لا شيء ثابت

تعلمت من خبرتي في مجال الإعلام أن لا شيء ثابت، وأن الحقيقة اليوم ربما تصبح كذبا في المستقبل. الوطني اليوم قد يصبح خائنا في الغد، والخائن اليوم ربما يصبح وطنيا في الغد. لا شيء ثابت وأن وكل شيء متحرك وقابل للتغيير، والزمن غير ثابت أيضا إلا أنه أعدل الحكام.
تأخذني الذاكرة الى يوم الثامن عشر من يناير(كانون الثاني) عام 2011 عندما وصلت سيارة تقلني للقاء الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك على شرفة ناد للغولف في شرم الشيخ على البحر الاحمر قبل يوم واحد من انعقاد المؤتمر الاقتصادي والاجتماعي العربي الثاني. وقد شاء الرئيس مبارك أن يكون الحديث غير مسجل. ويبدو أن الرجل أراد أن يقيم حوارا حول التطورات التي بدأت تعصف في الشارع العربي؛ فقبل أربعة أيام ، اي في الرابع عشر من يناير، غادر الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي بلاده إثر ثورة الياسمين في تونس. فاجأني الرئيس المصري آنذاك عندما قال إن بن علي سيعود الى تونس، وأن (الرئيس الليبي الراحل) معمر القذافي هو من أكد له ذلك الخبر. وفي تلك اللحظة قطع حوارنا أحد رجالات الرئيس، وقال وبسمة يصعب تفسيرها ترتسم على شفتيه "صاروا ثلاثة ياريس. بعد أن خرجت عرفت أن رجلا ثالثا قد أحرق نفسه في مصر خلال تلك الأيام، وكان ذلك أمام مجلس الشعب في القاهرة. عدت الى دبي في العشرين من يناير في الوقت الذي كان شباب مصر يتداعى فيه للخروج في تظاهرات يوم الخامس والعشرين من ذلك الشهر، والتي تحولت الى ثورة أدت الى الإطاحة بحكم مبارك بعد 13 يوما على قيامها.
وفي السادس والعشرين من مارس (آذار) في ذلك العام، أي بعد لقائي بالرئيس المصري بأقل من شهرين؛ أجريت حوارا تلفزيونيا مسجلا مع الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح، وذلك بعد أحداث ميدان السبعين التي وقعت في الثامن عشر من ذلك الشهر وراح ضحيتها 52 يمنيا، رميا برصاص القناصة. قال صالح يومها إن حربا أهلية مدمرة طاحنة طويلة الأمد ستحدث في اليمن، اذا لم تلب المعارضة دعوته للحوار والمصالحة، لكنه قال إنني مستعد لترك السلطة ولكني سأبقى رئيسا للحزب، ويقصد حزب المؤتمر الشعبي العام "وأعمل لهم شغلة أسوأ من شغلاتهم". قلت "لذلك فأنت تخيفهم. فضحك ضحكة كانت إجابة لي على ما حدث في اليمن بعد ذلك. أنهيت الحوار وخرجت، لتسألني زميلة لي رافقتني لإجراء المقابلة في صنعاء: ما انطباعك ؟ قلت : لن يترك السلطة، وان فعل، فانه سيقود حربا. تحالف بعدها صالح مع الحوثيين ألد أعدائه الذين خاض ضدهم ثماني حروب طاحنة. لا شيء ثابت. اختلف معهم فيما بعد ودعا الشعب اليمني الى الثورة عليهم ودفع حياته ثمن تلك الدعوة. إذا ، لا شيء ثابت".
قبل ذلك بعشر سنوات، وفي الحادي عشر من سبتمبر(ايلول) 2001 كنت أقدم نشرة اخبارية اعتيادية على الهواء عندما فاجأني خبر عاجل وصادم وغير اعتيادي وهو انهيار برجي مركز التجارة العالمية في نيويورك كقطع الليغو. لم يعد بعد ذلك الاتحاد السوفييتي الذي انهار قبل ذلك الحدث بعشرة أعوام خطرا أكبر من الخطر الذي رأته الولايات المتحدة في تنظيم "القاعدة". كانت الولايات المتحدة قد دعمت حركة طالبان الاسلامية في افغانستان التي احتضنت "القاعدة".لا شيء ثابت. قامت الثورات العربية فدعمت واشنطن الحركات الأسلامية، ثم تخلت عنها، لأن لا شيء ثابت.
الخبر يحدث في لحظة ويبث في نفس اللحظة، لكن تداعياته وتأثيراته تترك ظلالها لسنوات طويلة. من السهل قراءة الخبر، ومن الصعب فهمه، والأصعب تحليل مضامينه وتداعياته.
تعلمت من حياتي المهنية أن أقرأ ما يتجاوز الخبر، وأن أقرأ ظلال الكلمة، لا الكلمة نفسها، وتعلمت أن القول قد لا يتفق مع الفعل، وأن الفعل قد يكون ردة فعل متأخرة لأفعال لم تنساها الذاكرة، وتعلمت أن لا شيء مطلق وثابت في هذه الحياة، وأنه كل شيء يمكن أن يتحرك في عالم السياسة، وأن الذي يبحث عن الحقيقة الكاملة قد يقضي عمره دونها.

* إعلامية أردنية مقدمة برامج في قناة «العربية»