شهادات غير قاطعة لمسؤولين ليبيين سابقين في قضية تمويل ساركوزي

ضياع أرشيف عهد القذافي ساهم في اختفاء معلومات مهمة

ساركوزي مستقبلاً القذافي في قصر الأليزيه بباريس في ديسمبر 2007 (إ.ب.أ)
ساركوزي مستقبلاً القذافي في قصر الأليزيه بباريس في ديسمبر 2007 (إ.ب.أ)
TT

شهادات غير قاطعة لمسؤولين ليبيين سابقين في قضية تمويل ساركوزي

ساركوزي مستقبلاً القذافي في قصر الأليزيه بباريس في ديسمبر 2007 (إ.ب.أ)
ساركوزي مستقبلاً القذافي في قصر الأليزيه بباريس في ديسمبر 2007 (إ.ب.أ)

تبدو أدلة ليبية خاصة بالقضية المثارة لدى محققي باريس، عن تمويل العقيد الراحل معمر القذافي لانتخابات الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، هشَّة وضعيفة. إلا أن بعض قيادات النظام الليبي القديم، وبعض المقربين من القذافي، لديهم إصرارٌ على أن التمويل قد حدث، وبملايين الدولارات، وأنه «توجد أدلة قوية ستظهر لاحقاً».
لم تقدم معظم هذه الأطراف، حتى الآن، إلا مكاتبات عدة كانت جرت منذ 2005 مع الجانب الفرنسي، منها ما هو ممهورٌ بتوقيع منسوب لساركوزي نفسه، حين كان ما زال وزيراً للداخلية في بلاده، بيد أنها لا تتضمن أي دليل على تحويل مباشر لأموال لدعم حملته.
ومع ذلك، ذكر قادة من نظام القذافي، وصديق سابق لساركوزي، أنهم كانوا شهوداً على التمويل «وعلى صفقات بين طرابلس وباريس أكبر بكثير من التمويل».
وفي زاوية فندق صغير من الفنادق ذات الطابع الأوروبي في ضاحية الزمالك الراقية في قلب القاهرة، بدأ المترجم السابق للقذافي، الدكتور مفتاح المسوري، بلا وثائق قاطعة، يمكن أن تُقدم للمحققين الفرنسيين، باستثناء قوله إنه «سمع من القذافي، في مارس (آذار) 2011 أنه دفع 20 مليون دولار لتمويل حملة ساركوزي». وسبق ذلك اتهامات من قيادات كانت مقربة من العقيد، الذي قُتل في غارات حلف شمال الأطلسي (الناتو) على ليبيا، تشير إلى أن التمويل بلغ نحو خمسين مليون يورو.
ورغم ضعف هذه المزاعم، فإنها تبقى مُربِكة ومثيرة لغضب ساركوزي الذي شنّ في المقابل، وخلال الشهر الماضي، هجوماً على أنصار القذافي.
يكمُن الخطر، هنا، عموماً، في أن الاتهامات صادرة، أولاً وأخيراً، عن شخصيات ليبية وغير ليبية، ما زالت على قيد الحياة، تقدم نفسها بصفتها شهود إثبات. ومن بين هؤلاء، قادة من الوزن الثقيل، جرى القبض عليهم في تونس وموريتانيا والنيجر، والزج بهم في سجون طرابلس بعد مقتل القذافي، مثل رئيس المخابرات العسكرية عبد الله السنوسي، ورئيس الحكومة في العهد السابق، البغدادي المحمودي، ومدير الأمن الداخلي، عبد الله منصور، الذي قدم شهادة مصورة بالفيديو لسجَّانيه من الجماعات المتطرفة، حول ملابسات تمويل انتخابات ساركوزي.
ونفى الرئيس الفرنسي الأسبق وجود أدلة مادية بشأن الاتهامات عن تلقيه أموالاً ليبية لحملته الانتخابية في 2007، والتي فاز إثرها بالرئاسة واستمر فيها حتى 2012، لكن بدا من حديثه للمحققين في باريس، كما سربته صحف عدة قبل أسبوعين، أنه ينظر إلى أنصار القذافي على أنهم ربما كانوا وراء ما سيتعرض له من محنة جراء هذه القضية.
