التهجير يقرع أبواب جنوب دمشق وغموض حول مصير «داعش»

{الشرق الأوسط} ترسم خريطة مناطق المعارضة قرب العاصمة السورية

صورة أرشيفية لأهالي في مخيم اليرموك بانتظار الإغاثة (أونروا)
صورة أرشيفية لأهالي في مخيم اليرموك بانتظار الإغاثة (أونروا)
TT

التهجير يقرع أبواب جنوب دمشق وغموض حول مصير «داعش»

صورة أرشيفية لأهالي في مخيم اليرموك بانتظار الإغاثة (أونروا)
صورة أرشيفية لأهالي في مخيم اليرموك بانتظار الإغاثة (أونروا)

مع إغلاق ملف وجود المعارضة المسلحة في الغوطة الشرقية لدمشق، تجري قوات النظام وحلفاؤها حالياً الاستعدادات لـ«حسم» ملف مناطق جنوب دمشق الخارجة عن سيطرتها، في إطار مساعٍ لتأمين العاصمة ومحيطها.
ويتوقع أن تشهد مناطق سيطرة فصائل المعارضة احتمالاً مشابهاً لما حصل في كثير من المناطق من تهجير قسري للمقاتلين وعوائلهم، يلف الغموض السيناريوهات التي يمكن أن تحصل في مناطق سيطرة تنظيم داعش.
وتعتبر مناطق جنوب دمشق المحاصرة مع منطقة القلمون الشرقي آخر معقلين تسيطر عليهما المعارضة المسلحة و«داعش» و«جبهة النصرة» في محيط العاصمة دمشق، بعد استعادة النظام وحلفائه السيطرة على معظم مدن وبلدات الريف الدمشقي وتهجير مقاتليها وأعداد كبيرة من سكانها.

البوابة الجنوبية
يقسم الجنوب الدمشقي الخارج عن سيطرة النظام إلى خمس مناطق رئيسية، أكبرها منطقة بلدات «يلدا» و«ببيلا» و«بيت سحم»، التابعة إدارياً لريف العاصمة، وتقع في الجهة الجنوبية الشرقية من العاصمة، ويحدها من الشمال «مخيم اليرموك» و«حي التضامن»، ومن الجنوب منطقة «السيدة زينب» التي تسيطر عليها ميليشيات إيرانية، ومن الشرق غوطة دمشق الشرقية، ومن الغرب ناحية «الحجر الأسود».
وتشكل الجهة الشمالية من بلدة يلدا، تماسا مباشرا مع الحدود الإدارية لمدينة دمشق في حي التضامن، فيما تشكل أراضي «ببيلا» من الجهة الجنوبية خط تماس مع منطقة «السيدة زينب».
وتصل مساحة تلك المنطقة إلى نحو أربعة كيلومترات مربعة، وسيطرت عليها فقبل نحو سبع سنوات فصائل إسلامية وأخرى من «الجيش السوري الحر»، أبرزها «جيش الإسلام» و«حركة أحرار الشام الإسلامية» و«فرقة دمشق» و«جيش الأبابيل» و«شام الرسول».
ووقعت تلك الفصائل مع النظام اتفاق «هدنة» في فبراير (شباط) 2014، ذلك بعد طردها لتنظيمي داعش و«النصرة» إلى «الحجر الأسود» و«مخيم اليرموك». ومنذ ذلك الحين، الجبهة في تلك البلدات هادئة مع قوات النظام الذي يفرض حصارا عليها، لكنه تدخل إليها بين الحين والآخر مساعدات غذائية، ويسمح للمدنيين فقط بالخروج إلى العاصمة والعودة إلى بلداتهم بشكل شبه يومي عبر معبر ببيلا - القزاز.
في سبتمبر (أيلول) 2015، وقعت فصائل بينها «أحرار الشام» و«النصرة» مع «حزب الله» برعاية إيرانية - تركية، اتفاق وقف النار في بلدتي الفوعة وكفريا في ريف إدلب اللتين تقطنهما فصائل تدعمها إيران ومضايا والزبداني في ريف دمشق، لكن التدخل الروسي نهاية الشهر ذاته جمد هذا الاتفاق.
