الزراعة مهنة نهاية الأسبوع للموظفين في الهند

لتغطية احتياجاتهم الذاتية من الغذاء

عائلة هندية  في مزرعتها
عائلة هندية في مزرعتها
TT

الزراعة مهنة نهاية الأسبوع للموظفين في الهند

عائلة هندية  في مزرعتها
عائلة هندية في مزرعتها

إنهم موظفون محترفون، منهم الأطباء، والمحامون، والمهندسون، وأساتذة الجامعات، ومحللو الحواسيب، هذا عملهم طيلة أيام الأسبوع غير أنهم يتحولون إلى الأعمال الزراعية بحلول عطلة نهاية الأسبوع.
ويعمل عدد متزايد من الموظفين المحترفين في دلهي وضواحيها على تغطية احتياجاتهم الغذائية عن طريق الزراعة في جماعات محلية.
ولنضرب مثالاً بحالة ديراج غارغ، وهو متخصص في تكنولوجيا المعلومات، وعلى غرار كثير من الموظفين المحترفين الآخرين، ورغم حياة العمل المزدحمة، فإنه يوفر الوقت اللازم لممارسة هوايته المفضلة في نهاية كل أسبوع. وفي كل يوم سبت، يقود ديراج سيارته إلى بادشاهبور على مشارف دلهي، حيث يعمل - برفقة آخرين - في زراعة أرضه بمختلف المحاصيل من الطماطم وحتى الفراولة.
وعلى نحو مماثل، هناك شيخة غاور ويوغيش مالباني، وهما جزء من «غرين ليف إنديا»، وهو مجتمع يضم نحو 80 من العاملين في الزراعة العضوية في غورغاون، وقد تمكنوا من استئجار مزرعة، حيث يعملون على زراعة كل شيء هناك، مثل الطماطم والبطاطا لتغطية احتياجاتهم الذاتية من الغذاء.
والحافز وراء هؤلاء المزارعين الجدد يعد مصدراً كبيراً للقلق - ما الذي نقدمه لأطفالنا على الموائد، وكيف نقاوم فيض السموم والمبيدات السامة التي دخلت حياتنا؟
تقول شيخة غاور، التي تدير شركة لإدارة الفعاليات: «كنتُ أبتاع الخضراوات العضوية من السوق غير أنني لم أكن متأكدة تماماً إن كانت المنتجات عضوية فعلاً. لذا، فكرت في استئجار مزرعة وزراعة الخضراوات بنفسي». وتساعدها ابنتها تفاريتا (12 عاماً) في زراعة المزرعة التي تبلغ مساحتها 600 ياردة تقريباً.
يضم مجتمع الزراعة العضوية الحضرية الجديد عدداً من الموظفين المحترفين المؤهلين جامعياً، الذين تربطهم مجموعة منشأة حديثاً عبر تطبيق «واتساب»، حيث يناقشون من خلاله كل شيء من كيفية صناعة السماد إلى زراعة البذور. ويناقشون كل شيء من القوانين والأسواق، وتجميع مياه الأمطار، وديدان الأرض، والسماد في عطلات نهاية الأسبوع. وينطلقون بصحبة أسرهم إلى ضواحي المدينة حيث يعملون على زراعة الخضراوات، والفاكهة، والأرز، ومنتجات الألبان، مع آمال منعقدة على مستقبل أبنائهم. ويستخدمون ما يحصدونه في مطابخهم، كما يتقاسمون ذلك مع الأقارب والأصدقاء.
ولكل فرد من تلك المجموعة مزرعة خاصة بمساحة 600 ياردة (نحو 550 متراً) يُسهِم فيها بمبلغ 28 ألف روبية كل ستة أشهر، بما في ذلك تكاليف البذور ورواتب تسعة من العمال الذين يساعدونهم في الزراعة والخدمات. وتسدد المجموعة 60 ألف روبية لإيجار الفدان الواحد سنويا من ملاك الأراضي.
وعلى مرّ السنين، ازدادت الزراعة العضوية المحلية شعبية بين الطبقة العاملة في دلهي، الذين لا يستاءون من اتساخ أيديهم في الطمي والزراعة. وفي عطلات نهاية الأسبوع، يتحول هؤلاء إلى مزارعين يقومون بكل أعمال الزراعة من التسميد والحرث وإزالة الأعشاب الضارة والقضاء على الآفات. كما ينضم إليهم أطفالهم في ذلك. ووجد بعضهم أن الزراعة الخاصة هي أفضل وسيلة للتواصل المستمر مع أطفالهم، ومع بعضهم بعضاً، ومع الطبيعة، بدلاً من التسكع في مراكز التسوق، أو ترك الأطفال يلهون ويقتلون أوقات الفراغ باستخدام الأجهزة الإلكترونية الحديثة.
وعبر هذه المبادرة الأولى من نوعها لتعزيز التغذية الصحية بين سكان المدينة، إلى جانب رحلات التنزه في نهاية كل أسبوع، تلعب إدارة البستنة دوراً مهماً في توفير الأراضي الزراعية بعقود الإيجار لمزارعي المناطق الحضرية.
