سبب تلهف شركات مثل «كمبريدج أناليتيكا» على بيانات «فيسبوك»

خبراء يعتقدون أنها أدق من سجل الناخبين وتتيح لبرنامج كومبيوتر قراءة أدق لشخصيتنا

شامير ساني (يسار) من حملة بريكست سابقاً الذي كشف عن استخدام البيانات الشخصية من «فيسبوك» لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي وكريس وايلي الذي عمل مع «كمبريدج أناليتيكا» وكشف هو الآخر عن استخدامها للبيانات الشخصية لأكثر من 50 مليون مشترك (إ.ب.أ)
شامير ساني (يسار) من حملة بريكست سابقاً الذي كشف عن استخدام البيانات الشخصية من «فيسبوك» لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي وكريس وايلي الذي عمل مع «كمبريدج أناليتيكا» وكشف هو الآخر عن استخدامها للبيانات الشخصية لأكثر من 50 مليون مشترك (إ.ب.أ)
TT

سبب تلهف شركات مثل «كمبريدج أناليتيكا» على بيانات «فيسبوك»

شامير ساني (يسار) من حملة بريكست سابقاً الذي كشف عن استخدام البيانات الشخصية من «فيسبوك» لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي وكريس وايلي الذي عمل مع «كمبريدج أناليتيكا» وكشف هو الآخر عن استخدامها للبيانات الشخصية لأكثر من 50 مليون مشترك (إ.ب.أ)
شامير ساني (يسار) من حملة بريكست سابقاً الذي كشف عن استخدام البيانات الشخصية من «فيسبوك» لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي وكريس وايلي الذي عمل مع «كمبريدج أناليتيكا» وكشف هو الآخر عن استخدامها للبيانات الشخصية لأكثر من 50 مليون مشترك (إ.ب.أ)

