لماذا لا يتزوج العباقرة؟

من هيراقليطس إلى أفلاطون إلى ديكارت إلى سبينوزا ولايبنتز وكانط وشوبنهاور

لماذا لا يتزوج العباقرة؟
TT

لماذا لا يتزوج العباقرة؟

لماذا لا يتزوج العباقرة؟

ما هو دور المرأة في تحريك عملية الإبداع لدى الرجل الموهوب وبالأخص لدى العباقرة من الرجال؟ بشكل سريع يمكن القول إن هناك موقفين اثنين للعباقرة من المرأة: إما الاهتمام الزائد، وإما الإهمال الزائد. فالعباقرة متطرفون في مواقفهم عادة على عكس الناس العاديين. فإذا ما نظرنا إلى حياة كبار الفلاسفة من أمثال ديكارت أو كانط مثلا وجدنا أن المرأة لا تكاد تلعب دورا يذكر. فديكارت كانت له علاقة مع خادمته فقط. ولكن على ما يبدو كانت له عشيقات ليس أقلهن أميرات.
أما المسكين سبينوزا فقد أحب فتاة في مستهل شبابه ولكنهم رفضوه وزوجوها لشخص غيره فلم يعد الكرة مرة أخرى وانطوى على حبه المغدور ككنز يغذيه مدى الحياة. وأما جان جاك روسو فقد عاش طيلة حياته مع امرأة لا يحبها وأحب امرأة لم يعش معها يوما واحدا بل ولم يلمسها.. وأما ايمانويل كانط فلم تعرف له أي علاقة مع أي امرأة!..وهكذا كرس حياته كلها لبلورة تلك الفلسفة النقدية العظيمة التي سيطرت على الغرب منذ مائتي سنة ولا تزال. ويقال إنه أعجب بامرأة مرة، ثم شغل عنها بتأليف أحد كتبه الهامة حتى غطس فيه كليا. وعندما استفاق من غيبوبته وأراد العودة إليها كانت «المحروسة» قد تزوجت وأنجبت الأطفال!
وأما نيتشه الذي دمرته تلك الحسناء اللعوب «لو أندريا سالومي» كما ذكرنا في مقال سابق فقد أرسل لخطبتها صديقه «بول ري» ناسيا أو متناسيا أن هذا الأخير كان أيضا مغرما بها إلى حد الوله بل وانتحر من أجلها!.. وفي مرة أخرى أعجبته إحداهن فأرسل لها أحد معارفه لمفاتحتها في أمر الخطوبة غير مدرك أن هذا الشخص بالذات هو زوجها الشرعي! ولكن من يستطيع أن يلوم نيتشه على مثل هذه الهفوات البسيطة؟ بصراحة نيتشه يجوز له ما لا يجوز لغيره.. وعموما فإن العباقرة لا يتزوجون ولا ينجبون وإنما يتفرغون كليا لإنجاب شيء واحد فقط: هو مؤلفاتهم الفلسفية أو روائعهم الأدبية. ماذا كنا سنستفيد من كانط لو أنه تزوج وأنجب الأطفال وربى عائلة كسرت ظهره وألهته عن تدبيج مؤلفاته الخالدة؟ كان أطفاله قد عاشوا وماتوا ولم يبق لهم أي ذكر. أما مؤلفاته العظيمة التي دشنت الفلسفة النقدية التنويرية الحديثة فقد حلت للبشرية مشكلاتها وستبقى بعده أبد الدهر. نقد العقل الخالص لا يموت.. وقل الأمر ذاته عن ديكارت أو سبينوزا أو شوبنهاور أو نيتشه أو سارتر إلخ..
وأما عن الشعراء والفنانين وعلاقتهم بالمرأة فحدث ولا حرج!.. فالواقع أنه نادرا ما تخلو حياة شاعر ما من هوى عاصف أو حب مجنون. وكثيرا ما يلعب هذا الحب دورا كبيرا في إلهام الشاعر وانطلاق عبقريته المكبوتة. يكفي أن نذكر هنا قصة ريلكه مع تلك الروسية الفاتنة التي جننت نيتشه من قبل كما ذكرنا. فقد تعرف عليها في مطلع الشباب (عشرين سنة) وكانت هي امرأة ناضجة في الأربعين فحلت عقدته النفسية المتأصلة وأشعلت عبقريته كالحريق.
