الشقير: علم الاجتماع خضع لنفوذ الصحوة

الباحث السعودي كتب في رأس المال الثقافي وألف في التاريخ واعتنى بالسير والتراجم

عبد الرحمن الشقير
عبد الرحمن الشقير
TT

الشقير: علم الاجتماع خضع لنفوذ الصحوة

عبد الرحمن الشقير
عبد الرحمن الشقير

في هذا الحوار، الذي أجري معه في الرياض، يؤكد الباحث السعودي عبد الرحمن الشقير على ضرورة علم الاجتماع باعتباره «مطلبا تنمويا وشرعيا واقتصاديا وسياسيا»، في مجتمع يُعّد أحد أهم وأكبر المعامل الاجتماعية في العالم. وقد تناولت دراسات أكاديمية وصحافية عديدة في أميركا وأوروبا هذا المجتمع بالدراسات الميدانية المستمرة وبخاصة المؤسسات الدينية، على عكسنا نحن.
وهو يرى أن حقل علم الاجتماع يواجه مرحلة ركود علمي ونشاطات بحثية وثقافية هشة، رغم أهمية هذا العلم في تفسير مشكلات المجتمع ورصد آلاف القضايا التي يتعامل معها الأفراد يوميا، ومع ذلك هو يعتقد أن هناك علماء سعوديين لهم نشاطات علمية مستقلة لها تأثيرها في الفكر الاجتماعي وتحظى بالتقدير.
ويشير الشقير إلى أن من أهم مشكلات علم الاجتماع في السعودية هو الصراع بين تقليدي متنفذ ومبدع بلا نفوذ، كما أن أبرز موانع الإبداع العلمي في هذا الجانب غياب مراكز للدراسات الاجتماعية الفكرية المتخصصة في صناعة القرار. وهنا نص الحوار:
* كيف تؤثر دراسة علم الاجتماع في تعميق الفهم بتطورات المجتمع؟
- لم تعد دراسات علم الاجتماع الحديثة تنظر للمجتمع بوصفه مجموعة أفراد أو جماعات يتفاعلون في ما بينهم، وﻻ كمؤسسات وبناءات سياسية واقتصادية ودينية، وإنما تنظر إلى مجتمع واقعي تقليدي بدأ يتلاشى، ومجتمع افتراضي تقني اتصالي في تزايد، ولكل واحد منهما مشكلاته وطموحاته ونظريات تفسرها، كما توسعت مفاهيم علم الاجتماع لتزيل الحدود الوهمية بين العلوم الاجتماعية، بل بين أكثر العلوم عامة، فحياة الإنسان بلغت مبلغها من التعقيد، وتداعيات تأثير التقنية والرفاهية والتصنيع عليها درجة كبيرة، بحيث أصبح الإنسان يتعامل في حياته اليومية مع عناصر اجتماعية ونفسية وفيزيائية وطبية وجغرافية وميكانيكية وهكذا. علم الاجتماع علم نقدي جدلي، وهو يعنى بالكشف عن أسباب الظواهر في المجتمع، وبملاحظة بذور التغيرات الاجتماعية، والتنبؤ ببدائل الواقع.
* وماذا يعني علم الاجتماع بالنسبة للمجتمع؟
- يعتبر المجتمع هو مهمة علم الاجتماع الرئيسة، ومجال دراساته، وفي رأيي يمكن تقسيمه إلى قسمين رئيسين: الأول تمثله فروع علم الاجتماع التقليدية التي تهتم بالأسرة والجريمة والصناعة والطب والحضر والريف وهكذا، وهذه الفروع تدرس تأثير المجتمع على الفرد والعكس، وتحلل القضايا الفردية التي تؤثر على المجتمع مثل الطلاق والبطالة وأوقات الفراغ. والقسم الثاني فكري بحت، ويمثله علم اجتماع المعرفة وتاريخ الأفكار ودراسة العلوم، وهي تهتم في جانب منها بالعوامل التي تتحكم في سلوكنا وتوجه تفكيرنا مثل الآيديولوجيات والوعي وتأثير التقنية وكيف تنشأ المعرفة العلمية، وبهذا المفهوم العام فإن كلا القسمين مهم. وإذا دُرس المجتمع بأي شكل منهما بصدق فإنه سيخدمه، وهو ما يسبب صداعا للحكومات ويفضح ممارسات الشركات.
* وما ضرورة علم الاجتماع إذا كان «مزعجا» لهذه الدرجة؟
- لدي إيمان تام بضرورة علم الاجتماع، بل أعد وجوده مطلبا أخلاقيا وشرعيا واقتصاديا وتنمويا وسياسيا، فهو يقدم النصح للحكومة ويساعد متخذي القرار ويفضح أساليب الشركات التي تسوق لمنتجاتها على حساب استنزاف المجتمع وتفكيك الأسرة وتوسيع الفجوة بين الأجيال وتشويه تقاليدنا تحت شعارات الموضة والعصرنة، ويكشف الوعي الزائف الذي يمارسه الإعلام على المجتمع، ويسهم في تفسير مشكلات المجتمع التي يتعامل معها الأفراد يوميا مثل قضايا المرأة والبطالة والعمالة وأوقات الفراغ وعدم انعكاس تعاليم الدين في الحياة اليومية وغيرها آلاف القضايا وليس المئات.

