المجر مربع جديد لتيار أصولية العداء للآخر

تحولت معقلاً لليمين الأوروبي المتطرف بقيادة أوربان

رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بعد فوزه بالانتخابات (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بعد فوزه بالانتخابات (أ.ف.ب)
TT

المجر مربع جديد لتيار أصولية العداء للآخر

رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بعد فوزه بالانتخابات (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بعد فوزه بالانتخابات (أ.ف.ب)

المؤكد أن فوز حزب «فيديس» المجري برئاسة رئيس الوزراء الحالي فيكتور أوربان يعد دلالة على أن الخوف بات الطائر المحلق في سماوات وسط أوروبا تحديداً، فقد فاز الرجل وحزبه بنحو 49.5 في المائة من الأصوات، مما مكنه من ثلثي مقاعد البرلمان، أي 134 مقعداً من أصل 199 في برلمان بلاده.
ولعل الأكثر إثارة هو أن «القوميين المجريين»، قد جاءوا في المرتبة الثانية بنحو 20 في المائة من الأصوات، مما يمكنهم من الحصول على 27 مقعداً، بينما لم يستطع الاشتراكيون سوى حصد 11.85 في المائة من الأصوات.
النتائج المتقدمة تقودنا للتفكير مليا في الأسباب والدوافع التي من شأنها تمضي مسيرة الأصولية الأوروبية قدماً.
أوربان الرجل اللغز
يعد فيكتور أوربان حجر الزاوية في البناء المجري السياسي المعاصر، وله تاريخ نضالي كبير في أثناء الحقبة الشيوعية، حين كانت المجر واقعة تحت أسر نفوذ الاتحاد السوفياتي، ومنذ الرابعة عشرة من عمره يخوض غمار الحياة السياسية، وقد أسس حزبه المعروف باسم «فيديس» أي «حزب الشباب الديمقراطي»، وهو يشكل علامة استفهام للشرق والغرب سوية، بمعني أنه كان ممجوجاً من الروس رغم شيوعيته، وغير مقبول من الغرب باعتبار أنه السياسي الذي قاد التغيرات المفصلية في بلاده عبر كل المناحي، لكنه أخفق في السير على درب الديمقراطية، وفي تناقضاته البنيوية هذه وقع الجميع في الحيرة من حوله.
«فيكتور أوربان» نموذج مثير للأصولية الأوروبية المغايرة عن نظيرتها في ألمانيا أو فرنسا، وبعيد جداً عن النسق الأميركي، فهو يكاد يقترب من رؤية دول العالم الثالث للمؤسسات المالية والسياسية الدولية، ويكاد يلامس سقف الراديكاليين الشرق أوسطيين الذين يؤمنون بأن كل ما يجري حول العالم هو صنيعه مؤامرة غربية، ويزيد أوربان من الشعر بيتاً حين يبث خطاباته الكارهة للمنظمات اليهودية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، رغم أن بلاده عضو في جميعها.
هويته ورؤيته للإسلام
على أن مزايدات أوربان، على أطراف وأطياف العالم والعولمة يمكن رصدها في جهة، فيما الورقة الرابحة بشكل شبه مؤكد والتي تلاعب بها على أوتار المتناقضات تتمثل في جانب آخر، جانب مغازلة القوميين والشعبويين من المجريين الذين صوتوا له بكثافة هذه المرة، فيما يخص مسألة الهوية المجرية خاصة والأوروبية بشكل أكثر عمومية.
خلال شهر فبراير (شباط) الماضي وقبل بضعة أسابيع من الانتخابات البرلمانية كان «أوربان» يتحدث عن بلاده بوصفها آخر معاقل أوروبا في مواجهة ما أسماه «ظاهرة الأسلمة»، بل أكثر من ذلك، إذ يزايد على المتطرفين في الداخل المجري بالقول إن الأسلاك الشائكة التي أقامتها بلاده على حدودها وإجراءات الأمن المشددة التي اتخذت تجاه المهاجرين، قد نجحت دون وقوع ما أطلق عليه «غزو إسلامي» لبلاده التي أتهمتها الأمم المتحدة بخرق التزاماتها بموجب القوانين الدولية الأوروبية بسبب فرضها قيوداً على اللاجئين المسلمين.
والشاهد أن الأوروبيين لا سيما التيارات المعتدلة في داخلها قد اعتبرت الرجل ظاهرة تتوجب الرصد والتحليل خوفاً من تبعاتها واستحقاقاتها المستقبلية، ومثال ذلك ما نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية عن مفردات أوربان التي يستخدمها ليذيع الكراهية في قلوب الأوروبيين تجاه المسلمين في القارة العجوز، مصطلحات من عينة «الغيوم السوداء» التي تحلق فوق سماوات أوربان.
