أشرف غني.. خليفة كرزاي المحتمل

الخبير الاقتصادي الأفغاني يتحدر من كبرى قبائل البشتون ويعرف بين مناصريه بـ«العقل المفكر»

أشرف غني
أشرف غني
TT

أشرف غني.. خليفة كرزاي المحتمل

أشرف غني
أشرف غني

العملية السياسية في أفغانستان والتي تشكلت بعد رحيل نظام طالبان نهاية سنة 2001، عقب هجوم قوات التحالف الدولي على نظام الحركة المتشددة، دخلت مرحلة جديدة من فقدان الثقة بين الفرقاء السياسيين الأفغان الذين خاضوا حروبا تسببت في تدمير البنى التحتية للبلاد ونجمت عن مقتل مئات الآلاف من المدنيين ونزوح الملايين الآخرين إلى دول الجوار خاصة باكستان وإيران.
فالانتخابات الرئاسية، التي جرت أخيرا لم تسلم من انتقادات وتحديات كادت أن تعصف بها.. فبعد أن تصدر المشهد مرشحان للرئاسة هما عبد الله عبد الله وزير الخارجية السابق وأشرف غني أحمد زاي وزير المالية السابق، أعلن عبد الله عبد الله وهو أحد أقطاب تحالف شمال السابق المناهض لطالبان في تسعينات القرن الماضي بأنه لا يثق في اللجان الانتخابية واتهمها بالتزوير لصالح منافسه الوحيد أشرف غني. وعلق التعاون مع اللجان الانتخابية وسحب مراقبيه من عمليات الفرز بعد أن وجه اتهامات مباشرة لأمين اللجنة المستقلة للانتخابات ضياء الحق عمر خيل، الذي استقال يوم الاثنين الماضي، متهما إياه بالتزوير لمصلحة غني في جولة الإعادة.