بعد ذلك بأشهر، أعيد الزخم إلى الاتفاق وضُمت إليه مناطق جنوب العاصمة، بحيث تضمن مقايضة: تهجير شيعة الفوعة وكفريا إلى ريف دمشق وجنوب العاصمة، مقابل نقل سنّة معارضين من ريف دمشق إلى إدلب. وتضمن اتفاق «الفوعة كفريا - الزبداني مضايا» تبادل تهجير نحو 20 ألف مدني ومسلح من ريفي إدلب ودمشق في مرحلتين. و«تثبيت وقف النار لمدة تسعة أشهر في المناطق الآتية: الفوعة، وكفريا، وبنش، ومدينة إدلب، ومعرة مصرين، وتفتناز، ورام حمدان، وزردنا، وشلخ، وطعوم ومدينة الزبداني، ومدينة مضايا، وجبل بلودان، إضافة إلى مناطق جنوب دمشق: يلدا، وببيلا، وبيت سحم، والتضامن، والقدم، ومخيم اليرموك، مع السماح بإدخال المساعدات الإنسانية الغذائية والطبية لجميع البلدات المشمولة بهذه الاتفاقية بصورة دورية مدة وقف إطلاق النار».
في أبريل (نيسان) 2017 تم تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق وتضمنت إجلاء نحو 8 آلاف من مدنيي ومسلحي الفوعة وكفريا وتهجير المعارضين وعوائلهم من مضايا والزبداني وما حولهما، على أن يتم في المرحلة الثانية إجلاء من تبقى من الفوعة وكفريا وتهجير مسلحي «النصرة» وعوائلهم من «مخيم اليرموك» لكن هذه المرحلة لم يكتمل تنفيذها حتى الآن واقتصرت على إخراج مرضى ومصابين من «النصرة» من المخيم وإدخال مساعدات غذائية إلى مناطق سيطرتها في جيب غربي اليرموك، مقابل إخراج حالات مرضية من الفوعة وكفريا وإدخال مساعدات غذائية إلى البلدتين.
تبع تنفيذ المرحلة الأولى محاولات ضغط من النظام على الفصائل في «يلدا» و«ببيلا» و«بيت سحم» للقبول باتفاق «تهجير ديمغرافي» على غرار ما تم في كثير من المدن والبلدات والأحياء المحيطة بدمشق، أي «تسوية» أوضاع من يرغب وترحيل الرافضين وعوائلهم إلى شمال البلاد، لكن الفصائل رفضت عروض النظام وخرج الأهالي في مظاهرات عبروا خلالها عن رفضهم القاطع مغادرة بلداتهم، وغاب الحديث منذ عدة أشهر عن مثل هذه المحاولات.
وخلال اجتماعات آستانة الأخيرة التي تمخضت عنها اتفاقات إقامة مناطق «خفض التوتر» في سوريا، حاولت الفصائل ضم بلدات «يلدا» و«ببيلا» و«بيت سحم» إلى تلك اتفاق «خفض التوتر» الخاص بغوطة دمشق الشرقية لكنها لم تنجح بذلك، بسبب رفض إيران ذلك بحجة أن هذه المناطق في جنوب دمشق جزء من اتفاق «اتفاق الفوعة كفريا - الزبداني مضايا».
وتشهد تلك البلدات حاليا كثافة سكانية عالية، كون سكانها الأصليين لم يغادروها، ونزوح أعداد كبيرة من أهالي المناطق المجاورة (الحجر الأسود، مخيم اليرموك، حي التضامن) إليها بعد سيطرة تنظيم داعش عليها.

