هيئة السياحة والآثار تقيم حفلا بمناسبة اعتماد جدة التاريخية في قائمة التراث

الأمراء والمسؤولون يشيدون بإنجاز اختيار اليونيسكو للمدينة ضمن مواقع التراث العالمي

الأمراء سلطان بن سلمان ومشعل بن ماجد ومشعل بن عبد الله ووزير الثقافة والإعلام السعودي أثناء الحفل
الأمراء سلطان بن سلمان ومشعل بن ماجد ومشعل بن عبد الله ووزير الثقافة والإعلام السعودي أثناء الحفل
TT

هيئة السياحة والآثار تقيم حفلا بمناسبة اعتماد جدة التاريخية في قائمة التراث

الأمراء سلطان بن سلمان ومشعل بن ماجد ومشعل بن عبد الله ووزير الثقافة والإعلام السعودي أثناء الحفل
الأمراء سلطان بن سلمان ومشعل بن ماجد ومشعل بن عبد الله ووزير الثقافة والإعلام السعودي أثناء الحفل

لا تزال مدينة جدة تحتفل بانضمام حيها التاريخي لقائمة التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو، وأخذت منذ نهاية الأسبوع الماضي وحتى ساعة كتابة هذا التقرير نصيب الأسد من الوهج الإعلامي، وصارت محط الأنظار وحديث الأوساط الثقافية، والإعلامية، والاقتصادية، والسياحية، والشعبية على حد سواء.
وللاحتفال بالمناسبة نظمت الهيئة العامة للسياحة والآثار احتفالا حضره الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، والأمير مشعل بن ماجد بن عبد العزيز محافظ جدة عضو اللجنة العليا لتطوير جدة التاريخية رئيس اللجنة التنفيذية، والأمير مشعل بن عبد الله بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة رئيس اللجنة العليا لتطوير جدة التاريخية، ووزير الثقافة والإعلام الدكتور عبد العزيز بن محيي الدين خوجه، وذلك في الساحة المقابلة لبيت نصيف في مدينة جدة. وفي بداية الحفل أزيح الستار عن لوحة إعلان جدة التاريخية موقع تراث عالمي.
وفي كلمة خاصة احتفالا بالإنجاز الكبير، عد الأمير مشعل بن ماجد بن عبد العزيز، محافظ جدة، النجاح الرائع الذي تحقق نتاجا طبيعيا ومباشرا لجهود كبيرة، بداية من دعم لا محدود من قائد المسيرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، وولي عهده الأمير سلمان، وولي ولي العهد، وعمل مخلص لم يتوقف لحظة من الهيئة العامة للسياحة والآثار وأمانة محافظة جدة، إلى جانب الملاك والأهالي، في منظومة متكاملة توجت بهذا الإنجاز الذي يعتز به كل مواطن على هذه الأرض الطيبة.
وأعرب الأمير مشعل بن ماجد عن سعادته بوجود جدة التاريخية ضمن التراث العالمي، مباركا للجميع بذلك، وقال «يظل الدور الأهم على الأهالي والملاك في ترميم وإحياء هذه المساكن القيمة، والمداومة على صيانتها والاهتمام بها، والحرص على أن تكون في أجمل صورة بما يتكامل مع الجهود الحكومية بهذا الشأن، والمساهمة في الإبقاء على هذه الكنوز دون المساس من قريب أو بعيد بسمات هذه الصورة الرائعة من التراث العالمي».
وأكد الأمير مشعل بن عبد الله بن عبد العزيز، أمير منطقة مكة المكرمة، أن اعتماد منطقة جدة التاريخية في قائمة التراث العالمي بعد موافقة لجنة التراث العالمي على تسجيلها خلال اجتماع اللجنة التابعة لليونيسكو في دورتها الـ38 التي عقدت في قطر، يبرز المكانة التاريخية لجدة العريقة وما تزخر به من تراث عمراني أصيل ومعالم أثرية مميزة اكتسبت تميزها وأصالتها من تاريخ جدة والخصائص العمرانية الفريدة التي تميزت بها أبنيتها ومساجدها القديمة.
وأشار إلى أنه بعد هذا الاعتماد أصبحت المسؤولية مضاعفة على الجميع، سواء الجهات الحكومية أو القطاع الخاص والملاك، للتعاون معا للحفاظ على الهوية التاريخية لجدة وعلى نمطها العمراني الفريد وتطويره بما يحقق الأهداف المرجوة من تسجيل هذا المنجز التاريخي لجدة، وسيعزز من المكانة السياحية لها على خارطة السياحة العالمية واستقطاب السياح من مختلف دول العالم للتعرف على جدة وتراثها الجميل.