* الحالة السعودية
* دعنا نتساءل عن واقع علم الاجتماع في السعودية..
- للأسف يواجه حقل علم الاجتماع في السعودية، سواء بمقارنته مع علم الاجتماع العربي أو بمقارنته بالعلوم الاجتماعية السعودية، مرحلة ركود علمي ونشاطات بحثية وثقافية هشة، وغياب الندوات وحركة الترجمة. وعلى مستوى التدريس فمعروف أن العلوم الاجتماعية صممت مناهجها على يد الاستعمار لتكون تبعيتها للغرب، وصار علم الاجتماع العربي عالة على علم الاجتماع الغربي، ولكن علم الاجتماع السعودي لا يزال عالة على علم الاجتماع المصري، ولم يستقل أو يطور مقرراته ومناهجه حتى الآن، ولم يحتك مباشرة بعلم الاجتماع الغربي إلا بحدود بعثات طلابية صادفت مرحلة الطفرة وحاجة البلد آنذاك إلى الكم وليس الكيف. ومع ذلك فقد برز منهم علماء مميزون لهم نشاطات علمية مستقلة لها تأثير في الفكر الاجتماعي وتحظى بالتقدير أمثال أبو بكر باقادر وسعد الصويان وغيرهما.
* ما أسباب ذلك الركود في نظرك؟
- الأسباب كثيرة ومتنوعة، منها أن علم الاجتماع لا يزال يصنف من العلوم الأكاديمية المتخصصة، وليس علما شعبيا وثقافيا مثل التاريخ والأدب واللغة وبعض العلوم الشرعية، مما أضعف إثراءه من قبل الباحثين المستقلين والهواة، وكذلك غياب حركة النقد التي تعتبر وظيفته الأساسية، وسيطرة الأساتذة التقليديين على الأقسام العلمية بالجامعات وفرضهم لهذا الركود ومحاربتهم للأساتذة المتميزين.
ومن المعروف أن جودة جميع العلوم وسمعتها في المجتمع، ومنها علم الاجتماع، ترتبط بعمليات الإنتاج العلمي وتعتبر الجامعات من أكبر وأهم المحاضن العلمية التي تسهم في تغير المجتمع وتطوره أو ركوده. ولذلك خضع لنفوذ الصحوة في الثمانينيات وتغلغلها في الجامعات وفرْض كثير من آيديولوجياتها على المؤسسة الأكاديمية، حيث استطاعت أن تمنع تدريس الفلسفة والأنثربولوجيا، وهما العلمان الشقيقان لعلم الاجتماع، وحل محلها مشروع محاولة توطين وأسلمة علم الاجتماع الذي بدأ في جامعة الإمام وكان يمكن أن يكون واعدا ويعيد صياغة التراث الإسلامي بنظريات ويؤكدها بدراسات ميدانية، لكنه توقف.
* وماذا يمكن أن يقدم علم الاجتماع للمجتمع السعودي؟
- يستطيع علم الاجتماع تقديم مفاهيم ونظريات ودراسات ميدانية تكشف عن فهم حقيقة الواقع وتسهم في النمو الاقتصادي والتنمية وتحسين مستوى المعيشة، وتقديم النصح لراسمي السياسات ومتخذي القرار بتصور بدائل الواقع، ويستطيع مساعدة الفرد على التكيف الاجتماعي في ظل عالم مشحون بالتوترات والتناقضات وسرعة التغير، ويمنحه الثقة في نفسه وفي مجتمعه وقيمه ويساعده في تطوير ذاته، كما يسهم فكريا في مواجهة المشكلات بواقعية وبتجديد دراسة الخطاب الديني والتنبؤ بمستقبل المجتمع ورصد تاريخ الأفكار المتداولة فيه وتوجيهها.
ويمكن أن يقدم من الناحية البحثية الإنتاج العلمي المميز، إذ يعتبر المجتمع السعودي أحد أهم وأكبر المعامل الاجتماعية في العالم، ويمكن تنفيذ دراسات ميدانية لها ثلاثة مستويات، أبسطها الاستكشافية وتكون للموضوعات الجديدة التي لم تكتشف بعد، وذلك باستخدام منهج المسح الاجتماعي بالاستبانة، والمستوى المتعمق في الموضوعات المطروقة باستخدام مناهج دراسة الحالة بالمقابلة وتحليل المضمون، وثالثا، التعمق بدقة عالية للموضوعات التي تحتاج فهمها من داخلها برؤية الباحث باستخدام المنهج «اﻹثنوجرافي» وأداته الملاحظة من خلال مشاركة المجتمع الذي يدرسه وكأنه واحد منهم، مثل مجتمع السجناء والفقراء والمنحرفين والمشردين وهكذا، ويمكن تطبيق الدراسات على كثير من الظواهر مثل التفاعلات في مواسم الحج والعمرة، وأسباب تأثير القبيلة في مجتمع عصري متعلم، وكذلك ظاهرة الوهابية وعمق تأثيرها عالميا وجاذبيتها الشعبية، والثقافات الفرعية والمجتمعات الحدودية، والهوية، وصورتنا الذهنية في الخارج، وظاهرة استخدام الشركات لجسد المرأة وصوتها وملامحها كسلعة لها قيمة تبادلية ووضعها في التسويق والاستقبال، بينما استخدام ملامح الرجل الصارمة في استخلاص الحقوق والمطالبات وفي إدارة المواجهة التصادمية مع الجمهور، إضافة إلى ما تمثله بلادنا من تراث تاريخي وأدبي واجتماعي.
* وماذا بشأن دراسة الظواهر الاجتماعية؟
- هناك ظواهر اجتماعية جديرة بالدراسات المعمقة، وهي مغيبة أو تدرس بشكل سطحي مثل: البروز السريع لظاهرة الرفاهية كالمقاهي ومحلات المساج والأندية الرياضية والتفاعلات داخلها، أو الاتفاق الجمعي على «تويتر» كملتقى اجتماعي يومي كبديل شكلي عن ملتقى الأسرة وعن الإعلام الرسمي، وانتشار بدائل الزواج التقليدي كالمسيار والزواج بنية الطلاق، وقدرة الهويات المغيبة والطبقات المهمشة على أن تعرف بنفسها عبر التقنية ووسائل الاتصال، وتأثير تحول المباني في المدن الكبيرة من أفقية إلى عمودية، ونحوها.