معقل «داعش»
المنطقة الثانية، هي ناحية «الحجر الأسود» التابعة إداريا لمحافظة ريف دمشق، وتقع جنوب العاصمة ويحدها من الشمال «مخيم اليرموك» للاجئين الفلسطينيين التابع إداريا لمحافظة دمشق، وتمتدُّ جنوبا لتتصل بمشارف بلدة سبينة، بينما يحدها من جهة الغرب حي «القدم» الدمشقي، ومن الشرق بلدة «يلدا» وتبعد عن مركز العاصمة دمشق نحو 7 كيلومترات. ويقدر عدد سكان «الحجر الأسود» قبل الحرب بنحو 60 ألفاً، أغلبهم من نازحي هضبة الجولان التي نزحوا منها عام 1967، إضافة إلى خليط من كثير من سكان المحافظات السورية ومن اللاجئين الفلسطينيين.
وانضم كثير من سكان «الحجر الأسود» إلى الحراك السلمي منذ بدايته، وتشكلت فيه فصائل مسلحة تتبع لـ«الجيش الحر»، وذلك بعد عسكرة هذا الحراك، ومن أبرزها «لواء الحجر الأسود» و«صقور الجولان» والتي تكونت في غالبيتها من نازحي الجولان وخصوصا أبناء العشائر مثل «الهوادجة» و«البحاترة» و«الجعاثين».
بعد ذلك شهد «الحجر الأسود» وجود فصائل مسلحة مختلفة وتحت أجندات ومسميات متباينة، وطغى حضور فصائل متشددة على حساب «الجيش الحر» الذي انتهى وجود مجموعاته إما بالتفكك أو الاندماج مع «جبهة النصرة» أو تنظيم «داعش» الذي ظهر بشكل مريب في الناحية وتشكل من نازحي هضبة الجولان وبقيادتهم.
وبعد طرد «فصائل الحر» لمسلحي «داعش» و«النصرة» من بلدات «يلدا» و«ببيلا» و«بيت سحم»، انضمم هؤلاء إلى التنظيمين في «الحجر الأسود»، مما ساعد في تقوية نفوذهما بشكل أكبر والسيطرة على الناحية بشكل كامل.
وبسبب الصراع على النفوذ بين «النصرة» و«داعش» تمكن الأخير من طرد «النصرة» إلى «مخيم اليرموك»، ويسيطر بمفرده على «الحجر الأسود» الذي بات معقله الرئيس في جنوب العاصمة.

«عاصمة الشتات الفلسطيني»
المنطقة الثالثة، التي تعد الأبرز في جنوب العاصمة، هي «مخيم اليرموك» للاجئين الفلسطينيين، وتتبع إدارياً محافظة دمشق، ويقع على بعد أكثر من سبعة كيلومترات جنوب العاصمة، وتصل مساحته إلى كيلومترين مربعين. ويحده من الجهة الجنوبية «الحجر الأسود»، ومن الجهة الغربية حي «القدم»، بينما يحده من الشرق حي «التضامن» ومن الشمال منطقة «الزاهرة».
وتم وضع اللبنات الأولى لإقامة «مخيم اليرموك» عام 1957 عندما كان بقعة صغيرة، قبل أن تتوسع دمشق ويصبح المخيم جزءا أساسيا من مكوناتها الجغرافية والديمغرافية وأكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين في كل من سوريا ولبنان والأردن ورمزاً لحق العودة. كما غدا يُعرف بـ«عاصمة الشتات الفلسطيني» كونه يضم 36 في المائة من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا والبالغ عددهم قبل الحرب أكثر من 450 ألف لاجئ، علما بأنه يوجد في سوريا وحدها خمسة عشر مخيما تتوزع على ست مدن.
وإن كان المخيم بدا هادئا في السنة الأولى للأحداث عندما كانت المظاهرات المناهضة للنظام تعم المناطق المجاورة له في «الحجر الأسود» وجنوب «حي التضامن» وبلدتي «يلدا» و«ببيلا»، وحيي «القدم» و«العسالي»، فإن الحراك الثوري فيه كان كالنار المتقدة تحت الهشيم، الأمر الذي شعر به النظام مما دفعه حينها إلى تحذير الأهالي هناك عبر قيادي فلسطيني من على أحد منابر العاصمة بالقول: «اليرموك لن يكون أغلى من حمص وحماة...»، في إشارة إلى أن النظام يمكن أن يدمر المخيم على رؤوس سكانه.
