سياسة «المركزي المصري» تدعم «ضعف الجنيه» حتى الآن

مصري يبيع دولارات في شركة صرافة (رويترز)
مصري يبيع دولارات في شركة صرافة (رويترز)
TT

سياسة «المركزي المصري» تدعم «ضعف الجنيه» حتى الآن

مصري يبيع دولارات في شركة صرافة (رويترز)
مصري يبيع دولارات في شركة صرافة (رويترز)

منذ أن بدأ البنك المركزي المصري تغيير سياسته النقدية من انكماشية إلى توسعية، في آخر اجتماع له، بدا للبعض أن ذلك سيدعم قيمة الجنيه، مما يؤثر بدوره على معدلات التضخم، وهو ما لا يظهر في قيمة العملة حتى الآن. وخفض المركزي المصري أسعار الفائدة الأساسية بمقدار 100 نقطة أساس، 15 فبراير (شباط) الماضي، وذلك للمرة الأولى منذ تعويم العملة في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2016، مع تراجع معدلات التضخم عند أقل مستوياتها في عام على الأقل.
وتتداول العملة المحلية حالياً عند المستويات تقريباً التي كان معدل التضخم فيها يصل إلى 35 في المائة، عند 17.7 جنيه للدولار الواحد، بمعدل تضخم سنوي حالي 14.4 في المائة. والحفاظ على سعر عملة ضعيف، له فوائده الكبيرة، لكن للدول المصدرة، ومصر مستوردة لنحو 76 في المائة من حاجاتها الغذائية والإنتاجية، حتى إن قيمة الصادرات لم ترتقِ للمستوى المطلوب بعد التعويم.
وانخفض العجز في الميزان التجاري لمصر 25 في المائة خلال عام 2017 على أساس سنوي بفضل زيادة الصادرات وانكماش الواردات. وحققت الصادرات زيادة بلغت 10 في المائة على أساس سنوي إلى 22 ملياراً و417 مليون دولار من 20 مليار و409 ملايين دولار في 2016. ويعتبر ذلك ضئيلاً مقارنة بدول مجاورة.
فلماذا يحافظ المركزي المصري على سعر ضعيف للجنيه، أو لماذا لم ترتفع قيمة العملة المحلية حتى الآن، رغم تحسن بعض المؤشرات المالية؟
شريف هنري خبير الاقتصاد الكلي، يرى أن «الجنيه المصري يتداول عند أقل نقطة له في الوقت الحالي بالنظر إلى بعض المؤشرات الاقتصادية المستمرة في التحسن». ويعتقد أن البنك المركزي المصري حالياً «يحافظ على السعر المنخفض للجنيه، رغم تخفيض الفائدة البنكية عليه، لتشجيع استمرار تدفق الاستثمارات الأجنبية».
وهناك مَن يرى في مجتمع الأعمال، مخاطرةً في ارتفاع قيمة الجنيه، فيشير هاني توفيق، الخبير الاقتصادي، رئيس شركة مصر لرأس المال المخاطر، إلى وجود «مخاطرة في ارتفاع سعر الجنيه، لكن مع تثبيت السعر تتلاشى المخاطرة». وبرزت مصر العام الماضي كإحدى أكثر الوجهات في العالم جذباً لاهتمام مستثمري المحافظ بعدما لامست عائدات أدوات الخزانة المصرية القصيرة الأجل 22 في المائة مع رفع البنك المركزي أسعار الفائدة لكبح التضخم.
وبعد التخفيض الأخير في أسعار الفائدة، فقدت مصر مركزها باعتبارها من كبرى الوجهات التي يقصدها مستثمرو أدوات الدين في الأسواق الناشئة، وربما يقوض خفض أسعار الفائدة من جاذبية أدوات الخزانة المصرية القصيرة الأجل للمشترين الأجانب في الأشهر المقبلة. بحسب تقرير لـ«سي آي كابيتال» لإدارة الأصول مؤخراً.
وجلبت أدوات الدين المرتفعة العائد لمصر أعداداً كبيرة من المشترين الأجانب والعملة الصعبة التي تحتاج إليها البلاد بشدة.
