات السياسية وانخرط في العملية السياسية من جديد بزعامة كرزاي فعين رئيسا لجامعة كابل وتولى المنصب لمدة سنتين، كانت حافلة بالمشاكل العرقية. وخرجت مظاهرات طلابية تطالب بتنحيه، بعد أن قام بسلسلة تعديلات ووضع قوانين جديدة تخص الجامعة، لكن خصومه السياسيين اتهموه بالتعصب لقبيلته وأنه بصدد التخلص من الأساتذة الذين ينتمون إلى الطاجيك كما وضع قيودا تمنع استعمال مصطلحات تعليمية عدها الطلاب دخيلة على المجتمع الأفغاني وهي من اللهجة الفارسية لإيران، وكان المصطلح الذي أثار مشكلة أدت إلى تنحيه من منصب رئيس الجامعة هو كلمة «دانشغاه» وهو اسم يطلق على الجامعة في إيران فأمر غني بمنع استعمال هذا المصطلح وبات يروج لمصطلح «بوهنتون» وهو مصطلح مأخوذة من اللغة البشتونية يطلق على الجامعات مما أثار حفيظة الطاجيك الذين تظاهروا ضده وطالبوا بإقالته.
وبعد التنحي عن رئاسة الجامعة عينه الرئيس الأفغاني مسؤولا عن ملف الانتقال السياسي والأمني من القوات الأميركية والأطلسية إلى نظيرتها الأفغانية. وبدأ يتنقل من محافظة إلى أخرى وسط إجراءات أمنية مشددة ويلتقي بحكام الأقاليم ومسؤولين محليين للاطلاع على مدى قدراتهم واستعدادهم لتسلم الملف الأمني والسياسي من الأجانب، وبالفعل استطاع أن يخرج بنجاح من هذه المهمة التي اكتملت بنسبة تسعين في المائة تقريبا، وبات الأفغان يسيطرون على كامل المهمة الأمنية في جميع المناطق الأفغانية.
وانتقلت السلطة السياسية كاملة إلى الأفغان بعد ثلاثة عشر عاما.
يقول أشرف غني إنه استطاع أن يشخص مشاكل ومعاناة الأفغان خلال توليه مهمة الانتقال الأمني والسياسي من خلال تنقلاته وإنه يستطيع حل هذه المشاكل في حال توليه منصب رئاسة الجمهورية.
ترشح غني لمنصب الرئاسة في انتخابات عام 2014 إلى جانب أحد عشر مرشحا آخرين كان أبرزهم عبد الله عبد الله وزلماي رسول وزير الخارجية السابق المقرب إلى الرئيس حميد كرزاي وعبد رب الرسول سياف أحد زعماء المجاهدين السابقين.
ولم يتمكن أحد من المتنافسين على منصب الرئاسة إحراز النسبة المطلوبة في الجولة الأولى وهي خمسون وواحد حسب الدستور والقانون الانتخابي الجديد مما اضطر اللجنة الانتخابية إلى إعلان عقد جولة الإعادة بين اثنين من المتنافسين اللذين حصلا على أغلب الأصوات. وكان أشرف غني أحدهما، عقدت الجولة الثانية ورافقها كثير من المشاكل تتعلق بالتزوير والمخالفات ولا تزال نتائجها غير واضحة حتى الآن. غير أن المعلومات والتوقعات الأولية تشير إلى تقدم أشرف غني على منافسه بمليون صوت وهو ما يعني أنه الرئيس المقبل لأفغانستان بعد كرزاي الذي لا يحق له الترشح لولاية ثالثة. لكن الأصوات الاحتجاجية التي بدأت ترتفع من هنا وهناك خاصة من فريق عبد الله عبد لله بعدم شرعية الانتخابات بسبب التزوير الواسع يبدو واضحا أن طريق غني إلى القصر الجمهوري ليس مفروشا بالورود وأنه سيعاني كثيرا حتى الوصول إليه مثل باقي رؤساء أفغانستان.