ثم هناك قصة ألفريد دو موسيه مع تلك الكاتبة المشهورة والمتحررة التي اتخذت اسم رجل من كثرة تحررها وميلها للتحدي والاستفزاز: جورج صاند. فقد أحبها حبا جما، وأحبته هي في البداية أيضا، ولكنها سرعان ما انصرفت عنه إلى غيره فلوعت قلبه. وكان ينتظرها طيلة الليل لكي تعود من سهراتها ومغامراتها مع عشاقها عند أول خيوط الفجر، فيتحسر عليها طيلة ساعات وساعات ويكتب بعضا من أجمل قصائد الشعر الرومانطيقي الفرنسي في القرن التاسع عشر: «ليالي موسيه». ذلك أن عذاب الحب مفيد جدا للفنان فهو يشحذ العبقريات. فلولا أن ولادة بنت المستكفي كانت قد دمرت ابن زيدون وذبحته ذبحا هل كنا سنحصل على أجمل قصيدة حب في الشعر العربي:
أضْحَى التّنائي بَديلاً منْ تَدانِينَا،
وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا
ألاّ وَقَد حانَ صُبحُ البَينِ، صَبّحَنا
حَيْنٌ، فَقَامَ بِنَا للحَيْنِ نَاعيِنَا
مَنْ مبلغُ الملبسِينا، بانتزاحِهمُ،
حُزنا، معَ الدهرِ لا يبلى ويُبْلينَا
أَنَّ الزَمانَ الَّذي ما زال يُضحِكُنا
أُنساً بِقُربِهِمُ قَد عادَ يُبكينا
بل إن النجاح في الحب قد يشكل خطرا على الإبداع. فأهلا وسهلا إذن بالفشل والهجران.. أهلا بالحرمان وعدم الوصال.. نشفوا دموعكم أيها الأصدقاء!.. رب ضارة نافعة! صحيح أن الحب الفاشل يخلف وراءه أنقاضا وأطلالا، وربما خرائب على مد النظر، صحيح أنه يدمرك تدميرا ويستنزفك تماما. صحيح أنه «لا أبرد من حب مات» كما تقول رومي شنيدر بعد أن تركها آلان ديلون. ولكنه يطهرك من الداخل تطهيرا، وينظفك تنظيفا، ويجعلك أفضل مما كنت عليه بألف مرة. أليس هذا مكسبا؟ إنه يعمق إنسانيتك ويخفف من غرورك، ويتحول بمرور الزمن إلى كنز دفين. بهذا المعنى فالحب الفاشل هو أكثر أنواع الحب نجاحا في التاريخ! وعلى أي حال فإن قصص الحب الكبرى نادرا أن تنجح. نجاحها يكمن في أنها حصلت وأججت النيران في الداخل. مجرد حصولها يعتبر معجزة. ليس في كل يوم تحصل قصة حب. يا ريت! وعموما فإن الحب بالضربة القاضية أو بالضربة الصاعقة كما يقول الفرنسيون لا يحصل إلا مرة واحدة في الحياة، هذا إذا ما حصل! ووحدهم النخبة المصطفاة ينالون هذا الحظ الأعظم أو ذلك الشرف الرفيع. انظروا إلى دانتي وبياتريس، أو بترارك ولورا، أو قيس وليلى، أو جميل وبثينة، أو هولدرلين وسوزان، أو روميو وجولييت، أو ابن زيدون وولادة، أو ذو الرمة وحبيبة قلبه الغالية مي، إلخ.. وفي العموم يمكن أن نطيل الحديث إلى ما لا نهاية عن هذا الموضوع الغائر في الأعماق والأقاصي. ولكن يكفي أننا أزعجناكم بما فيه الكفاية.. سامحونا!