مدير قطاع المؤسسات الأجنبية السابق في برايم القابضة نبيل عبد الملاك يقول من كندا: «أعتقد أن متخذي القرار في مصر قاموا بحساب خروج التدفقات النقدية من أدوات الدين»، متوقعاً «ارتفاع محدود (في قيمة الجنيه) إلى 16 جنيهاً للدولار خلال هذه السنة».
ومن خلال سعر فائدة عالي على الودائع بالجنيه، بلغ 18.75 في المائة (قبل التخفيض الأخير واحد في المائة)، فإن الاحتياطي النقدي الأجنبي ارتفع لمستوى قياسي بلغ، 42.524 مليار دولار في نهاية فبراير الماضي، من 38.209 مليار في يناير (كانون الثاني) . وهذا أعلى مستوى لاحتياطيات البلاد من العملة الصعبة منذ بدء تسجيل بيانات الاحتياطي في مطلع التسعينات.
لكن توفيق يقول إن «نصف قيمة احتياطي النقد الأجنبي المصري أموال ساخنة، إذ إن فائدة أذون الخزانة تصل إلى 17 في المائة، تستثمر فيها صناديق استثمار متمكنة في ذلك».
قفز الدين الخارجي لمصر 34.45 في المائة إلى 80.8 مليار دولار في سبتمبر (أيلول) الماضي.
- احتياطي فوق مستوى الأمان
الحفاظ على سعر متدنٍّ للجنيه، رغم أن المؤشرات المالية تدعم ارتفاعه، يعني بالأساس أن المركزي المصري يضع زيادة الاحتياطي النقدي الأجنبي على رأس أولوياته حالياً، رغم ارتفاعه لمستويات آمنة، بيد أن الاحتياطي النقدي الأجنبي يغطي احتياجات الاستيراد لمدة ثمانية أشهر، بحسب رامي أبو النجا وكيل محافظ البنك المركزي لقطاع الأسواق، وذلك أثناء تسجيل الاحتياطي 37.02 مليار دولار بنهاية ديسمبر (كانون الأول)، أي أن المستوى الحالي يغطي ما يزيد على عشرة أشهر، في حين أن معدل الأمان هو ثلاثة أشهر.
وتُعدّ زيادة الاحتياطي الأجنبي مؤشراً إيجابيّاً، نظراً لأن هذه الزيادة تعني مزيداً من القدرة على سداد الدين الخارجي وتمويل العجز في ميزان المدفوعات والحفاظ على استقرار سعر صرف العملة وارتفاع عدد الشهور التي يغطيها الاحتياطي من الواردات.
غير أن زيادة الاحتياطي النقدي، يجب ألا يكون هدفاً بمعزل عن باقي أدوات السياسة النقدية الأخرى، وبالتالي يجب إدارته بشكل فعال يحقق من خلاله التنمية المستدامة من ناحية، ويوازن بين اعتبارات السيولة والأمان والعائد على الاستثمار، من ناحية أخرى.
وهو ما يثير تساؤلات عن فرص ضائعة، نتيجة اهتمام «المركزي المصري» بزيادة الاحتياطي النقدي على حساب دفع معدلات النمو، فسبق أن خصصت تايوان 15 مليار دولار من احتياطاتها النقدية للاستثمار بغرض دفع معدلات النمو. رغم أن معدل النمو المحقَّق في مصر يُعتبر جيداً مقارنة بأعوام سابقة، لكنها لا تلبي طموحات 100 ملايين نسمة ونسبة بطالة فوق 11 في المائة. تستهدف مصر معدل نمو يبلغ 5.8 في المائة في موازنة 2018 - 2019، مقارنة مع 5.2 في المائة في موازنة السنة المالية السابقة، بعجز كلي مستهدَف يبلغ 8.4 في المائة.
- تشابكات