«اليرموك» يحمل رمزية لحق العودة وحل البلاء به بفعل ثلاثة صواريخ أطلقتها طائرات النظام الذي طالما تحدث بمناصرته للشعب الفلسطيني في 16 ديسمبر (كانون الأول) 2012، وكانت كفيلة بإحداث نكبة لسكانه تجاوزت في مآسيها نكبة عام 1948 ونكسة 1967، حيث قتل وأصيب عشرات المدنيين، ونزح أكثر من 90 في المائة من سكانه الذين كان يبلغ عددهم حينها ما بين 500 إلى 600 ألف نسمة من بينهم أكثر من 160 ألف لاجئ فلسطيني.
جاء ذلك، بعد نجاح فصائل من «الجيش الحر» في السيطرة على المخيم، عقب دخولها إليه من جهة «الحجر الأسود»، وحي «التضامن» إلى الشرق، وحيي «القدم» و«العسالي» من الغرب، حيث كانت تنشط مجموعات من «الجيش الحر» منذ شهور، مع وجود مجموعات مسلحة فلسطينية نائمة في المخيم اختارت أن تقف إلى جانب الشعب السوري ضد الظلم الذي طاله من جانب النظام الذي فرض بعد ذلك وقوات من الفصائل الفلسطينية المؤيدة له حصاراً جزئياً على أكثر من 20 ألف مواطن فضلوا البقاء في منازلهم على رحلة نزوح من غير المعروف متى ستنتهي، وسرعان ما تحول هذا الحصار إلى حصار خانق في عام 2013. قضى خلاله بسبب الجوع ونقص الأدوية 199 فلسطينيا.
بعد ذلك شهد اليرموك فوضى عسكرية عارمة بسبب وجود مجموعات مسلحة مختلفة وتحت أجندات ومسميات متباينة، وطغى أيضا حضور الفصائل الإسلامية المتشددة على حساب «الجيش الحر» الذي انتهى وجود مجموعاته، إما بالتفكك أو الاندماج مع «النصرة» أو «داعش» مع ظهور مجموعات فلسطينية قوية من قبيل «كتائب أكناف بيت المقدس» التي تردد أنها تتبع لـ«حماس» وتزعمها أبو أحمد المشير، وكذلك «كتيبة ابن تيمية» و«القراعين» و«السراحين».
وشكلت «النصرة» و«الأكناف» أقوى فصيلين في اليرموك، وتمكنا من إنهاء وجود كثير من الفصائل الأخرى، وسيطرتا بشكل تام على المخيم طوال عام 2014 من دون أي منازع، ليدور لاحقا الصراع الدامي على النفوذ بين الجانبين، وشبه حينها بأنه صراع «كسر عظم» من دون أن يتمكن أي من الفصيلين من إنهاء الآخر، لتشتعل بعد ذلك حرب الاغتيالات بين الجانبين.
وفي بداية أبريل 2015 كانت المفاجأة، تدخل «داعش» القابع في معقله «الحجر الأسود» في المعارك الدائرة في المخيم إلى جانب «النصرة» وتمكنا من إنهاء وجود «الأكناف» التي كانت تعد نحو 250 عنصراً، حيث انسحب خلال المعارك نحو مائة مقاتل من «الأكناف» إلى بلدتي يلدا وببيلا، أماكن وجود «الجيش الحر»، بينما انضم نحو 70 آخرين إلى الفصائل الفلسطينية المقاتلة إلى جانب النظام، على حين تمت تصفية من تبقى على أيدي «داعش» و«النصرة».
وبذلك بات «داعش»، إضافة إلى سيطرته على كامل «الحجر الأسود»، يتقاسم مع «النصرة» السيطرة على اليرموك، بينما تسيطر الفصائل الفلسطينية المقاتلة مع النظام على المنطقة الشمالية من المخيم وتقدر مساحتها بـ30 في المائة من مساحته وتمتد من ساحة الريجة حتى مدخل المخيم الشمالي المقابل لمنطقة «الزاهرة».
