جيش الصحراء {الداعشي}

تنظيم يقتات على العنف في جنوب ليبيا

{دواعش} ليبيون في مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
{دواعش} ليبيون في مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
TT

جيش الصحراء {الداعشي}

{دواعش} ليبيون في مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
{دواعش} ليبيون في مدينة سرت («الشرق الأوسط»)

تساعد عوامل عدة الجماعات الإرهابية على إعادة الانتشار المؤثر في الساحة الليبية. فبعد الهزيمة القاسية التي تلقاها «داعش» في سرت وشرق ليبيا، في سنة 2016 و2017؛ استطاع التنظيم الإرهابي هذه المرة التمركز في منطقة رخوة، تمثل الثقب الأسوأ بليبيا ما بعد القذافي. نتج من هذا المسار الجديد ظهور «جيش الصحراء الداعشي»، ليمثل آخر جيب تنظيمي لتنظيم البغدادي. ويبدو أن التجربة العملية، والحس السياسي، كانا سببين مهمين، في الهجرة «الداعشية» نحو الجنوب، قرب الحدود التشادية والنيجيرية والجزائرية.
ويعتبر الجنوب الليبي لا يشكل فقط المنطقة الآمنة لـ«داعش»؛ نظراً لجغرافيته البشرية وتضاريسه الصعبة؛ وإنما يشكل مورداً مركزياً للتزود بالسلاح، واستقبال المجندين الأجانب، وكذا خلْق تواصل مع الجماعات الإرهابية في الساحل والصحراء، وصولاً لمناطق وسط أفريقيا.
يتمركز جيش الصحراء في الجنوب، ويتزعمه شاب في منتصف الثلاثينات من عمره، ولد بعاصمة الجنوب الليبي سرت سنة 1981؛ ويعتبر المهدي سالم دنقو، الملقب بـ«أبو البركات»، قائداً داعشياً محلياً بتجربة دولية. فقد عمل بمحكمة الشريعة بالموصل لفترة زمنية قصيرة، ولم يعرف عنه قيادة كتيبة أو مجموعة «داعشية» داخل العراق؛ غير أنه عاد لليبيا ضمن خطة البغدادي لتقوية فروع تنظيمه بشمال أفريقيا. وتشير المعطيات المتوفرة عن أبو بركات، إلى أنه شخصية متواضعة من الناحية التعليمية؛ لذلك فهو لا يعتبر مرجعاً في الإفتاء والشؤون الدينية، إلا أن تجربته في العراق قبل 2015، مكّنته من قيادة التنظيم واعتلائه القيادة العسكرية لجيش الصحراء.

جيش الصحراء الفتي
من المرجح أن الزعيم الجديد فرّ ومعه الكثير من أعضاء «داعش»، بعد معركة دامت ثمانية أشهر؛ وكانت المواجهات بين قوات «البنيان المرصوص» التابعة لحكومة الوفاق والتنظيم الإرهابي قد انتهت بتحرير سرت من الإرهابيين، الذين كانوا يسيطرون على المدينة منذ سنة 2015، مستغلين ظروف الحرب الأهلية التي تعيشها ليبيا منذ 2012.
من جانب آخر، تشير بعض التقارير الصحافية غير المؤكدة، إلى أن «أبو البركات» أشرف على قتل 21 قبطياً مصرياً سنة 2015؛ وأن علاقاته ومعرفته الجيدة بالجنوب الليبي سهّلت عليه استقبال الكثير من المقاتلين المتطرفين، القادمين من السودان، ومصر، وتونس، والجزائر؛ كما أن تقارير أخرى لا تستبعد انضمام عناصر، من كل من تشاد، والنيجر، ومالي لجيش الصحراء بقيادة المهدي سالم دنقو. ذلك أن الوضع الأمني الليبي بالجنوب قد كرس عرفاً عسكرياً منذ 2011، وهو استقدام مختلف الفصائل السياسية والقبلية لمرتزقة أجانب للقتال في ليبيا.
ويظهر أن «جيش الصحراء»، أصبح له ثقل وأنصار في المنطقة، ويدير منطقة جغرافية معتبرة؛ وهذه العوامل شجعت تنظيم «أبو بركات» في شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) من سنة 2018 على وضع نقط للمراقبة والتفتيش في الطرق المؤدية إلى الجنوب وشرق مدينة سبها. كما أعلن التنظيم مسؤوليته على هجومين دمويين على قوات محلية، واحد من هذه الهجمات وقع في نقطة تفتيش عسكرية تعرف بـ«بوابة الفقهاء»، وتبعد 100 كيلومتر جنوب مدينة الجفرة؛ حيث ذبح مقاتلو «داعش» 9 من أفراد الجيش الليبي ومدنيين اثنين، في أغسطس (آب) من سنة 2017.
ووفقاً لتقارير رسمية، فإن جيش الصحراء بقيادة الليبي المهدي سالم دنقو، والملقب بـ«أبو البركات»، يتكون من ثلاث كتائب، ولكل منها قائد عسكري. وكان يعتمد أساساً على تنفيذ بعض الهجمات من حين إلى آخر، قبل أن يظهر بشكل علني بنواحي سبها، وينظم دوريات للمراقبة في مارس (آذار) من سنة 2018.
ويقول رئيس التحقيقات بمكتب النائب العام الليبي، الصديق الصور، عن هذا التنظيم الإرهابي: «هذا الجيش تم تأسيسه بعد تحرير مدينة سرت، وهو يضم ثلاث كتائب تحت قيادة دنقو، ولكل منها قائد. والآن هم موجودون في الصحراء الليبية».