اشتد القلق العام من الطريقة التي تجمع بها الشركات بيانات المستخدمين الشخصية وتستخدمها بعدما تكشف في الآونة الأخيرة أن شركة «كمبردج أناليتيكا» لاستخلاص البيانات، التي تتخذ من لندن مقرّاً لها، استخدمت بشكل غير سليم البيانات الشخصية لنحو 50 مليوناً من مستخدمي «فيسبوك» بغرض معرفة توجهات الناخبين، على جانبي الأطلسي.
يقول خبراء إن «مفتاح دقة الملفات التي تجمعها مؤسسات أبحاث السوق عنا لصالح الأحزاب السياسة أو متاجر التجزئة لمعرفة توجهاتنا الانتخابية أو أسلوب حياتنا وقدراتنا الشرائية هو سلامة البيانات الخام المتوفرة عنا». ويقول هؤلاء إن «أفضل المعلومات ما تمتلكه الشركات التي نتفاعل معها أكثر من غيرها، وهي شركات مواقع التواصل الاجتماعي العملاقة مثل (فيسبوك) و(تويتر) وشركات التجزئة مثل (أمازون)».
وقال ستيفان ليواندوسكي أستاذ علم النفس المعرفي بجامعة بريستول في بريطانيا إن ذلك يفسر سبب تلهف شركات مثل «كمبردج أناليتيكا» على بيانات «فيسبوك»، مضيفاً، في تحقيق لوكالة «رويترز»، حول الخصوصيات الشخصية واستخدامها لدواعٍ سياسية، أن «الفرق بين استخدام سجل الناخبين و(فيسبوك) هو أن المعلومات التي نكشف عنها على (فيسبوك) كافية لكي يستخلص منها برنامج كومبيوتر شخصيتنا بدقة أكبر من أزواجنا وزوجاتنا».
- قوانين الخصوصية في أوروبا والولايات المتحدة
ويقول معد التحقيق إنه توجه إلى شركة «أكسيوم» التي تتخذ من أركنسو مقرّاً لها، وتحقق دخلاً يتجاوز 800 مليون دولار سنويّاً من بيع بيانات عن المستهلكين لكبرى الشركات العالمية، وطلب منها ما تملكه من بيانات واستنتاجات عنه. إذ تسمح القوانين في أوروبا والولايات المتحدة لشركات مثل «أكسيوم» بجمع البيانات من المصادر المتاحة للجميع وغيرها عنا.
وتقضي قوانين الخصوصية السارية في أوروبا، والمقرر تشديدها في الأشهر المقبلة، أن تكشف كل الشركات التي تتولى جمع البيانات لأي أوروبي يطلب المعلومات التي بحوزتها عنه.
أما القانون الأميركي فلا يمنح الأميركيين الحق في هذا القدر من الإفصاح.
وتبين نتيجة استقصاءاته كيف تحاول الشركات تكوين صور تفصيلية عن الأحوال المالية للأفراد وعلاقاتهم واهتماماتهم الشخصية وأذواقهم في التسوق، حتى إذا كانت تملك قدراً ضئيلاً من البيانات. هذه اللمحات البيانية تدار على أساسها الآن الآلية الموسعة التي توزع الإعلانات عبر الإنترنت ويمكن أن تستخدم أيضاً في تحديد القضايا السياسية التي يهتم بها الناس واتجاهاتهم عند التصويت في الانتخابات. والسؤال الآن هو: ما مدى دقة الصور التي ترسمها تلك الشركات؟
وتعمل «أكسيوم» مثل منافساتها بجمع المعلومات المتاحة من مصادر مثل سجل الناخبين الذي يتضمن عناوين إقامة الأفراد وسجل الأراضي الذي يتيح بيانات عن ملكية المنازل، مثل أسعار الشراء والرهون العقارية، إذا توفرت. كما تشتري الشركة البيانات من شركات تجري استطلاعات إلكترونية من مواقع الإنترنت. ويتم بعد ذلك تغذية نموذج خاص بالشركة بهذه البيانات لاستخلاص قائمة من الاستنتاجات والميول مثل احتمال أن يقدم المستهلك على دخول متجر مراهنات. وتبيع «أكسيوم» هذه المعلومات للشركات الراغبة في توجيه الإعلانات للمستهلكين المحتملين. وليس لشركة «أكسيوم» فرع سياسي مثل «كمبردج أناليتيكا»، لكن الشركتين تتنافسان على العملاء التجاريين.
وفي أعقاب الفضيحة التي تكشفت عن الكيفية التي تتعامل بها شركة «فيسبوك» مع المعلومات الشخصية قالت إنها ستنهي شراكاتها مع عدد من شركات الوساطة الكبرى في عالم البيانات، التي تساعد شركات الإعلان على استهداف الناس على شبكات التواصل الاجتماعي. وانخفضت أسهم «أكسيوم» أكثر من عشرة في المائة إلى 25 دولاراً في أعقاب إعلان «فيسبوك».
ومن الواضح أن النتائج الخاصة بالفرد الواحد لا تنبئنا كثيراً عن دقة قاعدة البيانات التي تقول «أكسيوم» إنها تتضمن نبذات عن 47 مليون مستخدم في بريطانيا و700 مليون مستهلك على مستوى العالم. وقالت «أكسيوم»: «معلوماتنا تكون أكثر دقة عندما نمتلك بيانات أكثر من صاحب الشأن نفسه وأكثر التزاماً بالخصوصية. في حالتك (أي معدّ التحقيق) لم تكن لدينا شيء يذكر من هذه البيانات، وأغلب المتغيرات التي ارتبطت بك مبنية على نماذج بناء على الرمز البريدي الخاص بك وتاريخ الأسرة».
يضم ملف بياناتي لدى «أكسيوم» نحو 750 خانة تحت أكثر من عشرة أبواب من «تكوين الأسرة» إلى «العمل والدخل» و«أسلوب المعيشة والاهتمامات». ويصفني الملف بأنني «الباحث المترف عن المتعة». لكن بعض المعلومات الواردة في الملف خطأ في خطأ.