وبمجرد استدعائه للتحقيق في باريس، شن مقربون من النظام الليبي السابق، من بينهم ابن عم القذافي، أحمد قذاف الدم، هجوماً لاذعاً على ساركوزي في وسائل إعلام فرنسية. ولم تقتصر الاتهامات على التمويل، لكنها حمَّلت الرئيس السابق مسؤولية تدمير ليبيا أيضاً.
من زاوية داخل بهو الفندق المصري، كان الدكتور المسوري يتابع، قبل يومين، ما تبثه قناة «فرانس 24» عن القضية وأبعادها، حيث كان الرجل قبل اثني عشر عاماً حاضراً في اجتماع بين ساركوزي والقذافي، وآخرين.
وعمل المسوري في مكتب القذافي، منذ عام 1996.
يقول وهو يرتب أوراقاً تخص المصالحة بين الليبيين، إنه لم يكن مجرد مترجم للفرنسية لدى العقيد الراحل، لكنه كان مستشاراً له أيضاً. وفي الأيام الماضية أثارت تصريحات أطلقها أثناء وجوده في كل من تونس والقاهرة، عن قضية ساركوزي، لغطاً جديداً، رغم أن ما ذكره لا يزيد كثيراً عما نقله عنه، في عام 2013، موقع «ميديابارت» الفرنسي.
يقول المسوري، وهو ينظر من وراء نظارته الطبية، متذكراً تلك الأيام من عام 2005، ويبدو واثقاً: «جاءنا ساركوزي في زيارة كوزير للداخلية، بدعوة من نظيره الليبي نصر المبروك. كان من الطبيعي أن يستقبله الأخ القائد (القذافي) كما هو معتاد بالنسبة لهذا المستوى من الضيوف. التقى به بالفعل في باب العزيزية (مقر الحكم في العاصمة)».
يضيف: إن ساركوزي طلب لقاءً ثنائياً مع القذافي... «فخرج المرافقون. أما هما فتكلما سوياً بلغة إنجليزية ركيكة. استمر اللقاء بينهما من خمس إلى عشر دقائق». ويشير إلى أن ساركوزي قال، خلال الاجتماع، إنه يريد أن يرشح نفسه للانتخابات، وأن القذافي رحب بأن يكون لليبيا صديق في قصر الإليزيه. وقال له: مستعدون لمد يد العون لك، وأن نساعدك. وانتهت الزيارة. ويفسر المسوري تعبير «مد العون» بأنه وعد من القذافي بدعم مالي.
وذكر ثلاثة من قيادات النظام السابق، من بينهم المسوري، أنهم كانوا على علم بنقل أموال إلى حملة ساركوزي، لكنهم لم يشاهدوا عملية النقل نفسها. وطلب اثنان من هؤلاء القادة عدم ذكر اسميهما، في هذه القصة لأسباب أمنية، لكنهما وافقا على أن يكون حديثهما مسجلاً.
وفي سؤال مباشر للمسوري:
«هل كنت في أي وقت من الأوقات شاهداً على خروج أموال لحملة ساركوزي؟».
فأجاب: أنا كشاهد، لا. لم أر أي حقيبة متجهة لساركوزي أو أي رئيس آخر».
«وهل حملتَ حقائب أموال لآخرين؟».
فأوضح: «نعم... حملت». لكنه رفض ذكر أي أسماء للزعماء الذين نقل لهم أموالاً من مخصصات القذافي... «لا يمكن أن أقول... هناك رؤساء أفارقة، وبعضهم ما زال في السلطة». ويضيف: إن تمويل حملات الرؤساء ليس حكراً على ليبيا، بل إن كثيراً من مرشحي الرئاسة في العالم الغربي يتلقون أموالاً لدعم حملاتهم الانتخابية سواء من دول، أو شركات، أو رجال أعمال.
وبحسب مقربين من القذافي، كانت هناك أموال تخصص للبند السياسي بمكتب القائد، يتم جلبها من المصرف المركزي، وتوضع في حقائب في مقر المراقب المالي للرئاسة في مقر الحكم بطرابلس، ويكتب على كل حقيبة قيمة ما فيها؛ مليون. مليونان. ثلاثة، وهكذا.
يقول «هذه مخصصات الرئاسة تأتي كتلة واحدة، وتصرف وفقاً لإرادة الرئيس (القذافي)». ويضيف: «بالطبع، لا يعلم المصرف المركزي بأوجه صرف الرئاسة لهذا الأموال. حتى المراقب المالي ليس لديه تفاصيل عن وجهة الكثير من هذه المخصصات. هذا ليس حكراً على القائد، وإنما أي رئيس دولة يتبنى سياسة الحضور الدبلوماسي في الخارج، يقوم بذلك».
ويستند المسوري في شهادته حول تمويل حملة ساركوزي على قصة وحيدة، على ما يبدو. وفيما عدا روايته لها، من الصعب إثبات صحتها مادياً.
تقول هذه الرواية، إن صحافية فرنسية سألت القذافي في مارس 2011، عن حجم الأموال التي دفعها لحملة ساركوزي. فقال لها القذافي إنه لا يتذكر الآن، وأنه سيبلغها غداً عن طريق المسوري.
يضيف مترجم القذافي، وهو يمسح براحة يده على لحيته الخفيفة: «في اليوم التالي قال لي القائد: (على فكرة أنا استفسرت عن موضوع المساهمة الخاصة بحملة ساركوزي، الذي سألت عنه الصحافية، وأن المبلغ 20 مليون دولار)». ويقول المترجم الذي يؤلف القصائد الشعرية بالعربية والفرنسية: «أنا شاهد... وهذا ما عرفته».
وسبق للنيابة الفرنسية أن استمعت إلى إفادة من المسوري عبر الهاتف، في قضية ساركوزي، على خلفية تصريحاته التي أطلقها في وسائل إعلام فرنسية عام 2013، يقول: سألوني، حينذاك، فأكدت لهم نفس الكلام. وقلت لهم بما عرفته من القذافي عن موضوع التمويل.
وبسؤال المسوري مجدداً، عما إذا كان قد رأى أي وثيقة تحوي مخاطبة من ساركوزي للقذافي يقول فيها له إنه يحتاج إلى أموال لدعم حملته الانتخابية، يجيب: «لا... أصلاً لا يوجد رئيس (أو وزير داخلية في حالة ساركوزي حينذاك) يقول أنا أريد أموالاً». ويزيد موضحاً بشأن ما إذا كان هناك أي مكاتبات مصرفية حول الموضوع: «طبعاً لا يوجد دليل مصرفي؛ لأنه لا يوجد تحويل مصرفي من الأساس. إذا كان هناك تحويل مصرفي فيكون من خارج ليبيا وبأسماء غير آخرين».
خلال شهادته في التحقيقات، حين كان ما زال محتجزاً في سجن الهضبة، يقول مدير الأمن الداخلي، عبد الله منصور لمستجوبيه: سمعت أنه تم تحويل أموال لساركوزي عبر فرع لمصرف ليبي في لبنان. وكان السنوسي مشرفاً على هذه العملية.
ويبدو من شهادات من كانوا موجودين في قناة التواصل بين ساركوزي والقذافي، من ليبيين وفرنسيين، إضافة إلى رجلي الأعمال اللبناني، زياد تقي الدين، والفرنسي من أصل جزائري ألكسندر الجوهري، إنها تخلو، على ما يبدو، حتى الآن، من وثائق مادية مباشرة. أي أنه يمكن القول إن هناك شهادات شفهية ومؤشرات فقط، إلى أن يثبت العكس.
من جانبه، يعلق المسوري قائلاً: «الأمر بسيط... هناك اعترافات السنوسي، والبغدادي، ومنصور، في محاضر التحقيق معهم عقب القبض عليهم في طرابلس. اذهبوا إليهم... فهم ما زالوا موجودين إلى الآن في السجون». وفي الأيام الماضية أبدت عائلة السنوسي قلقاً من انقطاع التواصل مع ابنها في محبسه.