من جانبه، أكد الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، أن تسجيل جدة التاريخية في قائمة التراث العالمي لم يأتِ من فراغ، بل كان ثمرة جهود كبيرة قادتها ودعمتها الدولة حتى تم تحقيق الهدف المنشود. وأضاف «نشكر بعمق الرجال الكرام الذين بذلوا جهدا في العناية بجدة التاريخية ممن رحلوا من قادة المملكة وأمراء ومسؤولي منطقة مكة المكرمة، وممن هم اليوم معنا من الرجال الأوفياء المؤمنين بتاريخ وطنهم وعراقته وعمقه الحضاري». وبين أن مشرع جدة التاريخي ليس تنمويا أو اقتصاديا فحسب، بل هو تكوين ثقافي، وقال «هذه المدينة هي بوابة أطهر بقعة، ومن الطبيعي أن تحظى بهذه الأهمية، ليس في ذهن المهتمين بالتراث فقط بل لدى جميع المسلمين، بوصفها بوابة الحرمين الشريفين».
وأوضح الأمير سلطان بن سلمان أن ملف جدة التاريخية ضمن 21 موقعا وتراثا وطنيا رائدا، أخذ نحو خمس سنوات من الدراسة لدى الجهات ذات العلاقة، وقد جرى العمل على هذا الملف بشكل مهني ومنهجي وعلمي ليقدم وتأتي الموافقة عليه في الدورة المنعقدة في الدوحة.
وقال رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار «إن جدة ينتظرها الكثير من العمل من قبل ملاك المباني التاريخية ومؤسسات الدولة والجهات ذات العلاقة، ونحن في هيئة السياحة أنجزنا كل الدراسات والخطط والبرامج، ونملك رؤية دقيقة لما يجب أن يكون عليه المشروع في قادم الأيام، وهناك مشروعات يجري تنفيذها ومشروعات ستنفذ مستقبلا لكنها مجدولة وتسير في خط متواز».
وأعرب عن شكره الخاص وتقديره العميق لجميع من عملوا معه في المشروع، على جهدهم وكفاءتهم وطريقة عملهم الاحترافية الرائدة، مستذكرا في هذا الصدد الجهود القيادية لأمراء منطقة مكة السابقين الأمير ماجد بن عبد العزيز، والأمير عبد المجيد بن عبد العزيز، والأمير خالد الفيصل، الذين بذلوا جهدا كبيرا في العناية بهذا الإرث الحضاري وحمايته.
وعبر عن تقديره لأمير منطقة مكة المكرمة على اهتمامه ومتابعته الدائمة لمراحل إعداد ملف جدة التاريخية والدفع به إلى اليونيسكو، كما شكر أيضا محافظ جدة على جهده ومتابعته التي أثمرت عن تعاون وتعاضد جميع الجهات المعنية بملف جدة التاريخية. وشكر الملاك على إيمانهم العميق بالمشروع حاضرا ومستقبلا، والجهات الأمنية وفي مقدمتها الدفاع المدني وشرطة المحافظة والدوريات الأمنية، التي تعمل دون كلل على حماية جدة التاريخية.
وقال الدكتور عبد العزيز خوجه، وزير الثقافة والإعلام، إن «جدة الجميلة تُزف للعالم أجمع بهذا البهاء وبهذا الرونق وبهذا الإرث التاريخي الجميل الذي تشهد عليه جميع دول العالم، هذا الجهد الذي بُذل فيه الكثير من رجال جدة الكرام ومن أمراء جدة المتعاقبين والقيادة الكريمة». وأضاف «ليت حمزة شحاتة (الشاعر السعودي الراحل) كان معنا اليوم، حيث قال: (النهى بين شاطئيك غريق والهوى فيك حالم ما يفيق)، ليشاهد معشوقته جدة الجميلة وهي تزف للعالم بهذا البهاء والجمال والإرث التاريخي».
وفي كلمته، بين مندوب المملكة الدائم لدى اليونيسكو الدكتور زياد الدريس أن ملف جدة قدم عام 2011 للتسجيل في لائحة التراث العالمي تحت اسم «جدة التاريخية»، وفي عام 2014 قدم الملف باسم «بوابة جدة»، حيث توسعت احتمالات تحديد هوية العروس جدة من النطاق المحلي إلى النطاق العربي والإسلامي، مما دعا دولا أوروبية ولاتينية وأفريقية وآسيوية وعربية إلى تأكيد أصالة الموقع وجدارته بلائحة التراث العالمي. وأكد الدريس أن اليونيسكو تأمل أن يكون هذا الإنجاز دافعا لبداية العمل على تطوير وتجهيز وحماية هذا الموقع التاريخي، وتوسيع نطاقات إشغاله بالزوار والاستمتاع بجمالياته.
وأبدى الدكتور هاني بن محمد أبو راس، أمين محافظة جدة، سعادته البالغة بانضمام جدة التاريخية لقائمة التراث العالمي لدى منظمة اليونيسكو، عادا ذلك إنجازا كبيرا تم بفضل وتوفيق الله، ثم بما تجده محافظة جدة من رعاية وعناية واهتمام من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود وولي عهده وولي ولي العهد.
وعبر أبو راس عن شكره وتقديره للهيئة العامة للسياحة والآثار وإمارة منطقة مكة المكرمة ومحافظة جدة، على جهودها ودعمها لتسجيل جدة التاريخية ضمن قائمة التراث العالمي، مبرزا ما حظيت به جدة خلال تاريخها الطويل من اهتمام بالغ بصفتها البوابة الرئيسة للحجاج من جميع بقاع العالم للوصول إلى مكة المكرمة، وما زالت تقوم بهذا الدور الحيوي المهم.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)