يقول نثار أحمد فيضي، وهو أحد الشباب الذين يقودون حملة في شبكات التواصل الاجتماعي «فيسبوك» و«تويتر» إن أشرف غني هو أفضل وأنسب رجل لقيادة المرحلة الحالية من حياة أفغانستان السياسي خاصة أنها تتزامن مع مرحلة الانتقال وخروج القوات الدولية منها نهاية العام الحالي، مشيرا إلى أن غني رجل مثقف أكاديمي لم يتورط في الحروب الأهلية وعاش معظم سنوات عمره في خارج البلد يتعلم ويعلم، كما أن لديه خبرة واسعة في مجال الانتقال من حالة الفوضى إلى حالة الاستقرار والتحول الاجتماعي.
أما سلطان أحمد وهو صحافي أفغاني يناصر أشرف غني فيقول إنه رجل صريح ينفذ ما يعد به وإن أفغانستان بحاجة إلى خبراته في مجال مكافحة الفقر وتعزيز المؤسسات والبنى التحتية للدولة بينما لا يحمل منافسه هذه المواصفات، على حد تعبير أحمد.
اختار أشرف غني الجنرال الأزبكي المثير للجدل عبد الرشيد دوستم محليا ودوليا كمساعد أول في حال فوزه بمنصب الرئاسة وهو المتهم بقتل مئات من عناصر طالبان المعتقلين لديه في سجن قلعة جنكي بولاية بلخ بالشمال الأفغاني أثناء الحرب على طالبان، وهو ما أثار غضب قبائل البشتون الذين طالبوا بمحاكمة الجنرال، غير أن غني يقول إن دوستم طالب بالعفو واعترف بالخطأ وإنه قل من يفعل ذلك، مشيرا إلى أنه ممتن لهذه الجرأة السياسية التي أظهرها عبد الرشيد دوستم قبل خوض غمار الانتخابات الرئاسية.
وما يؤخد على أشرف غني هو أن بطاقته الانتخابية تكاد تكون خالية من الشخصيات الطاجيكية المؤثرة في الساحة وهو ما وجه إليه كثيرا من الانتقاد من عرقية الطاجيك بأن الرجل متعصب لقبيلته البشتونية. علاوة على ذلك فإن الرجل تعرض إلى أبشع أنواع التهم والإشاعات فاتهم بأنه شيوعي يسعى إلى إعادة الحكم الشيوعي في البلاد من قبل بعض أمراء الحرب وقادة المجاهدين السابقين واتهم بأن زوجته مسيحية ولم تعتنق الإسلام رغم أنه يؤكد أن زوجته اعتنقت الإسلام، وتداول الخصوم مقطع فيديو يظهر فيه غني يقول إنه يحترم إرادة زوجته اللبنانية، وإنه لم يجبرها على التخلي عن الديانة المسيحية، وإنه أثناء إقامته بأميركا كان يرافقها إلى الكنيسة، وفي حال فوزه بمنصب الرئاسة فإن أول مرة بتاريخ أفغانستان السياسي ستدخل امرأة لبنانية إلى القصر الجمهوري وهي ظاهرة فريدة وجديدة بالنسبة للأفغان.

* أشرف غني.. في سطور
* ولد أشرف غني أحمدزاي عام 1949 بولاية «لوجر» الواقعة جنوب شرقي العاصمة كابل، درس التعليم الابتدائي والثانوي في ثانوية «حبيبية» في كابل وهي الثانوية التي تخرج فيها معظم أبناء الطبقة الحاكمة وأثرياء العاصمة. في نهاية الستينات حصل على منحة دراسية ليلتحق بالجامعة الأميركية ببيروت تخرج فيها عام 1973، وهناك تعرف على زوجته اللبنانية «رولا سعادة» وهي مسيحية، ولهما ولدان مريم وطارق، يعيشان في الولايات المتحدة حاليا. حصل على منحة حكومية للمرة الثانية إلى جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة ونال فيها درجتي الماجستير والدكتوراه.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.