انخفاض أسعار الفائدة يدعم مناخ الاستثمار، ويزيد الطلب على القروض التي تدعم المشاريع الجديدة، ومن ثم يقل معدل البطالة، لكن هذا لن يحدث إذا لم تضع الحكومة نصب عينها دعم الاستثمار كهدف رئيسي خلال الفترة المقبلة. وتعتمد مصر على الاستيراد وتعول على التدفقات الدولارية لتمويل عجز ميزان المعاملات الحالية في ظل غياب الاستثمار الأجنبي المباشر، نتيجة ارتفاعات أسعار الفائدة (كجزء من الأسباب).وبحلول ديسمبر من العام الماضي، قفزت حيازات الأجانب من أدوات الخزانة المصرية إلى نحو 20 مليار دولار، ارتفاعاً مما يزيد قليلاً على 60 مليون دولار فقط في منتصف 2016، قبل التعويم.
- موازنة 2020 هي الحل
فقد الجنيه نحو 57 في المائة من قيمته بعد قرار التعويم، وهو ما جعل البعض يطالب برفع نفس النسبة في الأجور لتعويض الفرق، إلا أن ذلك لم يلقَ ترحيباً من المسؤولين. ويبلغ الحد الأدنى الرسمي للأجور حالياً نحو 1200 جنيه (نحو 68 دولاراً) شهرياً.
يرى توفيق أن «المشكلة الحالية جاءت نتيجة تراكم مشكلات كثيرة في التعامل مع العملة (منذ زمن) تم حصرها في قرار واحد وهو التعويم في نوفمبر 2016، وهذه كانت اللطمة الكبيرة للمواطنين».
وأوضح، أن مدخرات المصريين تآكلت «نتيجة سياسة طبع الأموال من المركزي بغرض تقليل عجز الموازنة، إلا أن ارتفاع التضخم فاقم المشكلة»، مشيراً إلى أن «قيمة العجز تزيد على 400 مليار جنيه... الحكومة تطبع نقوداً، فالناس تفتقر أكثر». كان سعر الصرف الرسمي للجنيه المصري ثابتا عند 8.8 جنيه، مقابل الدولار منذ مارس (آذار) 2016، لكن نقص الدولار تسبب في ضغوط نزولية شديدة على العملة. وهبطت العملة لأكثر من 18 جنيهاً مقابل الدولار في السوق السوداء، التي انتعشت بشدة قبل قرار التعويم، وهو ما تسبب في شبه توقف لأنشطة الأعمال.
يقول هنري إن «السياسة النقدية الحالية سليمة جداً»، مشيراً إلى أن أي «إصلاح اقتصادي المضرور الأول منه هو الطبقة المتوسطة (وليست الفقيرة)... لأنها تنتقل إلى طبقة فقيرة، والحكومة تلجأ لبرامج الحماية الاجتماعية لعدم تأثر الطبقات الفقيرة من تداعيات الإصلاح». وتنفذ الحكومة المصرية برنامجاً للإصلاح الاقتصادي منذ نهاية 2015، يشمل فرض ضريبة للقيمة المضافة وتحرير سعر الصرف وخفض دعم الكهرباء والمواد البترولية، سعياً لإعادة الاقتصاد إلى مسار النمو وخفض واردات السلع غير الأساسية.
ويوضح هنري أن «السياسة النقدية المتبعة حالياً تعتمد على تحويل الديون الأجنبية الحالية إلى متوسطة وطويلة الأجل». أما الدخل المتوقع من المركزي المصري على المدى الطويل لتسديد تلك الديون، قال هنري: «إن (المركزي) عينه على التوفير الذي سيوفره حقل ظهر للغاز».
ويوفر حقل ظهر نحو 4 مليارات دولار سنوياً في اكتمال طاقته الإنتاجية في عام 2019. وتوقع أن يشعر المصريون بنتائج برنامج الإصلاح الاقتصادي «في عام 2020، لأن الضغط يقل إلى أن ينعدم في ميزانية 2020 - 2021 أو العام الذي يليه». ويرى هاني توفيق، أن «برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأته الحكومة في 2015، يحتاج 4 سنوات على الأقل ليشعر المواطن بأثره»، متوقعاً انحصار «فجوة الميزان التجاري في العام 2020»، خصوصا أن «مصر رخيصة بالنسبة للأسواق المجاورة». ورأى أن الحل العام يكمن في تعزيز القدرة التنافسية وعدم اقتصار الأمر على مجرد طرح أذون خزانة.