والآن اسمحوا لنا أن نطرح هذا السؤال: لماذا كان أغلبية كبار الفلاسفة عزابا؟ لماذا لم يبنوا عائلة ولم ينجبوا الأطفال كبقية البشر؟ نذكر على سبيل المثال لا الحصر: باسكال، وديكارت، وسبينوزا، وفولتير، وجان جاك روسو، وكانط، وكيركيغارد، ونيتشه، وعشرات الآخرين. وأما من كبار الأدباء والفنانين فنذكر: ستندال، وبلزاك، وفلوبير، وبودلير، ورامبو، ورينيه شار، وبيتهوفين، وسواهم. والجواب هو أنهم أنانيون من جهة، ومهووسون بإبداع مؤلفاتهم من جهة أخرى. فأنت لا تستطيع أن تتفرغ لمهمتك الفكرية إذا كنت مسؤولا عن عائلة كبيرة وأطفال. إما هذا وإما ذاك. وأنت مجبر على الاختيار. وهذا ما قاله ماركس في إحدى لحظات الضيق: من يريد أن يتصدى للقضايا العامة ويتحمل مسؤولية جسيمة لا ينبغي عليه أن يتزوج وينجب. قال ذلك وهو يفكر في حالته الشخصية لأنه كان متزوجا وعن حب. ولكن هموم الحياة المادية ضغطت عليه كثيرا، بل وكسرت ظهره بسبب ضعف موارده بل وانعدامها تقريبا. ولولا الصديق إنغلز لربما حصل ما لا تحمد عقباه.. فكم عانى أطفاله من الحرمان وعدم المعالجة الطبية بل وحتى الجوع. أحيانا لم يكن يستطيع شراء علبة حليب لطفلته الرضيعة. ألا تكفر بالزواج عندئذ؟ ألا تعتبر نفسك مجرما لأنك ورطت نفسك بعائلة وأنت غير قادر على الاضطلاع بمسؤوليتها؟ وهذا كله كان يشغله عن التفرغ لنضالاته وكتاباته. أما الفيلسوف الأعزب فلا يعاني من كل هذه الوساوس. إنه مسؤول عن إطعام نفسه فقط. وإذا جاع أحيانا فهذا أسهل عليه بألف مرة من أن يجوع أطفاله أمامه. هذا شيء لا يستطيع تحمله. نعم إن العزوبية تتيح لك هامشا من الحرية لا يقدر بثمن. وهذا الهامش تستطيع تكريسه للكتابة والإبداع. وحده المثقف الغني الذي ورث ثروة كبيرة عن عائلته يحق له أن يتزوج. أما المثقف الفقير فلا ينبغي عليه أبدا أن يرتكب هذه الحماقة. بهذا المعنى لا أجد أبلغ من عبارة سيوران التي يقول فيها:
أطفالي الذين لم أنجبهم كم سيشكرونني على ذلك؟
بل ويصل الأمر بأستاذنا نيتشه إلى حد القول بأن الفيلسوف المتزوج شيء مخجل ولا يمكن تصوره. يقول بالحرف الواحد: «إن الفيلسوف الحقيقي يرفض الزواج ويتهرب منه بكل هلع ورعب. لماذا؟ لأن الزواج يقف في طريقه كعقبة كأداء بل ومهلكة تمنعه من التوصل إلى القمة: قمة الفكر والإبداع. ثم يطرح هذا السؤال: من هو الفيلسوف الكبير الذي كان متزوجا حتى الآن؟ كلهم كانوا عزابا من هيراقليطس إلى أفلاطون إلى ديكارت إلى سبينوزا ولايبنتز وكانط وشوبنهاور. ولا واحد منهم كان متزوجا. بل وأكثر من ذلك لا يمكن تصورهم كمتزوجين وذلك لأن الفيلسوف المتزوج عبارة عن أضحوكة أو مهزلة ليس إلا».
وهناك سبب آخر لعدم الإنجاب هو: أن الكثير من كبار الفلاسفة كانوا ملاحقين ومطاردين بل ومهددين في حياتهم الشخصية. ولو أنهم أنجبوا لربما هددوهم حتى في أطفالهم كأن يخطفوهم مثلا.
وأخيرا فلو تأملنا في حياة العباقرة عن كثب ورأينا حجم التهديدات والملاحقات الضارية التي قد يتعرضون لها لحمدنا الله ألف مرة على أننا لسنا عباقرة!



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي