شايغان... محن وتجارب فيلسوف إيراني

كان موسوعياً... شاعراً متصوفاً عالم لغويات وناقداً أدبياً

غلاف «النور يأتي من الغرب»  -  شايغان في شقته بطهران
غلاف «النور يأتي من الغرب» - شايغان في شقته بطهران
TT

شايغان... محن وتجارب فيلسوف إيراني

غلاف «النور يأتي من الغرب»  -  شايغان في شقته بطهران
غلاف «النور يأتي من الغرب» - شايغان في شقته بطهران

قال داريوش شايغان بينما يرتشف قهوته الإسبريسو، وكأنها شراب مقدس: «في نهاية الأمر نحن لا نعيش سوى حياة واحدة. السؤال هو ماذا فعلنا بها؟».
كان ذلك المشهد منذ عام في أحد مقاهي شارع ألما مارسو في باريس، حيث التقينا وتناولنا الغداء سوياً مع صديق مشترك هو شاهين فاطمي. في الوقت ذلك لم يكن أحد منا يعلم أن تلك الزيارة ستكون آخر زيارة لداريوش للعاصمة الفرنسية التي لطالما اعتبرها وطناً ثانياً له، فبعد عام من ذلك التاريخ وافته المنية في وطنه الأول الحبيب طهران.
قبل أيام قليلة حضرت مجموعة صغيرة من المعزين مراسم دفن داريوش البالغ من العمر 83 عاماً في طهران تحت أعين قوات الأمن «الإسلامي»، المنتشرة لضمان عدم حدوث أي «اضطرابات». الإجابة عن سؤال شايغان «ما الذي فعلناه بحياتنا؟» بسيطة ومعقدة في آن واحد في حالتنا هذه.
لقد كان شايغان يوصف بأنه موسوعي، وفيلسوف، وشاعر، ومتصوف، وعالم لغويات، وأستاذ في الحضارات «الشرقية»، لكنه خاض أيضاً غمار النقد الأدبي، والبحث التاريخي، والتكهنات اللاهوتية؛ وكان كذلك جامعاً للأعمال الفنية والكتب وأعمال الخط وخبيراً بها. وانخرط أيضاً في استراتيجية سياسية كبيرة من خلال نشر مفهوم «حوار الحضارات»، الذي تبنته الإمبراطورة فرح للمرة الأولى، وبعد وصول الملالي إلى السلطة في طهران، وتولي حجة الإسلام محمد خاتمي منصب رئيس الجمهورية الإسلامية لمدة ثماني سنوات.
مع ذلك أهم ما يتذكره عنه من عرفه عن قرب هو حبه الكبير لإيران، الذي كان يصل إلى حد العبودية، وما كان يصفه بأنه علاقة حب طويلة مع اللغة الفارسية. لقد كان شايغان من مخرجات ثقافة الحقبة الإمبراطورية الإيرانية، إن جاز التعبير، مع ما يتضمنه من مخاطرة بإثارة الاستياء.
ولد شايغان في مدينة تبريز، عاصمة محافظة أذربيجان الشرقية الواقعة في شمال غرب إيران، لأب أذربيجاني، وأم من جورجيا، لذا تعلم في طفولته اللغتين الأذربيجانية والجورجية. مع ذلك في الوقت ذاته تعلم الفارسية، وهي اللغة المشتركة في إيران، التي كانت تجمع الكثير من الجماعات العرقية واللغوية المختلفة في نسيج مترابط لأمة واحدة. وقت ميلاد شايغان كان عدد اللغات الحية في إيران 18 لغة كانت تمثل كل منها، باستثناء لغة واحدة، جماعة عرقية؛ لكن مع الأسف لم يتبق منها الآن سوى ست لغات فقط. كانت تلك اللغة المستثناة هي الفارسية، حيث لم تكن مرتبطة بجماعة عرقية بعينها بل كانت لغة كل الإيرانيين.
الفارسية لغة خطيرة، فهي قد تسحرك وتربكك بفتنتها وغموضها، وتلف ربقتها حول عنقك، وتقودك إلى مناطق لا تنتوي الذهاب إليها؛ فهي مثل الأنثى الفاتنة التي لا يمكن مقاومة غوايتها، والتي تجعلك تنسى أن لديها سلاحاً محشواً بالطلقات في حقيبتها المصنوعة من جلد التمساح. لقد كان شايغان واحداً من بين الكثير من المفكرين الإيرانيين المفتونين باللغة الفارسية، فبدلاً من أن يأمروها ويطوعوها لخدمة أفكارهم، أصبحوا هم وعاءً يتجلى فيه جمالها، حيث تتعجب من النثر الجميل الأخاذ الذي يجعل أي فكرة من المفترض التعبير عنها من خلال اللغة تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، ويجعلك ذلك تقول: «أنا أحبها، فهي توصلني إلى السماء السابعة، لكن ما معنى ما يقال؟».
كان على شايغان أيضاً، مثله مثل الكثير من المفكرين الإيرانيين الآخرين، استخدام لغات أخرى، وكانت في حالته اللغة الفرنسية، للتعامل مع الجوانب الأساسية من تكهناته الفلسفية وملاحظاته التاريخية. لهذا السبب كتب أكثر كتبه البالغ عددها 18 كتاباً بالفرنسية، في حين كان يستخدم الإنجليزية في كتابة بعض الأوراق البحثية والمقالات.
كان لإجادة شايغان لست لغات، بفضل مولده في إيران، ودراسته في إنجلترا وسويسرا وفرنسا، الفضل في الإطلاع على الأعمال الأدبية التي كان يحتاجها لتكون مصدر إلهام، وكذلك مصادر بحثية في الإسلام والصوفية والهندوسية والمسيحية، إلى جانب مجموعة من أديان الأقليات التي لا تحظى بشهرة وانتشار.
قام شايغان من خلال عمله أستاذاً للفلسفة المقارنة، يحظى بشهرة في جامعة طهران خلال الفترة بين 1968 و1979، بتدريب جيل جديد من الباحثين واصلوا ما بدأه في تلك المجالات. مع ذلك كان تركيز شايغان خلال تلك الفترة من العمل أستاذاً جامعياً منصّباً على «الإسلام الإيراني»، وهو مصطلح صكّه واستحدثه هنري كوربين، الباحث الفرنسي في الدراسات الإيرانية، الذي كانت تربطه علاقة صداقة وطيدة بشايغان. وقام شايغان بترجمة جزء من أعمال كوربين إلى الفارسية، وتأليف كتاب يجمع بين السيرة والنقد عن ذلك الأستاذ الفرنسي. جمع الحب العميق لإيران بين كوربين وشايغان، وساهم ذلك في تذكر وإعادة تقديم بعض من أعمال كبار الفلاسفة الإسلاميين الذين كاد التاريخ أن ينساهم.
اتسمت رؤية كوربين في رأيي بالمبالغة في الدور الذي لعبته إيران في تحويل الإسلام من مجرد قواعد دينية بسيطة إلى ثقافة معقدة وحضارة متعددة الأوجه، حيث لم يدرك الباحث الفرنسي أن إيران والإسلام كانا كيانين منفصلين التقيا عند بعض النقاط، لكنهما اختلفا وتباعدا عند نقاط أخرى. مع ذلك يظل أسوأ ما في الأمر هو تركيز كوربين الشديد على النسخة الصوفية من «الإسلام الإيراني» من أجل توفير مساحة كافية للأشكال الأخرى الكثيرة التي عبّر بها الإيرانيون عن هويتهم الإسلامية. في النهاية محاولة فهم الفن أو الثقافة من منظور ديني قد يضرّ بالاثنين معًا. هل ينبغي على المرء التعمق في دراسة العقيدة المسيحية حتى يتمكن من الاستمتاع بعمل باخ «شغف القديس متى»؟ هل ينبغي على المرء حضور دورة تعليمية في اللاهوت من أجل الاعتراف به كواحد من كبار وفحول الشعراء الفرس مثل ناصر خوسرو، أو مولوي، أو حافظ، أو نظامي؟ أو سعيدي الذي قال: «كل شيء جيد في مكانه».
التفتت الإمبراطورة فرح، التي تلقت تعليماً فرنسياً، إلى شايغان في منتصف حقبة السبعينات، ودعته إلى الانضمام إلى «المركز الفلسفي الملكي» الذي كان حديث النشأة آنذاك، والذي كان يتولى تنسيق أعماله وأنشطته سيد حسين ناصر، السكرتير الخاص للإمبراطورة، والأكاديمي والباحث البارز في المذهب الشيعي. كذلك كان من بين الشعراء الآخرين، الذين انضموا إلى المركز، بعض الملالي، الذين أصبح بعضهم لاحقاً من الشخصيات القيادية في ثورة الخميني، ومن بينهم حجة الإسلام مرتضى مطهري، بالإضافة إلى استقطاب «فلاسفة» غير إيرانيين أيضاً إلى ذلك المشروع، ومن بينهم المنظّر الشيوعي الفرنسي هنري لوفيفر، وروجيه غارودي، الذي كان أيضاً شيوعياً لكنه اعتنق الإسلام فيما بعد. وكان من بين الفلاسفة الإيرانيين الآخرين، الذين انضموا إلى المشروع، أحمد فرديد، الذين كان مؤمناً بفكر هايدجر، ووصل إلى مكانة بارزة في نظام الخميني.
عندما أغلق الخميني الجامعات الإيرانية لعامين من أجل «تطهيرها وأسلمتها»، وجد شايغان نفسه بين آلاف من الأساتذة والمحاضرين الذين تم استبعادهم «لأنهم ليسوا مسلمين بدرجة كافية». ورأت لجنة الثورة الثقافية التابعة للخميني، التي كان يرأسها جلال الدين فارسي، ومن أعضائها عبد الكريم سروش، الفيلسوف الإسلامي الذي تلقى تعليماً بريطانياً، ضرورة خضوع من تم استبعادهم من الجامعات إلى خطة إسلامية لإعادة تأهيلهم وتعليمهم حتى يعودوا إلى التدريس بالجامعة مرة أخرى. في حين اختار الكثيرون المنفى مفضلين إياه على تلك الخطة، قرر البعض الآخر البقاء في إيران، ولكن مع تجنب لفت الأنظار، وكان شايغان منهم. تكمن المفارقة في دعم شايغان لـ«الثورة الإسلامية» لفترة قصيرة، بل وقوله إن «آية الله الخميني، الملا الذي أصبح زعيم الحركة المناهضة للشاه، ربما يكون (غاندي الإسلام)». تسببت رؤية الفيلسوف لثورة الخميني في ابتعاد الكثير من أصدقائه عنه، وقد كنت من بينهم.
مع ذلك كان شايغان أبعد ما يكون عن تلك الدناءة والخسّة، خصوصاً حيث أقرّ لاحقاً بأن افتتانه بـ«غاندي الإسلام» لم يستمر لأكثر من شهر؛ ففي نهاية ذلك الشهر اجتمعنا مصادفة، وتظاهرت بتجاهله، لكنه سارع بالاتجاه نحوي، وربت على كتفي قائلاً: «لقد كنت مخطئاً، فلنتجاوز ذلك الأمر». من يستطيع مقاومة تلك القوة العظيمة في إخضاع الأنا والسيطرة عليها؟
بعد مرور سنوات عديدة، فسّر شايغان «ذلك الشهر» في سياقه من خلال الإشارة إلى انجذاب الكثير من المفكرين الإيرانيين البارزين إلى فكرة الثورة، موضحاً أن ذلك الافتتان والانجذاب قد أضرّ كثيراً بإيران. وكتب في اعتراف لا يزال له صدى وتأثير لدى الكثير من الإيرانيين: «كل جيلنا (من المفكرين) قد أساء التصرف والتعامل مع الأمر».