مقالات ذات صلة

مصر توقع اتفاقين بقيمة 600 مليون دولار لمشروع طاقة مع «إيميا باور» الإماراتية

الاقتصاد منظر للعاصمة المصرية (الشرق الأوسط)

مصر توقع اتفاقين بقيمة 600 مليون دولار لمشروع طاقة مع «إيميا باور» الإماراتية

وقّعت مصر وشركة «إيميا باور» الإماراتية اتفاقين باستثمارات 600 مليون دولار، لتنفيذ مشروع محطة رياح، بقدرة 500 ميغاواط في خليج السويس.

الاقتصاد اجتماع وزير البترول  والثروة المعدنية المصري كريم بدوي بمسؤولي شركة «إكسون موبيل» (وزارة البترول والثروة المعدنية)

«إكسون موبيل» تستعد لحفر بئر جديدة للتنقيب عن الغاز في مصر

ستبدأ شركة «إكسون موبيل» المتخصصة في أعمال التنقيب عن البترول وصناعة البتروكيماويات يوم 15 ديسمبر (كانون الأول) المقبل بأنشطة الحفر البحري للتنقيب عن الغاز.

«الشرق الأوسط» (لندن )
العالم العربي مصريون يلجأون للمعارض لشراء احتياجاتهم مع ارتفاع الأسعار (الغرفة التجارية المصرية بالإسكندرية)

الغلاء يُخلخل الطبقة الوسطى في مصر... رغم «التنازلات»

دخلت الطبقة الوسطى في مصر مرحلة إعادة ترتيب الأولويات، بعدما لم يعد تقليص الرفاهيات كافياً لاستيعاب الزيادات المستمرة في الأسعار، فتبدلت معيشتها.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الاقتصاد رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي خلال استقباله الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني رئيس وزراء قطر في العاصمة الإدارية الجديدة (مجلس الوزراء المصري)

مصر وقطر ستتعاونان في مشروع عقاري «مهم للغاية» بالساحل الشمالي

قال مجلس الوزراء المصري، الأربعاء، إن مصر وقطر ستتعاونان خلال المرحلة المقبلة في مشروع استثماري عقاري «مهم للغاية» في منطقة الساحل الشمالي المصرية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الاقتصاد أبراج وشركات وبنوك على نيل القاهرة (تصوير: عبد الفتاح فرج)

تقرير أممي يحذّر من تضخم الدين العام في المنطقة العربية

حذّر تقرير أممي من زيادة نسبة خدمة الدين الخارجي في البلدان العربية، بعد أن تضخّم الدين العام المستحق من عام 2010 إلى 2023، بمقدار 880 مليار دولار في المنطقة.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

ترمب يدرس خصخصة خدمة البريد وسط خسائر مالية ضخمة

يقوم أحد عمال البريد الأميركي بتفريغ الطرود من شاحنته في مانهاتن أثناء تفشي فيروس كورونا (رويترز)
يقوم أحد عمال البريد الأميركي بتفريغ الطرود من شاحنته في مانهاتن أثناء تفشي فيروس كورونا (رويترز)
TT