كذلك، من الناحية التدريسية هناك فروع جديدة لعلم الاجتماع يحتاجها المجتمع وسوق العمل، مثل علم اجتماع المستقبل، والمعرفة، والعلم، والنقد، والتقنية ووسائل الاتصال ونحوها من فروع علم الاجتماع التي تحتاج تدريبا وممارسة بحثية وتعلم مهارات، فهذه الاهتمامات هي التي تجعل منه علما واقعيا ويلامس الحياة اليومية ويؤدي دوره الفكري والتنموي والأخلاقي الذي أسس من أجله، ومن ناحية المسؤولية الاجتماعية يمكن أن ينفتح علم الاجتماع على المجتمع ويشارك أفراده المعرفة بتنفيذ دورات ومحاضرات ومجلات غير محكمة وتبسيط النظريات وإعداد برامج تفاعلية عبر التقنية ووسائل الاتصال، فغالبية كتب تطوير الذات إنما هي نظريات اجتماعية مبسطة.
* وما الذي يمنع من تحقيق ذلك؟
- مثل هذه المطالبات والتطلعات تعد بعيدة المنال قياسا بواقع أقسام وأساتذة علم الاجتماع، على الرغم من وجود جيل من الباحثين الشباب المتحفزين للإبداع في تنويع المناهج وطرق موضوعات جديدة. ومن أهم مشكلات علم الاجتماع في السعودية هو الصراع بين تقليدي متنفذ ومبدع بلا نفوذ، وهذا أحد أبرز موانع الإبداع العلمي في جامعاتنا، ومنها أن السعودية لا تملك مركزا للدراسات الاجتماعية الفكرية المتخصصة في صناعة القرار المعروفة باسم «ثينك تانك»، وإنما تملك مراكز للدراسات الاجتماعية التقليدية، ولذلك نلحظ أن الدراسات الاجتماعية تأتي نتيجة تفاعل مع الطرح الإعلامي واستجابة لضغوطه وليست بمبادرات استباقية.
* لكن الأبحاث الاجتماعية تحظى بالدعم ولا تزال المؤسسات الحكومية تستعين بالأكاديميين؟
- إذا طالعنا حجم ما أنفق على الدراسات الاجتماعية للاحظنا بون المسافة بين ضعف المخرجات من كفاءات بحثية ومن دراسات ومؤتمرات ومجلات وما أنفق عليها من أموال. فالأطروحات العلمية وكثير من مؤلفات الأكاديميين ضعيفة المحتوى، وغالبيتها لا تعدو اختيار موضوعات عادية تقوم على المنهج المسحي عبر توزيع استبانات، ثم تخرج بنتائج عادية يمكن أن يلاحظها رجل الشارع العادي من دون دراسة، وهذا المنهج مع أنه وضع لأغراض علمية معينة وله عيوب واضحة، إﻻ أن جعله المنهج المهيمن على دراسات الباحثين والأطروحات يعد نقصا علميا وخللا أكاديميا.
وانعكس على ذلك عدم ثقة المؤسسات الحكومية والخاصة في كثير من إنتاجها العلمي ولا في نتائجها لعدم فاعليتها وانخفاض حرية التعبير ومحاولة إرضاء المسؤولين بنتائج متلاعب فيها بإحصاءات مضللة، مما أضعف محتواها، لذلك حلت محلها كثافة الدراسات الأكاديمية والصحافية في أميركا وأوروبا والتي تتناول مجتمعنا بالدراسات الميدانية المستمرة وبخاصة التاريخ الآني، ومعروف أن المجتمع السعودي يحظى باهتمام دولي وبخاصة المؤسسة الدينية، وصارت المؤسسات الحكومية تستعين ببيوت الخبرة العالمية إذا أرادت اتخاذ قرار مبني على دراسة جادة.
* إذن، ما الأسلوب الأمثل للنهوض بعلم الاجتماع لكي يؤدي دوره في المجتمع؟
- يحتاج واقع علم الاجتماع السعودي إلى مواجهة نفسه بشفافية وعقد الندوات للبحث عن الخلل، ونشر مبادئ «التفكير الناقد» في البيئة الجامعية، ورفع سقف الحرية في اختيار الموضوعات العصرية والمناهج المتنوعة للأطروحات العلمية، أسوة بالأطروحات المتميزة المعمول بها في أقسام التربية وعلم النفس، وهي تمتاز بالجدية في ضبط الإجراءات المنهجية والعمق في التعامل مع النظريات، ومن ثم فعلم الاجتماع يحتاج إلى قرارات جريئة لا تكتفي بالبحث في سبل النهوض بها، من أهمها الدعم الحكومي ودعم القطاع الخاص وبخاصة دعم جيل من الباحثين يملكون الخيال الاجتماعي والحس البحثي، فعلم الاجتماع يعتمد بشكل رئيس على ملكة النقد والخيال الاجتماعي والتحليل وليس على التعليم البنكي القائم على إيداع المعلومات وسحبها.
ومن أهم الإصلاحات تصحيح مسار علم الاجتماع في الجامعات وفصله عن «الخدمة الاجتماعية» لعدم وجود مبرر منطقي يجمع بينهما، فعلم الاجتماع فكر ومفاهيمه مفتوحة، و«الخدمة الاجتماعية» رغم تطوره وقدرته على مواجهة المشكلات الاجتماعية، فإن تطوره لم يدخل أقسام الخدمة وصار مجرد ممارسة مفاهيمها مغلقة ومحدودة، وكذلك تطوير مناهج علم الاجتماع وإضافة مسارات خاصة بالأنثربولوجيا وبالفلسفة والنقد، وإلغاء فروع علم الاجتماع القديمة التي يمكن تحصيلها بالقراءة واستبدالها فروع علم الاجتماع العصرية بها. ومن مظاهر التطوير الالتزام بتقاليد الجامعات وأعرافها بعقد مؤتمرات سنوية وتأسيس مجلات علمية محكمة وغير محكمة موجهة لغير المتخصص والدخول في شراكات مع المراكز العالمية المتخصصة.