على الرغم من أن نتائج جولة الإعادة لم تظهر بعد، فإن التسريبات الصحافية تتحدث بأن أشرف غني يتقدم على منافسه بأكثر من مليون صوت وهو ما يرجح فوزه في الجولة الثانية من الانتخابات الأفغانية المثيرة للجدل.
وأشرف غني الذي يتطلع إلى أن يكون الرئيس الثاني للبلاد بعد الرئيس الحالي حميد كرزاي، سياسي أفغاني وأكاديمي يعرف بين مناصريه بـ«مغز متفكر جهان»، ويعني العقل المفكر على المستوى العالمي. وينحدر من قبيلة بشتونية (مثل كرزاي) وهي قبيلة أحمدزاي كبرى قبائل البشتون القاطنة بمناطق الشرق الأفغاني. وتنتمي القبيلة إلى قبائل البدو الرحل حيث لا تستقر في مكان محدد وإنما تنتقل من محافظة أفغانية إلى أخرى وفقا لتطورات مناخية.
ولد أشرف غني أحمدزاي عام 1949 بولاية «لوجر» الواقعة جنوب شرقي العاصمة كابل، درس التعليم الابتدائي والثانوي في ثانوية «حبيبية» في كابل وهي الثانوية التي تخرج فيها معظم أبناء الطبقة الحاكمة وأثرياء العاصمة. وفي نهاية الستينات حصل على منحة دراسية ليلتحق بالجامعة الأميركية ببيروت. تخرج فيها عام 1973، وهناك تعرف على لبنانية وهي رولا سعادة مسيحية الديانة ولهما ولدان مريم وطارق، يعيشان في الولايات المتحدة حاليا. عاد أشرف غني إلى أفغانستان بعد إكمال دراسته الجامعية في لبنان عام 1977 ليلتحق بجامعة كابل العريقة آنذاك أستاذا للعلوم الإنسانية، ثم حصل على منحة حكومية للمرة الثانية هذه المرة إلى جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة في مجال علوم الإنسان ليكمل درجة الماجستير هناك. وعمل غني بعدد من الجامعات في أفغانستان والغرب، فقد انضم إلى هيئة التدريس في جامعة كابل، ثم جامعة آرهوس في الدنمارك عام 1977، وجامعة كاليفورنيا عام 1983، وجامعة جونز هوبكنز في الفترة بين عامي 1983-1991.
وحصل غني على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الثقافية من جامعة كولومبيا، وكانت أبحاثه الأكاديمية تتمحور حول بناء الدولة والتحول الاجتماعي. وفي سنة 1985 أكمل سنة من العمل الميداني والبحث في المدارس الدينية الباكستانية، كما درس أيضا مقارنة الأديان.
وبعد الإطاحة بحكومة طالبان برزت شخصية أشرف غني مجددا في الساحة الأفغانية كونه رجل اقتصاد، وعمل موظفا خبيرا في البنك الدولي، وكانت أفغانستان بأشد الحاجة إلى خبراته في الهيئات الأممية كونه عمل في مجال الارتقاء بمؤسسات الدول الفاشلة في القارة الأفريقية وآسيا ومجال التحول الاجتماعي في الدول النامية ودول ما بعد الحرب.
وكان باكورة الظهور العلني لأشرف غني في اجتماع «بن» بألمانيا عام 2002، الذي عقد بإشراف مباشر من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لوضع لبنة جديدة للنظام الحالي في أفغانستان ما بعد التخلص من نظام طالبان. وشغل في حكومة الرئيس الأفغاني حميد كرزاي الانتقالية منصب وزير المالية.
استطاع غني إقناع الدول المانحة بشأن احتياجات أفغانستان المالية العاجلة، وتمكن من جمع مليارات الدولارات صرفت في بناء مؤسسات حيوية ومؤسسات رسمية كالقوات الأمنية وتطوير الأرياف، كما تمكن من تأسيس نظام جديد للجمارك في منافذ أفغانستان المنتهية إلى الدول المجاورة والتي كانت تخضع لأمراء الحرب الذين كانوا يجمعون أموال التجار في الجمارك لمصلحتهم الشخصية.
وتعد شخصية أشرف غني صارمة في اتخاذ القرارات المهمة وهو رجل صريح لا يجامل السياسيين وزعماء القبائل على غرار باقي الشخصيات السياسية الأفغانية، لهذا السبب له أعداء كثر من بينهم أمراء الحرب الذين يبحثون دوما عن مصالح شخصية في الأزمات الأفغانية المتلاحقة.
ترشح أشرف غني لمنصب الرئاسة في الانتخابات الرئاسية عام 2009 ضمن قائمة طويلة من المرشحين لهذا المنصب كان أبرزهم الرئيس الحالي حميد كرزاي المنحدر من قبيلة بشتوية أيضا. ولم يحالفه الحظ في تلك الانتخابات فحل في المرتبة الرابعة بعد كرزاي وعبد الله وبشردوست، لكن الرجل ظل يتواصل مع القبائل والشخصيات السياسية وانخرط في العملية السياسية من جديد بزعامة كرزاي فعين رئيسا لجامعة كابل وتولى المنصب لمدة سنتين، كانت حافلة بالمشاكل العرقية. وخرجت مظاهرات طلابية تطالب بتنحيه، بعد أن قام بسلسلة تعديلات ووضع قوانين جديدة تخص الجامعة، لكن خصومه السياسيين اتهموه بالتعصب لقبيلته وأنه بصدد التخلص من الأساتذة الذين ينتمون إلى الطاجيك كما وضع قيودا تمنع استعمال مصطلحات تعليمية عدها الطلاب دخيلة على المجتمع الأفغاني وهي من اللهجة الفارسية لإيران، وكان المصطلح الذي أثار مشكلة أدت إلى تنحيه من منصب رئيس الجامعة هو كلمة «دانشغاه» وهو اسم يطلق على الجامعة في إيران فأمر غني بمنع استعمال هذا المصطلح وبات يروج لمصطلح «بوهنتون» وهو مصطلح مأخوذة من اللغة البشتونية يطلق على الجامعات مما أثار حفيظة الطاجيك الذين تظاهروا ضده وطالبوا بإقالته.