ترمب يدرس خصخصة خدمة البريد وسط خسائر مالية ضخمة

يقوم أحد عمال البريد الأميركي بتفريغ الطرود من شاحنته في مانهاتن أثناء تفشي فيروس كورونا (رويترز)
يقوم أحد عمال البريد الأميركي بتفريغ الطرود من شاحنته في مانهاتن أثناء تفشي فيروس كورونا (رويترز)

يبدي الرئيس المنتخب دونالد ترمب اهتماماً بالغاً بخصخصة خدمة البريد الأميركية في الأسابيع الأخيرة، وهي خطوة قد تُحْدث تغييرات جذرية في سلاسل الشحن الاستهلاكي وتوريد الأعمال، وربما تؤدي إلى مغادرة مئات الآلاف من العمال الفيدراليين للحكومة.

ووفقاً لثلاثة مصادر مطلعة، ناقش ترمب رغبته في إصلاح الخدمة البريدية خلال اجتماعاته مع هاوارد لوتنيك، مرشحه لمنصب وزير التجارة والرئيس المشارك لفريق انتقاله الرئاسي. كما أشار أحد المصادر إلى أن ترمب جمع، في وقت سابق من هذا الشهر، مجموعة من مسؤولي الانتقال للاستماع إلى آرائهم بشأن خصخصة مكتب البريد، وفق ما ذكرت صحيفة «واشنطن بوست».

وأكد الأشخاص الذين طلبوا عدم الكشف عن هويتهم نظراً للطبيعة الحساسة للمحادثات، أن ترمب أشار إلى الخسائر المالية السنوية لمكتب البريد، مشدداً على أن الحكومة لا ينبغي أن تتحمل عبء دعمه. ورغم أن خطط ترمب المحددة لإصلاح الخدمة البريدية لم تكن واضحة في البداية، فإن علاقته المتوترة مع وكالة البريد الوطنية تعود إلى عام 2019، حيث حاول حينها إجبار الوكالة على تسليم كثير من الوظائف الحيوية، بما في ذلك تحديد الأسعار، وقرارات الموظفين، والعلاقات العمالية، وإدارة العلاقات مع أكبر عملائها، إلى وزارة الخزانة.

وقال كيسي موليغان، الذي شغل منصب كبير الاقتصاديين في إدارة ترمب الأولى: «الحكومة بطيئة جداً في تبنِّي أساليب جديدة، حيث لا تزال الأمور مرتبطة بعقود من الزمن في تنفيذ المهام. هناك كثير من خدمات البريد الأخرى التي نشأت في السبعينات والتي تؤدي وظائفها بشكل أفضل بكثير مع زيادة الأحجام، وخفض التكاليف. لم نتمكن من إتمام المهمة في فترتنا الأولى، ولكن يجب أن نتممها الآن».

وتُعد خدمة البريد الأميركية واحدة من أقدم الوكالات الحكومية، حيث تأسست عام 1775 في عهد بنيامين فرنكلين، وتم تعزيزها من خلال التسليم المجاني للمناطق الريفية في أوائل القرن العشرين، ثم أصبحت وكالة مكتفية ذاتياً مالياً في عام 1970 بهدف «ربط الأمة معاً» عبر البريد. وعلى الرغم من التحديات المالية التي يفرضها صعود الإنترنت، فإن الخدمة البريدية تظل واحدة من أكثر الوكالات الفيدرالية شعبية لدى الأميركيين، وفقاً لدراسة أجراها مركز «بيو» للأبحاث عام 2024.

ومع مطالبات الجمهوريين في الكونغرس وآخرين في فلك ترمب بخفض التكاليف الفيدرالية، أصبحت الخدمة البريدية هدفاً رئيسياً. وأفاد شخصان آخران مطلعان على الأمر بأن أعضاء «وزارة كفاءة الحكومة»، وهي لجنة غير حكومية يقودها رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا إيلون ماسك وفيفيك راماسوامي، أجروا أيضاً محادثات أولية بشأن تغييرات كبيرة في الخدمة البريدية.