ولا يزال كتاب شايغان السياسي، الذي يحمل اسم «ما هي الثورة الدينية؟»، من روائع الأعمال الاجتماعية السياسية التي رصدت حالة الارتباك التي هيمنت على الكثير من الدول ذات الأغلبية المسلمة في خضم محاولتها لتجاوز تحديات العالم الصناعي العصري، وما بعد الصناعي، الذي لم تساهم في بنائه أو تكوينه؛ وقد حقق شايغان لاحقاً في هذا الموضوع في كل من «نظرة مشوهة» (1996)، و«فصام ثقافي: المجتمعات الإسلامية في مواجهة الغرب» (1997) اللذين أثارا الكثير من النقاشات والجدل في العالم الإسلامي.
في نهاية التسعينات، وبعد إدراك شايغان لفشل الثورة الإسلامية في إيران، انضم إلى حركة «مؤيدي الثقافة الغربية» الإيرانية التي تمتد لمائتي عام، التي كانت ترى أن إيران لن تتقدم إلا إذا تبنت قيم عصر النهضة وما نتج عنها من ديمقراطية. أثمر ذلك كتابه «النور يأتي من الغرب» الذي نشر عام 2003 ثم مرة أخرى عام 2015.
ومع اندلاع الانتفاضات، التي تم إطلاق اسم «الربيع العربي» عليها بعد ذلك، في ديسمبر (كانون الأول) 2010، تجدد الأمل في نفس شايغان بأن تنجح المجتمعات الإسلامية في الخروج من هذا المأزق دون الانسلاخ من الثقافة التي يهيمن عليها الدين. ولهذا السبب أطلق على الثورات اسم «النهضة الإسلامية». مع ذلك سرعان ما أدرك شايغان أن الانغماس في السياسة كان دوماً مخاطرة بالنسبة لفيلسوف. ومع حلول عام 2012 كان «الربيع العربي» قد بدأ يتحول إلى خريف عواقبه غير متوقعة، ثم إلى شتاء قارص، واعترف شايغان لأصدقائه، وكنت من بينهم، بأنه قد تسرع في دعم تلك الانتفاضات.
ما الذي كان يستطيع فعله بعد ذلك؟ لحسن طالع شايغان كان دائماً قادراً على العودة إلى الوطن، بمعنى العثور على الملاذ في «الحسّ القومي الإيراني»، الذي ظل لقرون ملاذ المفكرين المخذولين. بهذه الروح استغل شايغان مكانته وقوته الروحية والمعنوية لتدشين سلسلة جديدة من الكتب، كانت أكثرها مترجمة عن لغات غربية عديدة، عن التاريخ الإيراني والثقافة الإيرانية قبل دخول الإسلام. كانت تلك السلسلة هي أول سلسلة أرى أنه تم انتقاؤها وتدقيقها بعناية، وطبعها بجودة عالية.
وكما يحدث كثيراً في التاريخ الإيراني، تحثّ «خيبة الأمل في الدين على العودة إلى القومية». مع ذلك لا تقل المبالغة في الشعور بالقومية في ضررها عن خلط الدين بالسياسة. نحن لا نعلم ما الذي قد تأول إليه تلك العودة إلى القومية، لكن كان يحدو شايغان أمل كبير في هذا الأمر؛ مع ذلك نأمل نحن ألا يتبين أنه قد أخطأ سياسياً مرة أخرى.
لا ينطبق السؤال الخاص بما فعلناه بحياتنا على شايغان، لأن قدره هو أن يصبح خالداً كفيلسوف كبير، وأيضاً كإنسان عظيم.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر
TT