يقول مصدر من العائلة: «لا نعرف في الوقت الراهن أين هو بالتحديد... منذ ثلاثة أشهر (أي من قبل الجدل الأخير حول قضية التمويل) نحن نحاول التواصل معه، أو معرفة مصيره، دون جدوى. في السابق لم تكن أخباره تنقطع عنا إلا أسبوعاً أو أسبوعين». وتشير تسريبات في العاصمة الليبية إلى أن محققين غربيين التقوا السنوسي في مقر أحد المسؤولين في طرابلس بعد جلبه إليهم من محبسه، وأن القوة التي جاءت به من السجن رجعت من دونه.
يقول مصدر قضائي ليبي، إن محققين فرنسيين زاروا العاصمة بالفعل، في وقت سابق، قبل هذه الواقعة، وأنهم لم يلتقوا بأي من هذه القيادات المسجونة في طرابلس، وقاموا فقط بالاطلاع على محاضر فيها إقرار من بعض مسؤولي النظام السابق تحوي معلومات تخص قضية ساركوزي. ويضيف: «أخذوا نسخاً من هذه المحاضر، لكنهم لم يلتقوا لا بالسنوسي، ولا بالبغدادي، ولا بمنصور».
وعما إذا كان يعتقد أن مثل هذه الشهادات كافية، أم أنها تظل مجرد قرائن، يجيب الدكتور المسوري قائلاً، إن «القضاء يؤمن بأدلة، وحين يأتي أحد ويقول لك أنا رأيت، فيسمونه شاهد إثبات. أي قاضٍ في العالم ينظر لأداة الجريمة ولشهود العيان، وهؤلاء شهود عيان على العلاقة (بين ساركوزي والقذافي)، وكلامهم مكتوب قضائياً، حتى قبل إثارة القضية».
وعلى كل حال، ساهم السطو على أرشيف الدولة الليبية منذ وقت مبكر من عام 2011 في اختفاء معلومات مهمة. وتقول واحدة من القصص التي رواها عبد الله منصور، من سجنه في طرابلس: «حين بدأت فرنسا في قصف ليبيا مطلع ذلك العام، كان سيف الإسلام، نجل القذافي، متحمساً للإعلان، لأول مرة، عن أن والده موَّل الحملة الانتخابية لساركوزي. كان سيف يريد الانتقام من الرئيس الفرنسي، باعتباره ناكراً للجميل، ويتهمه بأنه يحشد الدول الغربية لضرب ليبيا».
يقول منصور في تحقيقات معه مصورة بالفيديو وهو بملابس المسجونين الزرقاء، عندما كان في سجن الهضبة، على طريق مطار طرابلس الدولي: «حين سأل سيف الإسلام والده عن الوثائق التي تثبت ذلك، لم يتم العثور على أي تسجيلات تخص الموضوع. فتم إخطار رجال المخابرات. وبعد البحث، فوجئ الجميع بأن كل هذه الوثائق اختفت». يقول قيادي من النظام السابق: كانت خيانة من أطراف داخل حلقة القذافي.
ومنذ 2011 اختفى معظم أرشيف عهد القذافي الذي استمر في الحكم 42 عاماً.
يقول مستشار للمجلس الرئاسي أثناء وجوده في مصر مؤخراً: «لم نستطع الوصول إلى معظم أرشيف الدولة في قطاعات الرقابة الاقتصاد والمالية، وفي مؤسسات الأمن الخارجي والأمن الداخلي (الاستخبارات)، وفي جهاز التخطيط. كما اختفى الكثير من أرشيف السجلات المدنية وتعداد السكان والسجلات العقارية، ومعاملات الشركات الأجنبية التي كانت تستثمر مليارات الدولارات في ليبيا قبل مقتل القذافي».
تعيش ليبيا في فوضى عارمة منذ ذلك الوقت. لا يوجد يقين بشأن أي شيء. كل قصة تتفرع منها مئات الخيوط بلا نهاية محددة.