فالبيانات تبين أنني في السابعة والخمسين من العمر وزوجتي في الثلاثين، ولدينا غلاية مياه جديدة بعض الشيء، وجهاز تلفزيون من الطراز القديم، وسيارة تعمل بالبنزين ولم ننجب أطفالاً.
في واقع الأمر ليس أي من هذه المعلومات صحيحاً. فأنا أبلغ من العمر 46 عاماً لا 57 عاماً، ولن أكشف عن سن زوجتي، لكني أؤكد أنني عندما تزوجتها وأنا في الرابعة والثلاثين لم تكن هي في سن المراهقة. وقد أنجبنا اثنين. كما أنني أقود سيارة تعمل بوقود الديزل وغلاية المياه لدينا عمرها أكثر من 15 عاماً، وليس أقل من خمس سنوات كما وصفتها «أكسيوم». ربما يكون هذا أمراً مخيباً لآمال شركات مثل «تيسكو» لتجارة التجزئة و«تويتر» و«فورد موتور» و«فيسبوك» التي قالت «أكسيوم» إنها ربما زودتها ببياناتي في العام الماضي. وربما لم يحدث ذلك.
- أخطاء الملفات
قالت كارول هارجريفز الأستاذة الجامعية ومديرة «مركز داتا أناليتيكس» للاستشارات في الجامعة الوطنية في سنغافورة إن احتواء ملفي على أخطاء لا يمثل مشكلة بالضرورة لشركات التسويق. فالمهم فعلاً هو التنبؤات بسلوك الأفراد واهتماماتهم وميولهم في شراء منتجات بعينها. وأضافت هارجريفز: «فالأشياء التي تبيعها لرجل في السادسة والأربعين أو السابعة والخمسين هي نفسها». في بعض المجالات التي يحتمل أن تكون مهمة كانت البيانات أفضل من مجرد التخمين العشوائي. فقد تنبأت بأن احتمال أن أكون أنا صاحب عمل ولا أعمل لدى الغير يبلغ 5.2 في المائة فقط. وتبين البيانات الرسمية أن نحو 17 في المائة من البريطانيين من أصحاب الأعمال. كما كان تنبؤ «أكسيوم» بدخل أسرتي أقرب كثيراً من الرقم الحقيقي عن المتوسط الذي تنشره هيئة لندن الكبرى لدائرتي الانتخابية. غير أنه إذا كانت قرارات الشراء مدفوعة بالاهتمامات الخاصة بأسلوب الحياة فإن البيانات التي جمعتها «أكسيوم» عني غير ذات فائدة لشركات التسويق.
تشير التنبؤات الخاصة بقراءة عداد الأميال السنوي الخاص بسيارتي إلى نطاق يتراوح بين 8000 و10000 بناء على «نموذج الاحتمالات». ويقارب هذا الرقم المسافة التي تقول مجموعة «آر إيه سي» لبيانات السيارات إنها المتوسط الذي يقطعه صاحب سيارة في لندن كل عام. لكنه يزيد مرتين عن المسافة التي أقطعها سنويّاً. وتخطئ «أكسيوم» عندما تقول إنني لا أملك جهاز تلفزيون بشاشة مسطحة، وهو الأمر الذي توصلت إليه من خلال النماذج، وذلك رغم أن تقريراً أصدرته الحكومة البريطانية عام 2013 ذكر أن أغلب الأسر لديها تلفزيونات مسطحة.
ويبين استطلاع أجري في عام 2017 أن واحداً من كل سبعة بريطانيين عضو في صالة للتدريبات الرياضية. لكن «أكسيوم» تقدر أن احتمال اهتمامي بعضوية صالة للتمرينات يبلغ 47.5 في المائة. وقد انتهى آخر اشتراك لي من هذا النوع قبل أكثر من عشر سنوات.
كما تعتقد «أكسيوم» أنني على الأرجح أهتم بحل مسابقات الكلمات المتقاطعة، وهو ما لم يحدث منذ الثمانينات، أكثر من اهتمامي بالشؤون الحالية التي هي من صميم عملي في حياتي العملية على مدى 20 عاماً. ومن الجوانب الإيجابية ثمة مؤشرات على أن «أكسيوم» لا يدخل في نشاطها التصنيف العرقي. وتتنبأ الشركة بأن احتمال اهتمامي بالذهاب بانتظام إلى حانة يبلغ 13.6 في المائة. وقد سألت الأستاذة الجامعية هارجريفز عما إذا
كان ذلك يبدو معقولاً من الناحية الإحصائية لصحافي آيرلندي. قالت بعد أن توقفت عن الضحك إن التنبؤات الدقيقة تتوقف على البيانات الأولية.
- الموضة
قالت «أكسيوم» إن المعلومات غير الدقيقة بمفردها لا تضعف قيمة خدمتها. وقالت في بيان: «نعلم من خلال عملنا مع الأسماء التجارية البارزة أن البيانات تساعدها على إنجاز تسويق أكثر دقة وأهمية لعملائها حسب المطلوب... والعامل الرئيسي هنا هو حسب المطلوب».
وقالت أنابيل كيلنر كبيرة المسؤولين التجاريين بشركة «ميد. كوم» لتجارة الأثاث على مستوى التجزئة، لـ«رويترز»، إن بيانات المستهلكين تساعد الشركات على توصيل رسائل تجد صدى لدى المستهلكين. وأضافت كيلنر: «نتبنى نهجاً يقوم على الاختبار والتعلم لتحقيق المستوى الأمثل لحملاتنا الدعائية».
وقال شياوجينج دونج الأستاذ المساعد للتسويق وتحليلات الأعمال بجامعة سانتا كلارا في وادي السيليكون إن التنبؤات النوعية مثل تلك التي تنتجها «أكسيوم» تتيح للشركات المعلنة فكرة أفضل كثيراً عما تصل إليه من المستهلكين. لكن هارجريفز قالت إن ثمة مخاوف بين بعض المعلنين حول أن ملفات المستهلكين التي يشترونها من شركات جمع البيانات قد لا تساوي على الدوام الأموال الضخمة التي تدفعها.
وقالت هارجريفز إنها على وشك أن تبدأ العمل مع عملاء لشركات مثل «أكسيوم» للتأكد مما إذا كانت تحصل على خدمة تساوي ما تدفعه من مال. وأضافت: «بعض بائعي البيانات يسايرون الموضة فحسب».