أوانٍ فخارية من موقع مليحة

قطع خزفية من موقع مليحة بالشارقة منها زهريتان من الفخار المزجّج
قطع خزفية من موقع مليحة بالشارقة منها زهريتان من الفخار المزجّج
TT

أوانٍ فخارية من موقع مليحة

قطع خزفية من موقع مليحة بالشارقة منها زهريتان من الفخار المزجّج
قطع خزفية من موقع مليحة بالشارقة منها زهريتان من الفخار المزجّج

يحتل موقع مليحة مكاناً مميزاً على خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها عمليات المسح المتواصلة في مختلف أنحاء دولة الإمارات العربية خلال العقود الماضية.

أظهرت الأبحاث الدؤوبة المتواصلة أن هذا الموقع الاستثنائي شكّل في الماضي حاضرة وسيطة في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية، وحلقة وصل بين مختلف أقاليم العالم القديم، كما تشهد مجموعات القطع الفخارية المتعدّدة المستوردة من الخارج. تحضر في هذا الميدان مجموعة من الأواني الفخارية المزجّجة التي تشابه قطعاً وصلت كذلك إلى نواحٍ متقاربة ومتباعدة من الجزيرة العربية، مصدرها جنوب بلاد ما بين النهرين. وتقابلها مجموعة مغايرة تحمل الطابع الإغريقي الصِّرف، وتتكون من قطع صيغت على شكل صنف خاص من الجرار يُعرف بـ«الأمفورة».

شاعت في بلاد ما بين النهرين أطرزة متعدّدة في صناعة الفخار، منها طراز يُعرف بـ«الفخار المزجّج»، راج في جنوب هذه البلاد، وبلغ نواحيَ متعددة تقع خارج أقاليمها الواسعة. تعتمد هذه الصناعة على معالجة السطح الفخاري بإضافة طبقة طلاء مزجّجة تنصهر مع سطح المادة الطينية، وتؤدي هذه المزاوجة إلى خلق مادة جديدة عمد صنّاعها إلى تلوينها بأكاسيد مختلفة تُكسبها رونقاً خاصاً.

وارتبطت هذه الصناعة بهذه الناحية من بلاد الرافدين، وحملت اسمها، وعُرفت به، واعتُمد هذا الاسم بشكل واسع في القاموس الخاص بدراسة الفنون الفخارية المتعددة الفروع والأصناف.

ودخلت الجزيرة العربية قطع متنوعة من هذا الطراز بشكل متواصل، وعلى مدى قرون من الزمن، وشكّلت مجموعات مستوردة تشهد لرباط متين جمع أقاليم الجزيرة الواسعة وجنوب بلاد ما بين النهرين، منها مجموعة خرجت من موقع مليحة الذي يشكّل جزءاً من إقليم عُمان في العالم القديم، ويقع اليوم في المنطقة الوسطى بإمارة الشارقة.

تتكوّن «مجموعة مليحة» من بضع قطع عُثر عليها ضمن قطع متنوّعة من المنتجات الفخارية، منها ما هو محلّي، ويُعرف اليوم بـ«فخار مليحة»، ومنها ما هو من خارج الجزيرة، ومصادره متعدّدة. ويتمثل أبرز هذه القطع المستوردة من جنوب العراق القديم بقطعتين متشابهتين في التكوين كما في الصوغ، غير أنهما تختلفان من حيث الحجم، وقد نجح أهل الاختصاص في ترميمهما، فاستعادتا شكلهما الأصلي الأول بصورة شبه كاملة، وتُعدّان من أجمل النماذج المزجّجة المصقولة باللون الأخضر الزمردي.

وخرجت هاتان القطعتان من مدافن مليحة الأثرية؛ ممّا يعني أنهما شكّلتا في الأصل جزءاً من الأثاث الجنائزي، وهما على شكل زهرية ذات مقبضين عريضين، زيّنت بشبكة من النقوش الزخرفية الغائرة.

يبلغ طول كبرى هاتين الزهرتين 54.5 سنتيمتر، وعرضها 34.5 سنتيمتر، وعنقها مكلّل بطوق عريض، ويحدّه مقبضان مقوّسان يعلو كلّاً منهما مثلث أفقي مسطّح.

وتُزين القسمَ الأعلى من هذه الزهرية شبكةٌ من الخطوط العمودية المتوازية، تستقر فوق شريطين تعلو كلاً منهما سلسلة مشابهة من الخطوط المتوازية كأسنان المشط. وتتبع المزهرية الأخرى تكويناً مماثلاً، ويبلغ طولها 43 سنتيمتراً، وعرضها 30 سنتيمتراً، وزينتها الزخرفية مشابهة، مع اختلاف يسير في التفاصيل يظهر عند دراسته بشكل متأنّ.

إلى جانب هاتين القطعتين، تحضر قطعة ثالثة مشابهة في التكوين، تبدو أعرض وأقصر من حيث الحجم، وقطعة رابعة، وهي على شكل جرة لها مقبض مقوّس واحد، مصدرها موقع سكني يُعرف بـ«قصر مليحة»، وطولها 42 سنتيمتراً، وعرضها 31 سنتيمتراً، وهي مجرّدة من الزخارف، وتتميّز بلونها الأزرق الفيروزي.

تعود هذه المجموعة الخزفية المزجّجة إلى حقبة تمتد من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الميلادي الأوّل، وتشهد للرباط الذي يجمع بين مليحة وبلاد الرافدين. وتقابلها مجموعة أخرى من ميراث مليحة، تشهد لصلة أخرى مغايرة تجمع بينها وبين العالَم المتوسّطي الإغريقي، وتتمثّل هذه المجموعة بقطع فخارية من الطراز الذي يُعرف بـ«الأمفورة»؛ منها 3 قطع وصلت بشكل شبه كامل. كما هو معروف، ترتبط «الأمفورة» بشكل وثيق بالعالم الإغريقي، وتشكّل صناعة خزفية تقليدية شاعت في ذاك العالم بشكل واسع، وهي على شكل قارورة بيضاوية طويلة، تحدّها قبضتان كبيرتان تتصلان بعنق طويل ونحيل.

