تبعات صعود اليمين القومي الإيطالي

فوز ممثليه بالغالبية البرلمانية انتصار للانغلاق الفكري

برلسكوني (يسار) وعد بترحيل 600 ألف مهاجر غير شرعي من إيطاليا («الشرق الأوسط»)
برلسكوني (يسار) وعد بترحيل 600 ألف مهاجر غير شرعي من إيطاليا («الشرق الأوسط»)
TT

تبعات صعود اليمين القومي الإيطالي

برلسكوني (يسار) وعد بترحيل 600 ألف مهاجر غير شرعي من إيطاليا («الشرق الأوسط»)
برلسكوني (يسار) وعد بترحيل 600 ألف مهاجر غير شرعي من إيطاليا («الشرق الأوسط»)

يتساءل كثيرون عما يجري في أوروبا، وبالتحديد، صعود اليمين القومي ما بين يمين الوسط واليمين المتطرف، وملامح انتهاء عصر اليسار المعتدل، الذي كان يحمل شعوراً إنسانياً متسامحاً. ولعل نظرة سريعة على الخريطة الأوروبية تُشعر المرء المراقب بالقلق على مصير الاتحاد الأوروبي برمته، إذا سيطر هذا التيار الشعبوي المتطرف على حكومات وبرلمانات دول بأكملها كحال المجر وبولندا، وفي دول أخرى كألمانيا، حيث حصل 100 من أعضاء حزب «البديل» على مقاعد في مجلس النواب «البوندستاغ». بل حتى في دول أخرى إسكندنافية، مثل النرويج والسويد، حيث ما كان المرء يتصور أن ينجح التطرف الأصولي بدخول حكومات ائتلافية تجمع الأصوليين والمعتدلين. أما أحدث فصول صعود اليمين الأصولي الأوروبي فقد شهدته إيطاليا، إحدى قلاع النهضة والتنوير الأوروبي، في مشهد يميل إلى الظلامية تجاه الآخر المغاير بنوع خاص، وهذه أعلى درجات الأصولية البغيضة، حين يعتقد المرء بامتلاكه الحقيقة المطلقة، محاولاً إقصاء الآخر من التاريخ أو الجغرافيا، وربما من كليهما معاً.
لعل أفضل مَن وصف ما جرى في إيطاليا عبر انتخابات مجلس النواب والشيوخ كانت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، التي اعتبرت الأمر بمثابة «انفجار للشعبوية»، وبخاصة، بعد فوز حركة الـ«5 نجوم» وحركة «رابطة الشمال»، النسبة الأعلى لأصوات ناخبي يمين الوسط. ومع هذه النتيجة بدا كأن الإيطاليين أسندوا حكم بلادهم إلى قوى اليمين.
المؤكد أن نظرة سريعة إلى القيادات السياسية الإيطالية، لا سيما، تلك، التي فازت جماعاتها في الانتخابات، تعطينا مؤشراً على حالة الانغلاق الفكري والانطواء الذهني التي أصابت الإيطاليين وباتت مسيطرة عليهم. وإليك على سبيل المثال، لويجي دي مايو، مرشح حركة الـ«5 نجوم» لرئاسة الحكومة. وهو الشخص المناهض للحكومة وللنظام، الذي قاد حركته لتسجيل نتيجة متقدمة بلغت نحو 30.78% من الأصوات في مجلس النواب، و30.91% في مجلس الشيوخ. بعيداً عن القضايا السياسية الأوروبية – الأوروبية، أو الأوروبية – الآسيوية، أو الأوروبية – الأميركية، نرى مسألة الهجرة والمهاجرين في القلب من برنامج دي مايو الانتخابي. إذ أشار إلى أنه يتوجب على الاتحاد الأوروبي تمكين الناس من تقديم طلبات للمجيء إليه من الدول التي يعيشون فيها، وبهذه الطريقة «يمكننا غربلة الطلبات من نقاط الانطلاق لمعرفة مَن لديهم الحق كلاجئين سياسيين، وأولئك الذين لا يملكون هذا الحق كونهم مهاجرين اقتصاديين».
والواقع، أنه على الرغم من الأخطاء التي اقترفتها حكومات بلاده في ليبيا بنوع خاص، فإن دي مايو يترصّد بنوع خاص ضحايا الهجوم الأوروبي على ليبيا الذي أفقدها استقرارها حتى الساعة.
أما الملياردير سيلفيو برلوسكوني، رئيس الوزراء السابق ورئيس حركة «فورتسا إيطاليا» (إلى الأمام يا إيطاليا) -الذي تتموضع حركته في يمين الوسط وحظيت بـ14.18% في مجلس الشيوخ- فقد اعتبر الهجرة «قنبلة اجتماعية جاهزة للانفجار» في إيطاليا. وفي تعليقه على إطلاق شخص عنصري النار على 6 مهاجرين اعتبر أن «المسألة أمنية وليست تطرفاً أو أصولية».
برلوسكوني، وفي دغدغة للشارع الإيطالي لا تخطئها العين، وعد بأنه سيعمل على ترحيل 600 ألف مهاجر غير شرعي من إيطاليا في حال حصول ائتلاف اليمين والوسط على مقاعد في الحكومة. واليوم، بعدما تحقق هذا بالفعل، فإن الأسوأ قادم في الطريق لا محالة للمهاجرين البؤساء. وما يقلِق أكثر، أن ثمة وعداً بإسناد حقيبة وزارة الداخلية في الحكومة الائتلافية العتيدة إلى الأمين العام لـ«رابطة الشمال» ماتيو سالفيني، وهو السياسي الإيطالي الأكثر تطرفاً في دعوته الصريحة لوقف ما يسميه «أسلمة إيطاليا» وإغلاق نحو 800 مسجد. وهو عينه الذي حذّر مما سماه «المحاكم الشرعية» التي زعم أنها صارت بديلاً للقانون المدني في بريطانيا.