مقالات ذات صلة

كيف تكتشف التقييمات المزيفة للمنتجات على الإنترنت؟

يوميات الشرق ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدية سمح بإنتاج تقييمات مزيفة للمنتجات والصفحات الموجودة على الإنترنت (رويترز)

كيف تكتشف التقييمات المزيفة للمنتجات على الإنترنت؟

تقول جماعات مراقبة وباحثون إن ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدية سمح بإنتاج تقييمات مزيفة للمنتجات والصفحات الموجودة على الإنترنت ومنصات التواصل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
المشرق العربي شعار «فيسبوك» (رويترز)

تقرير: «فيسبوك» يمنع المنافذ الإخبارية الفلسطينية من الوصول للمستخدمين

كشف تقرير جديد أن موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» فرض قيوداً شديدة على قدرة المنافذ الإخبارية الفلسطينية على الوصول إلى مستخدميه أثناء حرب غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
تكنولوجيا شعار شركة «ميتا» المالكة لمنصة «فيسبوك» (أ.ب)

بسبب خرق للبيانات عام 2018... تغريم «ميتا» 264 مليون دولار

فرضت هيئات مراقبة الخصوصية في الاتحاد الأوروبي غرامات إجمالية قدرها 251 مليون يورو على شركة «ميتا» المالكة لـ«فيسبوك» أمس (الاثنين).

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم شعار شركة «ميتا» الأميركية (أ.ف.ب)

أستراليا تعتزم فرض ضريبة على المنصات الرقمية التي لا تدفع مقابل نشر الأخبار

أعلنت الحكومة الأسترالية اعتزامها فرض ضريبة كبيرة على المنصات ومحركات البحث التي ترفض تقاسم إيراداتها من المؤسسات الإعلامية الأسترالية.

«الشرق الأوسط» (سيدني)
العالم انقطعت خدمة منصة «إنستغرام» عن أكثر من 23 ألف مستخدم (د.ب.أ)

عطل يضرب تطبيقي «فيسبوك» و«إنستغرام»

أظهر موقع «داون ديتيكتور» الإلكتروني لتتبع الأعطال أن منصتي «فيسبوك» و«إنستغرام» المملوكتين لشركة «ميتا» متعطلتان لدى آلاف من المستخدمين في الولايات المتحدة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