شكّلت «أمفورات مليحة» كذلك جزءاً من الأثاث الجنائزي بين القرن الثالث قبل الميلاد والقرن الميلادي الأوّل، وهي مخصّصة لحفظ النبيذ، وأهمّها قطعة من الطراز الذي يُعرف بـ«الرودسي»؛ نسبة إلى جزيرة رودس الواقعة بين جزر اليونان وقبرص، وطولها 80 سنتيمتراً، وعرضها 36 سنتيمتراً، وتمتاز بتزجيج من اللون الأسود، ويرى أهل الاختصاص أن هذا التزجيج حدث في جنوب بلاد ما بين النهرين، وشمل سطح هذه «الأمفورة» وداخلها.

تقابل هذه القطعة قطعة مماثلة تخلو من أي تزجيج، وهي «أمفورة» رودسية تقليدية مجرّدة من أي زينة، وعرضها 48 سنتيمتراً. تحضر «الأمفورة» الثالثة إلى جانب هاتين القطعتين، وهي كذلك من الحجم الكبير، وطولها 77 سنتيمتراً، وهي من طراز مغاير، يُعرف بـ«الطراز الإسباني»، ويتميّز بعنق قصير، ومقبضاه على شكل عروتين صغيرتين نسبياً.

وتشهد هذه القطع لعلاقة مثيرة ربطت بين مليحة العُمانية والعالَم الإغريقي القديم، وتؤكّد شواهد أثرية أخرى هذا الرابط المدهش، منها قطعة جزئية صغيرة من «أمفورة» رودسية تحمل نقشاً يونانياً يشير إلى تاريخ صناعتها بين عامي 225 و125 قبل ميلاد المسيح، وقطعة أخرى مشابهة تحمل ختماً يحمل اسم صاحبها المدعو «أنطيماخوس»، وتاريخها يعود إلى فترة تمتدّ من عام 198 إلى عام 146 قبل ميلاد المسيح.


بريطانيا عام 2025... حارسة الذاكرة الثقافية

من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن
من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن
TT

بريطانيا عام 2025... حارسة الذاكرة الثقافية

من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن
من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن

لا يبدو 2025 في روزنامة المملكة المتحدة الثقافية مجرد محطة اعتيادية لطي صفحة عام وفتح أخرى. ففيه، تتواطأ التواريخ لتجمع في سلة واحدة حصاد قرون متباعدة: حكمة القرن السابع عشر التأسيسية، ورومانسية القرن الثامن عشر الاجتماعية، وانفجار الحداثة في الربع الأول من القرن العشرين، وصولاً إلى أسئلة الذكاء الاصطناعي في راهننا المعاصر.

الجزيرة البريطانية كانت أقرب ما يكون إلى مختبر مفتوح، يعيد قراءة هوية الغرب الثقافية عبر رموزها الأكثر رسوخاً. هنا، نحاول رسم خريطة بانورامية لهذا المشهد، حيث يتجاور «فرانسيس بيكون» مع «جين أوستن»، وتتصالح ضبابية لندن «فيرجينيا وولف» مع صخب برادفورد عاصمة الثقافة الجديدة في الشمال.

ربع ألفية جين أوستن... أيقونة متجددة

الحدث الذي يُلقي بظلاله الرقيقة والساخرة على المشهد الأدبي مع نهاية العام، هو الاحتفال بمرور ربع ألفية على ميلاد الروائية الإنجليزية الأشهر، جين أوستن (1775-1817) التي تحولت عبر العقود إلى «ظاهرة ثقافية» عابرة للأزمنة، أو ما يصطلح عليه مؤرخو الفكر بـ«هوس أوستن».

مقاطعة هامبشاير، حيث يقع منزلها في قرية «تشوتون»، صارت قبلة للحجيج الأدبي، وتجاوزت الاحتفالات حيز الجغرافيا لتستعيد «اللحظة الأوستينية» في التاريخ. فقد دفعت دور النشر البريطانية العريقة مثل «بنغوين» و«فينتج» بطبعات خاصة من الروايات الستة الخالدة، ونشرت عدة دراسات نقدية جديدة تفكك سر بقاء هذه النصوص طازجة في زمان «التيك توك». وأصدرت دار «فيرسو» سيرة غرافيكية مميزة رسمتها كيت إيفانز.

مدينة «باث» التاريخية، التي خلدتها أوستن في «دير نورثانجر» و«إقناع»، تحولت شوارعها الحجرية إلى متحف حي، وغداً المهرجان السنوي للاحتفاء بها أكبر من مجرد كرنفال للأزياء التاريخية من فترة ما قبل العصر الفيكتوري، ليكون منصة لإعادة الاعتبار للروائية بوصفها «النسوية الصامتة» و«الناقدة الاقتصادية» التي وظفت أدوات الأدب لرصد حركة المال والزواج في مجتمع متغير. إنه وقت لاستعادة الحبكة المحكمة والسخرية المهذبة التي تضمر تحتها نقداً حاداً للطبقية.

4 قرون على «مقالات» فرانسيس بيكون

إذا كانت أوستن تمثل تيار الشعور ودقة الملاحظة الاجتماعية، فإن 2025 يحمل ذكرى تمتاز بالرصانة والصرامة الفكرية. إنه العام الذي وافق مرور أربعة قرون كاملة على نشر الطبعة الثالثة والمكتملة من «المقالات-1625» للفيلسوف ورجل الدولة فرانسيس بيكون.

نشر بيكون تلك الطبعة قبل عام واحد من وفاته، مودعاً فيها خلاصة تجربته في السياسة والحياة. المؤسسات الأكاديمية، من كامبريدج إلى أروقة المكتبة البريطانية في «سانت بانكراس»، نظمت ندوات أعادت قراءة مقالاته الشهيرة مثل «في الحقيقة»، «في الموت»، و«في الفتن والقلاقل».