وفجأة شن «داعش» أبريل عام 2016 هجوما عنيفا على «النصرة» في أماكن وجودها في «اليرموك»، وسيطر على نحو 80 في المائة من المساحة التي كان يتقاسم السيطرة عليها معها، وحشرها في مساحة صغيرة غرب المخيم تمتد من جامع الوسيم جنوباً حتى ساحة الريجة شمالاً، وسط إجراءات مشددة للغاية منع من خلالها إدخال أي مواد غذائية إلى الأهالي في تلك المنطقة، وسط تقديرات تشير إلى أن عدد عناصر «النصرة» لا يتجاوز أكثر من 180 مقاتلا ومع أفراد عوائلهم نحو 800، وأن أكثر من نصفهم من أبناء «اليرموك»، بينما الآخرون كانوا قدموا من مناطق مجاورة، علما بأنه خرج أكثر من 40 جريحا من أصل 180 إلى شمال البلاد في إطار تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق «البلدات الأربع» على أن يخرج المسلحون في دفعات لاحقة قريبا.
ومع سيطرة «داعش» على «اليرموك» نزح كثير من المدنيين من المخيم إلى مناطق سيطرة «الجيش الحر» في «يلدا» و«ببيلا» و«بيت سحم»، ولا يتجاوز عدد الباقين فيه 4 آلاف مدني.

مثال التنوع
المنطقة الرابعة، هي الجزء الجنوبي من حي «التضامن»، التابع لمحافظة دمشق، ويعتبر ذا أهمية استراتيجية، كونه بوابة دمشق الجنوبية الفاصلة بين المدينة وريفها، ويلاصقه «مخيم اليرموك» من الغرب وبلدة «يلدا» من الشرق والجنوب على التتالي، أما من الشمال فتحده منطقتي «الزاهرة» و«دف الشوك».
مثل الحي مثالا للتنوع بسوريا، حيث كان أعداد قاطنيه قبل بداية الأزمة تقدر بـ200 ألف يشكلون نسيجا اجتماعيا متفاوتا في العادات والتقاليد، فجلّ سكانه من نازحي هضبة الجولان العرب والتركمان ومن محافظات السويداء وإدلب ودير الزور ودرعا واللاذقية وطرطوس.
وشكل المنحدرون من محافظات درعا ودير الزور وإدلب اللذين يتجمعون في الجزء الجنوبي من الحي وتقدر مساحته بنصف مساحة الحي، نواة الحراك السلمي في عامه الأولى، على حين يوجد في الجزء الشمالي المقابل شوارع «الجلاء» و«نسرين» و«الغفاري» على التوالي، والتي يوجد فيها أيضا تنوع في النسيج الاجتماعي للسكان، إلا أن تسليح النظام للموالين له فيه من «العلويين» و«النصيريين» و«الدروز» وانضمام هؤلاء إلى الميليشيات الموالية له، جعل لهم سطوة كبيرة على باقي السكان من الطوائف الأخرى، ليبقى هذا الجزء من الحي تحت سيطرتهم.
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، وبعد عسكرة الحراك، اجتاحت فصائل من «الجيش الحر» أبرزها «أبابيل حوران» الجزء الجنوبي من الحي وسيطرت عليه، مما أدى إلى نزوح غالبية سكانه، على حين شكل الجزء الشمالي من الحي منطلقا لعمليات جيش النظام وميليشياته ضد الفصائل المعارضة في الجزء الجنوبي، ومركزا كبيرا لاعتقال وتعذيب سكان المناطق المجاورة المناوئين للنظام.
وعمد النظام إلى تدمير منازل الأهالي بشكل شبه كامل في حي زليخة التابع إداريا لبلدة «يلدا» ويحاذي القسم الجنوبي من حي «التضامن» من الجهة الشرقية، وذلك عبر تفخيخها ومن ثم تفجيرها أثناء عمليات الكر والفر خلال المعارك التي كانت تحصل في الحي.
