جيرمي باكسمان حافظ على بريقه حتى الرمق الأخير

مقدم أهم نشرة في «بي بي سي» الإخبارية يعيد السؤال نفسه على أحد ضيوفه بعد 17 سنة

جيرمي باكسمان في آخر ظهور في نشرة «نيوز نايت»
جيرمي باكسمان في آخر ظهور في نشرة «نيوز نايت»
TT

جيرمي باكسمان حافظ على بريقه حتى الرمق الأخير

جيرمي باكسمان في آخر ظهور في نشرة «نيوز نايت»
جيرمي باكسمان في آخر ظهور في نشرة «نيوز نايت»

«ليلة سعيدة وحظا سعيدا»، بهذه الكلمات أسدل جيرمي باكسمان، المذيع المثير للجدل، الستار على علاقته مع واحدة من أهم النشرات الإخبارية البريطانية، إن لم تكن الأهم على الإطلاق.
باكسمان، الذي لقب بالمحقق خلال تربعه على النشرة المسائية «نيوز نايت» (النشرة الإخبارية الليلية) على القناة الأرضية الثانية لهيئة البث البريطاني «بي بي سي 2» التي تبدأ الساعة العاشرة والنصف مساء وتمتد لمدة 45 دقيقة، اختار أن يودع جمهور المشاهدين الذي قدر بأكثر من مليون شخص بهذه الجملة بدلا من «نايت» التي كان ينهي بها نشرته طوال السنوات الـ25 الماضية، مذكرا بذلك بتعبير «ليلة سعيدة وحظا سعيدا» الذي كان ينطقه إدوارد موري الصحافي الأميركي الشهير، الذي لمع نجمه في النصف الأول من القرن الماضي. موري قدم نشرة إخبارية مماثلة في خمسينات القرن الماضي على شبكة «سي بي إس» الأميركية التي شكلت حجر عثرة خلال الحقبة المكارثية في الولايات المتحدة، كردة فعل على ما قام به السيناتور جوزيف مكارثي، ضد ممن اتهموا بالشيوعية والقيام بنشاطات «غير أميركية». الممثل الأميركي ديفيد ستريثيرن قام بدور إدوارد موري في الفيلم الذي أخرجه عام 2005 جورج كلوني.
ومع تقديمه آخر نسخة من «نيوز نايت» مساء الأربعاء الماضي تكون «بي بي سي» قد طوت صفحة من علاقتها مع باكسمان المشاكس، الذي قد يكون قد تسبب لها في الإحراج سرا مع المؤسسة الحاكمة بجميع أطيافها السياسية بسبب عدم المهادنة في مساءلته للسياسيين ولسانه السليط واستخدامه أحيانا كلمات غير لائقة.
ومع مغادرة باكسمان، بدأت «بي بي سي» البحث عن بديل يسد هذا الفراغ، الذي سيكون صعبا على الآخرين ملؤه، كما يعتقد الكثير من المعلقين، لاعتقادهم أنه حالة إعلامية متميزة، لكنها تعكس ظاهرة بريطانية في طريقة المساءلة والاستجواب للمسؤولين، لدرجة أنه أصبح مادة إعلامية للإعلام البريطاني، الذي تناول إطلاقه للحيته بإسهاب. أما مقابلته عام 1997 لوزير الداخلية مايكل هاورد، في حكومة جون ميجور المحافظة، الذي أصبح زعيما فيما بعد لحزب المحافظين، فحدث ولا حرج. الأسئلة - أو بالأحرى السؤال - الذي وجهه باكسمان لهاورد، تلخص في جملة واحدة تخص خلاف الوزير مع آن ويديكام، وزيرة الدولة في وزارته. باكسمان أعاد الجملة أو السؤال 12 مرة حول خلاف الوزيرين حول برنامج إصلاح السجون، الذي كانت ويديكام مسؤولة عنه. الجملة الشهيرة كانت «هل هددت بإلغاء قرارها؟». في اليوم الثاني اختلفت التقارير في الصحافة المكتوبة وبين المعلقين السياسيين حول عدد الأسئلة.
وحتى آخر رمق، لم يفقد باكسمان (63 سنة) في نشرته الأخيرة يوم الأربعاء الماضي طريقته في الاستجواب. واستضاف الوزير هاورد، وأجرى حوارا مع عمدة لندن بوريس جونسون وهما يقودان دراجة هوائية ثنائية، وكذلك مقابلة أخرى مع الوزير وحليف رئيس الوزراء الأسبق في حكومة توني بلير. الأوضاع السياسية المتأزمة في العراق قدمت نفسها لباكسمان ليعود ويهاجم بطريقته المعهودة شخصية بلير بسبب تصريحاته الأخيرة بخصوص قرار حرب 2003، وسأل باكسمان ضيفه ماندلسون قائلا: «ماذا حصل له؟»، أي بلير، «هل اختل عقليا؟».
بعض المعلقين عده ساخرا، والبعض قال إن أسلوبه هو التشكيك. ورد هو قائلا في إحدى المقابلات، التي يرفض إجراءها في معظم الأحيان: «التشكيك ضروري جدا في العمل الصحافي». لكن يرفض باكسمان السخرية في العمل الصحافي الجدي، مضيفا: «عندما يتحول التشكيك إلى سخرية يغلق بذلك التفكير ويتوقف البحث عن الحقيقة».
أما مقابلته مع مايكل هاورد فجاءت لتعيد إلى الأذهان ما دار بين الاثنين عام 1997. النشرة الأخيرة استقطبت ضعف العدد اليومي للنشرة. وطبعا الجميع يريد أن يعرف ما يمكن أن يسأله باكسمان لهاورد الذي لا يقوم بدور سياسي هذه الأيام، لكنه وبعد 17 سنة أعاد عليه السؤال نفسه. ولأول مرة أجاب هاورد على السؤال بالنفي، مضيفا: «لك الخيار أن تعيد علي السؤال نفسه 11 مرة».
وأنهى باكسمان النشرة قائلا: «شكرا لكم على مشاهدة (نيوز نايت) وتمتعوا بمشاهدة البرنامج. ليلة سعيدة وحظا سعيدا». وبعد أن انتهت النشرة وبدأت تظهر قائمة أسماء معدي البرنامج قدم باكسمان نشرة مقتضبة عن حالة الطقس، قائلا بلا أي حماس: «طقس الغد، لن يختلف كثيرا»، مضيفا: «لا أدري ما الحاجة لكل هذا». وقالت «بي بي سي» إن باكسمان قرر أن يترك البرنامج العام الماضي لكنه كان «كريما جدا» معنا ووافق أن يستمر في عمله والمساعدة في تلك الفترة الحرجة من مسيرة البرنامج.
ووصف توني هول المدير العام لـ«بي بي سي» جيرمي باكسمان قائلا: «يتمتع بموهبة فذة ونادرة».
حصل باكسمان على الكثير من الجوائز الصحافية، وعندما تسلم الجائزة الملكية في الصحافة التلفزيونية، التي قدمها له الوزير هاورد، قال في خطاب القبول: «إن الكثيرين لا يعرفون كيف نعمل في نشرة الأخبار. السؤال الشهير الذي يتذكره الجميع لم يكن من عندي، لقد زودني به أحد العاملين في النشرة». باكسمان كان يتقاضى 800 ألف جنيه إسترليني في العام، ويعد الأكبر بين العاملين في جهاز «بي بي سي» التحريري.



كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
TT

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)

قبل 861 عاماً، نهضت كاتدرائية «نوتردام دو باريس» في قلب العاصمة الفرنسية. ومع مرور العقود والعصور تحوّلت إلى رمز لباريس، لا بل لفرنسا. ورغم الثورات والحروب بقيت «نوتردام» صامدة حيث هي، في قلب باريس وحارسة نهر السين الذي يغسل قدميها. إلا أن المأساة حلّت في شهر أبريل (نيسان) من عام 2019، عندما اندلع حريق هائل، التهمت نيرانه أقساماً رئيسة من الكاتدرائية التي انهار سقفها وتهاوى «سهمها»، وكان سقوطه مدوياً.

منظر للنافذة الوردية الجنوبية لكاتدرائية نوتردام دو باريس(رويترز)

حريق «نوتردام» كارثة وطنية

وكارثة «نوتردام» تحوّلت إلى مأساة وطنية، إذ كان يكفي النظر إلى آلاف الباريسيين والفرنسيين والسياح الذين تسمّروا على ضفتي نهر السين ليشهدوا المأساة الجارية أمام عيونهم. لكن اللافت كانت السرعة التي قررت فيها السلطات المدنية والكنسية مباشرة عملية الترميم، وسريعاً جدّاً، أطلقت حملة تبرعات.