عن أخطاء أوروبا تجاه إيطاليا
دى البحث عن الأسباب التي قادت إلى هذه النتيجة المقلقة، هناك أكثر من رؤية ووجهة نظر، وبعضها يرى أن العواصم الأوروبية هي التي دفعت إيطاليا إلى هذا المصير. بين هذه الأصوات جيوزيبي سانتوليكيدو، الباحث والأكاديمي البلجيكي المنحدر من أصول إيطالية. أما السبب في ذلك، فيعزوه إلى قضية الهجرة التي شكّلت عصب الحملة الانتخابية الإيطالية على اختلاف توجهات الأحزاب. ثم يتهم أوروبا بأنها «لم تفعل شيئاً لمساعدة إيطاليا التي تستقبل منذ سنوات مئات الآلاف من اللاجئين على أراضيها سنوياً».
من ناحية ثانية، يقر الباحث الإيطالي الأصل بأن «الشعبويين والمتطرفين» هم الذين يقودون معظم الأحزاب الإيطالية الموجودة على الساحة السياسية من دون تمييز. وهو يقسمهم كالتالي إلى 3 أشكال مختلفة من الشعبوية: برلوسكوني «الذي يعد رائداً في هذا المجال»، ثم حركة الـ«5 نجوم» التي يصفها بأنها «حركة احتجاجية بامتياز»، ثم رئيس الوزراء السابق ماثيو رينزي (يسار الوسط)، «الذي لم يحقق أياً من وعوده الانتخابية في السابق».
ولعل المثير في التحليل السابق أنه يبيّن حالة الاضطراب التي تعاني منها أوروبا ككل، والتناقضات في الدينامية الداخلية المحرّكة لها. ويسوق مثالاً بسيلفيو برلوسكوني رئيس الوزراء الأسبق العجوز الثري. هذا الرجل الذي دُفع دفعاً منذ عدة سنوات من قبل بروكسل (عاصمة «الاتحاد الأوروبي») كي يتنحى ويفسح الطريق واسعاً حفاظاً على التماسك الأوروبي ومنع انهيار الاقتصاد الإيطالي، هو عينه الذي تأمل بروكسل اليوم عودته إلى الساحة السياسية الإيطالية، لمجرد الأمل بأن يكون أقل سوءاً في شطحاته الأصولية من قيادة الـ«5 نجوم».
والمؤكد أنه بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي ذاته، كوحدة سياسية واقتصادية، حدثت ضربة موجعة للاتحاد الذي يعاني في الأصل من تفكك داخلي يكاد يقوده إلى التحلل الكامل. ومعروف أن «رابطة الشمال» والـ«5 نجوم» قد شاغلتهما من قبل فكرة الاستفتاء على الخروج من اليورو، قبل أن تتخليا عنها لاحقاً. ولكن الخط السياسي الشعبوي الذي تنتهجه الحركتان يرفض إجراءات التقشف الأوروبية على الدول التي تعاني من ارتفاع الدين، وتطالبان بضرورة مراجعة اتفاقيات الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك الاتفاق المالي الذي يضع قواعد أكثر صرامة إزاء الموازنة.