وبعد سيطرة تنظيم داعش على القسم الأكبر من مخيم اليرموك أبريل عام 2016، قام أيضا بالسيطرة على الجزء الجنوبي من حي «التضامن»، بينما تراجعت الفصائل التي كانت توجد فيه إلى بلدات «يلدا» و«ببيلا» و«بيت سحم»، حيث تسيطر فصائل إسلامية وأخرى من «الجيش الحر».

القدم
المنطقة الخامسة، هي حي «القدم» وهو من الأحياء الدمشقية العريقة المحيطة بالمدينة القديمة للعاصمة، ويقع إلى الجنوب منها، ويحده من الشمال حي «الميدان» ومن الجنوب بلدة «سبينه»، وغربا مدينة «درايا» وشرقا «الحجر الأسود».
ويعد من أوائل الأحياء الثائرة بوجه النظام، ذلك أنه ومنذ بداية عسكرة الحراك تحولت أزقة الحي وحاراته إلى ساحات حرب بين عناصر «الجيش الحر» وجيش النظام، مما أدى إلى نزوح معظم سكان الحي وتدمير بنية الحي بشكل كبير جداً.
يتألف حي القدم من قسمين أحدهما يقع غرب طريق دمشق - درعا القديم، والثاني شرق الطريق الدولية، وسيطر «الجيش الحر» على معظم القسمين في بداية الثورة، إلا أن النظام تمكن لاحقا من استعادة السيطرة على القسم الغربي.
ويضم القسم الشرقي الذي كان يسيطر عليه «الجيش الحر» مناطق «المادنية» و«بور سعيد» و«العسالي» و«محطة القطارت»، ومن أبرز الفصائل التي كانت توجد فيه «الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام» ويقدر عدد عناصرها بنحو 600.
وعلى غرار كثير من مناطق سيطرة المعارضة، تمكن النظام مؤخرا بعد حصار خانق على الحي من فرض اتفاق «تسوية» في مارس (آذار) الماضي على الفصائل تم بموجبه تهجير المقاتلين وعوائلهم من الحي إلى شمال البلاد. لكن تنظيم «داعش» ومن معقله في «الحجر الأسود» باغت قوات النظام وميليشياته وسيطر على المناطق التي كانت فصائل المعارضة تسيطر عليها، وكبد النظام العشرات من القتلى.

ضغوط متزايدة
بالترافق مع العملية العسكرية التي شنها النظام وحلفاؤه منتصف فبراير على مدن وبلدات وقرى غوطة دمشق الشرقية، وأفضت إلى اتفاقات «تسوية» تم بموجبها تهجير أكثر من 200 ألف مقاتل ومدني إلى شمال البلاد وسيطرة النظام على المنطقة التي شكلت طيلة سنوات المعقل الأبرز للفصائل المعارضة قرب دمشق، كان النظام وحليفه الروسي يؤكدان على الدوام أن هدفه المقبل بعد إغلاق ملف وجود المعارضة المسلحة في الغوطة الشرقية سيكون مناطق جنوب دمشق الخارجة عن سيطرته.
وبحسب مصادر أهلية من منطقة بلدات «يلدا» و«ببيلا» و«بيت سحم»، فإن ممثلي النظام وحليفه الروسي وخلال تلك الفترة، كثفوا من زياراتهم للمنطقة، وعقدوا عدة اجتماعات مع ممثلين عن الفصائل المعارضة، وجهوا خلالها تهديدات لهم باجتياح المنطقة إذا لم يقبلوا باتفاقات مشابهة للاتفاقات التي جرت في مدن وبلدات وقرى الغوطة الشرقية (تسوية أوضاع لمن يرغب وترحيل لمن يرفض وإلا الاجتياح العسكري)، وسط «انعدام الأفق» أمام هذه الفصائل بعد محاصرتها من جميع الجهات من قبل النظام وميليشياته و«داعش»، على حد قول المصادر.
وعلاوة على ذلك، فإن النظام وحليفه الروسي يشترطان على الراغبين في الرحيل من المنطقة إلى شمال البلاد، ألا تتم عملية ترحيلهم إلا بعد مشاركتهم في إنهاء ملف «داعش» في «الحجر الأسود» و«مخيم اليرموك» وحيي «التضامن» و«القدم»، وفق المصادر التي اتهمت النظام بـ«استغلال المقاتلين لجعلهم رأس حربة في القتال ضد صقور (داعش) ومن ثم ترحيلهم».
ووسط هذه الخيارات المحدودة يسيطر التخبط والانقسام على الفصائل، بين من يريد البقاء في المنطقة وعدم الإفساح للميليشيات الإيرانية بابتلاعها، وبين من يرفض الزج بمقاتلي المعارضة بمعركة ضد «داعش» كي لا يكونوا وقوداً لتحقيق غايات النظام، بحسب المصادر الأهلية التي توقعت أن يكون مصير المنطقة كباقي مناطق سيطرة المعارضة التي فرضت عليها اتفاقات التهجير.

حشود وغموض
وعلى غرار الحشود التي استجلبها النظام وحلفاؤئه إلى محيط الغوطة الشرقية قبيل شن العملية العسكرية على المعارضة والأهالي فيها، يقوم ومنذ عدة أيام بتعزيز حشوده وآلياته في محيط مناطق سيطرة تنظيم داعش في جنوب دمشق من الجهات الشمالية والشرقية والغربية، حيث تقدر أعداد عناصر التنظيم في تلك المناطق بنحو ألفي عنصر ومع أفراد عائلته ما يقارب 6 آلاف.
وشوهدت في الأسبوع الماضي أرتال تضم مختلف الآليات والمعدات العسكرية وحافلات وشاحنات تقل عناصر من جيش النظام والميليشيات الموالية له إلى محيط مناطق سيطرة «داعش» جنوب دمشق، ذلك أنه يتم نشرها على ثلاثة محاور الأول: مدخل «مخيم اليرموك» الشمالي، والثاني: مدخلا شارعي «إسكندرون» و«دعبول» في القسم الشمالي من حي التضامن والمؤديين إلى القسم الجنوبي منه، والثالث: غربا على مدخل القسم الشرقي من حي «القدم».
وحتى نهاية العام الماضي كان مراقبون يبدون استغرابهم من استمرار نشاط «داعش» جنوب دمشق طيلة فترة سيطرته على تلك المناطق، في ظل الحصار المفروض عليه من قبل النظام، علما بأن علاقة التنظيم متوترة للغاية مع الفصائل التي تسيطر على بلدتي «يلدا» و«ببيلا» المجاورتين لـ«اليرموك» و«الحجر الأسود» من الجهة الجنوبية الشرقية.
وتشير مصادر إلى أن التفسير الوحيد للوضع، أن «الجهة الشمالية التي يسيطر عليها النظام هي مصدر إمداد التنظيم». وتشكك بما يتم الحديث عنه في الأوساط العامة حول العداء بين التنظيم والنظام وتستدل في تفسيرها بأنه، ومنذ سيطرة «داعش» قبل نحو عام على «اليرموك» لم يستهدف مناطق سيطرة النظام القريبة (الميدان، القاعة، الزاهرة) إلا نادرا وركز كل جهده على تصفية «النصرة» التي شكلت وعلى الدوام العثرة الكبيرة أمام أي محاولة لإبرام اتفاق تسوية مع النظام في المنطقة. وتضيف: «أيضا قبل ذلك أسهم (داعش) وبشكل كبير في إنهاء وجود أكناف بيت المقدس في (اليرموك) وهو فصيل كان يرفض بشكل مطلق التسوية مع النظام». وتعتبر المصادر، أن «كل ما جرى من تصفيات للمجموعات المقاتلة الرافضة للتسوية جاء على يد (داعش)، ولمصلحة النظام». وترجح أن يقوم قسم كبير من عناصر التنظيم بتسوية أوضاعهم.