يفتح أوربان الأبواب واسعة أمام إعادة النقاش الدائر حول «أسلمة أوروبا». ذلك التعبير غير العلمي وغير الموضوعي، والذي يستخدم اليوم كفزاعة لاستجلاب أصوات الناخبين، وعند أوربان أن: «عدد المسلمين الذين يعيشون في أوروبا قد تكاثروا جداً، مما يجعل القيم الثقافية والدينية الأوروبية تتراجع، عطفاً على تراجع أعداد سكان أوروبا أصحاب الثقافة المسيحية، وبداية مسيرة لأسلمة المدن الأوروبية الكبرى».
ولعل نتيجة الانتخابات الأخيرة تؤكد أن الخطاب الشعبوي لأوربان سيما تأكيده على أن «بلده يتعرض لغز مهاجرين وأجانب يريدون أخذ المجر من شعبه» قد آتت أكلها.
المجر تضحى أكثر راديكالية
لا يقتصر المشهد على فوز أوربان، بل يتخطاه إلى الإشكالية الحقيقية التي تتمثل في أن سياسات وشعارات الرجل دفعت وتدفع لصعود الحركات اليمينية المتطرفة والرأي العام المتأثر بتدفق المهاجرين إلى البلاد، مما جعل المجر قلعة للأصولية اليمينية في قلب أوروبا، تلك التي كانت يوماً مثالاً للتنوير وحرية الرأي، وحقوق الآخر. والمؤكد أن المتابع لمجريات الأحداث السياسية وحركة الأحزاب والجماعات الناشطة في الداخل المجري، يدرك تمام الإدراك المردود السلبي لخطابات «أوربان» الكارهة للمهاجرين والمتخذة كمنصة انطلاق لتصعيد شعبوي ضد المسلمين بحجة أنهم مصدر الإرهاب، وكذا أنهم يمثلون الجبهة المناوئة لليبرالية الأوروبية التقليدية.
أما عن تلك الجماعات فإن حركة «قوة وعزم» المتطرفة تعد دليلاً عليها من خلال خطابها الذي يكاد يقارب خطابات الفاشية والنازية الأوروبية، والأكثر خطورة في المشهد أن المجر اليوم بدأت تضحى بؤرة جاذبة لهجرات أوروبية داخلية، فعلى سبيل المثال هناك مواطنون ألمان قد شدوا رحالهم إلى المجر كراهية في أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا، التي تفتح أبواب بلادها للمهاجرين، ليستقروا في المجر التي باتوا يعتبرونها أكثر أمناً وأماناً.
ومن أمثلة الأصوات الراديكالية الساعية في درب أوروبا يأتي «جيورجي شوبفلين» النائب المجري في البرلمان الأوروبي وعضو حزب فيديس، والذي يريد أن تصبح المجر مجتمعاً متعدد الثقافات، ويؤمن أن السياج الذي ضربته من حولها هدفه قطع الطريق على وجود مجتمع مسلم كبير في المجر، وهي الفكرة التي لا يقبلها حزب فيديس.
يخبر «أوربان» شعبه ونوابه، ومن خلال وسائل الإعلام التي يمتلكها بين أمرين: الديمقراطية التي يمكن أن تحول بلاده إلى جنة للمسلمين، وبين النموذج الحالي الذي يحاول الحفاظ على وحدة بلاده ودرء خطر الأجانب من المسلمين عنها.
والمقطوع به أن الخيار المتقدم زائف، لكنه في نهاية المطاف خيار يقود صفوف الناخبين لإعادة انتخاب أوربان من جديد.
مسلمو المجر ومعاناة واقعية
قبل نحو عام تحدث ستيفانوس ستافروس الأمين التنفيذي للجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية والتعصب عن أحوال المجر الداخلية بالقول: «نحن قلقون جداً من خطاب الكراهية الذي يستهدف الفئات الضعيفة، إنه من الخطر استعمال عبارات الغجر واليهود والمثليين والمتحولين جنسياً، وغيرها للحديث عن المهاجرين» غير أن الرجل لم يتحدث عن أحوال ومآلات المسلمين في المجر وهؤلاء قسم كبير منهم يعود إلى أواخر القرن الرابع الهجري عندما هاجرت بعض القبائل البلغارية التي اعتنقت الإسلام إلى المجر، فيما أسلم نفر آخر عندما احتل العثمانيون المجر عام 1586، وكان في بودابست وحدها في عام 1687 نحو واحد وستون مسجداً واثنان وعشرون مصلى، وعشر مدارس إسلامية ولاحقاً ازدادت أعداد المسلمين هناك بعد حركة الهجرة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أوائل سبعينات القرن المنصرم وحتى تيار الهجرة الأخرى.