وفي العام المالي المنتهي في 30 سبتمبر (أيلول)، تكبدت الخدمة البريدية خسائر بلغت 9.5 مليار دولار، بسبب انخفاض حجم البريد وتباطؤ أعمال شحن الطرود، على الرغم من الاستثمارات الكبيرة في المرافق والمعدات الحديثة. وتواجه الوكالة التزامات تقدّر بنحو 80 مليار دولار، وفقاً لتقريرها المالي السنوي.

من شأن تقليص الخدمات البريدية أن يغير بشكل جذري صناعة التجارة الإلكترونية التي تقدر قيمتها بتريليون دولار، ما يؤثر في الشركات الصغيرة والمستهلكين في المناطق الريفية الذين يعتمدون على الوكالة بشكل كبير. وتُعد «أمازون»، أكبر عميل للخدمة البريدية، من بين أكبر المستفيدين، حيث تستخدم الخدمة البريدية لتوصيل «الميل الأخير» بين مراكز التوزيع الضخمة والمنازل والشركات. كما أن «التزام الخدمة الشاملة» للوكالة، الذي يتطلب منها تسليم البريد أو الطرود بغض النظر عن المسافة أو الجوانب المالية، يجعلها غالباً الناقل الوحيد الذي يخدم المناطق النائية في البلاد.

وقد تؤدي محاولة خصخصة هذه الوكالة الفيدرالية البارزة إلى رد فعل سياسي عنيف، خصوصاً من قبل الجمهوريين الذين يمثلون المناطق الريفية التي تخدمها الوكالة بشكل غير متناسب. على سبيل المثال، غالباً ما يستدعي المسؤولون الفيدراليون من ولاية ألاسكا المسؤولين التنفيذيين في البريد للوقوف على أهمية الخدمة البريدية لاقتصاد الولاية.

وفي رده على الاستفسارات حول خصخصة الوكالة، قال متحدث باسم الخدمة البريدية إن خطة التحديث التي وضعتها الوكالة على مدى 10 سنوات أدت إلى خفض 45 مليون ساعة عمل في السنوات الثلاث الماضية، كما قللت من الإنفاق على النقل بمقدار 2 مليار دولار. وأضاف المتحدث في بيان أن الوكالة تسعى أيضاً للحصول على موافقة تنظيمية لتعديل جداول معالجة البريد، وتسليمه لتتوافق بشكل أكبر مع ممارسات القطاع الخاص.

كثيراً ما كانت علاقة ترمب مع وكالة البريد الأميركية متوترة، فقد سخر منها في مناسبات عدة، واصفاً إياها في المكتب البيضاوي بأنها «مزحة»، وفي منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، وصفها بأنها «صبي التوصيل» لشركة «أمازون».

وفي الأيام الأولى لجائحة فيروس «كورونا»، هدد ترمب بحرمان الخدمة البريدية من المساعدات الطارئة ما لم توافق على مضاعفة أسعار الطرود 4 مرات. كما أذن وزير خزانته، ستيفن منوشين، بمنح قرض للوكالة فقط مقابل الحصول على وصول إلى عقودها السرية مع كبار عملائها.

وقبيل انتخابات عام 2020، ادعى ترمب أن الخدمة البريدية غير قادرة على تسهيل التصويت بالبريد، في وقت كانت فيه الوكالة قد مُنعت من الوصول إلى التمويل الطارئ الذي كان يحظره. ومع ذلك، في النهاية، تمكنت الخدمة البريدية من تسليم 97.9 في المائة من بطاقات الاقتراع إلى مسؤولي الانتخابات في غضون 3 أيام فقط.