تكمن أهمية هذه المئوية الرابعة في استعادة اللغة البيكونية؛ تلك اللغة المكثفة، المتماسكة، التي أسست للنثر الإنجليزي الحديث. ويتمّ تسليط الضوء على أعماله بصفته أباً للمنهج التجريبي العلمي، ومهندساً للسياسة الواقعية، ومفكراً استشرف مبكراً علاقة «المعرفة» بـ«القوة». الاحتفاء ببيكون اليوم احتفاء بالعقل المجرد في مواجهة فوضى العواطف السياسية وحروب الشعبويات.

جانب من معرض لندن

مئوية الحداثة: «السيدة دالواي» تشتري الزهور

بالانتقال من القرن السابع عشر إلى العشرين، يواجهنا تاريخ مفصلي: 1925، الذي يُعرف في النقد الأدبي بعام «المعجزة الحداثية»، وفيه، نشرت فيرجينيا وولف روايتها التي غيرت مسار السرد الروائي: «السيدة دالواي».

«قالت السيدة دالواي إنها ستشتري الزهور بنفسها». هذه الجملة الافتتاحية الشهيرة ترددت أصداؤها في أرجاء لندن طوال 2025، ونظمت المؤسسات الثقافية، بالتعاون مع «الصندوق الوطني»، مسارات أدبية تقتفي أثر «كلاريسا دالواي» في شوارع وستمنستر وبوند ستريت.

تخطى الاحتفال بوولف فضاء السياحة الأدبية ليكون تكريساً لمرور قرن كامل على تقنية «تيار الوعي». وشهدت الجامعات والملاحق الثقافية مراجعات نقدية لإرث «مجموعة بلومزبري» - حلقة غير رسمية من الأصدقاء والأقارب (كتاب، فنانين، فلاسفة) عاشوا وعملوا وتجادلوا بالقرب من منطقة «بلومزبري» بوسط لندن جوار المتحف البريطاني خلال النصف الأول من القرن العشرين - وتأثيرها في تحطيم القالب التقليدي للرواية الفيكتورية الكلاسيكية. كما فتح هذا اليوبيل الباب واسعاً لمناقشة قضايا الصحة النفسية، والعزلة داخل المدينة الكبيرة، وهي ثيمات سبقت وولف إلى تشريحها وتظل شديدة الراهنية للإنسان المعاصر.

وفي سياق متصل بـ«المعجزة الحداثية»، يجدر ذكر مئوية قصيدة «الرجال الجوف» لـ ت. إس. إليوت، ورواية «غاتسبي العظيم»، لفرنسيس سكوت فيتزغيرالد - التي تعد عند كثير من النقاد الرواية الأميركية الأهم -، ما جعل من العام الحالي فترة لاستعادة «القلق الجميل» الذي ميز فترة ما بين الحربين في مجمل العالم الأنجلوسكسوني.

برادفورد 2025: الشمال يكتب سرديته

بعيداً عن مركزية لندن العاصمة، اتجهت البوصلة الثقافية شمالاً نحو «يوركشاير»، وتحديداً إلى مدينة برادفورد، التي توجت بلقب «مدينة الثقافة في المملكة المتحدة 2025». هذا اللقب، الذي تتنافس عليه المدن البريطانية بشراسة، وضع برادفورد تحت المجهر طوال اثني عشر شهراً.

برادفورد، تلك المدينة الصناعية العريقة، تمثل، بريطانياً، بوتقة انصهار اجتماعي وتاريخي. وبكونها أول مدينة لليونسكو في مجال السينما، وبقربها من «هاوورث» (موطن الأخوات الروائيات برونتي)، تمتلك إرثاً ثقافياً ثقيلاً.

وتضمنت الأنشطة المرافقة للتتويج أكثر من ألف فعالية فنية، تراوحت بين المعارض البصرية المعاصرة في «كارترايت هول»، وعروض المسرح التجريبي في المصانع القديمة المعاد تأهيلها وغيرها، كرهان على قدرة الثقافة على قيادة التغيير الاقتصادي والاجتماعي، وتقديم برادفورد أنموذجاً للمدينة البريطانية الحديثة المتعددة الأعراق والهويات، التي تصنع الفن من قلب التنوع.

معرض لندن للكتاب: سؤال الورق والرقائق الإلكترونية

في ربيع 2025، وكعادتها منذ 1971، كانت قاعة «أوليمبيا» بغرب لندن مسرحاً للحدث الأهم في صناعة النشر العالمية: معرض لندن للكتاب. واكتسبت دورة 2025 أهمية خاصة في ظل التحولات التكنولوجية العاصفة.

تجاوز الحديث في الأروقة صفقات حقوق الترجمة والبيع، ليشتبك مع هواجس الناشرين ومنتجي المحتوى تجاه تغّول الذكاء الاصطناعي، ونظمت ندوات ساخنة حول مستقبل الكتابة الإبداعية: إمكانية كتابة الآلة للرواية، وسبل حماية القوانين لحقوق المؤلفين من «تغذية» النماذج اللغوية بأعمالهم.

الجوائز الأدبية والفنون التشكيلية

في الخلفية، تظل الجوائز الأدبية البريطانية الكبرى هي الضابط لإيقاع نبض الحياة الثقافية في المملكة. وذهبت جائزة بوكر الأدبية المرموقة لديفيد زالاي عن «لحم» (Flesh) التي وصفت بأنها عمل محفوف بالمخاطر حول الضعف البشري، بينما توجت الهولندية يائيل فان دير بودن بجائزة أدب المرأة للرواية عن عملها الأول المذهل «مستودع آمن» (The Safekeeper) الذي استعاد أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحصد ستيفن ويت لقب كتاب العام من جريدة «فاينانشال تايمز» عن «الآلة المفكرة» (The Thinking Machine) الذي أرخ لرحلة صعود شركة «إنفيديا» والذكاء الاصطناعي، ونال الآيرلندي دونال رايان جائزة أورويل للرواية السياسية عن «فليسكن قلبك في سلام» (Heart, Be at Peace)، وأخيراً، توجت المؤرخة هانا دوركين بجائزة ولفسون للتاريخ عن كتابها التوثيقي «الناجون» (Survivors) الذي تتبع بدقة قصص آخر أسرى سفن تجارة الرقيق عبر الأطلسي.