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

هي رواية تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، تحمل اسم «عورة في الجوار»، وسوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر والتوزيع، وتقع في 140 صفحة.

عن عوالمها وفضائها السردي، يقول تاج السرّ لـ«الشرق الأوسط»: «تروي هذه الرواية التحولات الاجتماعية، وحياة الريف المكتنز بالقصص والأساطير، وانتقال البلد إلى (العصرنة) والانفتاح ورصد التأثيرات الثقافيّة التي تهبّ من المدن إلى الأرياف، لكنها ترصد أيضاً تأثير الأوضاع السياسية المضطربة في السودان على حياة الناس العاديين وما تسببه الانقلابات العسكرية من معاناة على السكان المحليين، خاصة في الأرياف... إلى جانب اهتمامها بتفاصيل الحياة اليومية للناس، في سرد مليء بالفكاهة السوداء».

حمل غلاف الرواية صورة الكلب، في رمزية مغوية إلى بطل الرواية، الذي كان الناس يطلقون عليه لقب «كلب الحرّ» كتعبير عن الشخص كثير التنقلّ الذي لا يستقرّ في مكان. كان كثير التنقّل حيث يعمل سائق شاحنة لنقل البضائع بين الريف والعاصمة وبقية المدن، والزمان هو عام 1980، وفي هذا الوقت يلتقي هذا السائق، وكان في العشرينات من عمره بامرأة جميلة (متزوجة) كانت تتبضع في متجر صغير في البلدة التي ينحدرُ منها، فيهيمُ فيها عشقاً حتى إنه ينقطع عن عمله لمتابعتها، وتشمم رائحتها، وكأنها حلم من أحلام الخلود.

وعن الريف السوداني الذي توليه الرواية اهتماماً خاصاً، ليس كرحم مكاني فحسب، إنما كعلاقة ممتدة في جسد الزمان والحياة، مفتوحة دائماً على قوسي البدايات والنهايات. يتابع تاج السر قائلاً: «الريف السوداني يلقي بحمولته المكتنزة بالقصص والأساطير حتى الفانتازيا في أرجاء الرواية، حيث ترصد الرواية ملامح وعادات الحياة الاجتماعيّة... لتنتقل منها إلى عالم السياسة، والانقلابات العسكرية والحروب الداخلية، حيث تسجل صراعاً قبلياً بين قبيلتَين خاضتا صراعاً دموياً على قطعة أرض زراعية، لا يتجاوز حجمها فداناً واحداً، لكنّ هذه الصراعات المحلية تقود الكاتب إلى صراعات أكبر حيث يتناول أحداثاً تاريخيّة كالوقائع العسكريّة والحروب ضدّ المستعمِر الإنجليزي أيّام المهدي محمد أحمد بن عبد الله بن فحل، قائد الثورة المهديّة، ومجاعة ما يعرف بـ(سنة ستّة) التي وقعت عام 1888، حيث تعرض السودان عامي 1889 – 1890 إلى واحدة من أسوأ المجاعات تدميراً».

وعلى الصعيد الاجتماعي، ترصد الرواية الغزو الثقافي القادم من المدن إلى الأرياف، وكيف استقبله الناس، خاصة مع وصول فرق الموسيقى الغربية، وظهور موضة «الهيبيز»، وصولاً إلى تحرر المرأة.

رواية جديدة تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، سوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر.

يشار إلى أن أمير تاج السر روائي سوداني ولد في السودان عام 1960، يعمل طبيباً للأمراض الباطنية في قطر. كتب الشعر مبكراً، ثم اتجه إلى كتابة الرواية في أواخر الثمانينات. صدر له 24 كتاباً في الرواية والسيرة والشعر. من أعماله: «مهر الصياح»، و«توترات القبطي»، و«العطر الفرنسي» (التي صدرت كلها عام 2009)، و«زحف النمل» (2010)، و«صائد اليرقات» (2010)، التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2011، تُرجمَت أعماله إلى عدّة لغات، منها الإنجليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والإسبانيّة والفارسيّة والصينيّة.

نال جائزة «كتارا» للرواية في دورتها الأولى عام 2015 عن روايته «366»، ووصلتْ بعض عناوينه إلى القائمتَين الطويلة والقصيرة في جوائز أدبيّة عربيّة، مثل البوكر والشيخ زايد، وأجنبيّة مثل الجائزة العالميّة للكتاب المترجم (عام 2017 بروايته «العطر الفرنسي»، وعام 2018 بروايته «إيبولا 76»)، ووصلت روايته «منتجع الساحرات» إلى القائمة الطويلة لجائزة عام 2017.

صدر له عن دار «نوفل»: «جزء مؤلم من حكاية» (2018)، «تاكيكارديا» (2019) التي وصلتْ إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (دورة 2019 – 2020)، «سيرة الوجع» (طبعة جديدة، 2019)، «غضب وكنداكات» (2020)، «حرّاس الحزن» (2022). دخلت رواياته إلى المناهج الدراسيّة الثانويّة الإماراتيّة والبريطانيّة والمغربية.