وعند عودته إلى منصبه، قد يكون لدى ترمب خيارات عدة لممارسة السيطرة على وكالة البريد، رغم أنه قد لا يمتلك السلطة لخصخصتها بشكل أحادي. حالياً، هناك 3 مقاعد شاغرة في مجلس إدارة الوكالة المكون من 9 أعضاء. ومن بين الأعضاء الحاليين، هناك 3 جمهوريين، اثنان منهم تم تعيينهما من قبل ترمب. ولدى بايدن 3 مرشحين معلقين، لكن من غير المرجح أن يتم تأكيدهم من قبل مجلس الشيوخ قبل تنصيب ترمب.

ومن المحتمل أن يتطلب تقليص «التزام الخدمة الشاملة» بشكل كبير - وهو التوجيه الذي أوصى به المسؤولون خلال فترة ولاية ترمب الأولى - قانوناً من الكونغرس. وإذا تم إقرار هذا التشريع، فإن الخدمة البريدية ستكون ملزمة على الفور تقريباً بتقليص خدمات التوصيل إلى المناطق غير المربحة وتقليص عدد موظفيها، الذين يقدَّر عددهم بنحو 650 ألف موظف.

وقد تؤدي محاولات قطع وصول الوكالة إلى القروض من وزارة الخزانة، كما حاولت إدارة ترمب في السابق، إلى خنق الخدمة البريدية بسرعة، ما يعوق قدرتها على دفع رواتب موظفيها بشكل دوري وتمويل صيانة مرافقها ومعداتها. وقال بول ستيدلر، الذي يدرس الخدمة البريدية وسلاسل التوريد في معهد ليكسينغتون اليميني الوسطي: «في النهاية، ستحتاج الخدمة البريدية إلى المال والمساعدة، أو ستضطر إلى اتخاذ تدابير قاسية وجذرية لتحقيق التوازن المالي في الأمد القريب. وهذا يمنح البيت الأبيض والكونغرس قوة هائلة وحرية كبيرة في هذا السياق».

وقد حذر الديمقراطيون بالفعل من التخفيضات المحتملة في خدمة البريد. وقال النائب جيري كونولي (ديمقراطي من فرجينيا)، أحد الداعمين الرئيسيين للوكالة: «مع مزيد من الفرص أمامهم، قد يركزون على خصخصة الوكالة، وأعتقد أن هذا هو الخوف الأكبر. قد يكون لذلك عواقب وخيمة، لأن القطاع الخاص يعتمد على الربحية في المقام الأول».

كما انتقدت النائبة مارغوري تايلور غرين (جمهورية من جورجيا)، رئيسة اللجنة الفرعية للرقابة في مجلس النواب، الخدمة البريدية في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، وكتبت: «هذا ما يحدث عندما تصبح الكيانات الحكومية ضخمة، وسوء الإدارة، وغير خاضعة للمساءلة».

وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، تعرضت الوكالة لانتقادات شديدة، حيث خضع المدير العام للبريد، لويس ديغوي، لاستجواب حاد من الجمهوريين في جلسة استماع يوم الثلاثاء. وحذر رئيس لجنة الرقابة في مجلس النواب، جيمس كومر (جمهوري من كنتاكي)، ديغوي من أن الكونغرس في العام المقبل قد يسعى لإصلاح الخدمة البريدية.

وسأل الجمهوريون مراراً وتكراراً عن استعادة التمويل لأسطول الشاحنات الكهربائية الجديد للوكالة، والخسائر المالية المتزايدة، وعن الإجراءات التنفيذية التي قد يتخذها ترمب لإخضاع الخدمة.

وقال كومر: «انتهت أيام عمليات الإنقاذ والمساعدات. الشعب الأميركي تحدث بصوت عالٍ وواضح. أنا قلق بشأن الأموال التي تم تخصيصها للمركبات الكهربائية، والتي قد يجري استردادها. أعتقد أن هناك كثيراً من المجالات التي ستشهد إصلاحات كبيرة في السنوات الأربع المقبلة... هناك كثير من الأفكار التي قد تشهد تغييرات كبيرة، وإن لم تكن مفيدة بالضرورة لخدمة البريد».