وتشير المصادر إلى «ما أشيع في أواخر عام 2015 عن تعثر تنفيذ اتفاق إخراج نحو أربعة آلاف من عناصر (داعش) و(النصرة) من المنطقة الجنوبية بعد اغتيال قائد (جيش الإسلام) زهران علوش»، موضحة أن تنفيذ الاتفاق حينها لم يتعثر بل تم تنفيذه، لكنه لم يكن ينص على إخراج أربعة آلاف وإنما إخراج «الدواعش» الأجانب، وهذا ما تم بالفعل حينها ولم يبق في «الحجر الأسود» سوى «الدواعش» المحليين الذي هم في الأساس «عملاء جندهم النظام» لصالحه من أمثال قائد «لواء الحجر الأسود» بيان مزعل الذي سلم الكثير من مناطق ريف دمشق الجنوبي للنظام في عام 2013 مثل «السبينة» و«البويضة» و«حجيرة» و«الذيابية».
لكن حالة جمود جبهات «داعش» مع النظام، كسرها التنظيم في عملية حصلت في ديسمبر، حينما تسلل مقاتلوه إلى الجزء الشمالي من حي «التضامن» وقتلوا بعض عناصر الميليشيات الموالية للنظام وانسحبوا بعد ذلك.
وصعد التنظيم من وتيرة كسره لجمود الجبهات مع النظام في بدايات مارس الماضي، مع منعه جيش النظام تسلم مناطق سيطرة فصائل المعارضة في القسم الشرقي من حي «القدم» بعد اتفاق تهجير نفذه النظام هناك مع الفصائل، حيث شن مقاتلوه هجوما عنيفا من معقلهم في «الحجر الأسود» ضد عناصر النظام الذين دخلوا المنطقة وخاض معهم معارك عنيفة استمرت عدة أيام، أعلن بعدها التنظيم سيطرته على معظم المنطقة التي تم تهجير المعارضة منها في حي «القدم» جنوبي دمشق، بعد مواجهات عنيفة مع قوات النظام، قال إنها أدّت لتدمير وعطب آليات ثقيلة بينها دبابات وناقلة جند، ومقتل 175 عنصراً للنظام.
ما أقدم عليه «داعش» يفسره بعض المراقبين بأنه يأتي ربما في الإطار «التكتيكي» في العلاقة القائمة بين النظام والتنظيم، ويهدف من ورائه الأخير إلى مكتسبات إضافية لضمان تسوية تناسب عناصره بعد تراجع نفوذ التنظيم بشكل كبير في عموم البلاد، مشيرة إلى أنباء تتردد منذ زمن بعيد وتتحدث عن أن غالبية عناصر التنظيم خصوصا منهم أبناء ناحية «الحجر الأسود» يرغبون بتسوية أوضاعهم، مع انعدام الخيارات أمامهم لناحية الإجلاء إلى مناطق أخرى يسيطر عليها التنظيم، لأن الولايات المتحدة والأردن وإسرائيل لا يمكن أن تقبل بنقل هؤلاء إلى منطقة «حوض اليرموك» معقل التنظيم في جنوب البلاد، كما أن فصائل المعارضة ستعارض مرور هؤلاء في مناطق سيطرتها للوصول إلى هناك، وكذلك يستبعد نقل هؤلاء إلى شرق البلاد كون تلك المنطقة منطقة نفوذ أميركية.
لكن مراقبين آخرين، يرون أن سيناريوهات إنهاء تنظيم «داعش» في جنوب دمشق «لا يمكن التكهن بها، فالمشهد يلفه كثير من الغموض»، مشيرين إلى أن النظام «يدرك تماما حالة الضعف» التي يعاني منها التنظيم حاليا في جنوب العاصمة، وبالتالي «قد ينقلب على العلاقة معه ولن يسمح له بفرض شروطه حتى وإن اضطره ذلك إلى القيام بعمل عسكري».



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.