وقال مسؤول البستنة في منطقة غورغام، دين محمد خان، إن كثيراً من أصحاب المؤهلات العليا قد كوَّنوا مجموعات لاستئجار مزارع. ولم نكن نتوقع مثل هذا القدر من الحماس عندما بدأنا العمل معهم، ولكنني أعتقد أن كثيراً من الناس أصبحوا مهتمين بهذا المفهوم الجديد. وهذه الفكرة شائعة للغاية في المملكة المتحدة (إذ يُطلِقون عليها هناك اسم «الحديقة المخصصة»)، وفي الولايات المتحدة الأميركية كذلك (ويسمونها هناك «حديقة المجتمع»).
وفي الوقت الحالي، هناك أكثر من 200 أسرة مشاركة من جميع أنحاء المدينة في ممارسة نشاط المزارع المستأجرة في بادشاهبور من خلال المشروع الذي بدأته إدارة البستنة، وتدعمه منظمة غير حكومية محلية تحمل اسم «مبادرة غرين ليف». حيث يجتمع الأصدقاء معاً ويشترون الأرض. وإن تعذر ذلك لسبب أو لآخر، فإنهم يستأجرون الأرض لزراعتها، ويتبادلون (عن طريق المقايضة) المنتجات الزراعية التي يحصدونها.
ويقول المزارعون في المناطق الحضرية إنه بمرور الشهور، ارتفعت إنتاجية مزارعهم، حتى إنها توفر 20 كيلوغراماً من الفاكهة والخضراوات كل أسبوع. وتستخدم تلك المجموعة مخلفات حيوانات الحقل لصناعة معجون خاص لإبعاد الحشرات عن المحاصيل بدلاً من استخدام المبيدات الكيميائية السامة.
وتقول الدكتورة جيوتي وادوا سايغال، اختصاصية الأورام في مستشفى غورغاون المركزي، وهي عضو بمجموعة للزراعة العضوية «يمكن للزراعة المجتمعية المحلية أن تقطع شوطاً طويلاً في التعامل مع ومواجهة كثير من الأمراض، بما في ذلك السرطان الناشئ عن استهلاك الخضراوات المصابة بالمبيدات الكيميائية».
وأضافت الدكتورة سايغال تقول: «إنني أذهب إلى مزرعتي كل يوم أحد. وبدأت هناك بزراعة الخضراوات مثل الطماطم، والبطاطا، والملفوف، وخلافه. والآن، فإنني أزرع الفواكه مثل الفراولة. وأريد أن أتمكن من زراعة كل أنواع الطعام الذي نتغذى عليه في المنزل».
وطرحت نانديني، التي تعلمت الزراعة من خلال الدراسة والتدريب الذاتي، فكرة الزراعة الذاتية. وشكلت مجموعة من ستة أفراد من ذوي التفكير المتماثل الذين يساورهم القلق ذاته بشأن جودة الطعام الذي يتناولونه، ومن ثم استأجروا أرضاً خاصة لزراعتها. وتمكنت تلك المجموعة من استئجار أرض بمساحة 4 آلاف متر مربع بقيمة سنوية تبلغ 12 ألف روبية، تبعد مسافة 25 كيلومتراً من نويدا في ضواحي العاصمة دلهي.
وتقول نانديني، وهي محامية في إحدى المؤسسات ومزارعة متدربة: «إن الخضراوات الطازجة التي أشتريها من السوق تتحول إلى اللون الداكن بعد يوم واحد في الثلاجة، بسبب أن أغلبها مزروع على ضفاف نهر يامونا، حيث يتم ري المحاصيل بمياه الصرف الصحي المحملة بالمعادن الثقيلة وغير ذلك من المخلفات والملوّثات. ولطالما أردت زراعة الخضراوات بنفسي. ولكن الحياة في المباني السكنية متعددة الطوابق حال دون ذلك».
وبعيداً عن رتابة الحياة المدنية المملة أمام شاشات الحواسيب لساعات طويلة يوميّاً، فقد وفرت هذه الفكرة الجديدة كثيراً من الفرص للتخلص من التوتر خلال عطلات نهاية الأسبوع. وبالنسبة إلى الكثيرين، اعتبرت من الفرص السانحة للنزهات العائلية أو لقضاء بعض الوقت منفرداً وبعيداً عن صخب المدينة.
يقول شيخار بهارتي: «لا يتعلق الأمر بالمكاسب المالية، بل إن الاستمتاع بزراعة شيء ما هو ما يجعل الأمر ممتعا للغاية. كذلك، إنها تعتبر نزهة عائلية جميلة حيث يمكنك الجلوس في الهواء النظيف والتنزه. وصارت عطلات نهاية الأسبوع الآن تعني الانتقال إلى المزارع واتساخ الأيادي بأعمال الزراعة. إنها تجربة أكثر إشباعاً للذات».
وبالنسبة لكثيرين، فإنها تجربة ثرية لتوسيع المدارك على حياة ومعاناة المزارعين، وتجربة تثقيفية غنية لا يمكن مضاهاتها بشيء في المقابل.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)