تحديات المواجهة
وفي سياق مواجهة إعادة انتشار التنظيمات الإرهابية، اتفقت كل من تشاد، والنيجر، وليبيا، والسودان، في اجتماع ضم الأطراف الحكومية للبلدان الأربعة يوم 3 أبريل (نيسان) 2018، على ضرورة تنسيق جهود القوات المسلحة، فيما يخص مواجهة الحركات الإرهابية، والاتجار في السلاح والبشر والمخدرات. ويأتي هذا التحرك الإقليمي، بعد نحو أسبوعين من قتل القوات الأميركية التابعة لقيادتها بأفريقيا قياديين من تنظيم القاعدة يوم السبت، 24 - 03 - 2018، في غارة لها على منزل بحي الفرسان بمنطقة قرب مدينة «أوباري».
ويظهر أن الجهود الأميركية الخاصة بمكافحة الإرهاب، تعززت من الناحية الكمية والكيفية، منذ مجيء الرئيس الحالي ترمب وموافقته على رفع عدد القوات الأميركية الموجودة في النيجر لتصبح نحو 1000 عسكري.
وكانت مصادر إعلامية أميركية، قد أشارت في أحد أعدادها في الأسبوع الثاني من مارس 2018، إلى أن الجيش الأميركي شن غارات عدة غير معلنة في ليبيا؛ وهو ما يؤكد أن استعمال سلاح «الدرون» الطائرات من دون طيار في تزايد مستمر، رغم أن البنتاغون لا يشير إلى ذلك. وقد تعود أسباب عدم الإعلان عن الغارات التي بلغت منذ يناير 2017 إلى يناير 2018، ثماني غارات، إلى الرغبة في التكتم على النشاط الأميركي في الجنوب الليبي، وضمان سلامة المتعاونين على الأرض. كما أن الجنوب الليبي يعرف وجود قوات فرنسية خاصة لمكافحة الإرهاب، الشيء الذي يفرض على الأميركيين والفرنسيين، نوعاً معيناً من السياسة الأمنية والإعلامية. وهو ما عبر عنه الجنرال والدهاوسر، قائد «أفريكوم» في شهادته أمام الكونغرس يوم 6 من مارس 2018 حينما تحدث عن ليبيا، بطريقة مجملة وعامة، قائلاً: «نحن متورطون بشدة في عملية مكافحة الإرهاب هناك»؛ وهذا النوع من الخطاب، يشير إلى عدم رغبة قائد «أفريكوم»، في الحديث المفصل عن طبيعة العمل العسكري الأميركي المناهض للإرهاب في ليبيا عامة والجنوب خاصة.

معضلة العنف بالجنوب
لا تقتصر ممارسة العنف على أنصار التنظيمات الإرهابية في الجنوب الليبي، بل إن المنطقة تعرف مواجهات قبلية، يختلط فيها السياسي بالعرقي، والوطني بالإقليمي. فالجغرافية البشرية للقبائل هناك، لها امتداد في كل دول الجوار؛ مما يجعل المنطقة عرضة للتدخلات الخارجية، في غياب مؤسسات الدولة وجيش وطني في ليبيا. وقد تجددت النزاعات الدموية المسلحة بين قبيلة التبو وقبيلة أولاد سليمان العربية، في نهاية يناير على إثر مقتل أفراد من التبو من طرف مجهولين، وردت القبيلة بقتل القائد العسكري مادي عمر، الذي ينحدر من قبيلة أولاد سليمان؛ وهو ما أدى إلى خرق اتفاق للمصالحة، عقد بين القبيلتين بإشراف إيطالي في مارس 2017.
وليست النزاعات المحلية وحدها من يساعد على نشاط «داعش» بالمنطقة؛ بل الخلافات بين القبائل العربية والطوارق والتبو، تأخذ في كثير من الأحيان طابعاً اقتصادياً؛ نظراً للصراع على الموارد بالمنطقة، وكذلك إدارة التجارة غير القانونية، والتهريب المتعلق بالمخدرات والبشر. كما أن طبيعة هذا الصراع يؤثر على الدور السياسي للمدن: سبها، وأوباري، ومرزوق، وفزان، والقطرون، وغات، في الوقوف ضد التنظيمات الإرهابية؛ كما يمكن القول إن مدينة الجفرة، تعيش وضعاً مشابهاً، وربما أكثر تعقيداً من الجنوب الغربي. ويبدو أن هذه العوامل، تساعد التنظيمات الإرهابية، على خلق مساومات ميدانية، وتعايش مع الواقع بالجنوبي المتشابك سوسيولوجياً؛ مستغلين الانتماء القبلي ووفرة السلاح، ونظام الثأر العسكري السائد بالمنطقة.
من جهة أخرى، يعرف الجنوب الليبي اليوم باعتباره حاضناً لمجموعات عسكرية معارضة للنظام السوداني، والنيجيري، والتشادي؛ وتتعامل قبيلة التبو مع هذه الميليشيات الأجنبية وأبنائها، باعتبارهم أولاد العَّم. بينما تنظر إليهم القبائل العربية بعين الريبة، وتطالبهم بالخروج من الأراضي الليبية.
ومن تلك الميليشيات المسلحة الموجودة بالجنوب الليبي، نذكر على سبيل المثال: حركة «العدل والمساواة» السودانية، وحركة «من أجل العدالة والديمقراطية»، و«المجلس العسكري» لإنقاذ الجمهورية في تشاد، و«القوات الثورية المسلحة من أجل الصحراء»، وهي حركة متمردة ضد حكومة النيجر، من عرقية التبو استقرت بالجنوب الليبي من 2011، وجبهة «الوفاق من أجل التغيير» التشادية التي تتمركز في الجفرة وسط ليبيا، أما تجمع القوى من أجل التغيير،.فهي أقوى الحركات، وهي المسيطرة على الجنوب الليبي، ويغلب عليها الانتماء القبلي ذو الأصول التشادية، وبخاصة الزغاوة. ويتداخل هذا التنظيم عرقياً مع حركة العدل والمساواة، التي تقاتل الحكومة السودانية في دارفور.
وتجدر الإشارة إلى أن التنظيمات المذكورة هنا، هي تنظيمات عسكرية ميليشياوية تملك أنواعاً من الأسلحة، بما فيها الثقيلة والصواريخ المضادة للدبابات، وغيرها. ولتحافظ كل هذه الحركات على قوتها القبلية والعرقية، فإنها تدخل من حين لآخر في تشابك كبير مع التنظيمات الإرهابية، وبخاصة من الناحية التجارية، وإدارة المعابر الصحراوية.

خلاصة
رغم أن «جيش الصحراء الداعشي» لا يعتبر تنظيماً قوياً، فإنه استطاع في ظرف وجيز التموقع في بيئة الجنوب المضطربة؛ كما خرج مؤخراً في أبريل 2018، لينظم دوريات علنية في الطرق، بعد نجاحه في تنفيذ عمليات إرهابية بالمنطقة. وهذا الصعود المضطرد لهذا التنظيم، يجعل من هذا الفرع الداعشي تحدياً جديداً أمام ليبيا الممزقة، ودول شمال أفريقيا والساحل والصحراء. كما أن وضع «داعش» في الجنوب الليبي، يخفي من ورائه مسيرة تاريخية من العنف المحلي، الذي تزكيه الثقافة القبلية؛ وتاريخ طويل من الاقتصاد الإقليمي القائم على التداخل بين الإرهاب والجريمة العالمية الخاصة بتهريب السلاح والمخدرات والبشر.
* أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس الرباط



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