وفي كلمة متلفزة له، سعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى شد أزر مواطنيه، مؤكداً أن إعادة بناء الكاتدرائية و«إرجاعها أجمل مما كانت» ستبدأ من غير تأخير. وأعلن تأسيس هيئة تشرف عليها، وأوكل المهمة إلى الجنرال جان لويس جورجولين، رئيس أركان القوات المسلحة السابق. وبدأت التبرعات بالوصول.

وإذا احتاجت الكاتدرائية لقرنين لاكتمال بنائها، فإن ترميمها جرى خلال 5 سنوات، الأمر الذي يعد إنجازاً استثنائياً لأنه تحول إلى قضية وطنية، لا بل عالمية بالنظر للتعبئة الشعبية الفرنسية والتعاطف الدولي، بحيث تحوّلت الكاتدرائية إلى رابطة تجمع الشعوب.

وتبين الأرقام التي نشرت حديثاً أن التبرعات تدفقت من 340 ألف شخص، من 150 دولة، قدّموا 846 مليون يورو، إلا أن القسم الأكبر منها جاء من كبار الممولين والشركات الفرنسية، ومن بينهم من أسهم بـ200 مليون يورو. ومن بين الأجانب المتبرعين، هناك 50 ألف أميركي، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وكان أحد الأسباب التي دفعته للمجيء إلى فرنسا؛ البلد الأول الذي يزوره بعد إعادة انتخابه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

متطوعون يضعون برنامج الحفل على المقاعد قبل الحفل (أ.ف.ب)

منذ ما يزيد على الشهر، تحوّلت الكاتدرائية إلى موضوع إلزامي في كل الوسائل الإعلامية. وخلال الأسبوع الحالي، حفلت الصحف والمجلات وقنوات التلفزة والإذاعات ببرامج خاصة تروي تاريخ الكاتدرائية والأحداث الرئيسة التي عاشتها في تاريخها الطويل.

وللدلالة على الأهمية التي احتلتها في الوعي الفرنسي، فإن رئيس الجمهورية زارها 7 مرات للاطلاع على التقدم الذي حققه المهنيون والحرفيون في إعادة البناء والترميم. وإذا كانت الكاتدرائية تجتذب قبل 2012 ما لا يقل عن 12 مليون زائر كل عام، فإن توقعات المشرفين عليها تشير إلى أن العدد سيصل العام المقبل إلى 15 مليوناً من كل أنحاء العالم.

المواطنون والسياح ينتظرون إفساح المجال للوصول الى ساحة الكاتدرائية (أ.ف.ب)

باريس «عاصمة العالم»

خلال هذين اليومين، تحوّلت باريس إلى «عاصمة العالم»، ليس فقط لأن قصر الإليزيه وجّه دعوات لعشرات من الملوك ورؤساء الدول والحكومات الذين حضر منهم نحو الخمسين، ولكن أيضاً لأن الاحتفالية حظيت بنقل مباشر إلى مئات الملايين عبر العالم.

وقادة الدول الذين قدّموا إلى «عاصمة النور» جاءوا إليها من القارات الخمس. وبسبب هذا الجمع الدولي، فإن شرطة العاصمة ووزارة الداخلية عمدتا إلى تشكيل طوق أمني محكم لتجنب أي إخلال بالأمن، خصوصاً أن سلطاتها دأبت على التحذير من أعمال قد تكون ذات طابع إرهابي. وإذا كان الرئيس الأميركي المنتخب قد حظي بالاهتمام الأكبر، ليس لأنه من المؤمنين المواظبين، بل لأنه يُمثل بلداً له تأثيره على مجريات العالم.

لكن في المقابل، تأسف الفرنسيون لأن البابا فرنسيس اعتذر عن تلبية الدعوة. والمثير للدهشة أنه سيقوم بزيارة جزيرة كورسيكا المتوسطية الواقعة على بُعد رمية حجر من شاطئ مدينة نيس اللازوردية، في 15 الشهر الحالي. والمدهش أيضاً أنه منذ أن أصبح خليفة القديس بطرس في روما، «المدينة الخالدة»، فإنه زار فرنسا مرتين، ثانيها كانت لمدينة مرسيليا الساحلية. بيد أنه لم يأتِ إلى باريس إطلاقاً. ووفق مصادر واسعة الاطلاع، فإن قرار البابا أحدث خيبة على المستويين الديني والرسمي. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى حدث تاريخي رئيس، وهو أن بابا روما بيوس السابع، قدم إلى باريس يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1804، لتتويج نابليون الأول إمبراطوراً.

وتمثل لوحة الرسام الفرنسي الشهير لوي دافيد، التي خلد فيها تتويج بونابرت، ما قام به الأخير الذي لم ينتظر أن يضع البابا التاج على رأسه، بل أخذه بيديه ووضعه بنفسه على رأسه، وكذلك فعل مع الإمبراطورة جوزفين.

احتفالية استثنائية

لم يساعد الطقس مساعدي الاحتفالية الذين خططوا لأن تكون من جزأين: الأول رسمي، ويجري في ساحة الكاتدرائية الأمامية؛ حيث يلقي الرئيس ماكرون خطابه المقدر من 15 دقيقة، وبعدها الانتقال إلى الداخل للجزء الديني. وكان مقدراً للمواطنين الـ40 ألفاً، إضافة إلى 1500 مدعو حظوا بالوجود داخل الكاتدرائية، أن يتابعوا الحدث من المنصات التي نصبت على ضفتي نهر السين، إلا أن الأمطار والعواصف التي ضربت باريس ومنطقتها أطاحت بالبرنامج الرئيس، إذ حصلت كل الاحتفالية بالداخل. بيد أن الأمطار لم تقض على شعور استثنائي بالوحدة والسلام غلب على الحاضرين، وسط عالم ينزف جراء تواصل الحروب، سواء أكان في الشرق الأوسط أم في أوكرانيا أم في مطارح أخرى من العالم المعذب. وجاءت لحظة الولوج إلى الكاتدرائية، بوصفها إحدى المحطات الفارقة، إذ تمت وفق بروتوكول يعود إلى مئات السنين. بدءاً من إعادة فتح أولريش لأبواب «نوتردام» الخشبية الكبيرة بشكل رمزي.

كاتدرائية «نوتردام» السبت وسط حراسة أمنية استعداداً لإعادة افتتاحها (إ.ب.ى)

وسيقوم بالنقر عليها 3 مرات بعصا مصنوعة من الخشب المتفحم الذي جرى إنقاذه من سقف الكاتدرائية الذي دمرته النيران، وسيعلن فتح الكاتدرائية للعبادة مرة أخرى. ونقل عن المسؤول عن الكاتدرائية القس أوليفييه ريبادو دوما أن «نوتردام»، التي هي ملك الدولة الفرنسية، ولكن تديرها الكنيسة الكاثوليكية «أكثر من مجرد نصب تذكاري فرنسي وكنز محبوب من التراث الثقافي العالم، لا بل هي أيضاً علامة على الأمل، لأن ما كان يبدو مستحيلاً أصبح ممكناً»، مضيفاً أنها أيضاً «رمز رائع».

الأرغن الضخم يحتوي على 8 آلاف مزمار تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام (أ.ف.ب)

كذلك، فإن تشغيل الأرغن الضخم الذي تم تنظيفه وتحضيره للمناسبة الاستثنائية، تم كذلك وفق آلية دقيقة. ففي حين ترتفع المزامير والصلوات والترانيم، فإنه جرى إحياء الأرغن المدوي، الذي صمت وتدهورت أوضاعه بسبب الحريق. ويحتوي الأرغن على 8 آلاف مزمار، تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام. وقام 4 من العازفين بتقديم مجموعة من الألحان بعضها جاء مرتجلاً.

إلى جانب الشقين الرسمي والديني، حرص المنظمون على وجود شق يعكس الفرح؛ إذ أدت مجموعة من الفنانين الفرنسيين والأجانب لوحات جميلة جديرة بالمكان الذي برز بحلة جديدة بأحجاره المتأرجحة بين الأبيض والأشقر وزجاجه الملون، وإرثه الذي تم إنقاذه من النيران وأعيد إحياؤه.

وبعد عدة أيام، سيُعاد فتح الكاتدرائية أمام الزوار الذي سيتدفقوة بالآلاف على هذا المعلم الاستثنائي.

حقائق

846 مليون يورو

تدفقت التبرعات من 340 ألف شخص من 150 دولة قدموا 846 مليون يورو لإعادة ترميم نوتردام