وفي الفنون التشكيلية فتح «تيت مودرن» والمتحف البريطاني أبوابهما لمعارض استعادية ضخمة، تسعى للخروج من عباءة المركزية الأوروبية، وتسليط الضوء على فنون الجنوب العالمي، لتصفية الحسابات مع الماضي الاستعماري عبر الفن والجمال. لقد قدمت بريطانيا نفسها في 2025، عبر هذه الفعاليات، حارسةً للذاكرة الأدبية، ومختبراً للمستقبل الثقافي الغربي في آن واحد. إنه عام ثري، ذكرنا، وسط ضجيج التكنولوجيا، بأن الكلمة المكتوبة تظل هي الأداة الأقوى لصياغة وعي البشر، وأن دواء الحروب الثقافية في البحث عن الهم الإنساني المشترك.


عيد رأس السنة بين التأمل الخلاق والصخب الهستيري

نزار قباني
نزار قباني
TT

عيد رأس السنة بين التأمل الخلاق والصخب الهستيري

نزار قباني
نزار قباني

لم يكف البشر عبر تاريخهم الطويل عن الاحتفال بمحطات زمنية دورية، يستولدونها من حاجتهم الملحة إلى التحلق حول رموز ومعتقدات جامعة، تتوزع بين الديني والوطني والاجتماعي. وهم إذ يسمون هذه المحطات أعياداً، يقيمون لها احتفالات وطقوساً متباينة المظاهر والدلالات، ويحولونها إلى مساحات للفرح أو الحزن، للصخب أو التأمل. اللافت أن التطور المتعاظم الذي أصابته المجتمعات على الصعد العلمية والتقنية لم يفض إلى تقليص الظاهرة أو إلغائها، بل تضاعف منسوبها مرات عدة، بعد أن اتخذت طابعاً تكريمياً لبعض الفئات والشرائح المهملة. وهو ما وجد شواهده المثلى، في ابتكار أعياد وأيام للاحتفال بالمعلم والعامل والأم والطفل والأب، وصولاً إلى قيام المنظمات الدولية بإعلان معظم أيام السنة، مناسبات للاهتمام بالفئات المهمشة، أو بالتحديات المستجدة التي تواجه سكان الأرض.

ومع أن التقاليد والعادات المرافقة للأعياد ظلت تتأرجح على الدوام بين الفرح الاحتفالي والحزن الحدادي والخشوع الإيماني الصامت، تبعاً لطبيعة العيد ودلالاته، فإن «البراءة» التي تميزت بها الأعياد في العصور السابقة، سرعان ما أخلت مكانها للمظاهر المتكلفة والصخب السطحي. ففي ظل التغيرات الدراماتيكية التي أصابت الحياة المعاصرة في ظل النظام الرأسمالي، تم تحويل الأعياد إلى مناسبات «باخوسية» للتسوق الباذخ والترف المفرط والتهالك على الملذات.

ووسط تكاثر الأعياد وازدحامها، يبدو عيد رأس السنة المحطة الزمنية الأكثر اتصالاً بواقع البشر وهواجسهم ووجدانهم الجمعي. وقد يكون هذا العيد أحد أكثر الأعياد قِدماً، رغم أن تعيينه الزمني قد اختلف من عصر إلى آخر. فقد احتفل به البابليون قبل أربعين قرناً، في شهر مارس (آذار)، تزامناً مع الاعتدال الربيعي وتجدد الزراعة وطقوس الخصب. واحتاج الأمر إلى قرون عديدة لاحقة، قبل أن يقرر الحاكم الروماني يوليوس قيصر نقل الاحتفال به إلى مطلع يناير (كانون الثاني) من كل عام، تكريماً ليانوس، إله البدايات عند الرومان. ثم أخذت رقعة العيد الاحتفالية في الاتساع بشكل تدريجي، ليطول في وقت لاحق سائر شعوب الأرض وقومياتها وأعراقها.

وإذا كان مفهوماً أن يتخذ عيدا الحب والميلاد طابعهما الاحتفالي المفعم بالفرح والنشوة، باعتبار أن الأول مرتبط بالمشاعر الإنسانية وغريزة البقاء، والثاني بميلاد السيد المسيح، وما يعنيه من بهاء الرمز وقوة الدلالة، فإن من المفارقات المثيرة للدهشة أن يتم الاحتفاء برأس السنة بكل هذ القدر من الضجيج والانتشاء والصخب الكرنفالي الكوني، في حين أن انقضاء سنة من أعمارنا المحدودة يستوجب «التشييع الحدادي » للعام الذي خسرناه، أكثر من الابتهاج بعام قادم لسنا متأكدين من ربحنا له. والأرجح أن إحداث البشر لهذا الضجيج الصاخب ما هو إلا محاولة يائسة لتمويه هواجسهم الفعلية، وتبديد قلقهم الوجودي، وتشتيت خوفهم من فكرة الموت.

لكن اتجاه الكثرة الكاثرة من الناس لمواجهة هذه المناسبة الملتبسة بالارتماء في حمأة المتع الحسية الجمعية، لا يصرفنا عن ملاحظة الجانب الآخر من الصورة، حيث يؤثر البعض الانفراد بأنفسهم بهدف المكاشفة الذاتية، وإجراء جردة حساب مفصلة مع النفس، وتؤثر العائلات أن تتحلق حول نفسها لكي يواجه أفرادها بالتضامن والتكافل مخاوفهم المشتركة من غدر الزمن، فيما يغرق المتوحدون والانطوائيون في وهدة الإحباط والأسى، وصولاً إلى الانتحار في حالات الكآبة القصوى.

وحيث لا يبدو مستغرباً أن يجد كتاب العالم وفنانوه في هذا الاستحقاق الزمني فرصتهم الملائمة لمراجعة علاقتهم بأنفسهم، أو لطرح الأسئلة المتعلقة بشؤون الحياة واستحقاقاتها الداهمة، كقضايا الحب والحرب والصراع على البقاء والتبدل السريع للمصائر، فإننا نعثر في نتاج هؤلاء الكثير من الشواهد والأمثلة الدالة على ذلك. فالشاعر الأميركي روبرت لويل، المولود في أوائل القرن المنصرم، الذي عايش حربين عالميتين، لا يرى في بدايات الأعوام سوى مناسبات متكررة لتجديد عهد البشر مع صقيع الضغائن ولهب الحروب الدامية، فيكتب في قصيدته «يوم رأس السنة»:

مرة بعد مرة يولد العام في الجليد والموت

ولا يجدينا التواري خلف نوافذ العاصفة

قرب الموقد

بينما الجليد المدّي الرقيق يتآكل

فما دمنا أحياء نحن نعيش لنشمّ دخان الضحايا

أما الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ارتبطت بعلاقة زوجية صعبة مع الشاعر البريطاني تيد هيوز، فقد رأت في نهايات الأعوام المناسبات النموذجية لتجديد العقد مع مشقات العيش وآلامه. وهي إذ تشبّه ثقل السنين بالمكابس، كما بحوافر الخيول وزئير النمور، تبدو وكأنها ترهص بانتحارها اللاحق الذي لم يتأخر كثيراً حدوثه، فتعلن في قصيدتها «السنون»:

الأبدية التي تملُّني لم أُردها يوماً

ما أحبه هو المكبس في حركته

روحي تموت قبله

وحوافر الخيول شبيهة بالخضِّ القاسي الذي لا يرحم

أهو نمِرٌ هذا العام، هذا الزئير على الباب؟

وإذ يمهد الشاعر الروسي فاليري بريوسف لقصيدته «على أبواب العام 1905 الجديد»، بالقول: «في المهد الحديدي والرعب يولد العام الجديد»، يتضح أن الرعب المشار إليه هو ذلك الناجم عن غرق الأرض في الكراهية والعنف الدموي. كما يبدو واضحاً أن القصيدة مكتوبة بتأثير من الحرب الضروس التي قامت بين روسيا واليابان عشية ذلك العام بالذات. وفي ذلك يقول الشاعر: «مضى عام بتمامه كمنام دموي، أو كابوس خانق أصم، وعلى الغيم بريق كأنه حمم بركان. اشرأب العام الجديد مارداً عنيفاً، يمسك في كفه الصارمة ميزان خفايا الأقدار».

روبرت لويل

بالانتقال إلى الشعر العربي، لا يرى نزار قباني أن في نهايات الأعوام ما يوجب الغرق في التشاؤم والرؤى القاتمة، أو طرح الأسئلة المؤرقة المتعلقة بأحوال النفس والعالم. فهو لم يكن يجد الوقت لمثل تلك المكابدات، بخاصة في ذروة شبابه، حين كان عشقه للنساء يعفيه من أي مهمة مينافيزيقية بعيدة الغور. وإذا كان له أن يجري، كغيره من المشتغلين بالشعر والفن، جردة حساب سريعة مع العام الذي انصرم، فهي جردة تتعلق بمستحقات الحب وأكلافه. لذلك فهو في مجموعته «هكذا أكتب تاريخ النساء» يخاطب المرأة التي يعشقها بالقول: «اثنا عشر شهراً وأنا أشتغل كدودة الحرير، مرة بخيط ورديّ، ومرة بخيط برتقالي. حيناً بأسلاك الذهب، وحيناً بأسلاك الفضة، لأفاجئك بأغنية، تضعينها على كتفيك كشال الكشمير، ليلة رأس السنة».

أما الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، فلا ترى في انقضاء العام، ما يوجب الحداد عليه أو استرجاع محطاته وأطيافه، بل هي تشيح بوجهها عنه لتلتفت إلى ما يمكن أن يحمله العام الذي يليه من هدايا الحب ووعود الخصب والتجدد، فتقول في قصيدتها «صلاة إلى العام الجديد»:

ما الذي تحمله من أجلنا، ماذا لديكْ؟

أعطِنا حباً فبالحب كنوز الخير فينا تتفجرْ

أعطِنا حباً فنبني العالم المنهار فينا من جديدْ

ونعيدْ

فرحة الخصب لدنيانا الجديبة

وإذا كانت طوقان تستخدم في قصيدتها ذات النبرة التموزية ضمير المتكلم الجمعي، فإن الأمر مرتبط بأمرين اثنين، يتصل أولهما بانتمائها إلى فلسطين، التي يواجه أهلها أشكالاً عاتية من العسف والاضطهاد ومصادرة الأرض، ما يدفعها إلى ربط أمنياتها بقضايا الوطن وشجونه، أما الثاني فيتمثل في كون الشاعرة التي عانت كثيراً من وطأة التقاليد المحافظة، وصولاً إلى فشلها المتكرر في الحب، قد اتخذت من أمنيات شعبها الرازح تحت وطأة الاضطهاد والتشرد، ذريعتها الملائمة لإعلان تعطشها الشخصي إلى الحب والحرية والتجدد.

وقد تكون قصيدة الشاعر السوداني محمد عبد الباري «ليلة رأس السنة»، هي أفضل ما أختتم به هذه المقالة، ليس فقط لأنها تكشف عن الجانب الأصيل والمشرق من تجارب الشعراء العرب الشبان، بل لأن صاحبها يجانب الاستسلام لأفخاخ العزلة الكابوسية من جهة، ولصخب الجموع الهذياني من جهة أخرى، ليجعل من المناسبة فرصةً ثمينةً لاستنطاق الصمت، واللقاء الخلاق مع الذات، فيكتب قائلاً:

سقطتْ أوراق التقويمِ فعلّقْ تقويم العام الآتي

المسرح دائرةٌ

والوقت هو الفاصل بين البدء وبين البدءِ

فأوقفْ ساعتك العمياء وفكّر في الأمر قليلاً..

واتركني أكملُ هذي الليلة وحدي

لأفتش عن ذاتي