الأصولية الإيطالية... وأوروبا
مما لا شك فيه أن نتائج الانتخابات الإيطالية الأخيرة باتت تهدد قولاً وفعلاً المشروع الفرنسي – الألماني لإصلاح الاتحاد الأوروبي، بعدما اكتسب زخماً مع التوصل إلى اتفاق لتشكيل حكومة ائتلافية ألمانية. ولكن في كل الأحوال فإن الخطر الأكبر على الصعيد الاقتصادي يتجلى في زيادة روما نفقاتها على حساب الأنظمة الأوروبية، الأمر الذي سيتسبب في خلافات بين روما والمفوضية الأوروبية، ما سينعكس على الساحة السياسية الإيطالية من خلال ظهور الأحزاب الشعبوية والبيانات العنصرية التي تحثّ على الكراهية والتخويف من الآخر المهاجر أولاً، ومن بقية القيم الأوروبية تالياً.
ولعل تصريحات وزيرة الدفاع الإيطالية روبرتا بينوتي (يسار وسط) الأخيرة، التي جاءت على هامش اجتماع مجلس شؤون الدفاع في بروكسل بعد نتائج الانتخابات بيومين، تعبّر تماماً عن حال أوروبا، إذ قالت بينوتي إن «الأسئلة من جانب نظرائي الأوروبيين حول الوضع في إيطالياً (تجاوزت بكثير) مظاهر القلق لديهم».
والحقيقة، أن ما يخيف في مشهد إيطاليا الأصولي القومي الشعبوي هو أنه لا يعير أهمية لبقية أصوات الأوروبيين. وهذا هو الملمح الأول للأصوليين والمتطرفين، وكان قد ظهر ذلك بقوة في تصريحات سالفيني، أمين عام «رابطة الشمال»، الذي قال خلال مؤتمر صحافي أخيراً: «إذا توليت مقاليد الحكم لن أحكم لستة أشهر بل لخمس سنوات». وأضاف متحدياً: «... إذا كان هناك شخص ما في بروكسل وبرلين وروما يفكر في اختراع حكومة تثني أولئك الذين فازوا في الانتخابات العامة الإيطالية، ولتنفيذ السياسات الجنوبية والانتحارية للاتحاد الأوروبي، فهو لم يستوعب شيئاً».
ومن هذه الكلمات نخلص إلى نتيجة مؤداها أن الأصوليين الإيطاليين عانقوا الديماغوجيين هناك. وعليه فإن فكر الوحدة والليبرالية، الذي حلم به الآباء المؤسسون للاتحاد الأوروبي، يترنح وينهار أمام الراديكاليات والقوميات الأوروبية الصاعدة بسرعة كبيرة جداً. ومعلوم أن البريطانيين كانوا قد سددوا ضربة قاصمة للاتحاد من خلال «بريكست»، وجنوح بولندا والمجر للتطرف المعادي لليبرالية.

الإنسانية تجابه الأصولية
في المسألة الإيطالية، كما يرى كثيرون، المهاجرون مجرد ذريعة، أما السبب الحقيقي فمجازفة المواطنين هناك كل يوم بالانجراف نحو الفساد لكي يتمكنوا من شق طريقهم في المجتمع. والمسألة الرئيسة تكمن في حتمية خلق عقلية تقدّر احترام الفرد، بل احترام حقوق الإنسان قبل أي شيء آخر. وهنا يذهب المسؤول الفاتيكاني سيلفانو تومازي إلى أن إيطاليا والإيطاليين «بحاجة إلى تحفيز علاقات أوثق بين المواطنين والدولة من جهة، وبين المواطنين أنفسهم من جهة أخرى، لكي يتمكن الجميع هناك من العيش بأمن وكرامة دون الحاجة إلى إيجاد اختصارات –أصولية– غير مقبولة من الناحية الأخلاقية».
أما البروفسور الإيطالي فلافيو شيابوني، من جامعة بافيا، الذي يعد من أبرز الباحثين في عمق الأصولية الشعبوية الحديثة، فيُرجع المد الشعبوي الإيطالي زمنياً إلى أوائل تسعينات القرن المنصرم حين انهارت الآيديولوجيات السياسية، وودع العالم حقبة «الحرب الباردة». ووفق شيابوني، فإن هذا التغيّر «جعل إيطاليا بقعة مواتية للشعبوية، وبخاصة، بعد عجز الديمقراطية الإيطالية عن تقديم البديل الجيد لمواطنيها. وبرلوسكوني مثال على هذا الإخفاق الجسيم... ذلك أنه منذ تبوَّأ سلطة البلاد عام 1994 تشكلت 13 حكومة، من بين 64 حكومة منذ 1946، نصفها حكومات أقلية، ولم يكن يومها حديث المهاجرين قد طفا على سطح الأحداث».



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».