جيش الصحراء {الداعشي}

تنظيم يقتات على العنف في جنوب ليبيا

{دواعش} ليبيون في مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
{دواعش} ليبيون في مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
TT

جيش الصحراء {الداعشي}

{دواعش} ليبيون في مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
{دواعش} ليبيون في مدينة سرت («الشرق الأوسط»)

تساعد عوامل عدة الجماعات الإرهابية على إعادة الانتشار المؤثر في الساحة الليبية. فبعد الهزيمة القاسية التي تلقاها «داعش» في سرت وشرق ليبيا، في سنة 2016 و2017؛ استطاع التنظيم الإرهابي هذه المرة التمركز في منطقة رخوة، تمثل الثقب الأسوأ بليبيا ما بعد القذافي. نتج من هذا المسار الجديد ظهور «جيش الصحراء الداعشي»، ليمثل آخر جيب تنظيمي لتنظيم البغدادي. ويبدو أن التجربة العملية، والحس السياسي، كانا سببين مهمين، في الهجرة «الداعشية» نحو الجنوب، قرب الحدود التشادية والنيجيرية والجزائرية.
ويعتبر الجنوب الليبي لا يشكل فقط المنطقة الآمنة لـ«داعش»؛ نظراً لجغرافيته البشرية وتضاريسه الصعبة؛ وإنما يشكل مورداً مركزياً للتزود بالسلاح، واستقبال المجندين الأجانب، وكذا خلْق تواصل مع الجماعات الإرهابية في الساحل والصحراء، وصولاً لمناطق وسط أفريقيا.
يتمركز جيش الصحراء في الجنوب، ويتزعمه شاب في منتصف الثلاثينات من عمره، ولد بعاصمة الجنوب الليبي سرت سنة 1981؛ ويعتبر المهدي سالم دنقو، الملقب بـ«أبو البركات»، قائداً داعشياً محلياً بتجربة دولية. فقد عمل بمحكمة الشريعة بالموصل لفترة زمنية قصيرة، ولم يعرف عنه قيادة كتيبة أو مجموعة «داعشية» داخل العراق؛ غير أنه عاد لليبيا ضمن خطة البغدادي لتقوية فروع تنظيمه بشمال أفريقيا. وتشير المعطيات المتوفرة عن أبو بركات، إلى أنه شخصية متواضعة من الناحية التعليمية؛ لذلك فهو لا يعتبر مرجعاً في الإفتاء والشؤون الدينية، إلا أن تجربته في العراق قبل 2015، مكّنته من قيادة التنظيم واعتلائه القيادة العسكرية لجيش الصحراء.

جيش الصحراء الفتي
من المرجح أن الزعيم الجديد فرّ ومعه الكثير من أعضاء «داعش»، بعد معركة دامت ثمانية أشهر؛ وكانت المواجهات بين قوات «البنيان المرصوص» التابعة لحكومة الوفاق والتنظيم الإرهابي قد انتهت بتحرير سرت من الإرهابيين، الذين كانوا يسيطرون على المدينة منذ سنة 2015، مستغلين ظروف الحرب الأهلية التي تعيشها ليبيا منذ 2012.
من جانب آخر، تشير بعض التقارير الصحافية غير المؤكدة، إلى أن «أبو البركات» أشرف على قتل 21 قبطياً مصرياً سنة 2015؛ وأن علاقاته ومعرفته الجيدة بالجنوب الليبي سهّلت عليه استقبال الكثير من المقاتلين المتطرفين، القادمين من السودان، ومصر، وتونس، والجزائر؛ كما أن تقارير أخرى لا تستبعد انضمام عناصر، من كل من تشاد، والنيجر، ومالي لجيش الصحراء بقيادة المهدي سالم دنقو. ذلك أن الوضع الأمني الليبي بالجنوب قد كرس عرفاً عسكرياً منذ 2011، وهو استقدام مختلف الفصائل السياسية والقبلية لمرتزقة أجانب للقتال في ليبيا.
ويظهر أن «جيش الصحراء»، أصبح له ثقل وأنصار في المنطقة، ويدير منطقة جغرافية معتبرة؛ وهذه العوامل شجعت تنظيم «أبو بركات» في شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) من سنة 2018 على وضع نقط للمراقبة والتفتيش في الطرق المؤدية إلى الجنوب وشرق مدينة سبها. كما أعلن التنظيم مسؤوليته على هجومين دمويين على قوات محلية، واحد من هذه الهجمات وقع في نقطة تفتيش عسكرية تعرف بـ«بوابة الفقهاء»، وتبعد 100 كيلومتر جنوب مدينة الجفرة؛ حيث ذبح مقاتلو «داعش» 9 من أفراد الجيش الليبي ومدنيين اثنين، في أغسطس (آب) من سنة 2017.
ووفقاً لتقارير رسمية، فإن جيش الصحراء بقيادة الليبي المهدي سالم دنقو، والملقب بـ«أبو البركات»، يتكون من ثلاث كتائب، ولكل منها قائد عسكري. وكان يعتمد أساساً على تنفيذ بعض الهجمات من حين إلى آخر، قبل أن يظهر بشكل علني بنواحي سبها، وينظم دوريات للمراقبة في مارس (آذار) من سنة 2018.
ويقول رئيس التحقيقات بمكتب النائب العام الليبي، الصديق الصور، عن هذا التنظيم الإرهابي: «هذا الجيش تم تأسيسه بعد تحرير مدينة سرت، وهو يضم ثلاث كتائب تحت قيادة دنقو، ولكل منها قائد. والآن هم موجودون في الصحراء الليبية».

تحديات المواجهة
وفي سياق مواجهة إعادة انتشار التنظيمات الإرهابية، اتفقت كل من تشاد، والنيجر، وليبيا، والسودان، في اجتماع ضم الأطراف الحكومية للبلدان الأربعة يوم 3 أبريل (نيسان) 2018، على ضرورة تنسيق جهود القوات المسلحة، فيما يخص مواجهة الحركات الإرهابية، والاتجار في السلاح والبشر والمخدرات. ويأتي هذا التحرك الإقليمي، بعد نحو أسبوعين من قتل القوات الأميركية التابعة لقيادتها بأفريقيا قياديين من تنظيم القاعدة يوم السبت، 24 - 03 - 2018، في غارة لها على منزل بحي الفرسان بمنطقة قرب مدينة «أوباري».
ويظهر أن الجهود الأميركية الخاصة بمكافحة الإرهاب، تعززت من الناحية الكمية والكيفية، منذ مجيء الرئيس الحالي ترمب وموافقته على رفع عدد القوات الأميركية الموجودة في النيجر لتصبح نحو 1000 عسكري.
وكانت مصادر إعلامية أميركية، قد أشارت في أحد أعدادها في الأسبوع الثاني من مارس 2018، إلى أن الجيش الأميركي شن غارات عدة غير معلنة في ليبيا؛ وهو ما يؤكد أن استعمال سلاح «الدرون» الطائرات من دون طيار في تزايد مستمر، رغم أن البنتاغون لا يشير إلى ذلك. وقد تعود أسباب عدم الإعلان عن الغارات التي بلغت منذ يناير 2017 إلى يناير 2018، ثماني غارات، إلى الرغبة في التكتم على النشاط الأميركي في الجنوب الليبي، وضمان سلامة المتعاونين على الأرض. كما أن الجنوب الليبي يعرف وجود قوات فرنسية خاصة لمكافحة الإرهاب، الشيء الذي يفرض على الأميركيين والفرنسيين، نوعاً معيناً من السياسة الأمنية والإعلامية. وهو ما عبر عنه الجنرال والدهاوسر، قائد «أفريكوم» في شهادته أمام الكونغرس يوم 6 من مارس 2018 حينما تحدث عن ليبيا، بطريقة مجملة وعامة، قائلاً: «نحن متورطون بشدة في عملية مكافحة الإرهاب هناك»؛ وهذا النوع من الخطاب، يشير إلى عدم رغبة قائد «أفريكوم»، في الحديث المفصل عن طبيعة العمل العسكري الأميركي المناهض للإرهاب في ليبيا عامة والجنوب خاصة.

معضلة العنف بالجنوب
لا تقتصر ممارسة العنف على أنصار التنظيمات الإرهابية في الجنوب الليبي، بل إن المنطقة تعرف مواجهات قبلية، يختلط فيها السياسي بالعرقي، والوطني بالإقليمي. فالجغرافية البشرية للقبائل هناك، لها امتداد في كل دول الجوار؛ مما يجعل المنطقة عرضة للتدخلات الخارجية، في غياب مؤسسات الدولة وجيش وطني في ليبيا. وقد تجددت النزاعات الدموية المسلحة بين قبيلة التبو وقبيلة أولاد سليمان العربية، في نهاية يناير على إثر مقتل أفراد من التبو من طرف مجهولين، وردت القبيلة بقتل القائد العسكري مادي عمر، الذي ينحدر من قبيلة أولاد سليمان؛ وهو ما أدى إلى خرق اتفاق للمصالحة، عقد بين القبيلتين بإشراف إيطالي في مارس 2017.
وليست النزاعات المحلية وحدها من يساعد على نشاط «داعش» بالمنطقة؛ بل الخلافات بين القبائل العربية والطوارق والتبو، تأخذ في كثير من الأحيان طابعاً اقتصادياً؛ نظراً للصراع على الموارد بالمنطقة، وكذلك إدارة التجارة غير القانونية، والتهريب المتعلق بالمخدرات والبشر. كما أن طبيعة هذا الصراع يؤثر على الدور السياسي للمدن: سبها، وأوباري، ومرزوق، وفزان، والقطرون، وغات، في الوقوف ضد التنظيمات الإرهابية؛ كما يمكن القول إن مدينة الجفرة، تعيش وضعاً مشابهاً، وربما أكثر تعقيداً من الجنوب الغربي. ويبدو أن هذه العوامل، تساعد التنظيمات الإرهابية، على خلق مساومات ميدانية، وتعايش مع الواقع بالجنوبي المتشابك سوسيولوجياً؛ مستغلين الانتماء القبلي ووفرة السلاح، ونظام الثأر العسكري السائد بالمنطقة.
من جهة أخرى، يعرف الجنوب الليبي اليوم باعتباره حاضناً لمجموعات عسكرية معارضة للنظام السوداني، والنيجيري، والتشادي؛ وتتعامل قبيلة التبو مع هذه الميليشيات الأجنبية وأبنائها، باعتبارهم أولاد العَّم. بينما تنظر إليهم القبائل العربية بعين الريبة، وتطالبهم بالخروج من الأراضي الليبية.
ومن تلك الميليشيات المسلحة الموجودة بالجنوب الليبي، نذكر على سبيل المثال: حركة «العدل والمساواة» السودانية، وحركة «من أجل العدالة والديمقراطية»، و«المجلس العسكري» لإنقاذ الجمهورية في تشاد، و«القوات الثورية المسلحة من أجل الصحراء»، وهي حركة متمردة ضد حكومة النيجر، من عرقية التبو استقرت بالجنوب الليبي من 2011، وجبهة «الوفاق من أجل التغيير» التشادية التي تتمركز في الجفرة وسط ليبيا، أما تجمع القوى من أجل التغيير،.فهي أقوى الحركات، وهي المسيطرة على الجنوب الليبي، ويغلب عليها الانتماء القبلي ذو الأصول التشادية، وبخاصة الزغاوة. ويتداخل هذا التنظيم عرقياً مع حركة العدل والمساواة، التي تقاتل الحكومة السودانية في دارفور.
وتجدر الإشارة إلى أن التنظيمات المذكورة هنا، هي تنظيمات عسكرية ميليشياوية تملك أنواعاً من الأسلحة، بما فيها الثقيلة والصواريخ المضادة للدبابات، وغيرها. ولتحافظ كل هذه الحركات على قوتها القبلية والعرقية، فإنها تدخل من حين لآخر في تشابك كبير مع التنظيمات الإرهابية، وبخاصة من الناحية التجارية، وإدارة المعابر الصحراوية.

خلاصة
رغم أن «جيش الصحراء الداعشي» لا يعتبر تنظيماً قوياً، فإنه استطاع في ظرف وجيز التموقع في بيئة الجنوب المضطربة؛ كما خرج مؤخراً في أبريل 2018، لينظم دوريات علنية في الطرق، بعد نجاحه في تنفيذ عمليات إرهابية بالمنطقة. وهذا الصعود المضطرد لهذا التنظيم، يجعل من هذا الفرع الداعشي تحدياً جديداً أمام ليبيا الممزقة، ودول شمال أفريقيا والساحل والصحراء. كما أن وضع «داعش» في الجنوب الليبي، يخفي من ورائه مسيرة تاريخية من العنف المحلي، الذي تزكيه الثقافة القبلية؛ وتاريخ طويل من الاقتصاد الإقليمي القائم على التداخل بين الإرهاب والجريمة العالمية الخاصة بتهريب السلاح والمخدرات والبشر.
* أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس الرباط



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.