في العام الماضي، جرى نقل مساجين النظام السابق من سجن الهضبة إلى سجون أخرى تديرها ميليشيات، ولا تشرف عليها النيابة العامة، وذلك عقب اجتياح السجن في حرب بين قوات في العاصمة في مايو (أيار) الماضي. وكان من بينهم السنوسي والمحمودي ومنصور.
وقبل أيام أطلقت السلطات البريطانية سراح الجوهري بعد احتجازه لأكثر من شهر بشأن قضية ساركوزي. والجوهري، هو الآخر، مطلوب للمثول أمام القضاء الفرنسي حول الموضوع نفسه. يقول قيادي من نظام القذافي: «يعلم هذان الرجلان (تقي الدين، والجوهري) تفاصيل نقل الأموال لساركوزي، حيث كانا محسوبَين على الجانب الفرنسي المرتبط بطرابلس، وبخاصة مع السنوسي».
من جانبه، ذكر تقي الدين اسم رجل أعمال عربي، قال إنه كانت له صلة، مثل الجوهري، بموضوع «ساركوزي - القذافي»، مع أنه لم يرد ذكره، من قبل، ضمن اللغط الدائر حول التمويل. وهذا مؤشر على أن قضية الرئيس الفرنسي السابق يمكن أن تؤثر على كثيرين ما زالوا بعيدين عن الأضواء. كما ذكر تقي الدين، اسم بشير صالح، الذي يتحدث الفرنسية، ويوصف بأنه كان مديراً لمكتب القذافي.
وأصيب صالح فيما يعتقد أنها محاولة اغتيال في أواخر فبراير (شباط)، في جنوب أفريقيا، التي يقيم فيها منذ سنوات، حيث هجر فرنسا بعد خروج ساركوزي من قصر الإليزيه. وينفي صالح أي علاقة له بقصة التمويل. لكن قيادياً في النظام السابق يقول، في مقابلة مسجلة معه في فيلته بالقاهرة، إن صالح يرفض الزج باسمه في القصة خوفاً على حياته.
ويتحرك هذا القيادي نفسه، رغم إقامته في العاصمة المصرية، بخطوات محسوبة في ظل هواجس تعتريه بأنه يمكن استهدافه من خصوم غامضين، بعد أن كان لزمنٍ مقرباً من القذافي ونجله ورؤساء أجهزة أمنية في طرابلس.
ويقوم بعض من زعماء النظام السابق، ممن تفرقت بهم السبل في مصر وتونس، بالتواصل وإرسال برقيات بين حين وآخر إلى زعماء دوليين ولمنظمات دولية بما فيها الأمم المتحدة، كان آخرها برقية تتضمن مخاوف على مصير السنوسي. ولدى بعضهم طرق منذ سنوات لتنشيط حملات قانونية وإعلامية ضد ساركوزي داخل باريس.
وفي منزل آخر قرب القاهرة، محاط بحراسات أمنية خاصة، ومزود بكاميرات مراقبة، يقول مسؤول ليبي كان مقرباً من القذافي متحدثاً عن ساركوزي: «سنسحقه. لقد كان ناكراً للجميل. أعطيناه أمولاً فقصفنا بالصواريخ».
لكن أين الوثائق؟ أين الأدلة؟ يجيب موضحاً، إن هناك «أدلة ووثائق سُلمت للسلطات الفرنسية خلال السنوات الماضية... هناك فريق نشط يعمل على هذا الأمر. لو لم تكن هناك أدلة لما تعامل القضاء الفرنسي مع الموضوع بهذه الجدية».
بيد أنه يقرُّ بأن معظم أرشيف الدولة الليبية، نقله زعيم في الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة، إلى قطر، بعد اجتياح المنتفضين لمقر القذافي في باب العزيزية، مشيراً كذلك، وبمرارة، إلى ضلوع أطراف من النظام السابق في تسليم وثائق أخرى مهمة للسلطات الفرنسية نفسها منذ بداية 2011، أي قبل خروج القذافي من طرابلس.
ومثل كثير المقربين الآخرين من النظام السابق، يبدو الاعتماد حتى الآن على مجرد تكهنات ومؤشرات في قضية تمويل حملة الرئيس الفرنسي السابق. ومن بين جدران غرفة الاستقبال المزينة بصور القذافي، يقول هذا القيادي المخضرم، وهو يرشف القهوة: «ما يمكن أن أقوله لك هو أن كل من كان على علاقة بموضوع التمويل، جرى استهدافه أو ما زال عرضة للاستهداف».
ويتابع قائلاً: «لقد جرى القبض على المحمودي في تونس في 2012، وتسليمه لليبيا، بعد أن ذكر محاميه، وقتها، أن موكله يريد أن يتحدث عن الأموال التي دفعتها ليبيا لساركوزي. كما أن السنوسي اختطف من موريتانيا، في العام نفسه».
وحدثت هذه الأمور في عهد ساركوزي... نعم، لكنها لا يبدو أنها تعكس مؤشراً قوياً؛ لأن هناك مسؤولين ليبيين آخرين من النظام السابق جرى تسليمهم من الخارج للحكام الجدد في طرابلس، أو محاولة استهدافهم في منافيهم الاختيارية، حتى بعد خروج ساركوزي من قصر الإليزيه.
ويعد منصور، وهو شاعر رهيف الحس كما أنه رجل أمن يتسم بالقسوة، من بين هؤلاء، حيث سلمته النيجر لطرابلس في 2014. ويضيف القيادي الليبي في أسى: «وأنا أيضاً تعرضت لهجوم في 2013»، بالإضافة إلى استهداف صالح في جنوب أفريقيا أخيراً... «كلنا يعلم حقيقة ما جرى. وهناك من يسعى لدفن الماضي».
ورافق هذا الرجل، القذافي كظله، منذ الصغر. وله علاقات قوية بالسنوسي والمحمودي ومنصور. ويقول إنه أصبح يخشى على حياتهم بعد تفجر قضية التمويل في فرنسا... «هذه القيادات مستهدفة، وقد بعثنا، نحن قيادات النظام السابق، رسالة للأمم المتحدة، حملناها المسؤولية عن حياة هؤلاء الذين هم في السجون؛ لأننا نعدهم شهوداً رئيسيين في قضية ساركوزي».
حتى مترجم القذافي يبدو أنه يخشى على حياته من عواقب تصريحاته الأخيرة بشأن ساركوزي، مشيراً إلى أن بعضاً ممن تولوا المسؤولية في ليبيا، ينظرون إلى الرئيس الفرنسي السابق بوصفه بطلاً ومنقذاً لهم من القذافي.
وبعد قليل من الصمت يقول: «(وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)... وكل شيء متوقع... ربما حين أعود لليبيا، يلقون القبض عليَّ، ويجبرونني على العودة عن تصريحاتي، وبخاصة أن هناك إشاعات تقول إن مسؤولين كباراً في ليبيا اتصلوا بجهات أمنية ليبية بشأن البحث عني، أو إجباري على الرجوع عن أقوالي».
وكان بهو الفندق قد خلا من الرواد. وعبر النافذة بدت ضاحية الزمالك أكثر هدوءاً. وللخروج من زخم قصص التمويل المخيفة، ردد المسوري مقتطفات من قصائده إحداها باللغة الفرنسية، تتحدث عن النسيم والزهور وهجر الحبيب. ولا يعد الرجل، على ما يبدو، من أنصار النظام السابق. وهو ينظر إلى نفسه باعتباره دبلوماسياً لا علاقة له بالسياسة.
يقول إنه يعتقد، بصفته مواطناً ليبياً، أن «ثورة فبراير» جاءت من أجل حرية الرأي؛ و«لذلك أتمنى أن يكون ما سمعته عن أنني مطلوب من السلطات في ليبيا، مجرد شائعات، لأن أي إجراء ضدي بسبب تصريحاتي عن ساركوزي، يعد نقيضاً للديمقراطية ودولة المؤسسات والقانون».



واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».