لكن هؤلاء باتوا اليوم يعانون من التمييز العنصري ضدهم من قبل السلطات الرسمية، تلك التي تمنع بناء المساجد أو رفع الآذان، عطفاً على عدم السماح بارتداء النقاب أو البوركيني كما حدث في مدينة «اسوثالوم» القريبة من حدود صربياً». وفي تبريره لتلك الإجراءات يقول لازلوتورو زكاي، رئيس البلدية المتشدد: «إن القرار اتخذ بهدف الحفاظ على قيم المجتمع المسيحي وتقاليده في وجه أي استيطان خارجي حاشد»، والجدير بالذكر أن رئيس البلدية هو كذلك نائب رئيس حزب «يوبيك» اليميني المتشدد، الذي يشابه في تعصبه وكراهيته للأجانب وبخاصة المسلمين حزب «فيديس» الذي يتزعمه أوربان نفسه.
> لم يقف مسلمو المجر مكتوفي الأيدي أمام هذا الغبن، وقد عبرت عن شؤونهم «الجمعية الإسلامية المجرية» التي أنشئت عام 1990، وهي أبرز الجمعيات المسلمة في البلاد ويقدر عددها بنحو عدة آلاف جمعية.
مسلمو المجر رفعوا شكواهم إلى المحكمة الدستورية للبلاد للنظر في التمييز العنصري الواقع عليهم، وكذا وجهوا رسالة إلى أوربان نفسه، لكنهم لم يتلقوا رداً، كان ذلك قبل عام تقريباً، وعليه فإن على القارئ أن يستنتج كيف يمكن أن يرسم مستقبل المسلمين في المجر... خطوطه وقسماته المؤلمة؟
ومن بين الملامح المثيرة والمقلقة في الوقت ذاته التي استتبعت فوز «فيكتور أوربان وحزبه، تلك الأريحية وذلك الترحيب من قبل قوى أوروبية يمكن القطع بأنها تميل نحو اليمين المتطرف ميلاً كبيراً جداً، وكأنها تسعى إلى بناء جبهة يمينية أوروبية موحدة.
خذ إليك على سبيل المثال تصريحات وزير الداخلية الألماني الجديد هورست زيهوفر، الرجل الذي تحدث مؤخراً بالقول إن الإسلام لا يمثل جزءاً من ألمانيا، على العكس من تصريحات المستشارة أنجيلا ميركل التي تؤكد دوما على أن الإسلام والمسلمين جزء من السبيكة الديموغرافية لألمانيا عبر التاريخ المعاصر.
زيهوفر وفي اليوم التالي مباشرة لفوز «أوربان» رحب بانتصار الأخير، وحث الاتحاد الأوروبي على التخلي عما وصفه «بسياسة الغطرسة والتفضل تجاه ما أسماه «الدول الأصغر في التكتل».
بل أكثر من ذلك، إذ أشاد «زيهوفر» بنتائج الانتخابات المجرية.... أما لماذا يفعل وزير داخلية ألمانيا ما يفعل، فالجواب يسير للغاية وهو أن الرجل عضو في حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي المناصر القديم لأوربان.
ومن ألمانيا إلى بولندا التي تتعالى فيها وبقوة الأصوات الراديكالية اليمينية نجد نائب وزير الخارجية ومبعوث بولندا لدى الاتحاد الأوروبي «كونارد شومانسكي» يصرح بأن فوز أوربان في الانتخابات إقرار بسياسة تحرر وسط أوروبا، وإن كان ذلك لا يعني استهداف أو محاربه أي شخص، وإن لم يقل لنا تحرر من قبل من ولماذا الآن؟
هل الاتحاد الأوروبي في خطر؟
السؤال الذي يراود أذهان الكثيرين في أوروبا اليوم: «هل فوز أوربان والتضامن الأوروبي اليميني معه يضع الاتحاد الأوروبي في منطقة الخطر، خوفاً من التفكك والتفسخ؟
يلاحظ أنه رغم خلافات أوربان مع بروكسل في شأن مسألة الهجرة وقبول المهاجرين، فإنه لم يهدد يوماً بالانسحاب من الاتحاد والمجر من الدول الرئيسية التي تستفيد من الأموال الأوروبية، تلك التي ساهمت في إنعاش الاقتصاد بعد الأزمة التي شهدتها البلاد في نهاية سنوات العقد الأول من القرن الحالي.
لكن وعلى الرغم من ذلك فإن فوز «أوربان - فيديس» يجعل التمدد الشعبوي لمعسكر الأحزاب المناهضة للاتحاد الأوروبي في أفضل أحوالها، مع تجمع المزيد من المكتسبات، وتحقيق انتصارات في انتخابات برلمانية كما الحال في ألمانيا والنمسا، إيطاليا والتشيك، وفي مقابل إخفاق الأحزاب التقليدية، مما يجعل الأصولية اليمينية هي الغيوم الحقيقية التي تخيم على سماوات أوروبا في الحال وتتهددها في الاستقبال.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.