وبعد التنحي عن رئاسة الجامعة عينه الرئيس الأفغاني مسؤولا عن ملف الانتقال السياسي والأمني من القوات الأميركية والأطلسية إلى نظيرتها الأفغانية. وبدأ يتنقل من محافظة إلى أخرى وسط إجراءات أمنية مشددة ويلتقي بحكام الأقاليم ومسؤولين محليين للاطلاع على مدى قدراتهم واستعدادهم لتسلم الملف الأمني والسياسي من الأجانب، وبالفعل استطاع أن يخرج بنجاح من هذه المهمة التي اكتملت بنسبة تسعين في المائة تقريبا، وبات الأفغان يسيطرون على كامل المهمة الأمنية في جميع المناطق الأفغانية.
وانتقلت السلطة السياسية كاملة إلى الأفغان بعد ثلاثة عشر عاما.
يقول أشرف غني إنه استطاع أن يشخص مشاكل ومعاناة الأفغان خلال توليه مهمة الانتقال الأمني والسياسي من خلال تنقلاته وإنه يستطيع حل هذه المشاكل في حال توليه منصب رئاسة الجمهورية.
ترشح غني لمنصب الرئاسة في انتخابات عام 2014 إلى جانب أحد عشر مرشحا آخرين كان أبرزهم عبد الله عبد الله وزلماي رسول وزير الخارجية السابق المقرب إلى الرئيس حميد كرزاي وعبد رب الرسول سياف أحد زعماء المجاهدين السابقين.
ولم يتمكن أحد من المتنافسين على منصب الرئاسة إحراز النسبة المطلوبة في الجولة الأولى وهي خمسون وواحد حسب الدستور والقانون الانتخابي الجديد مما اضطر اللجنة الانتخابية إلى إعلان عقد جولة الإعادة بين اثنين من المتنافسين اللذين حصلا على أغلب الأصوات. وكان أشرف غني أحدهما، عقدت الجولة الثانية ورافقها كثير من المشاكل تتعلق بالتزوير والمخالفات ولا تزال نتائجها غير واضحة حتى الآن. غير أن المعلومات والتوقعات الأولية تشير إلى تقدم أشرف غني على منافسه بمليون صوت وهو ما يعني أنه الرئيس المقبل لأفغانستان بعد كرزاي الذي لا يحق له الترشح لولاية ثالثة. لكن الأصوات الاحتجاجية التي بدأت ترتفع من هنا وهناك خاصة من فريق عبد الله عبد لله بعدم شرعية الانتخابات بسبب التزوير الواسع يبدو واضحا أن طريق غني إلى القصر الجمهوري ليس مفروشا بالورود وأنه سيعاني كثيرا حتى الوصول إليه مثل باقي رؤساء أفغانستان.
يقول نثار أحمد فيضي، وهو أحد الشباب الذين يقودون حملة في شبكات التواصل الاجتماعي «فيسبوك» و«تويتر» إن أشرف غني هو أفضل وأنسب رجل لقيادة المرحلة الحالية من حياة أفغانستان السياسي خاصة أنها تتزامن مع مرحلة الانتقال وخروج القوات الدولية منها نهاية العام الحالي، مشيرا إلى أن غني رجل مثقف أكاديمي لم يتورط في الحروب الأهلية وعاش معظم سنوات عمره في خارج البلد يتعلم ويعلم، كما أن لديه خبرة واسعة في مجال الانتقال من حالة الفوضى إلى حالة الاستقرار والتحول الاجتماعي.
أما سلطان أحمد وهو صحافي أفغاني يناصر أشرف غني فيقول إنه رجل صريح ينفذ ما يعد به وإن أفغانستان بحاجة إلى خبراته في مجال مكافحة الفقر وتعزيز المؤسسات والبنى التحتية للدولة بينما لا يحمل منافسه هذه المواصفات، على حد تعبير أحمد.
اختار أشرف غني الجنرال الأزبكي المثير للجدل عبد الرشيد دوستم محليا ودوليا كمساعد أول في حال فوزه بمنصب الرئاسة وهو المتهم بقتل مئات من عناصر طالبان المعتقلين لديه في سجن قلعة جنكي بولاية بلخ بالشمال الأفغاني أثناء الحرب على طالبان، وهو ما أثار غضب قبائل البشتون الذين طالبوا بمحاكمة الجنرال، غير أن غني يقول إن دوستم طالب بالعفو واعترف بالخطأ وإنه قل من يفعل ذلك، مشيرا إلى أنه ممتن لهذه الجرأة السياسية التي أظهرها عبد الرشيد دوستم قبل خوض غمار الانتخابات الرئاسية.
وما يؤخد على أشرف غني هو أن بطاقته الانتخابية تكاد تكون خالية من الشخصيات الطاجيكية المؤثرة في الساحة وهو ما وجه إليه كثيرا من الانتقاد من عرقية الطاجيك بأن الرجل متعصب لقبيلته البشتونية. علاوة على ذلك فإن الرجل تعرض إلى أبشع أنواع التهم والإشاعات فاتهم بأنه شيوعي يسعى إلى إعادة الحكم الشيوعي في البلاد من قبل بعض أمراء الحرب وقادة المجاهدين السابقين واتهم بأن زوجته مسيحية ولم تعتنق الإسلام رغم أنه يؤكد أن زوجته اعتنقت الإسلام، وتداول الخصوم مقطع فيديو يظهر فيه غني يقول إنه يحترم إرادة زوجته اللبنانية، وإنه لم يجبرها على التخلي عن الديانة المسيحية، وإنه أثناء إقامته بأميركا كان يرافقها إلى الكنيسة، وفي حال فوزه بمنصب الرئاسة فإن أول مرة بتاريخ أفغانستان السياسي ستدخل امرأة لبنانية إلى القصر الجمهوري وهي ظاهرة فريدة وجديدة بالنسبة للأفغان.

* أشرف غني.. في سطور
* ولد أشرف غني أحمدزاي عام 1949 بولاية «لوجر» الواقعة جنوب شرقي العاصمة كابل، درس التعليم الابتدائي والثانوي في ثانوية «حبيبية» في كابل وهي الثانوية التي تخرج فيها معظم أبناء الطبقة الحاكمة وأثرياء العاصمة. في نهاية الستينات حصل على منحة دراسية ليلتحق بالجامعة الأميركية ببيروت تخرج فيها عام 1973، وهناك تعرف على زوجته اللبنانية «رولا سعادة» وهي مسيحية، ولهما ولدان مريم وطارق، يعيشان في الولايات المتحدة حاليا. حصل على منحة حكومية للمرة الثانية إلى جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة ونال فيها درجتي الماجستير والدكتوراه.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.